ليث الجادر
الحوار المتمدن-العدد: 8451 - 2025 / 8 / 31 - 13:45
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
الفصل السابع: الفتوحات الكبرى وترسيخ البنية الإمبراطورية
7.1 الفتوحات كحل للأزمات الداخلية
بعد الفتنة الكبرى، واجهت الأرستقراطية المقاتلة تحديات داخلية: التوتر بين القبائل العربية، الاستياء الشعبي من التفاوت الطبقي، فقدان الشرعية الروحية بسبب الصراعات الدموية.
الحل كان في تصدير الأزمة إلى الخارج عبر الفتوحات: توفير غنائم جديدة تُوزع لشراء الولاءات، إشغال القبائل بالقتال بدل التمرد، إضفاء معنى ديني على التوسع ("نشر الإسلام") لتغطية دوافعه الاقتصادية.
7.2 الفتح كمورد اقتصادي
الفتوحات الكبرى (خراسان، شمال أفريقيا، الأندلس، السند) لم تكن مجرد مغامرات عسكرية، بل مورد اقتصادي منظّم: تدفق الجزية والخراج من الأراضي المفتوحة، استرقاق الأسرى وتحويلهم إلى عبيد أو موالي، السيطرة على طرق التجارة العالمية (من الهند حتى المتوسط).
بهذا أصبحت الدولة الإسلامية المبكرة إمبراطورية ريعية تعتمد على تدفق الثروة من الخارج، بدل إعادة توزيع عادل للموارد الداخلية.
7.3 العرب والموالي: طبقية جديدة
الفتوحات أفرزت تناقضًا جديدًا: العرب (الفرسان المقاتلون) نالوا الامتيازات الكبرى: رواتب (عطاء)، أراضٍ، مناصب. الموالي (المسلمون الجدد من غير العرب) خُضعوا للتمييز: حُرموا من العطاء العسكري، فُرضت عليهم الجزية أحيانًا رغم إسلامهم، استُخدموا كقوة عاملة دون تمكين سياسي.
هكذا توسعت الأرستقراطية المقاتلة لتصبح أرستقراطية قومية–عسكرية: العرب فوق، والموالي دونهم.
7.4 من الغزوة إلى الإمبراطورية
في هذه المرحلة، تغيرت طبيعة "الغزو": الغزوة النبوية: حدث محدود، قصير المدى، يهدف للغنيمة المباشرة. الفتوحات الأموية/العباسية المبكرة: مشروع إمبراطوري مستدام، قائم على إدارة الأراضي والشعوب المفتوحة.
التحول الأهم هو أن الغنيمة لم تعد تُقسم فورًا، بل أصبحت ريعًا طويل الأمد عبر الخراج والجزية، مما عزز سلطة الدولة المركزية.
7.5 التناقضات المتجددة
لكن توسع الإمبراطورية لم يُلغِ الصراع الطبقي، بل أعاد صياغته: القبائل العربية نفسها تنافست على نصيبها من الغنائم (قيس/يمن)، العرب مقابل الموالي، وهو التوتر الذي انفجر لاحقًا في الدعوة العباسية، المركز مقابل الأطراف: دمشق (ثم بغداد) تسيطر على الخراج، فيما تبقى الأقاليم مجرد منابع.
الفتوحات إذن لم تكن سوى تأجيل للأزمة الداخلية، لأن الاعتماد على الخارج عمّق الفوارق داخل المجتمع الإسلامي.
7.6 النتيجة
الفتوحات الكبرى لم تكن مجرد نشر للدين كما تصفها السرديات التقليدية، بل آلية طبقية–إمبراطورية: أعادت إنتاج الأرستقراطية المقاتلة على نطاق أوسع، منحتها شرعية جديدة باعتبارها "حماة الإسلام وناشريه"، وضمنت استمرار تدفق الثروة عبر الريع الإمبراطوري.
لكن هذا التوسع زرع بذور أزمات مستقبلية، أبرزها: صراع العرب والموالي، انتقال السلطة بين الأسر (أموية–عباسية)، الثورات الاجتماعية المتكررة في الأطراف (خراسان، العراق، شمال أفريقيا).
الفصل الثامن: من الأرستقراطية المقاتلة إلى الدولة المركزية
8.1 التحول العباسي: من قبيلة إلى دولة
مع قيام الدولة العباسية (750م)، انتهى الطور الأول للإسلام كـ"مشروع غزو" تقوده قبائل عربية.
العباسيون استندوا على تحالف واسع مع الموالي، خصوصًا من خراسان، لتقويض احتكار العرب.
لكن بمجرد استلامهم السلطة، لم يلغوا الأرستقراطية المقاتلة بل أعادوا تشكيلها في صورة جديدة.
هنا بدأ التحول من أرستقراطية قبلية إلى أرستقراطية بيروقراطية–عسكرية تدير إمبراطورية مترامية الأطراف.
8.2 البيروقراطية والجيش: شراكة السلطة
الدولة العباسية طوّرت جهازًا إداريًا معقدًا لإدارة الخراج والجزية والموارد: الوزراء والكتّاب يمثلون البيروقراطية المدنية، القادة العسكريون يمثلون الامتداد الجديد للأرستقراطية المقاتلة.
العلاقة بين الطرفين لم تكن ندية، بل متشابكة: الجيش يوفر القوة ويحمي الدولة، البيروقراطية تنظّم الموارد وتضمن تدفق الريع.
بهذا نشأت دولة مركزية تتجاوز الغزوة والقبيلة، لكنها لا تلغي الامتياز الطبقي بل تكيّفه في شكل جديد.
8.3 العرب والفرس والترك: إعادة تركيب الأرستقراطية
مع توسع الدولة العباسية، تغيرت تركيبة الطبقة الحاكمة: العرب فقدوا بعض امتيازاتهم القديمة، لكن ظلوا جزءًا من النخبة. الفرس (خاصة من خراسان) لعبوا دورًا محوريًا في البيروقراطية والوزارات. الترك صعدوا كقوة عسكرية جديدة، خصوصًا مع تجنيدهم كمرتزقة و"غلمان".
وهكذا تحولت الأرستقراطية المقاتلة من كونها طبقة عربية–قبلية إلى طبقة إمبراطورية متعددة الأعراق، لكنها ظلت متميزة عن عامة الناس.
8.4 الجباية والريع بدل الغنيمة
في زمن الغزوات المبكرة، كان مصدر الامتياز هو الغنيمة المباشرة. أما في العصر العباسي، فصار الامتياز يعتمد على الجباية (الخراج، الجزية، المكوس)، الريع الزراعي والتجاري الذي تحتكره الدولة، الإقطاعات التي تُمنح للقادة العسكريين أو البيروقراطيين كأجر أو مكافأة.
بهذا تحولت الغنيمة من حدث عسكري إلى نظام اقتصادي مستدام، مما عزز موقع الطبقة الحاكمة.
8.5 الفجوة الاجتماعية المتسعة
الدولة المركزية لم تُلغِ التفاوت، بل جعلته أكثر مؤسسية: الطبقة الحاكمة (عسكرية/بيروقراطية/دينية) تمتعت بالرواتب والإقطاعات، العامة (الفلاحون، الصناع، التجار الصغار) ظلوا مصدر الجباية، الخطاب الديني أعاد إنتاج الشرعية: الطاعة للخليفة، دفع الخراج "حق الله"، ومقاومة الدولة اعتُبرت خروجًا على الدين.
النتيجة: ترسيخ نظام طبقي إمبراطوري مقنّن بقوانين الدولة والدين معًا.
8.6 النتيجة
الفترة العباسية تمثل انتقالًا نوعيًا: من غزوات قبلية تبحث عن الغنيمة إلى دولة مركزية تدير إمبراطورية ريعية، من أرستقراطية مقاتلة عربية إلى أرستقراطية بيروقراطية–عسكرية متعددة الأعراق، من اقتصاد حرب قصير المدى إلى اقتصاد جباية منظم طويل الأمد.
لكن الجوهر لم يتغير: الامتياز ظل محصورًا بيد طبقة ضيقة تحتكر القوة والموارد والشرعية الدينية، بينما بقيت الأغلبية في موقع التبعية.
الفصل التاسع: الدين كأداة لإعادة إنتاج الهيمنة الطبقية
9.1 من الوحي إلى الفقه: انتقال السلطة الرمزية
في المرحلة النبوية، كان الوحي هو المرجعية المباشرة. بعد وفاة النبي، انقطع الوحي، وبقي النص (القرآن) والتأويل البشري.
هذا أفسح المجال أمام طبقة العلماء والفقهاء كي يتحولوا إلى وسطاء بين النص والناس.
لكن هؤلاء الفقهاء لم يعملوا في فراغ، بل في ظل سلطة سياسية، ما جعل إنتاجهم الفقهي مشروطًا بمصالح الطبقة الحاكمة.
9.2 الفقه كشرعنة للتفاوت
الكثير من النصوص الفقهية كرّست الامتيازات: تقسيم الغنائم: تثبيت تمييز الفارس على الراجل، والقائد على الجندي، ومنح "الخُمس" مباشرة للسلطة. الخراج والجزية: تصويرها كحق شرعي، بحيث يُفهم الاستغلال الاقتصادي كطاعة لله. الإمامة: تعريفها كضرورة دينية، وبالتالي طاعة السلطان واجبة حتى لو كان جائرًا.
هكذا تحول الفقه إلى أداة لشرعنة النظام الطبقي–الإمبراطوري.
9.3 الحديث كآلية ضبط اجتماعي
المرويات الحديثية لعبت دورًا محوريًا: أحاديث تحض على "السمع والطاعة" حتى للحاكم الظالم، أحاديث تجرّم الخروج على الجماعة وتصفه بالفتنة، أحاديث ترفع مكانة "أهل الجهاد" وتمنحهم شرعية فوق المجتمع.
بهذا تحولت السنة النبوية من مرجعية أخلاقية إلى جهاز أيديولوجي يبرر امتيازات الأرستقراطية المقاتلة.
9.4 العلماء كجزء من البنية الطبقية
العلماء لم يكونوا مجرد "مستقلين"، بل جزء من النظام: الدولة رعت بعضهم ومنحتهم الرواتب والمناصب (قضاة، مفتون، محتسبون)، المعارضة الفقهية (مثل بعض الزهاد) بقيت محدودة التأثير، وغالبًا ما جرى استيعابها أو قمعها. بمرور الوقت، أصبح العلماء مؤسسة قائمة بذاتها، تمثل الذراع الأيديولوجي للدولة.
9.5 الدين كأيديولوجيا دولة
يمكن قراءة هذا التحول وفق منطق ماركسي: القاعدة المادية: اقتصاد الغنائم والخراج، البنية الفوقية: فقه، حديث، تفسير، العلاقة بينهما ليست حيادية، بل تكاملية: النصوص تُؤوَّل بما يخدم استمرار الهيمنة.
الدين هنا لم يُلغَ، بل أعيد تشكيله ليصبح إيديولوجيا دولة، توحد الرعية وتضفي الشرعية على الفوارق.
9.6 النتيجة
الدين في التجربة الإسلامية المبكرة لم يكن مجرد منظومة روحية، بل: أداة سياسية بيد السلطة، أداة طبقية لإعادة إنتاج التفاوت، أداة ثقافية لضبط العامة وإقناعهم بقدَرهم الاجتماعي.
وبذلك اكتملت حلقة الهيمنة: القوة العسكرية (الأرستقراطية المقاتلة)، الدولة المركزية (البيروقراطية)، الشرعية الدينية (الفقه والعلماء).
#ليث_الجادر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟