رياض قاسم حسن العلي
الحوار المتمدن-العدد: 8435 - 2025 / 8 / 15 - 21:44
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حين كنا صغارًا، كان الشارع نفسه مدرسة، رغم أننا لم ندرك حينها أنه يعلّمنا دروسًا في السياسة والسلطة، بطريقة كأنها تفسير كاسنجري مبسط، يربط بين القوة والهيمنة، بين النفوذ والصراع على الموارد، وبين العاطفة والخطر. أذكر جيدًا تلك المرحلة من حياتي، كنت في العاشرة من عمري، وكانت تلك السنوات المبكرة تملؤها حدة المشاعر واختبارات الوجود الأولى.
كنت في خصام وجودي مع جار لنا، صبي في مثل عمري، لكن له نفوذ على من حوله بطريقة لم نكن ندرك عمقها بعد. كان يتحرش بجارة جميلة، وعينيّ كانت معلقتين بها بطريقة لم أفهمها إلا لاحقًا كنوع من الولع الأول، كحب لم يعرف بعد كيف يعبر عن نفسه إلا عبر الغيرة والغيرة المتشابكة مع الغضب. وفي لحظة تبدو اليوم كأنها تاريخية، عند ركن الشارع الذي اعتدنا اللعب فيه، أمسكت بياقة قميصه وهو فعل بالمثل، في مواجهة عفوية ونشوة قوة طفولية لم يكن فيها إلا الصراع المباشر على شيء لا نستطيع تسميته بالكلمات بعد.
ولست هنا في مجال الكلمات التي كانت تتطاير من أفواهنا، تلك الكلمات التي لم تترك أي فتاة في العشيرة إلا وكان جسدها وجنسانيتها حاضرين في حواراتنا، وكأن كل الكلام مجرد وسيلة لتأكيد وجودنا وسط عالم يحاول أن يفرض علينا قوته. لكن في لحظة أخرى، قال لي: "هد"، وقلت له: "أنت هد بالبداية". كلمة "هد" كانت معناها المباشر أن يترك ياقة قميصي، وأن يوقف تصرفاته العدوانية. تدخل بعض الحاضرين، وكأنهم مجلس حكماء الشارع، لصياغة مساعي حميدة تضمن أن لا يستمر النزاع أكثر من اللازم، لأننا، رغم غضبنا، كنا ندرك ضمنيًا أن قمصاننا غالية، وأن كل منا محدود بالموارد، حتى في العنف، وأن ضرباتنا يجب أن تُوزن بحذر.
في النهاية، نترك ياقات قمصان بعضنا البعض، نبتعد خطوة للوراء، لكن نظراتنا لا تفارق الآخر، حذرًا من أي حركة غير محسوبة، بينما تلك الفتاة التي خضنا الصراع من أجلها تنظر إلينا من سطح بيتها، ربما تنتظر من سينتصر، ومن سيصير، بطريقة أو بأخرى، جديرًا بانتصارها العاطفي.
وهكذا، تبدو صورة الشرق الأوسط الصغيرة في ذلك الركن من الشارع: صراعات مستمرة، توتر بين الحماية والاعتداء، رغبات مشوبة بالغيرة، وسياسات القوة تتحرك في الظل حتى في أصغر التفاصيل. نزاعاتنا، حتى لو كانت طفولية، كانت محاولة لفهم القوة والسلطة والمكانة والاعتراف، تمامًا كما هي النزاعات الكبرى في منطقتنا، حيث يختلط الحب بالعداوة، والعاطفة بالسياسة، والحق بالهيمنة، ويبقى البشر دائمًا في ترقب، كما كنا نحن ننظر، بعيون حذرة، إلى الفتاة على السطح، انتظارًا للانتصار.
#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟