صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8451 - 2025 / 8 / 31 - 15:05
المحور:
الادب والفن
مقامة دروب المعنى :
يفضل مارتن هايدغر استعمال مصطلح (( الدروب )) بدلاً من (( الطرق )) , ففي الدروب , يسير الإنسان بلا خارطة مسبقة , تتكشف له الخارطة تدريجيًا وهو يسير, وكأنه يتيه في غابة بحثًا عن معنى وجوده وحياته , بخلاف الطرق التي تكون فيها الخارطة واضحة قبل السير, في تلك الدروب , لا نكتفي بكتابة عصارة الأيام , بل ننسج وشاحًا من الضوء , ونلقي به على وجه العالم , كأننا نستعير من الآلهة لسانها ومن الطفولة نبلها , ما نكتبه هو فكر يتكئ على الحواس ويغترف من الرؤيا , لا من البلاغة , ومن هنا تأتي فرادة التجربة.
أمتدت رحلة البحث عن المعنى منذ أيام شبابي في السبعينات , فقد دأبت كلما ولدت في ذهني فكرة , أو ألهمتني مطالعاتي , أو ما أسمعه من محاضرات أساتذتي في الكلية , أو حاولت تقديم تفسير لظاهرة معينة , أن أدوّن رأيي في دفتر خاص , وها أنا في محطة مغادرة العمر وقد تجمعت لديّ الدفاتر والمعاني , فوجدت أن حياتي كانت رحلة للبحث عن المعنى , والسعي للكشف عن منابع إنتاجه في الفلسفة والدين والحب , وبما أنه العنوان الأساسي للحياة , فهو يستوعب أكثر مضامين النصوص الواردة فيه , وفي زمنٍ تتكسر فيه الأحلام على قارعة الحروب والمخاوف , نظل نصنع من كلمات الحزن سلمًا للصعود , ومن ظلها طريقًا للحضور.
مواجهة أزمة القراءة في زمن الشاشات : كثيراً ما يخطر لي سؤالٌ يلحّ على العقل والقلب : هل ما زلنا نملك ذلك الصبر الجميل الذي كان يُغرقنا في صفحات الكتب دون أن نشعر بثقل الوقت ؟ أم أن عقولنا باتت أسيرةً لمقاطع قصيرة , لا تُشبع فهمًا ولا تترك أثرًا؟ لقد غدت القراءة العميقة عملةً نادرة , وهي وحدها التي تُهذّب الفكر وتُصقل الشخصية وتُربّي فينا القدرة على التماسك وسط فوضى المعاني و أما التصفّح السريع , فهو كوجبةٍ عابرة , تُشبع لحظةً وتُجوع دهرًا , يُشتّت الذهن ويُضعف القدرة على التأمل , ويتركنا نهيم في سطح الحياة دون جذور , وما لم نسترد قدرتنا على الجلوس الطويل مع الكتب , ونُعيد للقراءة مكانتها كفعلٍ وجودي لا مجرد عادة و فسوف يبقى فكرنا هشًّاً تسوقه الشاشات حيث تشاء , ويفقد الإنسان بوصلته في بحرٍ من المعلومات بلا معنى ولا اتجاه.
صراع القوة والضعف : لم تعد الحياة في هذا الزمن الملتاث ساحةً تُوزَن فيها القضايا بميزان الحق والباطل , ولا حديقةً تسكنها الأخلاق والمبادئ والمثل العليا , لقد غدت ميدانًا فسيحًا يتقابل فيه الأقوياء والضعفاء كما تتقابل النار مع الهشيم , من يملك المخلب والنياب يفرض وجوده , ومن لا يملك سوى جناحين ضعيفين يُلقى به في مهب الرياح , فالقوة اليوم ليست مجرد عضلاتٍ أو سلاح , بل دهاءٌ يمشي على قدمين , وقدرة على قراءة الخفايا , ومهارة في التكيف مع رياح الواقع , ولو كانت عاصفةً عاتية , أما الضعفاء , أولئك الطيبون الذين يظنون أن العالم ما زال يكرّم البراءة ويقدس الطيبة , فهم وقود الحكاية وأبطال المأساة , وحصى الطريق الذي يطأه المنتصرون بلا التفات , وعندما بحثت عن المعنى وجدت أني كتبت : (( أنا هنا , ولكنك لا تعلم أن ظلي سبقني إليك )) .
لقد تطوّر الإنسان لا لينقذ أخاه الإنسان , بل ليفترسه بأسلوب أرقى : من الأنياب والمخالب إلى الألسنة والأقلام , ومن سلب اللقمة إلى سلب الكرامة والحقوق , والشرّ, حين يلبس ثوب النجاح , يصبح قدوةً تُصفّق لها الجموع , ويُقلَّد حتى من أولئك الذين كانوا بالأمس يلعنونه , أما مصير الضعفاء والبسطاء , فهو الانحدار شيئًا فشيئًا نحو هاوية النسيان , أو السقوط في براثن من يستغلهم حتى آخر قطرة من نقائهم , هناك , في قاع الحكاية تختفي أصواتهم , وتبقى قصصهم مجرد صدى يتردّد في أروقة التاريخ , بينما يرتفع صوت المنتصرين , ولو كانوا ظلمةً , كأنه النشيد الوحيد الذي يُسمع , هكذا يربح الضبع وتُهزم الغزالة , لا لأن الضبع أحق بالحياة , بل لأن هذا العالم لم يعد يصغي لرفيف الأجنحة الضعيفة , وصوت حوافر الغزلان الجميلة , بل لزئير القوة , مهما كان ثمنه وبغض النظر عن الضحية , هنا تذكرت درس النظرية الألمانية ومعنى مذهب القوة في العلاقات الدولية.
تأملات في قيادة الأمم : علمتنا بعض دروس الحياة أن أقدار الدول لا تختلف عن أقدار البشر, فهنالك دول لا تعرف الحروب والمجاعات والخوف إلا نادرًا , وهنالك دول لا تعرف السلام والشبع والأمان , وهكذا أحوال ملايين الناس , الدول المحظوظة بقيادات ناضجة لا تعاني من المعضلات , وربّما تواجهها بعض المشاكل البسيطة وهذا الأمر ممكن ومتوقّع , بينما الدول المغضوب عليها بقيادات هزيلة تعاني من معضلات قاهرة , وهذه نتيجة متوقّعة لسياسات وضع الرجل الهزيل في مكان القوي , والخائن في مكان الرجل الأمين , والعبثيّ في مكان الرجل الدقيق , وهكذا حال غالبية المناصب الحسّاسة والدقيقة والمفصلية , حيث كنا قد تعلمنا أن المعضلات المتنامية ينبغي أن يتصدّى لها الأوفياء لتقليل آثارها وتحجيمها قدر الإمكان , ومنهم غالبية الساسة الأصفياء , والعلماء الأتقياء , والنخب المجتمعية , والصحفيّون , والإعلاميّون , والكتّاب المعروفون بحبّهم للوطن والناس .
دور الكاتب في دروب المعنى : في نهاية دروب معاني عراق ما بعد الغزو, نتساءل : هل الفرد الواعي الذي يكتب مُطالب بتقديم الحلول لإتمام الفائدة ولو بعبارات بسيطة , دون أن يذهب لتفاصيلها الدقيقة في جميع مقالاته ؟ نعلم أن هناك عدة طرق لطرح الحلول منها المباشرة التي يتناول فيها الكاتب المشكلة ويطرح العلاج مباشرة معها , أما غير المباشرة فتتمثّل بوصف الحالة السلبية , وتسليط الضوء عليها للوعي بحقيقتها وآثارها الآنية والمستقبلية , وهكذا , فإن الكاتب الذي يُحدّد المعضلة ويُحدّد زمانها ومكانها وشخوصها فهو يسعى لعلاجها وترميم الخلل , والحلّ ليس بالضرورة أن يكون تفصيليّا , بل ربّما تكفي الإشارة ببضع كلمات , أو طرح التساؤلات التي تدفع الناس للتفكير وفهم الواقع والوعي والسعي بالمحصلة للتغيير, الكاتب الذي يناحر (( السلطات العليلة )) لا يسعى للشهرة والثراء , بل هو شمعة تحترق في سبيل الوطن والناس , وقد يكون الكاتب في ظروف معينة بحاجة للتلميح وليس التصريح , وذلك تبعًا لظروفه الخاصة القاهرة , وكم من كاتب كان ضَحيّة لقلمه وفكره , وضيّع حياته وحرّيّته سعيًا لتحقيق العدالة الاجتماعية, والتلاحم الإنسانيّ , والتراحم المجتمعيّ.
صباح الزهيري.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟