ليث الجادر
الحوار المتمدن-العدد: 8439 - 2025 / 8 / 19 - 16:14
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
المقدمة
يُعَدّ مفهوم القيمة من أكثر المفاهيم الاقتصادية والفلسفية إشكالًا في الفكر الحديث، إذ شكّل محورًا رئيسًا لنقد ماركس للرأسمالية عبر نظريته في فائض القيمة، التي تفسر كيف يَنتزع الرأسمالي من العامل قيمة إضافية فوق ما يتقاضاه كأجر. لكن في المقابل، ثمة ظاهرة أكثر مباشرة وأشد حضورًا في الحياة اليومية، هي القيمة المضخَّمة الناتجة عن الاحتكار والتسعير، حيث يجد المواطن نفسه أمام سلعة تُباع بأكثر من كلفتها الحقيقية بفارق ظاهر يمكن لمسه وتشخيصه فورًا.
هكذا يظهر أمامنا بُعدان متمايزان من "خداع النقد":
القيمة المضخَّمة: وجه ملموس يعيشه المواطن مباشرة عند الشراء، ويمثل آلية السوق الرأسمالية في تضخيم الأسعار لتحقيق أرباح سريعة.
فائض القيمة: حقيقة أعمق، مراوغة وغير مرئية، تتحقق في لحظة الإنتاج حين ينتج العامل أكثر مما يُدفع له كأجر.
المفارقة أن القيمة المضخمة تُدرك بالحواس، بينما فائض القيمة لا يُلمَس إلا بالتحليل النظري. من هنا تنشأ مشكلة البحث: كيف يمكن تشخيص العلاقة بين القيمة المضخمة وفائض القيمة، وما السبيل إلى تحويل هذا الأخير من مجرد حقيقة نظرية إلى واقع معاش؟
إشكالية البحث
تنطلق هذه الدراسة من إشكالية محورية:
لماذا تبقى القيمة المضخمة في متناول التشخيص اليومي بينما يتوارى فائض القيمة خلف العلاقات الإنتاجية؟
وما الدور الذي تلعبه ملكية وسائل الإنتاج في تحديد ما إذا كان فائض القيمة سيتحول إلى منفعة عامة أو إلى ربح خاص؟
فرضية البحث
تفترض هذه الدراسة أن:
1. القيمة المضخمة لا تُشكّل سوى انعكاس سطحي لجوهر أعمق هو فائض القيمة.
2. إن معالجة فائض القيمة وضبطه لا يمكن أن تتحقق بمجرد نقل الملكية إلى العمال كأفراد، بل يتطلب الأمر أن تُحتكر وسائل الإنتاج بيد سلطة اشتراكية، قادرة على إعادة توزيع الفائض اجتماعيًا عبر التخطيط المركزي.
3. الاقتصاد الريعي، كما في الحالة العراقية، يمثل نقيضًا للتجارب الاشتراكية، إذ يسمح بتبديد فائض القيمة في الاستيراد والفساد والتضخيم السعري، بدل أن يُعاد ضخه في التنمية والإنتاج.
أهداف البحث
يهدف البحث إلى:
1. توضيح الفرق بين القيمة المضخمة وفائض القيمة من منظور نقدي–ماركسي.
2. تحليل كيف تعاملت السلطات الاشتراكية مع فائض القيمة وحولته إلى منفعة جماعية.
3. تشخيص آلية تبديد فائض القيمة في الاقتصاد الريعي العراقي.
4. تقديم مقارنة تحليلية بين النموذج الاشتراكي والنموذج الريعي، لاستخلاص الدروس النظرية والسياسية.
: الإطار النظري
خداع النقد بين القيمة المضخمة وفائض القيمة
أولًا: النقد كأداة قياس مخادعة
النقد هو الوسيط العام للتبادل في المجتمع الحديث، يُختصر فيه كل جهد إنساني أو إنتاج مادي إلى قيمة رقمية. لكن هذه الأداة التي تبدو محايدة تتحول في الواقع إلى وسيلة خداع مزدوج:
1. خداع مباشر يتمثل في تضخيم الأسعار بفعل الاحتكار أو التلاعب بالسوق.
2. خداع غير مباشر أعمق يتمثل في آلية إنتاج فائض القيمة داخل العملية الإنتاجية نفسها.
من هنا يصبح النقد أشبه بـ "قناع" يخفي وراءه حقيقة العلاقات الاجتماعية، بحيث يبدو التبادل متكافئًا بينما هو في العمق غير عادل.
ثانيًا: القيمة المضخمة (الربح السعري)
القيمة المضخمة هي زيادة على القيمة الحقيقية للسلعة تنتج من التلاعب بالتسعير لا من الإنتاج. يمكن تعريفها بأنها:
"الفرق بين الكلفة الفعلية للسلعة وسعرها في السوق، حين يكون هذا الفرق ناتجًا عن الاحتكار أو التلاعب، لا عن زيادة في العمل المنتج."
مثال توضيحي:
علبة سجائر يستوردها التاجر بـ 900 فلس.
تُباع للمستهلك بـ 1000 فلس.
الفارق (100 فلس) هو قيمة مضخمة، أي ربح سطحي لا علاقة له بإنتاج جديد.
تظهر القيمة المضخمة في حياتنا اليومية بوضوح: في أسعار الغذاء المستورد، وفي تجارة السيارات، وفي أسواق العقارات. إنها ربح طفيلي يعكس طبيعة السوق الرأسمالية، حيث يملك البائع قوة تحديد السعر أكثر مما يملك المنتج قوة تحديد القيمة.
ثالثًا: فائض القيمة (الجوهر الرأسمالي)
خلافًا للقيمة المضخمة، فإن فائض القيمة لا يُرى في السوق، بل يُنتَج في قلب العملية الإنتاجية. عرّفه ماركس بأنه:
"القيمة التي ينتجها العامل فوق ما يُدفع له كأجر."
مثال توضيحي:
العامل يُنتج في ثماني ساعات ما قيمته 100 ألف دينار.
يحصل على أجر يومي قدره 25 ألف دينار.
الفرق (75 ألف دينار) هو فائض القيمة، الذي يستولي عليه صاحب رأس المال.
فائض القيمة إذن ليس تضخيمًا سعريًا، بل استغلال زمني مباشر لجهد العامل. إنه العمود الفقري للرأسمالية، وآلية تراكمها الأساسية.
رابعًا: العلاقة بين القيمة المضخمة وفائض القيمة
القيمة المضخمة: سطحية، مرئية، يلمسها المواطن في السوق.
فائض القيمة: جوهرية، خفية، لا تُرى إلا بالتحليل النظري.
العلاقة بينهما أشبه بالعلاقة بين الظاهرة والجوهر: الأولى تُدرك بالحواس، الثانية تُفهم بالعقل.
لكن الخطورة تكمن في أن تضخم القيمة المضخمة يمكن أن يُخفي عن الوعي الجماهيري وجود فائض القيمة. فالمستهلك يظن أن معاناته من الغلاء تعود فقط إلى جشع التاجر، بينما الحقيقة أن الغلاء مجرد وجه ظاهر لبنية أعمق من الاستغلال القائم على فائض القيمة.
خامسًا: دور ملكية وسائل الإنتاج
يتضح مما سبق أن جوهر الاستغلال لا يزول إلا بإعادة تنظيم ملكية وسائل الإنتاج. فالقيمة المضخمة يمكن الحد منها عبر الرقابة على السوق، لكنها ستعود ما دام المنتج والتوزيع في يد قوى خاصة. أما فائض القيمة، فلا يمكن إلغاؤه أو تحويله إلى منفعة عامة إلا إذا صارت وسائل الإنتاج بيد سلطة اشتراكية مركزية، قادرة على إعادة توزيع الثروة وفق الحاجات الاجتماعية لا وفق منطق الربح.
: التجارب الاشتراكية الكبرى في التعامل مع فائض القيمة
أولًا: الاتحاد السوفيتي
بعد ثورة أكتوبر 1917، اتخذ البلاشفة قرارًا جذريًا بتأميم وسائل الإنتاج الكبرى (المصانع، المصارف، الأراضي). بهذا التحول انتقل فائض القيمة من أيدي الرأسماليين إلى يد الدولة السوفيتية، التي مثّلت السلطة السياسية الجديدة للعمال والفلاحين.
آلية التوزيع:
فائض القيمة لم يعد يُعاد استثماره من أجل الربح الخاص، بل جرى توجيهه نحو التصنيع الثقيل، والتعليم، والصحة، والبنية التحتية.
ترافق ذلك مع التخطيط المركزي (الخطة الخمسية) الذي جعل فائض القيمة موردًا اجتماعيًا.
النتيجة:
خلال عقدين فقط (1928–1950) تحوّل الاتحاد السوفيتي من بلد زراعي متخلف إلى قوة صناعية عظمى.
لكن هذا النجاح رافقه تركيز شديد للسلطة الاقتصادية بيد الدولة، مما أدى أحيانًا إلى بيروقراطية خانقة وإهدار في استخدام الموارد.
ثانيًا: الصين الاشتراكية
بعد انتصار الثورة الصينية عام 1949 بقيادة ماو تسي تونغ، اتجهت الصين إلى نموذج مشابه، مع فارق مهم: اعتمادها على قاعدة فلاحية واسعة.
آلية التوزيع:
جُمعت فائض القيمة من الزراعة (عبر الكومونات الشعبية) ومن الصناعة الناشئة.
الدولة وظّفت هذا الفائض في مشاريع كبرى مثل "القفزة العظمى للأمام"، رغم ما شابها من أخطاء كارثية.
النتيجة:
استطاعت الصين تحقيق إنجازات في التعليم والصحة والتصنيع الأساسي.
إلا أن سوء التخطيط في بعض المراحل أدى إلى مجاعات وانخفاض إنتاجية.
الخلاصة:
التجربة الصينية أظهرت أن تحويل فائض القيمة عبر السلطة الاشتراكية ممكن، لكنه يتطلب تخطيطًا عقلانيًا يوازن بين الزراعة والصناعة.
ثالثًا: مصر الناصرية
رغم أن مصر لم تعلن نفسها "اشتراكية" بالمفهوم الماركسي الدقيق، فإن تجربة عبد الناصر (1952–1970) تمثل نموذجًا عربيًا للتأميم واستخدام فائض القيمة في التنمية الوطنية.
آلية التوزيع:
تأميم قناة السويس (1956) حوّل فائضًا ماليًا ضخمًا إلى يد الدولة.
جرى توظيف هذا الفائض في بناء السد العالي، والتصنيع الحربي، والتعليم المجاني.
النتيجة:
قفزة نوعية في البنية التحتية والتنمية الاجتماعية.
لكن ضعف القاعدة الصناعية وغياب حزب اشتراكي منظم جعل التجربة تتراجع مع وفاة عبد الناصر وصعود الانفتاح الاقتصادي في عهد السادات.
رابعًا: تحليل مقارن
نقاط التشابه:
كل التجارب الثلاث قامت على تأميم وسائل الإنتاج.
فائض القيمة تحوّل من الربح الخاص إلى مورد عام عبر سلطة اشتراكية/قومية.
كان التخطيط المركزي هو الأداة الرئيسية لإعادة توزيع الفائض.
نقاط الاختلاف:
الاتحاد السوفيتي اعتمد على قاعدة صناعية حضرية.
الصين انطلقت من قاعدة فلاحية واسعة.
مصر مثّلت نموذجًا "هجينيًا" بين الاشتراكية والقومية.
الدروس المستخلصة:
نجاح تحويل فائض القيمة إلى منفعة اجتماعية مرتبط بقدرة الدولة الاشتراكية على التخطيط العلمي.
غياب الديمقراطية الاقتصادية قد يؤدي إلى بيروقراطية وتبديد للفائض، حتى في ظل الملكية العامة.
#ليث_الجادر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟