ليث الجادر
الحوار المتمدن-العدد: 8429 - 2025 / 8 / 9 - 16:19
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
تحوّل شامل لا مجرّد تبادل أدوار
ما نشهده اليوم ليس مجرد تغيّر في مركز القيادة العالمية أو انتقال الهيمنة من قطب إلى آخر، بل نحن أمام تحوّل جذري في النموذج الحاكم للنظام الدولي بأسره. إنّ هذا التحوّل لا يقتصر على تعدد الأقطاب، بل يمتد إلى تعددية في الرؤى والمقاربات والمصالح وتنوّع في الفاعلين من دول وتحالفات وكيانات ما دون الدولة. وهذا التحوّل، وفق رؤية ماركسية، هو انعكاس لتغيّر بنيوي في نظام الرأسمالية العالمي، حيث تعيد الطبقات الحاكمة تشكيل أدواتها وصراعاتها من أجل السيطرة على وسائل الإنتاج وعوائد التراكم الرأسمالي.
يمتد هذا التحوّل على مدى سنوات وربما عقود، ويتخلّله اضطراب وتوحش؛ لأن النظام الرأسمالي، بحكم تناقضاته الجوهرية بين رأس المال والعمل، بين المركز والهامش، لا يستطيع أن يتغيّر دون أن يمرّ بفترات عنف اقتصادي وسياسي متصاعد، وحروب بالوكالة، وأزمات مالية. هذا هو الجانب المادي والطبقي الذي يبرر فترات الفوضى قبل أن تتبلور قواعد لعبة جديدة تؤسّس لاستقرار عالمي مغاير، ولكنه ليس استقرارًا لطبقة واحدة، بل لتوازن جديد بين كتل رأسمالية متنافسة.
ليس تحاملًا على الصين.. بل قراءة في عمق التحوّل الطبقي العالمي
قد يُؤخذ علينا في بعض المقالات التي تناولت توسّع الاستثمارات الصينية في العراق أننا نُضخّم أهمية هذه الظاهرة أو نراها تجسيدًا لتفاهمات دولية كبرى تتجاوز الاقتصاد. إلا أن هذا المأخذ يغفل واقع النظام الرأسمالي المتحوّل، حيث كل فعل اقتصادي، خصوصًا صادر عن قوة صاعدة مثل الصين، هو فعل سياسي واستراتيجي مرتبط بصراع طبقي دولي.
الصين اليوم ليست فاعلًا اقتصاديًا معزولًا، بل كيان رأسمالي بامتياز، يمارس تراكم رأس المال العالمي، ويسعى لإعادة رسم خرائط النفوذ عبر أدوات اقتصادية وجيوسياسية مثل مبادرة "الحزام والطريق"، التي توظف استثمارات ضخمة في البنى التحتية والتعدين والطاقة، لكنها في نفس الوقت تعمّق تبعية دول مثل العراق لمراكز رأس المال العالمية، ضمن شبكة عولمة محكومة بسيطرة رأسمالية.
الاستثمارات الصينية في العراق ليست سوى واحدة من تجليات هذا التنافس على الفائض الاقتصادي المنتج محليًا. إذ ليس المهم فقط حجم الأموال، بل كيف تُستثمر هذه الأموال لتعزيز نفوذ رأس المال الصيني في مناطق استراتيجية، وترسيخ مصالحه الاقتصادية والسياسية على حساب الطبقات الشعبية وحقوق الشعوب. هذا هو صراع على إعادة توزيع فائض القيمة، لا صراع على "تنمية" بمعناها الإنساني أو الوطني.
لذلك، لا يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة، كما لا يمكن فصل تراكم رأس المال عن إعادة إنتاج علاقات الهيمنة والإخضاع على مستوى عالمي. وكلما تعمّق نفوذ رأس المال الصيني في العراق، تعمّق معها دور العراق كدولة تابعة في التقسيم العالمي للعمل الرأسمالي.
بروز نتوءات في هيكلية الدولة: تراجع مركزية الدولة القومية وصعود قوى رأسمالية جديدة
في قلب التحولات الهيكلية للنظام الدولي، يكمن تراجع مركزية الدولة القومية كفاعل وحيد ومهيمن. فحتى في الدول التي تبدو قوية، مثل الولايات المتحدة أو الصين، ترى الرأسماليات الكبرى تزايدًا في تأثيرها على صنع القرار، سواء على المستوى الداخلي أو الدولي. وهذا ليس مجرد ظاهرة شكلية، بل تعبير عن تغير طبيعة السيادة في ظل العولمة الرأسمالية.
برزت تكتلات إقليمية مثل الاتحاد الأوروبي التي تملك سلطات تشريعية وتنظيمية تخطت حدود الدول الأعضاء، وتسيطر على قرارات اقتصادية وسياسية، وتعيد توزيع فائض القيمة بين هذه الدول بما يخدم مصالح الرأسمال الأكبر. كما صعدت بقوة الشركات العابرة للقارات التي تملك موارد مالية وأدوات ضغط تفوق ميزانيات العديد من الدول، وتمارس هيمنة فعلية على الأسواق العالمية، وتتحكم في سلاسل التوريد والإنتاج العالمية.
بالإضافة إلى ذلك، أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي ميدانًا جديدًا للصراع الطبقي والسياسي، تُستخدم كأدوات لإعادة إنتاج الهيمنة الثقافية، ولتحقيق ما يمكن تسميته بالهيمنة "الإيديولوجية"، عبر ترويج أفكار وتوجهات تخدم مصالح الطبقات الحاكمة، وتقلل من قدرة العمال والشعوب على تنظيم مقاومتهم.
وفي الدول الهشة مثل العراق، لعبت الجماعات المسلحة دورًا موازياً، حيث تحولت إلى فاعلين سياسيين واقتصاديين يملأون الفراغات التي تتركها الدولة الضعيفة أو العميلة، ويسيطرون على شبكات تهريب وأعمال غير قانونية، مما يعزز من إعادة إنتاج علاقات التبعية وعدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، مع ما يصاحب ذلك من إضعاف لقدرة الدولة على تمثيل مصالح الطبقة العاملة أو الجماهير الشعبية.
هذه "النتوءات" في هيكلية الدولة ليست سوى انعكاس مادي لهيمنة رأس المال على السلطة، حيث لم تعد السيادة ملكًا للدولة بحد ذاتها، بل هي سيادة مشتركة مع رؤوس الأموال الكبرى، وتديرها شبكات معقدة من المصالح والضغوط المتبادلة.
التحوّل التاريخي للنظام الرأسمالي العالمي: دروس من الصراع الإمبريالي
لا يمكن فهم التحولات الحالية إلا من منظور مادي–تاريخي صلب، حيث يتكرر نمط صراع القوى الكبرى على إعادة تقسيم العالم ضمن النظام الرأسمالي. منذ بدايات القرن العشرين، شهد العالم أزمات عالمية وصراعات مسلحة وحروب إمبريالية نتجت عن تنافس الرأسمال الدولي على الأسواق، والموارد، ومراكز الإنتاج.
الأزمة الكبرى 1873-1896 كانت بداية نضوج النظام الرأسمالي الحديث مع تشكّل إمبراطوريات أوروبية تسعى لاقتسام الكعكة العالمية، فبرزت منافسات شديدة في إفريقيا وآسيا. هذا أدى إلى توسع الاستعمار واندلاع الحروب، التي انتهت بحربين عالميتين في القرن العشرين.
الحرب العالمية الأولى (1914-1918) مثّلت لحظة تصدع في الهيمنة الأوروبية التقليدية، حيث صعدت الولايات المتحدة كقوة جديدة. وقد أدّى هذا الصراع إلى إعادة رسم الخرائط السياسية، وتشكيل روابط رأسمالية جديدة، لكنه فشل في حل التناقضات الأساسية.
الكساد العظيم (1929) أعاد إحياء الأزمات الرأسمالية بحدة، وكانت مدخلًا لصعود الحركات الفاشية التي مثلت محاولات للعصب الوطني للسيطرة على الطبقات العاملة وتوجيه الغضب الشعبي نحو الصراعات الإمبريالية.
الحرب العالمية الثانية (1939-1945) جاءت كنتيجة مباشرة لهذه الأزمات، وأدت إلى سقوط الإمبراطوريات الأوروبية وتشكّل النظام الثنائي القطب بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، الذي أسس لنظام دولي جديد قائم على تقسيم العالم إلى معسكرين، كل منهما يحاول توسيع نفوذه الرأسمالي–السلطوي.
انهيار الاتحاد السوفيتي (1991) لم يؤدِ إلى نهاية النظام الرأسمالي، بل أعاد توحيد النظام الرأسمالي تحت القيادة الأميركية، لكن ذلك خلق تراكمات وصراعات جديدة أدت إلى نشوء مراكز رأسمالية صاعدة مثل الصين وروسيا، مما يعيدنا إلى النقطة الحالية من التحولات الكبرى.
العراق نموذجًا لصراع الإمبريالية المعاصر
العراق مثال حي على كيف تتشابك مصالح القوى الكبرى، الاقتصادية والسياسية والعسكرية، في إطار إعادة إنتاج التبعية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، رغم كل الوعود بالسيادة والتنمية.
الاستثمارات الصينية، الأميركية، الأوروبية، بالإضافة إلى تدخلات الفصائل المسلحة المحلية والإقليمية، توضح كيف أن العراق، رغم ثرواته الهائلة، لا يزال ساحة لصراع تنافسي بين كتل رأسمالية متصارعة، مع استمرار استغلال الطبقات العاملة والفقراء، الذين يدفعون ثمن تراكم رأس المال في شكل أزمات اجتماعية واقتصادية متفاقمة.
قراءة ماركسية في واقع الأحداث الكبرى
إن النظر إلى المشهد العالمي الراهن من زاوية التوتر الرأسمالي العالمي هو مفتاح لفهم جوهر الصراعات والتحولات الكبرى التي تشهدها الساحة الدولية. فالصراع والتنافس بين القوى الصاعدة، والتي لا تزال في مجملها تعتمد على الرأسمالية المنتجة الكلاسيكية القائمة على الصناعة والتصنيع التقليدي، وبين قوى أخرى تعتمد على اقتصاد رأسمالي هجين يمزج بين السلعي والرقمي، هو جوهر الصراع الراهن.
من الخطأ الفادح تبسيط الحرب الروسية-الأوكرانية باعتبارها صراعًا تدور رحاه حول الأمن الروسي كما هو معلن رسميًا؛ ذلك تصور مبتسَر لا يعكس حقيقة الواقع. هذه الحرب هي في العمق صراع على إعادة توزيع النفوذ، والأسواق، والمناطق الجغرافية ذات الأهمية الاستراتيجية في قلب النظام الرأسمالي العالمي، حيث تتواجه قوى رأسمالية مختلفة ضمن صياغة نموذج جديد للهيمنة الاقتصادية والسياسية.
بنفس المنطق، لا يمكن اختزال الأداء الوحشي الإسرائيلي في المنطقة إلى مجرد نزعة توسعية إسرائيلية تقليدية. إن هذا الوصف يصبح صحيحًا فقط إذا ما فهمناه كجزء من توظيف إسرائيلي لدوافع قوى رأس المال العالمية، التي تسعى لإعادة ترتيب الشرق الأوسط وفق مصالحها الاقتصادية والسياسية، مستغلة التوترات والاضطرابات لتحقيق مكاسب هيكلية في السيطرة على الموارد، وطرق النقل، وأسواق العمل، فضلاً عن الهيمنة على مراكز القرار الإقليمي والدولي.
في ضوء ذلك، يصبح من الضروري تبني قراءة ماركسية دقيقة تدمج بين البنية الاقتصادية للنظام الرأسمالي العالمي، والعلاقات الطبقية داخليًا ودوليًا، لفهم أن ما يجري من أحداث هو انعكاس لصراع طبقي متعدد الأبعاد، وليس مجرد تنافس جغرافي أو قومي أو أمني.
وهكذا، فإن النضال الحقيقي يتطلب تجاوز مجرد قراءة الأحداث على سطحها، والعمل على كشف الروابط الاقتصادية والسياسية العميقة التي تحكمها مصالح رأس المال الدولي، والعمل على بناء تحالفات طبقية دولية تسعى إلى هدم نظام الاستغلال والإخضاع الراهن، واستبداله بنظام جديد يُمكّن الطبقة العاملة والشعوب من تحقيق سيادتها الحقيقية وحقوقها الاقتصادية والاجتماعية.
#ليث_الجادر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟