أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - صحوة القلب














المزيد.....

صحوة القلب


نعمة المهدي

الحوار المتمدن-العدد: 8444 - 2025 / 8 / 24 - 09:37
المحور: الادب والفن
    


أيها الإنسان… كم مرة ظننتَ أن العمر قفصٌ انغلق على رماده، فإذا بجمرةٍ صغيرةٍ تُطلّ من أعماق الروح، تنفخ فيها نسمةُ حضور فتشتعل من جديد؟ إن الجسد يشيخ، لكن القلب لا يعرف الشيخوخة؛ بل يظل يترقّب المعنى، كما يترقّب طفلٌ نافذةً مفتوحة على الضوء. إنّ القدر لا يمنحنا سوى محطات محدودة، لكن اختيارنا أن نغادرها صامتين أو محمّلين بكلمة حب هو ما يصنع الفرق بين موتٍ عابرٍ وذكرى باقية.

في فناء دار المسنين، حيث المراوح تدور ببطءٍ يائس ورائحة المعقّم تختلط ببخار الشاي، جلس أبو مصطفى يقلب مسبحته بعينين غائرتين. كان موظفًا سابقًا في السكك الحديدية، يعرف مواعيد القطارات كنبضات قلبه، لكنه لم يعرف كيف يضبط قطار وحدته.
على الجهة الأخرى، جلست أمينة بثوب رمادي وعينين خضراوين خافتتين. دخلت الدار بعد أن باعت ابنتها البيت القديم. بين يديها علبة خشبية تحفظ بداخلها رسائل قديمة وإكليل ياسمين يابس.
حين التقت نظراتهما، انفتح بينهما صمتٌ له ملمس القماش القطني الجديد. اقتربت وجلست غير بعيد وقالت بابتسامةٍ وديعة:
– كنتُ أمينة مكتبة… والكتب لا تفارقني.
أجابها بصوتٍ متهدج:
– وأنا… كنت أقرأ أصوات القطارات أكثر من الكتب.

حين بدأ دفء الجلسات يتسلل إلى قلبه، تعثر أبو مصطفى في داخله بحاجزٍ قديم: هل يليق بشيخٍ أرمل أن يبتسم لامرأة أخرى؟
سمع نزيلًا آخر يغمز لصاحبه:
– شيخٌ وعاشق!
ارتجف وجهه بحرارةٍ كأنها صفعة. شدّ مسبحته بيده وهو يلوم نفسه: أأخون ذكرى سلمى؟ ومنذ تلك اللحظة، صار يختصر اللقاءات إلى تحياتٍ عابرة، بينما ترك أمينة تلمّ شتلة ريحانها بصمتٍ وتخفي غصتها بين الأوراق.

لكن زهرة الممرضة أصرّت أن تُعيدهما إلى الفناء. جلسا متجاورين من جديد، وتدفق الحديث مثل شايٍ ثقيل. تحدّثا عن الأبناء الغائبين، وعن بيوتٍ أُغلقت نوافذها. تحدثت أمينة عن بيتها الذي تخلّت عنه ابنتها، فقالت:
– البيت لم يمت… نحن الذين أهملنا أنفاسه.
ابتسم أبو مصطفى بحزنٍ وقال:
– والسكك لا تموت… لكن القطارات التي لم تعُد تمرّ، هي التي تترك في القلب صدأها.
كان يراها تضع المسبحة في يده بحنان قائلة:
– لا تضيّعها… بعض الأشياء إذا فُقدت، ضاع معها ما يسكّن القلب.
بدأ يوقن أن يده لم ترتجف من العمر، بل من شوقٍ يعود فجأة، كصوت قطارٍ مفقود.

في صباحٍ بارد، انتشرت رائحة الكافور: أبو قاسم، زميلهما، رحل في الليل. وقف أبو مصطفى يحدّق في حذائه اللامع الذي ظل مكانه. شعر أن الموت جالسٌ على الكرسي المجاور، يمدّ يده في صمت.
وفي ذلك المساء، زارت ابنة أمينة أمها، تطالبها ببيع ما تبقى من البيت. صاحت:
– ما الفائدة من بقاءك هنا؟ الدار ليست حياة!
أجابت أمينة بصوتٍ منكسر:
– بل هنا أتنفّس… أما البيت، فقد صار بلا نفس.
خرجت الابنة بعطرٍ نفّاذٍ وبابٍ صاخب الإغلاق. بقيت أمينة وحيدة، تحدّق في يديها المرتجفتين.
حينها انفجر الصراع في داخله: هل أتركها تموت من الوحدة؟ هل أختبئ وراء قناع الوقار؟ أم أقول كلمةً قد تنقذني معها من صمت القبور؟

في غروبٍ نحاسيّ، جلس إلى جوارها، ولم يعد يخفي ارتباكه. قال وهو يشدّ حبّات مسبحته ثم يتركها:
– مرّ قطار سريع… لم يتوقف لأحد. خفت أن أفوّت مقعدي.
نظرت إليه بعيونٍ يكسوها الضوء والارتباك:
– وأين مقعدك؟
– هنا… إلى جوارك. لا أملك عمرًا لآخر المقاعد.
ابتسمت دمعةً وضياءً في آنٍ واحد، وهمست:
– كنت أظنّ أن القلب إذا شاخ نام… فإذا به يصحو حين يتأخّر الضوء.
مدّت يدها المرتجفة فوق يده، فالتقت الارتجافتان في نبضٍ واحد. انتشرت رائحة الريحان المسقيّ، وتحوّل الفناء إلى حديقةٍ صغيرة.
وفي تلك اللحظة، أدرك الراوي أن الحب في الشيخوخة ليس طيشًا متأخرًا، بل صحوة قلبٍ أخيرة، تُقاوم ليل العمر الطويل.



#نعمة_المهدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زهرة ذبلت قبل الربيع٤
- الصندوق الأخير
- الحب عبر الجدار
- رسالة بين دفّتي كتاب
- الشمعة والريح
- قصة حب واحدة… وحياة كاملة
- صويحبتي
- حين يغسل المطرُ الوجوه
- مرثيّة نصف عام
- رحيلٌ مؤجَّل
- حين انكسر الجدار
- الحمار الذي زأر
- نعلُ الجدِّ الذي أنقذَ الحفيد
- حُجَّةٌ... وَلَكِنْ إِلَى أَيْنَ؟
- بيت لا يقبل القسمة


المزيد.....




- حضرت الفصائل وغُيِّب الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني
- خريطة أدب مصغرة للعالم.. من يفوز بنوبل الآداب 2025 غدا؟
- لقاءان للشعر العربي والمغربي في تطوان ومراكش
- فن المقامة في الثّقافة العربيّة.. مقامات الهمذاني أنموذجا
- استدعاء فنانين ومشاهير أتراك على خلفية تحقيقات مرتبطة بالمخد ...
- -ترحب بالفوضى-.. تايلور سويفت غير منزعجة من ردود الفعل المتب ...
- هيفاء وهبي بإطلالة جريئة على الطراز الكوري في ألبومها الجديد ...
- هل ألغت هامبورغ الألمانية دروس الموسيقى بالمدارس بسبب المسلم ...
- -معجم الدوحة التاريخي- يعيد رسم الأنساق اللغوية برؤية ثقافية ...
- عامان على حرب الإبادة في غزة: 67 ألف شهيد.. وانهيار منظومتي ...


المزيد.....

- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعمة المهدي - صحوة القلب