حسين علي محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8453 - 2025 / 9 / 2 - 04:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
■ ما هو ازدراء الأديان، وإشكالية التعريف؟؟
ازدراء الأديان أو التجديف هو إساءة أو استخفاف يصدره شخص أو هيئة ما بشأن معتقدات وأفكار ديانة ما، وقضيته مثار جدل بين كثيرين، فبينما يرى البعض في ذلك حقا يتعلق بحرية الرأي والتعبير تجب حمايته، يقول آخرون إنه يعزز الكراهية الدينية بين البشر وبالتالي يطالبون بمنعه قانونا ومحاسبة فاعليه.
تعتبر بعض الديانات التجديف جريمة دينية، ومنذ عام 2012، كانت قوانين مكافحة التجديف موجودة في 32 دولة، في حين أن 87 دولة لديها قوانين لخطابات الكراهية التي تغطي التشهير بالدين والتعبير العلني عن الكراهية ضد مجموعة دينية. قوانين مكافحة التجديف شائعة بشكل خاص في الدول ذات الأغلبية المسلمة، مثل تلك الموجودة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، على الرغم من وجودها أيضًا في بعض الدول الآسيوية والأوروبية.
■ البعد القانوني بين الحماية والجدل الحقوقي
رغم جدلية تحديد مفهوم "ازدراء الأديان" في مختلف الأوساط الدينية والفكرية والحقوقية العالمية، فإنه يقصد به بشكل عام عدة أشياء من بينها :
- تعمّد النيل من الأديان ومعتقداتها وشخصياتها المقدسة لدى أتباعها.
- إشاعة الأفكار النمطية السلبية بشأنها.
- تبني مواقف متعصبة أو تمييزية في مجال الديانات والمعتقدات.
■ القوانين الدولية ومواقف الدول المختلفة
تفشَّت في السنوات الأخيرة ظاهرة التهجم على الإسلام، والإساءة إلى رموز المسلمين ومقدساتهم، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، والمساهمون في تلك الظاهرة يزدادون عدداً وجرأة يوماً بعد يوم، الأمر الذي يستدعي بالمقابل ردات فعل متشنجة من مسلمين يشعرون بالإهانة، ويرون أن من واجبهم الذود عن دينهم ومقدساتهم، ما رفع مستوى الاستقطاب والكراهية بين الفريقين إلى الحدود القصوى، خاصة أن التهجم يقوم على مجرد الازدراء والتسفيه والتجريح بالمقدسات والرموز، دون أي رؤية نقدية أو فكرية، ودون مراعاة لأي اعتبار، ودون أي شعور بالمسؤولية.
تتبنى عدة دول في العالم الإسلامي تجريم الأفعال المرتبطة بازدراء الأديان ومقدساتها في الأماكن العامة أو بواسطة المكتوبات ووسائل الاتصال السمعية والبصرية والإلكترونية، فتحظر الإساءة إلى الذات الإلهية، أو التطاول على أحد الأنبياء أو الرسل أو الكتب السماوية، أو الأديان أو الطوائف المنتمية إليها أو دور العبادة، أو التمييز بين الأفراد أو الجماعات على أساس الدين أو العقيدة أو المذهب أو الملة أو الطائفة.
■ مؤيدو ومعارضو تجريم ازدراء الأديان
تعتبر مسألة ازدراء الأديان من المواضيع التي أثارت جدلا واسعا بين الحقوقيين وعلماء الدين ورجال القانون، بدءاً من إشكالية ضبط المفهوم وتحديد دلالاته، وانتهاء بمشمولات بنود القوانين المتعلقة به وكيفية استخدامها.
هناك معارضون لتجريم ازدراء الأديان يبدون خشيتهم من أن يقود ذلك إلى التضييق على حرية الرأي والتعبير، والتحكم في النقاش المدني المفتوح، وقمع المخالفين وتعزيز التطرف والتعصب الديني؛ كما أنه قد يعطي للحكومات الحق في تحدید الأفكار المقبولة وغير المقبولة أخلاقيا، وهو ما قد يفتح الباب أمام "خنق نقد الأديان والمؤسسات الدينية" ومضایقة المعارضین والأقلیات الدینیة.
يردّ مؤيدو سن قوانین منع ازدراء الأدیان بأن الهدف من التجريم هو "حماية المقدسات الدينية" وتطويق مشاعر الكراهية للأديان، لأن انتشارها يهدد التعايش بين الأمم والحضارات بخطر كبير، إذ يؤدي إلى الإخلال بالسلم الدولي، ويشكل "مساسا خطيرا بالكرامة الإنسانية"، ويفرض قيوداً على الحرية الدينية للمؤمنين بها.
ينبغي أن لا ينظر إلى تجريم ازدراء الأديان وكأنه تقييد لحرية الفكر أو كبت للحق في التعبير الذي يجب ألا يستخدم لأذى الآخرين وإهانتهم، بل "كآلية للوقاية من التطرف والفتن" الدينية والطائفية في المجتمعات البشرية التي يسببها التحريض على الحقد الديني والعنف.
■ محاولات منظمة التعاون الإسلامي في الأمم المتحدة
حاولت منظمة التعاون الإسلامي في 1999-2011 الحصول على دعم الأمم المتحدة لفرض حظر على ازدراء الأديان، فقدمت مشاريع قرارات بهذا الشأن إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، لكن الدول الغربية، التي أزيل حظر التجديف تدريجيا من معظم قوانينها رفضت مرات إقرار هذه المشاريع، قائلة إنها تشكل "تهديدات محتملة لحرية التعبير".
وفي 26 مارس 2009 اعتمد المجلس (بأغلبية 23 صوتا مقابل 11 صوتا وامتناع 13 عن التصويت) قرارا غير ملزم تقدمت به باكستان باسم منظمة التعاون الإسلامي، ويهدف إلى "مكافحة إهانة وازدراء الأديان". وقد عارضت هذا القرار دول أوروبية (بينها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا) وكندا وتشيلي، ومن الدول التي امتنعت عن التصويت عليه الأرجنتين والبرازيل والهند.
لكن دعم هذا النوع من القرارات تراجع في مناقشات المجلس باطراد إلى ما يزيد قليلا على 50% بحلول عام 2010 وذلك بسبب المعارضة الغربية القوية خاصة من المنظمات الحقوقية، مما دفع الأمين العام السابق للمنظمة أكمل الدين إحسان أوغلو إلى اتهام الغرب بعرقلة التوصل إلى اتفاق أممي لفرض حظر على ازدراء الأديان.
■ مواقف بعض المؤسسات الدينية الغربية والأصوات المعارضة
وفي يناير 2015 دعا الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين إلى إصدار "قانون أممي يجرّم ازدراء الأديان جميعاً" من خلال مؤتمر عالمي يناقش بنوده بحرية كاملة، وقال إن الدين الإسلامي لا يحرم فقط الازدراء بالنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وإنما يحرّم كذلك ازدراء جميع الأديان والأنبياء والمقدسات، واقترح إصدار "ميثاق شرف للتعايش السلمي بين الأمم".
أوضحت المنظمة أن القوانين المناهضة للاستخفاف بالمقدسات غالبا ما تُصاغ لحماية معتقد أغلبية السكان في البلد المعني، فقد وجدت أن قوانين ازدراء الأديان في اليونان مثلا "تُستخدم فقط في مقاضاة حالات يُعتقد أنها تنطوي على ازدراء للكنيسة الأرثوذكسية"، وفي إندونيسيا "تُستغل غالبا ضد الافتراء على الإسلام".
في يناير 2011 أثار بابا الفاتيكان السابق بنديكت السادس عشر جدلا كبيرا حين أغضب الباكستانيين بدعوته إلى إلغاء قانون المعاقبة على التجديف في بلادهم، وادعى أن "السبب الأهم لذلك هو أنه من الواضح أن هذا القانون بات يستخدم ذريعة لأعمال ظلم وعنف ضد الأقليات الدينية". وهو ما اعتبرته هيئات إسلامية باكستانية "خرقا لميثاق الأمم المتحدة للسلام".
■ لماذا يلجأ البعض إلى ازدراء الأديان؟! (الدوافع والأسباب)
تختلف أسباب هؤلاء ودوافعهم في مسعاهم هذا، فبعضهم، وربما أغلبهم، يعتبر الدين عموماً، والنمط السائد في الشرق الأوسط خصوصاً، هو السبب الرئيس في استيطان وتجذر هذا الكم من الجهل والتخلف، ويرى أن لا طريق لإبعاد الدين إلا بتحطيم رموزه ومقدساته.
وبعضهم لا يفرق بين الدين الإسلامي على سعته، والإسلام السياسي، ويعتقد أنه ينال من الأخير بتهجمه هذا.
وبعض الأشخاص لديه موقف من الإسلام السائد لأسباب مختلفة، ويريد النيل منه ومن أتباعه بأي طريقة، وهؤلاء ينطلقون من تجربة خاصة، أو من ثقافة طائفية مستحكِمة.
اما البعض الآخر يجد في التجرؤ على المقدسات وسيلة للتميز والظهور لكنهم جميعاً، على اختلاف دوافعهم، يجتمعون على ثلاث صفات : الجهل والتطرف وعدم المسؤولية.
- الجهل : بطبيعة الإنسان، وبعلاقته بالروحي والمقدس، وباستحالة النيل من هذه العلاقة عبر الازدراء والتهكم، وبردات الفعل المتوقعة على هذا الازدراء.
- التطرف : بسبب لجوئهم إلى هذا الأسلوب العدواني لتغيير سلوك عامة الناس.
- عدم المسؤولية : بسبب عدم تقديرهم لأبعاد وعواقب سلوكهم، خاصة على مجتمع هش مفكك ومتعب لأبعد الحدود.
■ ازدراء الأديان وصناعة "الترند" السياسي والإعلامي
أصبح ازدراء الأديان في بعض السياقات المعاصرة أداة يستخدمها بعض الشخصيات السياسية للفت الأنظار وبناء شهرة سريعة، فبدلاً من تقديم خطاب مسؤول أو برامج واقعية تعالج قضايا الناس، يلجأ هؤلاء إلى المساس بالمقدسات، مدركين أن أي إساءة للدين ستثير ردود فعل واسعة، وتجعلهم حديث الإعلام والشارع.
هذه الممارسات لا تعكس شجاعة فكرية ولا حرية تعبير حقيقية، بل تكشف عن فراغ أخلاقي واستغلال مقصود لمشاعر المجتمع.
الدين بالنسبة للناس ليس مجرد فكرة قابلة للجدل، بل هو هوية روحية وثقافية عميقة، والاستهزاء به يعني إثارة الانقسام وزرع بذور الكراهية.
■ نحو معادلة متوازنة بين حرية التعبير واحترام المقدسات
إن تحويل الدين إلى أداة للدعاية أو وسيلة لكسب "الترند" لا يثري الحوار العام، بل يسطحه ويشوه أولوياته، والمجتمعات الواعية تدرك أن الاحترام المتبادل بين المعتقدات هو الطريق الأمثل لتعزيز السلم الاجتماعي، وأن من يملك مشروعاً حقيقياً لا يحتاج إلى إثارة الجدل حول المقدسات ليُسمع صوته.
■ ما المعالجات والحلول لظاهرة ازدراء الأديان في المجتمع؟؟
لمعالجة ظاهرة ازدراء الأديان لا يكفي الركون إلى القوانين وحدها، بل لا بد من مقاربة شاملة تستند إلى مجموعة من المسارات المتوازية :
- التربية على ثقافة الاحترام المتبادل، وإدماج قيم التسامح وقبول الآخر في المناهج الدراسية، بما يحول دون تكريس الصور النمطية السلبية أو تغذية الكراهية بين الأجيال الجديدة.
- تشجيع اللقاءات والمنتديات التي تجمع رجال الدين والمفكرين وصناع القرار، من أجل بناء أرضية مشتركة تحمي المقدسات وتفتح في الوقت ذاته مجالًا للنقاش النقدي المسؤول.
- وضع مدونات سلوك إعلامية تميز بين حرية التعبير كحق مشروع، وبين توظيفها في الإساءة أو الاستفزاز المتعمد، مع محاسبة المنابر التي تتعمد تأجيج خطاب الكراهية.
- سن قوانين واضحة لا تُستخدم كأداة لقمع المعارضة الفكرية، بل كآلية لحماية الأديان والمقدسات من الازدراء المباشر الذي يهدد السلم الأهلي.
- دعم المبادرات الثقافية والفنية التي تعزز صورة الدين كقيمة أخلاقية وإنسانية، وتدفع الشباب إلى التعبير عن آرائهم بوسائل راقية بعيدة عن العنف اللفظي أو الرمزي.
- هناك جزء كبير من الظاهرة يتغذى عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يصبح من الضروري نشر ثقافة الاستخدام الأخلاقي للفضاء الإلكتروني وتدريب الشباب على النقد الواعي دون انزلاق إلى خطاب ازدراء أو تحريض.
الخلاصة :
يبقى ازدراء الأديان قضية شائكة تتقاطع فيها حرية التعبير مع قدسية المعتقدات، وتختلط فيها الاعتبارات القانونية بالرهانات السياسية والاجتماعية. فالمجتمعات الحديثة بحاجة إلى توازن دقيق: حماية المقدسات من أن تتحول إلى مادة للتهكم والابتذال، وحماية حرية التعبير من أن تُستغل كذريعة لإسكات النقد المشروع أو فرض وصاية فكرية.
إن التحدي الحقيقي لا يكمن في تشديد القوانين أو في إطلاقها بلا قيود، بل في بناء وعي جمعي يفرق بين النقد المسؤول والازدراء المستفز، وبين الحوار الفكري وبين الخطاب الذي يغذي الكراهية. عندها فقط يمكن للدين أن يبقى قيمة روحية جامعة، ولحرية التعبير أن تظل أداة للارتقاء بالحوار الإنساني لا وسيلة لتمزيقه.
#حسين_علي_محمود (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟