|
الرد على الدحيح، الجزء الثالث، (هل انهارت الحضارة المصرية تحت حكم الرومان؟!)- ألف عام منذ انهيار الحضارة !
ابرام لويس حنا
الحوار المتمدن-العدد: 8425 - 2025 / 8 / 5 - 23:22
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
كما كررت في المقالات السابقة وسأكرر إن تقاليد الشعب ولغته وأسلوب حياته لا تتغير ولا تتأثر باختلاف أنظمة الحكم، نعم تتطور لا لا تتدهور ولا تنهار، خصوصا عندما تحافظ أنظمة الحكمة على وضع الفلاحين او المصري كما هو بدون تغير لكي تكن مصر (سلة الغذاء المستمرة لهم).
وفي البداية سأستشهد بمقاطع من كتاب منشور بجامعة كامبردج (بعدد أحرف الأبجدية العربية) لأعلمه بكل (الأحرف) أن حضارة مصر لم تنهار ولكنها اخذت الفاظ أخرى خصوصا في عصر الدولة الإسلامية؛
المرجع الرئيسي:
Ritner, Robert K. (2008). Egypt under Roman rule: the legacy of ancient Egypt. In Carl F. Petry (Ed.), The Cambridge History of Egypt, Volume I, 640–1517 Cambridge University Press
أ) فقد استثنى أوكتافيان مصر صراحة من السيطرة المعتادة لمجلس الشيوخ، ووضعها بدلاً من ذلك تحت "السيادة κράτησις الخاصة بقيصر"، وهو تعبير جرت العادة على تفسيره بأنه يدل على مكانة مصر كـ "ملكية شخصية" للإمبراطور.
ب) وبما أن مصر كانت مجتمعًا زراعيًا بالدرجة الأولى، فقد اعتمد بقاؤها بشكل فريد على فيضان النيل، الذي استُثمر عبر شبكة محلية واسعة من قنوات الري. وعلى مدار آلاف السنين من التاريخ المصري، لم تُحدث التغيرات الكبرى في الحكم أو الدين سوى تأثير ضئيل جدًا على الحياة اليومية للفلاحين. وبرزت بعض الابتكارات الزراعية في أواخر العصور الفرعونية، واستمرت خلال العصور الرومانية والوسطى، ولا تزال هذه التقنيات حاضرة في الريف المصري حتى اليوم.
ت) إن ضرورات الحياة الثابتة في وادي النيل لطالما طغت على جميع غزاته، كما اكتشف ذلك لاحقًا حتى المستوطنون العرب.
ث) لا شك أن الخصائص الأساسية لهذا النمط الزراعي من الحياة أثّرت بعمق في السكان اليونانيين والرومانيين المقيمين في مصر. ويظهر ذلك بوضوح في التقويم المستخدم، الذي يُعد من الأمثلة النادرة التي نجح فيها نظام مصري في إزاحة النظام اليوناني
ج) وقد كان هذا النظام التقويمي قويًا إلى درجة أنه صمد في وجه محاولات متعددة لتعديله من قبل القوى الأجنبية. وقد تمكّن بسهولة من أن يحل محل التقويم المقدوني، سواء لدى المصريين أو اليونانيين خلال العصر البطلمي. كما كان له تأثير مباشر في تشكيل التقويم الروماني (اليولياني)، الذي أدخله يوليوس قيصر بناءً على مشورة العالم الإسكندري سوسيجينيس. ورغم احتفاظ التقويم المصري بأسماء الآلهة والمواسم القديمة، استمرت أسماء الأشهر نفسها في الاستخدام حتى بعد تحول مصر إلى المسيحية واعتماد التقويم القبطي. وعلى امتداد العصور البطلمية والرومانية والبيزنطية، استُخدم هذا التقويم المحلي على نطاق واسع من قبل الكتبة، دون اعتبار لاختلاف اللغة أو العرق أو الدين.
ح) كما أن أنماط الحياة القروية البسيطة لم تتأثر كثيرًا بالتحول من الحكم البطلمي إلى الحكم الروماني، فقد اعتُبر التأثير الاجتماعي لروما على المجتمع المصري محدودًا. غير أن الدراسات الحديثة كشفت أن المجتمع البطلمي لم يكن مكوّنًا فقط من فلاحين ريفيين، بل شمل أيضًا سكانًا حضريين يونانيين تأثّروا بشكل واضح بالمؤسسات الرومانية. ومع ذلك، لم تحظَ التأثيرات التي طالت الطبقة الأرستقراطية المصرية بالاهتمام الكافي. فبالنسبة لهؤلاء، الذين كانوا يُعدّون حماة الثقافة المصرية التقليدية، مثّل الانتقال من سلطة البطالمة إلى الحكم الروماني حدثًا كبيرًا ومؤلمًا، اتّسم بالدرامية والحزن.
خ) وبعيدًا عن الصورة النمطية للكهنة بوصفهم معزولين عن المجتمع، فإن النخبة الكهنوتية المصرية كانت منخرطة بفاعلية في الحياة الاقتصادية والسياسية للمملكة. وتُظهر العقود الديموطيقية المتعلقة ببيع وشراء الأراضي والعقارات أنهم كانوا من بين أبرز الأطراف الفاعلة في هذا المجال
د) وبإدراج هذه الطبقة المصرية الرفيعة في الاعتبار، تصبح فكرة التمييز العرقي الرسمي في العصر البطلمي محلّ تساؤل. فالكثير من أفرادها كانوا يتقنون اللغة اليونانية، لغة الإدارة الرسمية، إلا أن ذلك لا يمكن اعتباره "اندماجًا ثقافيًا" بالمعنى الدقيق، لأنهم لم يتخلّوا عن هويتهم المصرية، ولا عن لغتهم الأصلية — الديموطيقية — التي كانت معترفًا بها أيضًا كلغة إدارية رسمية.
ذ) كانت عائلة ممفيس الثرية من الكهنة العظماء تهيمن على الإدارة الدينية والاقتصاد، وكانت تحتفظ بعلاقات وثيقة مع الأسرة الملكية. مثل البابوات في العصور الوسطى، كان هؤلاء الكهنة المصريون يتوجون الحكام الجدد ويسيطرون على أراضٍ واسعة مرتبطة بالمؤسسات الدينية.
ر) ومع ذلك، فقد استمر استخدام اللغة الديموطيقية وتوسّع في بعض المجالات حتى أواخر القرن الرابع الميلادي.
ز) وخلال القرن الثاني الميلادي على وجه الخصوص، شهدت الديموطيقية نهضة في مجال الكتابات الدينية، والأدبية، والعلمية المرتبطة بورش المعابد. وكان يُنتظر من المرشحين للكهنوت إتقان الديموطيقية إلى جانب الخطوط الأقدم، بما في ذلك الهيروغليفية، التي ظلت قيد الاستخدام حتى بعد حظر العبادات الوثنية.
س) وقد استمر الكهنة في التجريب والتفاعل بين الخطوط المصرية واليونانية، الأمر الذي أدى إلى ابتكار الخط القبطي لتدوين الأصوات المتحركة في الدعاوي الدينية، وهو الخط ذاته الذي تبنّاه الكُتّاب المسيحيون لاحقًا في نشر المعرفة الكتابية بين العامة.
ش) كما انتشرت في المزارات المنزلية تماثيل ترابية تمزج بين الرموز الإلهية المصرية واليونانية، في مظهر من مظاهر التفاعل الثقافي والديني.
ص) لكن هذا التفاعل لم يكن دائمًا سلميًا. فقد عبّر بعض الكهنة عن استيائهم من الحكم الروماني إما عبر تمردات متفرقة، مثل تلك التي وقعت في الفترة ما بين 71 و175 م، أو من خلال نصوص نبوئية مثل "نبوءة الخزاف"، التي تنبّأت بزوال الحكم الروماني وعودة الدولة الفرعونية. ورغم أن هذه النبوءة ذات أصل مصري واضح، فقد تداولها الناس في نسخ يونانية حتى نهاية القرن الثالث الميلادي.
ض) في عهد خليفة غالوس، بيترونيوس، اجتاحت قوة نوبية ]اتحاد مصري نوبي[ قوامها ثلاثون ألف مقاتل مناطق أسوان والفنتين وفيلة سنة 25 ق.م. وردّ بيترونيوس بهجوم مضاد قاده بعشرة آلاف من المشاة وثمانمائة فارس، توغل فيه حتى عاصمة مروي القديمة نباتا، مما أجبر الملكة النوبية — التي حُملت لاحقًا لقب "الكانداكة" — على طلب الصلح.
ط) أما مملكة مروي، فقد أصبحت شريكًا تجاريًا نشطًا لروما، وظلت متمسكة بتقاليدها الفرعونية حتى بعد أن أصبحت مصر رومانية ومسيحية إلى حدّ كبير. فقد حافظت مروي على موروثها الديني المتمثل في عبادة آلهة مصرية قديمة مثل آمون وإيزيس وحورس، مع دمج بعض الآلهة المحلية، فيما شُيّدت المعابد في مروي ونبتة على الطراز المصري القديم وزُيّنت بنقوش هيروغليفية وديموطيقية تمجّد هذه الآلهة. كما استمر استخدام اللغة المصرية القديمة بجانب الكتابة المروية المحلية، وحافظت النقوش على أسلوب ومحتوى النقوش الفرعونية. وفي مجال العمارة والفن، شُيدت الأهرامات المروية الصغيرة على الطراز النوبي المستوحى من أهرامات الدولة الحديثة المتأخرة في مصر، بينما احتفظت الرسوم الجدارية والتماثيل بوضعيات الأجسام وأشكال الملابس المميزة للفن المصري. وعلى الصعيد السياسي والديني، استمرت فكرة الملك الإلهي بوصفه ممثل الآلهة على الأرض، واحتفظ الكهنوت، ولا سيما في معابد آمون، بدوره المحوري كما كان في مصر الفرعونية. ويعود تمسّك مروي بهذه التقاليد إلى التواصل الحضاري العميق والمستمر مع مصر منذ آلاف السنين، وإلى أن بعض الأسر الحاكمة المصرية، مثل الأسرة الخامسة والعشرين، كانت ذات أصول نوبية، مما جعل الثقافة الدينية والسياسية المصرية جزءًا أصيلًا من هوية مروي حتى بعد أن صارت مصر رومانية ومسيحية.
ظ) أما كاليغولا، فقد أظهر ميولًا إلى عبادة الآلهة المصرية في روما، وأعاد رسميًا ممارسة طقوسها التي كانت محظورة منذ عهد أغسطس.
ع) وقد انعكست ردود الأفعال الغاضبة من السياسات الرومانية في كتابات أعمال شهداء الوثنية Acts of the Pagan Martyrs — وهي نصوص مصرية معادية للرومان نشأت في الإسكندرية والمناطق الريفية، ومهّدت لاحقًا لأدب الاستشهاد المسيحي.
غ) وربما كان اهتمام نيرون بالجنوب نتيجة تأثير أستاذه كايريمون Chaeremon — كاهن مصري وفيلسوف رواقي — الذي يُعد من الأمثلة النادرة على الترقي الاجتماعي الذي ناله أحد أبناء النخبة المصرية المحلية. وقد وثّقت رعاية نيرون لهذه النخبة في مواقع عدّة، منها: أسوان، قفط، دندرة، كرانيس، كوم أمبو، طحني (أكوريس)، وواحة الداخلة
ف) استُقبل فيسباسيان (69–79 م) في مضمار السباق بوصفه فرعونًا مصريًا أصيلًا، وأُعلن ابنًا للإله الخالق آمون وتجسيدًا للإله سيرابيس. وتشير تسمية "ابن آمون" إلى التقليد الفرعوني، فضلًا عن تحيتها الشهيرة للإسكندر الأكبر في واحة سيوة. أما ارتباطه بسيرابيس، الإله اليوناني-المصري الحامي للإسكندرية والمملكة البطلمية السابقة، فقد استرضى الذوق المحلي المعاصر. وقد أثبت فيسباسيان صدق هذه الادعاءات بشفائه رجلًا أعمى وآخر مُقعدًا باستخدام البصق والدوس، وهما من الطقوس المحلية التقليدية. وتكررت مظاهر اهتمام الأسرة الحاكمة بالدين المصري عندما حضر ابنه تيطس في عام 70 م طقوس تكريس عجل أبيس الجديد في ممفيس، عقب قمع الثورة اليهودية وتدمير معبد القدس. وامتدت تداعيات هذه الثورة إلى مصر في عام 73 م، حين تعرّض معبد ليونتوبوليس للنهب، وهو المعبد الذي أسسه الكاهن الأعظم أونياس اللاجئ في عهد بطليموس السادس (180–145 ق.م). وعلى النقيض من ذلك، شجّع فيسباسيان على بناء المعابد المصرية في إسنا، وكوم أمبو، ومدينة هابو، وسلسلة، وواحة الداخلة.
ق) رغم أن العملة الرسمية في الإسكندرية بدأت حينها تُظهر آلهة المقاطعات المصرية، وهو ما يُعد دليلاً على سياسة موالية لمصر انعكست حتى في إيطاليا. فقد أسّس دومايتان معابد لإيزيس وسيرابيس في بينفينتو وفي روما ذاتها، مستخدمًا رموزًا فرعونية لإضفاء الشرعية على مزاعمه الإمبراطورية.
ك) وقد شهد عهد هادريان أيضًا رواجًا ثقافيًا معاصرًا لما يُعرف بـ "الجنون المصري" (Egyptomania)، تمثل أوجهه الأبرز في "قسم كانوبوس Canopus " الشهير في فيلّا الإمبراطور على ضفاف نهر التيبر بروما، حيث استُنسخت مناظر معمارية ونيلية فرعونية كرمزٍ للفخامة والحكمة الغابرة.
ل) واندلعت التوترات الاجتماعية في عهد ماركوس أوريليوس (161–180م) بثورة شرسة (171–175م) شنّها "الرعاة" المحليون (boukoloi) بقيادة الكاهن إيسيدوروس Isidorus. وبعد أن هزموا القوات الرومانية المقيمة، لم يتمكن الرومان من إخماد الثورة إلا بعد وصول تعزيزات بقيادة أفيديوس كاسيوس، حاكم سوريا وابن والي مصر الأسبق.
م) وقد لاحظ كاراكلا أن "الفلاحين الحقيقيين" يمكن تمييزهم من خلال لهجتهم وملابسهم وسلوكهم.
ن) انتشار المسيحية المصرية بتأثيرات مصرية مثل انتشارها بمفتاح العنخ و الحفاظ على تقاليد مصر القديمة وثالوثها في ثالوث المسيحية، وكذلك في ثالوث (الاب والأم/ مريم والإبن). على الرغم من الصراعات العقائدية الجديدة، توسع الرهبانية المصرية بدعم رسمي، ففي عام 330 أسس مكاريوس "العظيم" مجمع الأديرة الذي لا يزال قائمًا في وادي النطرون. وبناءً على دراسات الأسماء، اعتُبر عام 330 عامًا مفصليًا في مصر، حيث بلغت نسبة المسيحيين نحو 50٪ من السكان، وارتفعت إلى 80 أو 90٪ بحلول نهاية القرن. ومع ذلك، يبدو هذا التقدير مبالغًا فيه، فهناك إحصائيات أخرى تشير إلى أن نسبة التحول إلى المسيحية لم تتجاوز 25٪ بحلول 350، و50٪ بحلول 388.
ه) ومن اللافت أن الجنة الفرعونية القديمة تحولت في المسيحية القبطية إلى العالم الآخر (Amente). ومن اللافت أن الجنة الفرعونية القديمة قد تحوّلت في المسيحية القبطية إلى مفهوم آخر للعالم الآخر، يُشار إليه باسم "أمنتِ" (Amente). ففي المعتقدات المصرية القديمة، كانت "أمنت" ترمز إلى مملكة الغرب، حيث تستقر الأرواح بعد الموت، وفيها جنة الحقول المباركة التي ينال فيها الأبرار نعيمًا أبديًا بعد اجتيازهم محاكمة أوزيريس. ومع دخول المسيحية إلى مصر وتشكّل العقيدة القبطية، أُعيد تفسير هذا المفهوم ليتوافق مع التصور المسيحي للآخرة، الذي يفصل بين الفردوس كمقرّ النعيم والعالم الآخر كمكان انتظار الأرواح أو كمفهوم أوسع يضم مصير جميع الموتى قبل الدينونة النهائية. وهكذا تغيّر إطار المعنى من جنة أوزيرية خاصة بالأبرار، إلى فضاء شامل لكل الأرواح، ما يعكس التفاعل العميق بين الموروث الديني المصري القديم والبنية العقائدية المسيحية الجديدة.
و) أصبح اعتناق المسيحية شكلاً من أشكال الاحتجاج الاجتماعي. ورغم الانتشار السريع للمسيحية في عهد الإمبراطور قسطنطين، ظلت مراكز العبادات القديمة قائمة في الإسكندرية وفي أقاليم الريف المصري.
ي) بعد الفتح، استمر الإرث المصري القديم عبر الوسائط الفنية القبطية، والمعتقدات الأخروية، والفلكلور، وبخاصة اللغة القبطية التي ظلت مهيمنة على معظم البيئات المحلية حتى بعد عام 705، عندما فرض الوالي الأموي عبد الله بن عبد الملك استخدام العربية/ الخط العربي/النبطي في كل الشؤون الحكومية. وظلت اللغة القبطية، كوسيلة للنصوص الأدبية والوثائقية، مستخدمة حتى القرن الرابع عشر. وفي رمزية الكنيسة القبطية الحديثة، لا تزال ملامح مصر القديمة حية.
هذه بعض المقاطع التي تثبت استمرار الحضارة المصرية، وبعد الانتهاء من ذكري للاقتباسات يجب الشرح بشيء من التفصيل لكي تتضح الصورة لنا بشكل أوضح،
تشير المصادر التاريخية إلى أن سكان مصر عموماً ثاروا ضد الحكم الروماني منذ بداياته وحتى نهاية القرن الثالث الميلادي. فقد لاحظ بعض المؤرخين أن "ثورات أهل مصر المتتالية في القرون الثلاثة الأولى للحكم الروماني كانت تعبيراً عن عدم رضا الشعب عن حكامه الجدد" . وهذه الثورات والاضطرابات ثبتت في المصادر الكلاسيكية، وفي البرديات والنقوش، وغالباً ما كانت تحرض عليها مظالم مالية واجتماعية.
عهد أغسطس (30 ق.م – 14 م)
بعد أن ضمّ أغسطس مصر إلى الإمبراطورية الرومانية، ظهرت مقاومة في الصعيد، منها محاولة تمرد بقيادة شخصية ادّعت نسبها للفراعنة . وتدل البرديات على وجود توتر مبكر نتيجة فرض نظام الضرائب الروماني وتغيير النُظم الدينية. فلم تمضِ سوى أشهر حتى اندلعت أولى الثورات في الصعيد؛ في طيبة ثار مصريون ضد الإدارة الرومانية الجديدة التي فرضت ضرائب إضافية وكثّفت المراقبة العسكرية. مما اضطر تدخل غايوس كورنيليوس غالوس بقيادة قوة مسلحة لقمع التمرد، ولم يكن أمام الثائرين سوى الاستسلام القسري. ومهد هذا الإخماد العسكري لتثبيت السيطرة الرومانية، فأصبح الجيش يحتل المواقع الهامة مثل طيبة وطنب بنبان ودير المدينة. وفي عهد أغسطس نفسه، فرض الرومان حظرًا على امتلاك المصريين للأسلحة خشية تفاقم الاضطرابات، حتى وصل الأمر إلى أنه كان يعاقب حامل السلاح بالإعدام.
أسباب المقاومة: فرض النظام الروماني الجديد ضرائبٍ مالية وزراعية على المصريين بأعباء عالية لم يألفوها، وازدادت مظالم الأقنان والفلاحين. يُضاف إلى ذلك شعور العاملين في الإدارة المحلية والطبقات الدنيا بالتمييز لغير مصلحتهم ومعاملة احتقارية على يد البيزنطيين الجدد الذين ورثوا العداء السلطوي.
نتائج الثورة: أسفرت سريعًا عن إخماد تمرد طيبة بالقوة، وتعزيز الوجود العسكري الروماني في الوجه القبلي. استمر غالوس في حملاته العسكرية فطوّق عدّة مناطق وأعاد فرض النظام. وقد أثّرُ هذا على الأمن الداخلي، فتمكّن الرومان من تهدئة البلاد بالحديد والنار، بينما دفع المصرّيون في المقابل ثمنًا ثقيلًا من الحصاد والموارد الزراعية.
عهد تيبريوس وكاليغولا (14 – 41 م)
ظل الوضع مستقراً نسبياً في عهد تيبريوس وكاليغولا، دون ثورات كبيرة موثقة، لكن وردت إشارات في بعض البرديات إلى اضطرابات في طيبة نتيجة سياسات الضرائب .
عهد كلوديوس (41 – 54 م)
شهدت الإسكندرية اضطرابات طائفية بين اليونانيين واليهود، وصفها فيلون الإسكندري بأنها كانت خطيرة وتتطلب تدخلاً إمبراطورياً . لم تكن هذه ثورات مصرية خالصة لكنها تعكس التوتر الاجتماعي المتصاعد.
عهد نيرون (54 – 68 م)
لم تُسجل ثورات كبرى في عهد نيرون، لكن ازداد الضغط الاقتصادي وظهرت شكاوى ضد جباة الضرائب، مما غذّى التذمر الشعبي . ومع انشغال الإمبراطورية الرومانية بأحداث أخرى، بقيت مصر ساكنة نسبيًا. ومع ذلك ظل الشعور بالاستياء حاضرًا، خاصة بسبب الوفاء بالضرائب والأعباء الدائمة. وقد تجددت المشكلات الطائفية في الإسكندرية، لكن المتمردين العرقيين كانوا معدودين وقُمعوا سريعًا. لم تشهد مصر ثورة شعبية عظيمة ضد روما في هذه الحقبة، وإن كان تأثر المصريين بالأحداث في فلسطين وآسيا الصغرى واضحًا.
عام الأباطرة الأربعة وفيسباسيان (69 – 79 م)
مع بداية حكم فيسباسيان، ظهرت حركة مقاومة في الصعيد بقيادة "لينون Lynon"، تشير بعض النقوش إلى أنها كانت تهدف للاستقلال المحلي . بالإضافة إلى الثورة اليهودية الكبرى في فلسطين، التي شارك فيها مصريين مثل شهادة الإنجيل "أَفَلَسْتَ أَنْتَ الْمِصْرِيَّ الَّذِي صَنَعَ قَبْلَ هذِهِ الأَيَّامِ فِتْنَةً، وَأَخْرَجَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعَةَ الآلاَفِ الرَّجُلِ مِنَ الْقَتَلَةِ؟»" (أع 21: 38)، في 73م أمر فيسباسيان بإغلاق معبد اليهود في لونتوبوليس بالدلتا للحد من النشاط اليهودي، ولكن ذلك لم يرتد بثورة مصرية ضد الرومان بل كان هذا دراً لغضب المصريين. . عهد تراجان/ أو ترايان (98 – 117 م)
اندلعت ثورة الشتات اليهودي في الإسكندرية وقورينا (115–117م)، وشارك فيها المصريين المتضررين من الحكم الروماني . كانت من أعنف الثورات التي شهدتها المنطقة. كما شهدت مصر ثورة من نوع خاص: ثورة كيتوس/ الشتات Kitos (115–117م). اندلعت هذه الثورة الكبرى في منتصف عهد ترايان عندما ثار اليهود المنتشرون في الإسكندرية ومدن الدلتا ضد الرومان واليونانيين المقيمين. قاد الرومان الحملة للقضاء على الثوار الجنرال ماركوس تريفيوس ليفيانوس، واستغرقت الحملة عدة أشهر. أسفرت هذه الثورة عن هدم معابد ومبانٍ عامة للمسيحيين اليهود والمصريين المتحالفين معهم، ومقتل أعداد كبيرة من السكان، كما أفضت إلى “إبادة فعلية” ليهود الإسكندرية وخسارة امتيازاتهم. انتهت الثورة مع تولي هادريان العرش، فأمر بإعادة بناء ما لحق به من خراب، ومعالجة آثارها المدمر اقتصاديًا واجتماعيًا.
أسباب الثورة: مرّت الجماعات اليهودية في مصر بفترة شديدة الاستياء نتيجة سياسات الرومان، ولا سيما بعد فرض قيود على ممارساتهم الدينية واغلاق بعض مؤسساتهم. التوترات الدينية والحساسيات القومية هيّأت الظروف لثورة مضادة للمسيحيين واليونانيين.
نتائجها: خلفت الثورة مدمرات واسعة في الاقتصاد المحلي والزراعة (حيث قيل إن مصر خسرت قسطًا من إنتاجها السنوي)، وتآكل نفوذ اليهود في البلاد بصورة نهائية. أمّن الرومان مجددًا مصادر الحبوب بواسطة توفير قوات إضافية، وشدّدوا قبضتهم على الدلتا لضمان عدم تكرار أعمال الشغب.
عهد هادريان (117 – 138 م)
في عام 122 م، حدثت ثورة محلية في دلتا النيل . ورغم أنها قُمعت سريعًا، فإنها تعكس حساسية الشأن الديني لدى المصريين، إذ ارتبطت بأمور دينية.
لكن بالرغم مِن ذلك فإن فترة حكم أنطونينوس بيوس وهادريان (117–138م) تُعد «العصر الذهبي» للاستقرار، حيث شهدت مصر فيها هدوءًا بعد تداعيات ثورة يهود الشتات. قام هادريان بزيارة مصر عام 130م وجعلته صيانة البنية التحتية وإصلاح القنوات والطرق الزراعية مطلبًا رئيسيًا. ولم تسجل الثورات الصغيرة ذات الطابع المصري في هذه الفترة. استمر ازدهار بعض المناطق الزراعية، لكن الأموال التي استثمرها الرومان في الأمصار جعلت الفلاحين المصريين مثقلين بالضرائب المتجددة. في مجمل هذه الفترة حافظت مصر على استقرار سياسي نسبي تحت ظل السلطة الرومانية، وإن ظل التذمّر خفيًا بين طبقات الفلاحين الذين ربّما تعرّضوا لأعباء مالية وعسفات محلية.
عهد ماركوس أوريليوس (161 – 180 م)
اندلعت "ثورة الزرع/ الفلاحين" بين 171–175م في شمال الدلتا بقيادة كاهن مصري يُدعى إيزيدوروس، وهو كاهن مصري وهددت الإسكندرية قبل أن تُقمع بوحشية . وتعد أخطر الثورات التي قامت في ولاية ماركوس أوريليوس، تزامن اندلاعها مع انشغال الإمبراطور في الحرب على الألمان والثورات الأخرى في الشمال، ووصلت للمتمردين أخبار ضعف الجيش الروماني. في البداية نصب الثوار كمينًا لقائد رومان في الدلتا. ثم اتّسعت رقعة الثورة في مناطق (دلتا النيل) حتى هزم الثوار جيشًا رومانيًا في معركة ميدانية واقتربوا من الإسكندرية. كلّف الإمبراطور عام 172م القائد أفيديوس كاسيوس، نائب سوريا، بقمع الثورة. فكّك كاسيوس التحالف بين الثوار وفشّل اتصالاتهم وقتل عدداً كبيراً منهم، فانهارت الثورة.
الأثر: تسببت الحرب بخسائر فادحة في المحاصيل الزراعية والضرع المصري وامتدت آثارها لتدني صادرات الحبوب و حدّت من قدرة مصر على إمداد روما كالعادة. بالنتيجة، عزز ماركوس أوريليوس قبضته المركزية وشدَّد الضرائب لجبر النقص الاقتصادي، ما ألهب مزيدًا من السخط الشعبي. وفتحت هذه الثورة الباب أمام انتفاضات إقليمية أخرى، إلا أن المتمردين أُخمدوا بعنف واستُعادت السيطرة.
عهد سبتيميوس سيفيروس (193–211م)
حدثت مصر في بدايات هذا العهد ثورة عسكرية خالصة: عقب اغتيال برتينكس سنة 193م وتنازع مراكز القوة في روما، أعلن قائد الجيش السوري بيسينيانوس نيجر نفسه إمبراطورًا موازياً بدعم من بعض قوات المشرق وألوية مصر، شارك الجيش المصري (قوات الدلتا وشبه جزيرة سيناء) في اختيار نيجر طاغيةً وإمداده بالرجال، وتصدّى لقوات سيبتياموس سيفيروس في معركة سورية. لكن في معركة نيقوميديا سنة 194م هُزم نيجر، وسيفيروس استعاد السيطرة. بفضل طبيعته الحذرة، لم يعاقب سيفيروس ولايات مصر بشكل واسع، بل مكّنها من الامتيازات؛ فمثلاً أعطى السكندريين وديا جديدة في عام 202م وأسس دساتير للأقاليم النوبية والساحلية.
عهد كراكلا (198 – 217 م)
شهدت الإسكندرية مجازر على يد كراكلا عام 215م بعد سخرية سكانها منه. لم تكن ثورة منسقة لكنها تعكس التوتر المتراكم . تميز بسياسة قمعية، إذ ذبح كلّ الرجال القادرين على حمل السلاح في المدينة. بلغت أعداد القتلى آلافًا، وجُرِدت الإسكندرية من معظم طبقتها العسكرية. بعدها، وفي خطوة تعويضية، أصدر كاراكلا مرسوم منح فيه الجنسية الرومانية لكل المصريين الأحرار، لكن ذلك كان بهدف مضاعفة الرسوم والضرائب عليهم، ما زاد العبء الاقتصادي على الشعب. نتيجته الأساسية كانت إضعاف البنية الاجتماعية في العاصمة المصرية، لكن من الناحية الاقتصادية ضاعفت روما العائد من الضرائب، وأسهمت في تراجع النشاط التجاري والصناعات الحرفية المحليّة بسبب خروج الكثير من التجار.
القرن الثالث الميلادي (235 – 284 م)
شهدت مصر حركات انفصالية مثل دعمها لدوميتيوس دوميتانوس عام 297م، كما دعمت ثورات محلية مثل تمرد فيرموس في الإسكندرية عام 272م .
عهد أوكتافيان دوميس (أوريليان) (270–275م)
بعد اجتياح وإخضاع الإمبراطورة القيروانية زنوبيا لمصر (272م)، اندلعت اضطرابات جديدة. يذكر وصف الإمبراطورية أن مصر “كانت مضطربة”، وأن أوريليان اضطر عام 273م لإرسال قواته لإخماد تمرد محلي مفاجئ. لم ترد تفاصيل عن قائد أو دوافع واضحة، لكن يبدو أن ضعف السلطة المركزية عقب الحملة على بالمييرا سمح لبعض النخب الريفية بالانتفاضة، فقمعها أوريليان بسرعة ليؤمن فيضان النيل ومجاري الحبوب وضمان عودة الدولة الاستقرار في الوجه البحري.
عهد دقلديانوس (284 – 305 م)
سُجِّلت في هذا العهد ثورة كبيرة دفعت الإمبراطور دقلديانوس للتدخل شخصيًا، حيث قام بمحاصرة الإسكندرية 8 أشهر لقمع ثورة دوميتانوس وأكيليوس. وبعد سحق الثورة، قام بإصلاحات إدارية لتأمين السيطرة الرومانية مع إضطهاد الأقباط وقمعهم. واستشهاد الألوف من الأقباط. وتفصيل ذلك إنه في حوالي 296م قاد قائد محلي من المصريين يُدعى أخيلوس تمردًا مسلحًا في الوجه البحري، فأعلن نفسه إمبراطورًا تحت اسم «دوميتيوس دوميتيانوس». سيطر الثائرون على الإسكندرية لفترة، واحتالوا بحصص القمح للسيطرة على مناطق الدلتا. لكن دقلديانوس، الذي كان منشغلًا بتحالفات حربية مع القبائل النوبية، سرعان ما حوّل انتباهه لمصر. حاصر دقلديانوس الإسكندرية سنة 297م، وأعدم دوميتيانوس. أعاد بعد ذلك تنظيم الحكم المصري بإلغاء أو تعديل بعض الضرائب، وأغدق على الأعراب الفارين من بؤرة الفتنة (مثلما يصور عمود بومبي). و يطلق المؤرخون على هذه الحقبة اسم «عهد الشهداء» في مصر، نسبةً إلى اضطهاد المسيحيين الذي رافق سياسات دقلديانوس الدينية الصارمة في نهاية القرن الثالث الميلادي.
العهود البيزنطية (324–641م)
خلال حكم خلفاء قسطنطين وذريته المبكرين (324–527م)، سادت الفتوى الدينية والنزاع بين الحركات المسيحية. أما في عهد يوستنيان الأول (527–565م)، فقد ذادت كلفة الحروب والضرائب، فقام بعض الفلاحين المصرّيين (خصوصًا الأقباط الريفيين) بثورات محلية، لكن المصادر محدودة ولا توفّر أدلة مفصلة. في أواخر الحكم البيزنطي حدثت فصول لافتة: ففي عام 619م اجتاح الفرس الساسانيون مصر متعاونين مع خيانة داخلية أو (قبائل خاضعة للفرس) مكث الفرس عشر سنوات في مصر حتى استعادها الإمبراطور هرقل عام 629م، أو هكذا يُدعى.
مظاهر الاضطهاد والجزية والظلم السياسي اللي عاشها المصريون تحت حكم روما، ثم بيزنطة
قبل الانقسام العقائدي (أي قبل مجمع خلقيدونية 451م)
فمنذ أن دخلت مصر في كنف روما سنة 30 ق.م، بعد سقوط أنطونيوس وكليوباترا أمام أوغسطس، صارت ولايةً رومانية خاضعة مباشرة للإمبراطور. ولم تكن روما تترك أمرها لمجلس الشيوخ، بل كان الإمبراطور نفسه يُعَدّ «فرعون مصر الجديد»، يُمثّله في البلاد والي روماني (Prefect) يتخذ من الإسكندرية مقرًا له، جامعًا بين السلطة السياسية والعسكرية، مسؤولاً عن الضرائب، الجيش، وضبط الأمن. أمّا في الشأن الديني، فقد بقي البطريرك الإسكندري، بابا الإسكندرية، الرئيس الروحي الأوحد للمصريين، مختارًا من الشعب والكنيسة، لا سلطان لروما عليه. وهكذا استقرّ الوضع: الحاكم السياسي واليٌ روماني يعيّنه القيصر، والحاكم الروحي بطريرك قبطي ينهض من قلب مصر.
ثم انقسمت الإمبراطورية سنة 395 م إلى قسمين: غربية عاصمتها روما، وشرقية عاصمتها القسطنطينية. وأُلحقت مصر بالإمبراطورية الشرقية البيزنطية. ومنذ ذلك الحين، صار الوالي المصري تابعًا مباشرة للإمبراطور في القسطنطينية. غير أنّ الكنيسة المصرية ظلّت كما كانت: بطريرك واحد (قبطي) يترأسها من الإسكندرية.
غير أنّ الأمر تبدّل بعد مجمع خلقيدونية (451 م)، إذ كان البطريرك ديسقوروس الإسكندري المعبّر عن الكنيسة القبطية كلها، لكن بيزنطة أصرّت على فرض بطريرك آخر «ملكانيًّا» مواليًا للمجمع والإمبراطور. ومن هنا نشأ الانقسام لأول مرة: بطريرك قبطي شعبي يمثّل وجدان المصريين، وبطريرك ملكاني مفروض بقوة السيف.
وبذلك يمكن القول: في عهد روما كان الممثل السياسي واليًا رومانيًا والمرجع الديني بطريركًا قبطيًا واحدًا. وفي عهد بيزنطة قبل خلقيدونية كان الوالي بيزنطيًا والبطريرك قبطيًا واحدًا أيضًا. أما بعد خلقيدونية، فقد صار في مصر ممثلان لبيزنطة: واليٌ بيزنطي يحكم البلاد، وبطريرك ملكاني يزاحم البطريرك القبطي في عقر داره.
لكن لم يهنأ الرومان طويلا بحكمهم مصر حتى اندلعت الثورات للتخلص من ظلمهم واضطهادهم، فلم يكد يمر عام على استيلائهم على مصر حتى شبت ثورة في طيبة وكانت أول وأعنف ثورة للمصريين في بداية العصر الروماني وقد تزعم هذه الثورة أحد الكهنة اسمه "إيزودور" مما يدلل على أن الكهنة المصريين كانوا لا يزالون يشكلون القيادات الوطنية الحقيقة. قامت بسبب ألغاء مجلس المدينة الذي كان يعقد إبان الحكم البطالمة، وعدم مشاركة المصريين في الحكم، والاستغلال الاقتصادي السيئ لثروات مصر حيث أصبحت مصر مزرعة للقمح لتزويد روما وتوزيعها على سكانها لكسب تأييدهم. والضرائب الجديدة التي فرضها الإمبراطور أغسطس قبل مغادرته لمصر عائداً إلى روما، وامتدت هذه الثورة إلى الدلتا ولكن الوالي الروماني كورنيليوس جالوس تمكن من أخمداها بالعنف.
أولًا: في العصر الروماني (30 ق.م – 395 م)
- الجزية الثقيلة:
الرومان فرضوا على المصريين ضرائب باهظة على الأرض والمحاصيل، حتى على المواشي وأحيانًا على الأفراد. كانت تُحصَّل بقسوة، ويُعاقَب المتأخرون بالجلد والسجن.
❖ المؤرخ سترابو (Strabo, Geographica XVII.1.13) يصف نظام الضرائب في مصر بأنه خانق ويُرهق الفلاحين.
❖ سويتونيوس (Augustus 98) يشير إلى أن أوغسطس كان يعتمد على دخل مصر بشكل خاص.
- السخرة:
كان على الفلاحين أن يعملوا بالسخرة في شق الترع وإصلاح الطرق ونقل الغلال إلى المخازن الحكومية، دون مقابل تقريبًا.
❖ المؤرخ ديو كاسيوس (Dio Cassius, Roman History LI.17) يذكر أن المصريين كانوا يُجبرون على أعمال السخرة في شق الترع ونقل الغلال.
❖ برديات في أوكسيرينخوس (P.Oxy. 119) توثق أوامر بإرسال الفلاحين لأعمال الدولة دون أجر.
- التمييز الاجتماعي:
الرومان اعتبروا المصريين من طبقة أدنى. فالرعايا الرومان أو اليونانيون في مصر كانت لهم امتيازات قانونية واقتصادية، بينما المصريون الأصليون كانوا محرومين من كثير من الحقوق.
❖ القانون الروماني ميّز بين cives Romani (المواطن الروماني) و peregrini (الأجانب)، والمصريون ظلوا في المرتبة الدنيا حتى مرسوم كاراكلا (212 م).
- نهب المحاصيل:
مصر عُرفت بأنها «مخزن غلال روما». كان القمح المصري يُرسل مباشرة إلى العاصمة لإطعام الشعب الروماني، حتى لو جاع الفلاح المصري.
❖ المؤرخ تاسيتوس (Annals II.59) يسمي مصر "مخزن غلال روما" (annona).
❖ يوسيفوس (Josephus, Jewish War II.383) يوضح أن غلال مصر كانت تُنقل إلى روما كأولوية على احتياجات المصريين.
- القمع العسكري:
أي محاولة للثورة كانت تُقابل بعنف شديد من الحاميات الرومانية في الإسكندرية والصعيد، وأحيانًا بقتل جماعي أو مصادرة ممتلكات.
❖ يوسيفوس (Jewish War II.385) يذكر القسوة الرومانية في قمع الثورات بمصر.
❖ في الإسكندرية، شهدت ثورات متكررة (مثل ثورة 38 م)، وذكرها فيلون الإسكندري (In Flaccum).
❖ ديو كاسيوس (Roman History LIV.23) يذكر مجازر ارتكبها الرومان في الصعيد ردًا على ثورات فلاحية.
ثانيًا في العصر البيزنطي المبكّر (395 – 451 م) قبل مجمع خلقيدونية 451م
- استمرار الجزية الرومانية نفسها:
لم يتغيّر النظام المالي، بل زادت الضرائب تحت بيزنطة. فُرضت ضرائب على كل شيء تقريبًا: الأرض، التجارة، حتى الصناعات الصغيرة.
❖ المؤرخ زوسيموس (Zosimus, New History II.38) يذكر أن الضرائب في مصر ازدادت تحت بيزنطة.
❖ برديات Oxyrhynchus وFayum توثق شكاوى الفلاحين من "الضرائب المركبة" (land tax + poll tax). - - الضغط الاقتصادي:
الأباطرة البيزنطيون كانوا يعتبرون مصر "الكنز الذهبي" للإمبراطورية الشرقية، فزادت شحنات الغلال نحو القسطنطينية، وأُرهق المصريون أكثر.
❖ بروكوبيوس (Procopius, Wars I.19) يصف مصر بأنها "الكنز الذهبي" للقسطنطينية، حيث كان غلالها تطعم العاصمة.
❖ Sozomen (Church History V.15) يذكر أن القمح المصري كان يعتبر شريان حياة بيزنطة. - - الاحتكار والتضييق:
بعض الصناعات المهمة (كالكتان والبردي) كانت محتكرة من الدولة، والفلاح أو الصناع لا يبيعون إلا للحكومة بأسعار مجحفة.
❖ البرديات (P. Cair. Isid. 58) توضح احتكار الدولة لصناعة الكتان.
❖ المؤرخ Ammianus Marcellinus (Res Gestae XXII.16) يذكر احتكار البردي والكتان من الحكومة المركزية. - - العنف السياسي:
في حال اندلعت ثورات فلاحية (وهي كثيرة في الصعيد مثلاً)، كان الرد إمّا بجيش جرّار أو بقطع الإمدادات عن القرى حتى تستسلم.
❖ زوسيموس (New History II.37) يصف قمع البيزنطيين لثورات الفلاحين في مصر بعنف.
❖ ثورة الصعيد (نحو 400 م) قمعت بجيش كامل بقيادة الوالي. - - المظالم الإدارية:
الولاة البيزنطيون كانوا يبالغون في استغلال المصريين عبر الرشاوى والمصادرات. وكانوا يفرضون "ضرائب استثنائية" فوق المعتاد لتمويل حروب الإمبراطورية.
❖ Codex Theodosianus (القانون البيزنطي) يحتوي على نصوص كثيرة عن منع "الجباية المفرطة"، مما يدل على انتشارها.
❖ المؤرخ Socrates Scholasticus (Church History V.22) يذكر أن الولاة في مصر كانوا معروفين بالرشوة والابتزاز.
- بعد مجمع خلقيدونية 451م
بعد مجمع خلقيدونية (451م) اشتدّت وطأة الاضطهاد السياسي والاقتصادي على المصريين، إذ صاروا بين مطرقة الإمبراطورية البيزنطية وسندان الظروف القاسية. ومن أبرز المظاهر: - - الضرائب الباهظة
❖ المؤرخ Evagrius Scholasticus (Ecclesiastical History, II.5) يذكر أنّ المصريين بعد رفضهم قرارات المجمع صاروا في نظر الدولة "متمرّدين"، ودُفعت عنهم الضرائب مضاعفة مقارنة بالملكانيين. - - المصادرات والإتاوات
❖ أشار A. H. M. Jones (The Later Roman Empire, vol. 2, p. 798) إلى أنّ الولاة في مصر بالغوا في فرض الإتاوات، وصادروا محاصيل الفلاحين بحجة تمويل الحملات العسكرية. - - الاحتكار الاقتصادي
❖ المؤرخ Ammianus Marcellinus (Res Gestae XXII.16) يذكر أنّ البردي والكتان كانا محتكرَين من الحكومة المركزية، ولم يُسمح للفلاحين أو الصناع ببيعها إلا للدولة وبأسعار مجحفة. - - السخرة والأعمال القسرية
❖ تكشف برديات Oxyrhynchus Papyri, vol. XII أنّ الفلاحين كانوا يُجبرون على شق الترع ونقل الغلال والمؤن للجيش دون أجر. - - القمع العسكري والسياسي
❖ يذكر John of Nikiu (Chronicle, ch. 84–87) أنّ ثورات الصعيد في القرن السادس جُوبهت بعنف، حيث قُتل وسُجن المئات، وأحيانًا هُجّرت قرى كاملة.
فعلى مدى أكثر من سبعة قرون من الاحتلال الروماني والبيزنطي (30 ق.م – 641م) شبت في مصر ثورات عديدة تحت أباطرة مختلفين. ففي كل عصر اتحدت عوامل اقتصادية واجتماعية (الضرائب الثقيلة، تمييز الإدارة، الصراع الطائفي) مع قيادات محلية (كالكاهن إيزيدوروس في ثورة الزرع/ الفلاحين أو أخيلوس في ثورة دقلديانوس) لتفجر حركات مقاومة. وقد أثّرت هذه الثورات في السياسة الإمبراطورية باضطرار قياصرة كماركوس أوريليوس ودقلديانوس للتوجّه شخصيًا إلى مصر لإخمادها، أو بتشديد المركزية الإدارية بعد ثورات عام 193م و296م. اقتصاديًا، تسبب سقوط الحقول وتدمير منشآت الري في هذه الانتفاضات بانهيار الإنتاج الزراعي مؤقتًا، فاضطر روما لتعويض النقص بإرسال الحبوب من ولايات أخرى وتعديل سياسات الضرائب. مصدر هذه الدراسة كان مزيجًا من المراجع التاريخية القديمة (مثل «الموسوعة البريطانية» ومسرد ديودورس وكاسيوس ديوس) وبعض المراجع الحديثة حيث وجدت.
أما إن أردنا التحدث بصورة مُوسعة أكثر، لفهم الوضع كما يَنبغي، فإننا يُمكننا القول بإنه منذ نهاية الحكم البطلمي وبداية الحكم الروماني (30 ق.م) شكّلت وفاة كليوباترا العظيمة (السابعة) عام 30 ق.م لحظةً محورية في التاريخ المصري والثقافة المحلية، فقد أثبت المجتمع المصري قدرةً لافتة على الصمود، حيث استوعب الغزاة المقيمين بدرجات متفاوتة، تحمّل بصبرٍ الهيمنة المؤقتة لأولئك الذين حكموا من بعيد مع الثورة دوماً عليهم. كان البطالمة مضطرين إلى استرضاء المشاعر المصرية لأسباب جوهرية تتعلّق بالاستقرار الوطني، وهكذا ما سيفعله الرومان ذلك بدافع المصلحة السياسية.
عهد أوكتافيان (أغسطس) (30 ق.م – 14 م)
مع أن هناك اليوم بعض الجدل حول مدى اختلاف مصر عن غيرها من المقاطعات الرومانية، فإن ثمة سماتٍ فريدة لطالما أُشير إليها. فقد استثنى أوكتافيان مصر صراحة من السيطرة المعتادة لمجلس الشيوخ، ووضعها بدلاً من ذلك تحت "السيادة κράτησις الخاصة بقيصر"، وهو تعبير جرت العادة على تفسيره بأنه يدل على مكانة مصر كـ "ملكية شخصية" للإمبراطور. وعلى خلاف باقي المقاطعات، كانت مصر تُدار من قبل حاكم (لاتينية: praefectus؛ يونانية: eparchos) من طبقة الفُرسان يخضع مباشرةً للإمبراطور، وليس من قبل حاكم برتبة قنصل من طبقة الشيوخ، والتي كانت قد تحمل ولاءاتٍ مزدوجة. بل لقد كان يُحظر رسميًا على أعضاء مجلس الشيوخ وحتى على بعض الفرسان البارزين دخول مصر من دون إذنٍ صريح من الإمبراطور.
وكما كان الأمر في عهد البطالمة، ظل النظام النقدي في مصر مغلقًا ومعزولًا داخل حدود الإمبراطورية. وحتى إصلاحات دقلديانوس في عام 296 م، كانت العملة الإسكندرانية ممنوعة من التصدير، وكان يُشترط استخدامها فقط داخل مصر، مع حظر التعامل بأي عملة أجنبية.
من المرجح أن تعود هذه العزلة الإدارية للمقاطعة إلى دورها الأساسي كمخزن للحبوب الإمبراطوري، إذ كانت مسؤولة عن تزويد مدينة روما بحوالي ثلث الإمدادات السنوية من الحبوب. ولهذا السبب، كانت السياسة الرومانية في مصر تركز بشكل كبير على ضمان الإنتاج المستمر وتسليم المحصول دون انقطاع. فبينما كانت القيود المفروضة على الزوار المشتبه فيهم تهدف إلى حماية الثروات المصرية الضخمة من الطامعين في الحكم، كانت هناك حاجة أيضًا إلى وجود حامية عسكرية كبيرة ودائمة في نيكوبوليس بالقرب من الإسكندرية. ولم يكن الهدف منها صد غزو خارجي، بل كان الخوف الأكبر من احتمال وقوع تمرد داخلي بين الرومان أنفسهم. وبحلول وفاة الإمبراطور أوغسطس في عام 14 م، كانت مصر تضم اثنتين من الفرق العسكرية الثلاث الأفريقية. علاوة على ذلك، فرضت السلطات قيودًا اجتماعية متعددة على السكان المحليين، بهدف منعهم من التقدم الاجتماعي أو إثارة أي حراك قد يهدد استقرار النظام، والحفاظ على حالة من الاستقرار الزراعي القسري.
ولربما لم يشعر سكان وادي النيل بحزن كبير على زوال الحكم البطلمي، بل ربما مرّ هذا التغيير دون أن يلاحظه معظمهم، إذ لم يحمل استبدال ملك مقدوني بإمبراطور روماني أي تغيير ملموس أو دراماتيكي
وبما أن مصر كانت مجتمعًا زراعيًا بالدرجة الأولى، فقد اعتمد بقاؤها بشكل فريد على فيضان النيل، الذي استُثمر عبر شبكة محلية واسعة من قنوات الري. وعلى مدار آلاف السنين من التاريخ المصري، لم تُحدث التغيرات الكبرى في الحكم أو الدين سوى تأثير ضئيل جدًا على الحياة اليومية للفلاحين. وبرزت بعض الابتكارات الزراعية في أواخر العصور الفرعونية، واستمرت خلال العصور الرومانية والوسطى، ولا تزال هذه التقنيات حاضرة في الريف المصري حتى اليوم.
من بين هذه الأدوات: "الساقية"، وهي عجلة مائية تُدار بواسطة الثيران، ويُرجح أن أصلها فارسي (نحو 525–404 ق.م)، و"لولب أرخميدس" الذي أُدخل في العصر البطلمي (نحو 287–212 ق.م). لا تزال هاتان الأداتان تُستخدمان جنبًا إلى جنب مع "الشدف" (shadaf)، وهي رافعة مائية بسيطة موثقة منذ عهد الدولة الحديثة (نحو 1346–1334 ق.م). وقد التقط السياح صورًا متكررة لهذه الأدوات في حقول نجع حمّادي الحديثة، كما وثّقوا المحاريث الخشبية التي تجرها الثيران، والتي تبدو مشابهة تمامًا لتلك المصوّرة على جدران المقابر القديمة.
إن ضرورات الحياة الثابتة في وادي النيل لطالما طغت على جميع غزاته، كما اكتشف ذلك لاحقًا حتى المستوطنون العرب.
لا شك أن الخصائص الأساسية لهذا النمط الزراعي من الحياة أثّرت بعمق في السكان اليونانيين والرومانيين المقيمين في مصر. ويظهر ذلك بوضوح في التقويم المستخدم، الذي يُعد من الأمثلة النادرة التي نجح فيها نظام مصري في إزاحة النظام اليوناني. فقد كان هذا التقويم مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالحياة الريفية والزراعة، إذ قُسّمت السنة فيه إلى ثلاثة فصول تُطابق الدورة الزراعية السنوية المتكررة: "الفيضان" (𓇋𓇋𓏏 - 3b.t)، و"وقت البذر" (pr.t)، و"الحصاد" (mw). يتكوّن كل فصل من أربعة أشهر، وكل شهر من ثلاثين يومًا، ليصبح مجموع السنة اثني عشر شهرًا، تُضاف إليها خمسة أيام نسيء (أيام إضافية خارج الشهور).
وقد كان هذا النظام التقويمي قويًا إلى درجة أنه صمد في وجه محاولات متعددة لتعديله من قبل القوى الأجنبية. وقد تمكّن بسهولة من أن يحل محل التقويم المقدوني، سواء لدى المصريين أو اليونانيين خلال العصر البطلمي. كما كان له تأثير مباشر في تشكيل التقويم الروماني (اليولياني)، الذي أدخله يوليوس قيصر بناءً على مشورة العالم الإسكندري سوسيجينيس. ورغم احتفاظ التقويم المصري بأسماء الآلهة والمواسم القديمة، استمرت أسماء الأشهر نفسها في الاستخدام حتى بعد تحول مصر إلى المسيحية واعتماد التقويم القبطي.
وعلى امتداد العصور البطلمية والرومانية والبيزنطية، استُخدم هذا التقويم المحلي على نطاق واسع من قبل الكتبة، دون اعتبار لاختلاف اللغة أو العرق أو الدين. وحتى بعد الفتح الإسلامي، ومع إدخال الأشهر القمرية الإسلامية التي تظهر في بعض الوثائق الريفية المبكرة، ظل النموذج المصري للتقويم قائمًا، ولا تزال آثاره باقية حتى اليوم في العربية الدارجة في مصر.
كما أن أنماط الحياة القروية البسيطة لم تتأثر كثيرًا بالتحول من الحكم البطلمي إلى الحكم الروماني، فقد اعتُبر التأثير الاجتماعي لروما على المجتمع المصري محدودًا. غير أن الدراسات الحديثة كشفت أن المجتمع البطلمي لم يكن مكوّنًا فقط من فلاحين ريفيين، بل شمل أيضًا سكانًا حضريين يونانيين تأثّروا بشكل واضح بالمؤسسات الرومانية. ومع ذلك، لم تحظَ التأثيرات التي طالت الطبقة الأرستقراطية المصرية بالاهتمام الكافي. فبالنسبة لهؤلاء، الذين كانوا يُعدّون حماة الثقافة المصرية التقليدية، مثّل الانتقال من سلطة البطالمة إلى الحكم الروماني حدثًا كبيرًا ومؤلمًا، اتّسم بالدرامية والحزن.
فبعد أن حُرموا من تولي معظم المناصب المدنية والعسكرية طيلة قرون من الهيمنة الأجنبية، وجدت الأسر المصرية البارزة في المعابد مصدرًا للثروة والوجاهة. وخلافًا لما كان سائدًا في الفترات السابقة، بدأ كهنة الطبقة العليا في العصر المتأخر يجمعون بين عدد من المناصب المعبدّية، سواء أكانت فعلية أو اسمية، مستفيدين من الامتيازات المالية المرتبطة بها. وبفضل هذه الاستراتيجية، استطاع الكهنوت الحفاظ على نفوذه الاقتصادي والاجتماعي، على الرغم من السيطرة الأجنبية وصعود طبقة جديدة وافدة يُفترض أنها كانت مهيمنة.
وبعيدًا عن الصورة النمطية للكهنة بوصفهم معزولين عن المجتمع، فإن النخبة الكهنوتية المصرية كانت منخرطة بفاعلية في الحياة الاقتصادية والسياسية للمملكة. وتُظهر العقود الديموطيقية المتعلقة ببيع وشراء الأراضي والعقارات أنهم كانوا من بين أبرز الأطراف الفاعلة في هذا المجال. ومع ذلك، كثيرًا ما أغفلت الدراسات الكلاسيكية القديمة هذه الفئة، رغم تمايزها الواضح عن الفلاحين الريفيين وبعدها عن صورة "المواطنين من الدرجة الثانية" الخاضعين لما يُسمى بـ"العرق الحاكم" اليوناني.
وبإدراج هذه الطبقة المصرية الرفيعة في الاعتبار، تصبح فكرة التمييز العرقي الرسمي في العصر البطلمي محلّ تساؤل. فالكثير من أفرادها كانوا يتقنون اللغة اليونانية، لغة الإدارة الرسمية، إلا أن ذلك لا يمكن اعتباره "اندماجًا ثقافيًا" بالمعنى الدقيق، لأنهم لم يتخلّوا عن هويتهم المصرية، ولا عن لغتهم الأصلية — الديموطيقية — التي كانت معترفًا بها أيضًا كلغة إدارية رسمية.
ازدادت وتيرة الزيجات المختلطة بين المصريين واليونانيين، خاصة في المناطق الريفية، وكانت الأسر الناتجة عنها حريصة على الحفاظ على انتمائها المزدوج لكلا العِرقين. ويتجلى ذلك بوضوح في الأسماء المزدوجة التي كانوا يمنحونها لأبنائهم، حيث يُعطى الطفل اسمًا يونانيًا وآخر مصريًا. وبحلول أواخر العصر البطلمي، كان عدد من هؤلاء المصريين المُهَلْيَنين — أو اليونانيين المُتمصرين — قد بلغوا مراتب متقدمة في الإدارة والجيش، ومن المرجّح أن هذه الظاهرة كانت ستستمر لولا القيود الصارمة التي فرضها أوكتافيان، والتي رسّخت نظامًا للفصل الاجتماعي قائمًا على العرق.
وتُظهر نسخة محفوظة من القرن الثاني الميلادي للائحة تنظيمية تعود إلى ما يُعرف بـ"حساب الدولة الخاص" (idios logos)، وهو نظام أسّسه أوغسطس المؤله، أن الدولة فرضت تصنيفًا صارمًا للطبقات العرقية، قسّمت فيه السكان إلى ثلاث فئات: مواطنون رومان متميزون، ويونانيون حضريون مفضّلون، ومصريون محرومون من الحقوق السياسية.
ولم يكن يُعترف بالفرد كـ"يوناني" إلا إذا أثبت انتماءه إلى واحدة من المدن اليونانية الأربع الحصرية: الإسكندرية (الإسكندرية الحالية)، نوقراطيس (قرب إيتاي البارود في البحيرة)، بطولمايس (محافظة الفيوم)، أنتينوبوليس (قرب قرية الشيخ عبادة في المنيا) أما الأسر ذات الأصول المختلطة من مصريين ويونانيين، فكانت تُصنَّف كلها ضمن الفئة "المصرية"، وهي طبقة خضعت لمجموعة من القيود والغرامات الاستثنائية، من بينها:
§43: إذا سجّل المصريون والدهم المتوفى على أنه روماني، تُصادر الدولة ربع التركة.
§44: إذا قُيّد ابن مصري كـ"إيفيب ephebe" (شاب مواطن في مدينة يونانية)، تُصادر الدولة السدس.
§45: إذا تزوّج يوناني حضري من امرأة مصرية وتوفي دون أبناء، تصادر الدولة كامل ممتلكاته. وإذا خلّف أبناءً، تُصادر ثلثا التركة. أما إذا أنجب من امرأة يونانية حضرية ثلاثة أبناء أو أكثر، فتؤول ممتلكاته إليهم كاملة.
§49: لا يجوز للمعتقين من أهل الإسكندرية الزواج من نساء مصريات.
§53: المصريات اللواتي يتزوجن جنودًا متقاعدين ويُطلقن على أنفسهن صفة "رومانية" يتعرّضن لعقوبات خاصة تتعلق بانتهاك الوضع الاجتماعي.
ولم يكن من الممكن لأي مصري أن ينال المواطنة الرومانية مباشرة، إلا إذا حصل أولًا على المواطنة الإسكندرانية، وهو أمر شديد الصعوبة. كما أن الطريق التقليدي لنيل المواطنة الرومانية — أي الخدمة في الفيالق — كان في الواقع مغلقًا أمام المصريين. وإذا نجح أحدهم في الالتحاق بالخدمة عبر الخداع، فإن القانون كان يُعيده إلى وضعه القانوني السابق بعد تسريحه:
§55: إذا خدم مصري في فيلق روماني دون أن يُكشف أمره، فإنه يُعاد إلى الوضع القانوني كمصري بعد تسريحه.
نظراً لأن المواطنة اليونانية أو الرومانية كانت تعفي حامليها من بعض الضرائب والالتزامات والعقوبات، حاول البعض تبرير هذه القيود الاجتماعية لأسباب عملية. غير أن قسوة هذا النظام — الذي وصفه بعض الباحثين بـ«الأبارتهايد الحقيقي القديم» — دفعت الكثيرين إلى اعتباره امتدادًا لكراهية شخصية من أوكتافيان تجاه كليوباترا وكل ما هو مصري. ومن منظور أكثر موضوعية، يمكن فهم هذا النظام كوسيلة لضمان استمرار أجيال متعاقبة من العمال في خدمة الهدف الأساسي: إنتاج الحبوب الضرورية لروما. وكما لاحظ ميلن ذات مرة: «لقد زوّدت مصر روما بالقمح، لا بالرجال». وفي كل الأحوال، لا خلاف على أن اللوائح الاجتماعية التي أُقرت في عهد أوغسطس كانت أداة قمع مالي منهجي.
بالنسبة للنخبة الكهنوتية المحلية، فرضت عليها القيود المالية والاجتماعية بسرعة. في عهد البطالمة، كانت عائلة ممفيس الثرية من الكهنة العظماء تهيمن على الإدارة الدينية والاقتصاد، وكانت تحتفظ بعلاقات وثيقة مع الأسرة الملكية. مثل البابوات في العصور الوسطى، كان هؤلاء الكهنة المصريون يتوجون الحكام الجدد ويسيطرون على أراضٍ واسعة مرتبطة بالمؤسسات الدينية. عند غزو أوكتافيان، كان كهنوت ممفيس برئاسة بتوباست الرابع Petubast IV، الذي توفي فجأة عام 30 ق.م وهو في السادسة عشرة من عمره، في حادثة أثارت الشكوك، خاصة مع تأخر دفنه الرسمي لمدة ست سنوات. خلفه بشنآمون الثاني Psenamoun II، الذي اختفى بعد مراسم دفنه في عام 23 ق.م، مما أدى إلى انقطاع خط الكهنة فجأة. ومنذ ذلك الحين، أصبحت شؤون المعابد تحت سلطة الإدارة المدنية التابعة لـ "الحساب الخاص private account" الإمبراطوري. وبحلول عهد الإمبراطور هادريان، تركزت السلطة الدينية في يد موظف مدني من رتبة فارس يحمل لقب "الكاهن الأعظم للإسكندرية وكل مصر".
وتوضح لوائح "الحساب الخاص" ملامح النظام الجديد: فقد تم تقليص عدد الكهنة، وتخفيض ممتلكات المعابد، وأخضعت البيروقراطية المدنية النظام الداخلي للمعابد للرقابة، بما في ذلك تسلسل الرتب الكهنوتية، وواجباتهم، ولباسهم، ووضعهم المالي. وحُظِر على الكهنة الكبار ممارسة أي نشاط مالي خارج مهامهم الدينية الرسمية. كما فُرضت عليهم شروط صارمة: ارتداء الكتان فقط (ومنع الصوف تمامًا)، والختان، وخلوّ الجسد من العيوب، وحلاقة الرأس — تحت طائلة غرامة مقدارها 1000 دراخما.
وفي عام 4 ق.م، طالب الحاكم الروماني "غايوس تورانيوس" بإعداد سجل يشمل جميع العاملين في المعابد، ويُفصّل وظائفهم وأسماء أبنائهم، بهدف واضح هو استبعاد كل من لا ينتمي إلى سلالة كهنوتية. ثم أُضيف في عهد نيرون سجل آخر لحصر ممتلكات الكهنة الشخصية، ليصبح بمثابة تقرير سنوي عن مالية الكهنة والمعابد، تحت عنوان γραφαι των ιερων ("سجلات المعابد").
ولم يعد القبول في الطبقة الكهنوتية ممكنًا إلا لمن حصل على شهادة رسمية من حاكم الإقليم (الاستراتيجوس)، تُثبت نسبه الكهنوتي ونقاءه الجسدي، وهي الشهادة التي كانت تُمنح صاحبها حق الخضوع لطقس الختان، الذي أصبح حكرًا على فئة محددة.
ورغم هذا العزل الاجتماعي، كان يُمنح الكهنة دعم مالي حكومي يعرف بـ "syntaxis"، كما أعفيت الطبقات العليا منهم من الضرائب والخدمة العامة القسرية. ومن رحم هذه القيود الرومانية ظهرت الصورة اللاحقة للكهنة المصريين بوصفهم أشخاصًا زاهدين، منعزلين، منصرفين إلى الطهارة والتأمل، ويعيشون حياة تقشف شديد "يصبرون فيها على الجوع والعطش وقلّة الطعام طيلة حياتهم" ] إلا إن أصولها قديمة[.
وقد رافق تراجع مكانة الكهنوت تراجعٌ مشابه في مكانة اللغة المصرية المحلية وخطها الديموطيقي. فعلى عكس ما فعله البطالمة، لم يُصدر الأباطرة الرومان مراسيم ثلاثية اللغة، والتي كانت لتمنح اللغة المصرية نوعًا من الاعتراف الرسمي. وعلى الرغم من عدم وجود سياسة معلنة ضد الديموطيقية، فإن استخدامها في العقود تراجع بشكل حاد بعد عام 50 م، مع استمرار محدود لبعض الأمثلة في عهد ماركوس أوريليوس.
ونظرًا لأن الإدارة الرومانية كانت تتم باللاتينية واليونانية، لم يكن بالإمكان اعتماد الوثائق الديموطيقية رسميًا، باعتبارها لغة ثالثة غير مفهومة من قِبل الموظفين الرومان. ولكي تُعترف بالعقود قانونيًا، كان لا بد من تسجيلها في الأرشيف الرسمي، الذي يعمل حصريًا باليونانية. ومع إلغاء المحاكم المحلية، أصبحت الإجراءات القانونية تُنفّذ باليونانية أو تُترجم إليها. ولهذا السبب العملي، بدأ المصريون تدريجيًا بالتحوّل إلى الكتبة اليونانيين بدلًا من الديموطيقيين. وهكذا، أصبحت "الوثائق الديموطيقية إحدى ضحايا ضمّ مصر إلى الإمبراطورية الرومانية".
ومع ذلك، فقد استمر استخدام اللغة الديموطيقية وتوسّع في بعض المجالات حتى أواخر القرن الرابع الميلادي.
وخلال القرن الثاني الميلادي على وجه الخصوص، شهدت الديموطيقية نهضة في مجال الكتابات الدينية، والأدبية، والعلمية المرتبطة بورش المعابد. وكان يُنتظر من المرشحين للكهنوت إتقان الديموطيقية إلى جانب الخطوط الأقدم، بما في ذلك الهيروغليفية، التي ظلت قيد الاستخدام حتى بعد حظر العبادات الوثنية. ففي عام 107 م، في عهد تراجان، كانت مدينة أكسيرينخوس (البهنسا) توظف خمسة نحاتين متخصصين في الكتابة الهيروغليفية لخدمة معابدها. وفي الفترة نفسها، كان كهنة مدينة نرموثيس Narmouthis— العاصمة الدينية لإقليم الفيوم — يديرون شؤونهم الداخلية باستخدام مزيج من الديموطيقية واليونانية.
وقد استمر الكهنة في التجريب والتفاعل بين الخطوط المصرية واليونانية، الأمر الذي أدى إلى ابتكار الخط القبطي لتدوين الأصوات المتحركة في الدعاوي الدينية، وهو الخط ذاته الذي تبنّاه الكُتّاب المسيحيون لاحقًا في نشر المعرفة الكتابية بين العامة.
وتتجلى حيوية الثقافة الدينية المصرية، رغم الإهمال أو العداء الرسمي، في قدرتها الفائقة على التكيّف. فقد أُدرجت عبادة الإمبراطور الروماني ضمن شعائر تأليه الفرعون، دون صدام واضح. وفي السياقات الهلنستية، هيمنت الرموز المصرية على الطقوس الجنائزية، كما يظهر في سراديب الموتى بالإسكندرية (كوم الشقافة Kum al-Shiqaf). وفي مدن مثل الفيوم والبهنسا، كان السكان اليونانيون المحليون يقدّسون الإله "سوبك" (سوكوس) — التمساح، والإلهة "تاورت" (ثوريس Thoeris) — فرس النهر، باعتبارهما حماة للمدينة.
أما بالنسبة للنخبة المحلية، فقد استُبدلت أقنعة الدفن التقليدية ببورتريهات على الطراز اليوناني، عُرفت لاحقًا باسم "بورتريهات الفيوم Fayyum portraits "، والتي انتشرت بين القرن الأول والرابع الميلادي. كما انتشرت في المزارات المنزلية تماثيل ترابية تمزج بين الرموز الإلهية المصرية واليونانية، في مظهر من مظاهر التفاعل الثقافي والديني.
لكن هذا التفاعل لم يكن دائمًا سلميًا. فقد عبّر بعض الكهنة عن استيائهم من الحكم الروماني إما عبر تمردات متفرقة، مثل تلك التي وقعت في الفترة ما بين 71 و175 م، أو من خلال نصوص نبوئية مثل "نبوءة الخزاف"، التي تنبّأت بزوال الحكم الروماني وعودة الدولة الفرعونية. ورغم أن هذه النبوءة ذات أصل مصري واضح، فقد تداولها الناس في نسخ يونانية حتى نهاية القرن الثالث الميلادي.
وكان لجميع المصريين، بمختلف طبقاتهم، أسبابهم في كراهية النظام الضريبي الروماني، الذي اتسم بالقسوة والتمييز. فقد فرض أغسطس ضريبة للرؤوس (laographia) على الذكور المصريين بين سن الرابعة عشرة والستين. وتفاوتت قيمتها من إقليم إلى آخر، فبلغت 12 دراخما في هيرموبوليس، و40 دراخما في الفيوم الأغنى نسبيًا. وكان المصريون وحدهم ملزمين بدفعها كاملة، في حين أعفي منها المواطنون الرومان، وسكان المدن اليونانية، وبعض الكهنة، ودُفع جزء مخفّض منها من قبل سكان الحواضر الكبرى (metropolites).
كما فُرضت على المصريين ضرائب إضافية، منها "ضريبة السدود" (6½ دراخما)، و"ضريبة الخنازير" (نحو دراخمين). وكانت هذه الضرائب تُجبى لصالح الدولة المركزية، التي تعتمد عليها لتمويل الخدمات في المقاطعات. ولأغراض التحصيل، فُرض إحصاء سكاني يُجرى كل 14 عامًا، انسجامًا مع سن الرشد لدى الذكور. وشمل الإحصاء تسجيل كل شخص في موطنه الأصلي، مع أسماء أرباب الأسر وعدد الأفراد وصفاتهم المميزة.
وبالتوازي، كانت هناك مسوحات عقارية تشمل قوائم تفصيلية للأراضي ومُلّاكها، مع تقديرات الضرائب، وتصنيفها بحسب نظام الري. وكانت ضريبة الأراضي تُدفع غالبًا عينًا، وكانت تشكّل المصدر الأساسي للإيرادات العامة، وتُجبى عادة من قبل متعهدي ضرائب يجنون أرباحًا شخصية من الفائض الذي يُحصّلونه.
إلى جانب هذه الضرائب، فُرض أكثر من مئة رسم وعبء إضافي على البضائع والخدمات والمعاملات التجارية والنقل. كما ظهرت أنظمة "الخدمة العامة القسرية" (الواجبات العامة القسرية أو الخدمات العامة المفروضة liturgies)، وهي التزامات تفرض إما على شكل خدمة جسدية أو مالية عبر مساهمة من التركة. وانتشر استخدام هذه الواجبات العامة القسرية في مصر بشكل لم يشهد له مثيل في بقية أقاليم الإمبراطورية، شاملةً جميع السكان ما عدا الفئات المحظية، مثل الكهنة الكبار، والمحاربين القدامى، والنساء، والمسنين، وذوي الإعاقات، بالإضافة إلى العائلات التي لديها خمسة أبناء أو أكثر. ومع مرور الوقت، حل نظام الواجبات العامة القسرية محل نظام متعهدي الضرائب بدءًا من عام 117 م.
على الصعيد السياسي، تمكّن الرومان من تأمين سيطرتهم على مصر بفعالية نسبية حتى القرن الثالث الميلادي، ويبدو التاريخ الرسمي للمقاطعة خلال هذه الفترة منسجمًا وواضح المعالم. فبعد غزو أوكتافيان لمصر في عام 30 ق.م، واجه أول حاكم روماني لها، غايوس كورنيليوس غالوس (30–29 ق.م)، التهديد الخارجي الوحيد المهم للسلطة الرومانية في مصر على امتداد القرون الثلاثة اللاحقة.
فقد تسببت مملكة مروي النوبية في الجنوب باندلاع تمرد في طيبة (صعيد مصر)، لكنه قُمِع بسرعة. غير أن غالوس، الذي نسب النصر لنفسه وأقام نصبًا تذكاريًا ثلاثي اللغة في فيلة على غرار الملوك البطالمة، سقط من الحظوة، وأُقيل فجأة، ثم انتحر لاحقًا.
كانت مروي تستند في مزاعمها بالحق في التاج المصري إلى إرث الأسرة الخامسة والعشرين النوبية (حوالي 751–656 ق.م). وفي عهد خليفة غالوس، بيترونيوس، اجتاحت قوة نوبية قوامها ثلاثون ألف مقاتل مناطق أسوان والفنتين وفيلة سنة 25 ق.م. وردّ بيترونيوس بهجوم مضاد قاده بعشرة آلاف من المشاة وثمانمائة فارس، توغل فيه حتى عاصمة مروي القديمة نباتا، مما أجبر الملكة النوبية — التي حُملت لاحقًا لقب "الكانداكة" — على طلب الصلح.
وبعد انسحابه، ترك بيترونيوس حامية صغيرة من أربعمائة رجل في حصن بريمس (قصر إبريم). وعندما شنّت مروي هجومًا جديدًا على الحصن عام 23 ق.م، نجح بيترونيوس في الدفاع عنه، وانتهى النزاع بتوقيع معاهدة رسمية بعد عامين في جزيرة ساموس. وبموجبها، احتفظت روما بمنطقة الدوديكاشوينوس (Dodecaschoenus) الممتدة حتى معبد المحرقة (على بعد 80 كم جنوب الشلال الأول)، بينما عادت بقية أراضي النوبة إلى مروي.
بعد هذه المواجهات، ساد الهدوء حدود مصر الجنوبية حتى بداية غارات قبائل البليميين الرحل (البجة) في عهد الإمبراطور ديسيوس (249–251 م). أما مملكة مروي، فقد أصبحت شريكًا تجاريًا نشطًا لروما، وظلت متمسكة بتقاليدها الفرعونية حتى بعد أن أصبحت مصر رومانية ومسيحية إلى حدّ كبير.
وقد احتفظت الأراضي النوبية المتنازع عليها بمعظم مشروعات البناء الرسمية المنسوبة إلى أغسطس. ففي كلابشة (تلميس)، جرى استكمال مزار صغير يعود للعصر البطلمي باسم الفاتح الجديد، المُشار إليه ببساطة بـ"الروماني". أما المعبد الأكبر المجاور، الذي شيده البطالمة في مرحلة متأخرة، فكان أول ما زُخرف في عهد أغسطس. وأضيف اسمه الملكي داخل خرطوش إلى مواقع مختلفة في فيلة ودَبّود، وبصيغ متعددة في الدكة وإلفنتين، مصحوبًا بألقابه الإمبراطورية: "أوتوكراتور قيصر، الحي إلى الأبد، المحبوب من بتاح وإيزيس". ومن أبرز المشاريع الجديدة معبد دندور، الذي كُرّس لاثنين من "الأبطال" المؤلّهين الذين غرقا في النيل.
أما في دلتا النيل وصعيده، فقد ظهر اسم أغسطس في عدد من المواقع، منها: أرمنت، دندرة، دير المدينة، و شنهور Shenhur، مما يدل على استمرار رعاية روما للعبادة المحلية، ولو في شكلها الرسمي والرمزي.
عهد تيبيريوس (14 – 37 م) وكاليغولا (37 – 41 م) وكلوديوس (41–54 م)
لم تُسجَّل تطورات بارزة في عهود تيبيريوس (14–37 م)، وكاليغولا (37–41 م)، وكلوديوس (41–54 م)، باستثناء الاضطرابات المتكررة بين الجماعات اليونانية واليهودية في الإسكندرية. وقد أثار قيام جرمانيكوس، أحد أبرز رجال الدولة في الشرق، بزيارة غير مرخصة إلى مصر استياء تيبيريوس. أما كاليغولا، فقد أظهر ميولًا إلى عبادة الآلهة المصرية في روما، وأعاد رسميًا ممارسة طقوسها التي كانت محظورة منذ عهد أغسطس. وفي المقابل، تبنّى كلوديوس موقفًا دبلوماسيًا؛ إذ رفض طلب الإسكندريين بإنشاء مجلس شيوخ مستقل، ودعا الإغريق إلى التسامح مع العادات اليهودية، كما حث اليهود على التخلّي عن المطالبة بوضع مميز.
وقد انعكست ردود الأفعال الغاضبة من السياسات الرومانية في كتابات أعمال شهداء الوثنية Acts of the Pagan Martyrs — وهي نصوص مصرية معادية للرومان نشأت في الإسكندرية والمناطق الريفية، ومهّدت لاحقًا لأدب الاستشهاد المسيحي.
من حيث الآثار، خُلّد اسم تيبيريوس في عدد من المواقع المصرية، منها: أرمنت، أسوان، أتريب، قفط، دَبّود، دندرة، ديوس بوليس بارفا (هو)، إدفو، كرنك، كوم أمبو، الأقصر، فيلة، وشينهور. أما كاليغولا، فقد وُثّق اسمه في قفط ودندرة، وكذلك كلوديوس، الذي يظهر أيضًا في أسوان، أتريب، إسنا، كوم أمبو، وفيلة.
عهد نيرون (37 – 68 م)
في عهد نيرون (54–68 م)، أُرسلت بعثة "علمية" إلى مروي، يُرجّح أنها كانت استكشافية تمهيدًا لغزو لم يُنفّذ بسبب اندلاع الثورة اليهودية عام 66 م. وربما كان اهتمام نيرون بالجنوب نتيجة تأثير أستاذه كايريمون Chaeremon — كاهن مصري وفيلسوف رواقي — الذي يُعد من الأمثلة النادرة على الترقي الاجتماعي الذي ناله أحد أبناء النخبة المصرية المحلية. وقد وثّقت رعاية نيرون لهذه النخبة في مواقع عدّة، منها: أسوان، قفط، دندرة، كرانيس، كوم أمبو، طحني (أكوريس)، وواحة الداخلة.
فترة الاضطرابات (عام الأباطرة الأربعة) جالبا، أوتو، فيتيليوس – سنة واحدة 68 – 69 م، فِسباسيان 69 – 79 م
ومع وفاة نيرون وانتهاء السلالة اليوليوكلودية عام 68 م، تولّى الحكم في مصر أول مسؤول من مواليد الإسكندرية: تيبيريوس يوليوس ألكسندر، المنتمي إلى عائلة يهودية متهلِّنة على صلة بالفيلسوف فيلون. وقد استمر في منصبه خلال فترات الحكم القصيرة لكل من جالبا (68–69 م)، أوتو (69 م)، فيتيليوس (69 م)، وكان هو من أعلن رسميًا تنصيب فِسباسيان إمبراطورًا في الإسكندرية في 1 يوليو 69 م.
ورغم تراجع نسبي في حجم إنتاجها، ظلت مصر تُعتبر "مفتاح إمدادات الحبوب" (clavis annonae) لروما، ولعبت دورًا حاسمًا في ترسيخ حكم فيسباسيان وسلالة الفلاڤيين من بعده. ويظهر اسما غلبا وأوثو في نقوش بمعبد الأسرة الثامنة عشرة في مدينة هابو، بينما لا يُذكر فيتيليوس في أي موضع. وخلال زيارته المهمة للإسكندرية، وهي أول زيارة إمبراطورية منذ عهد أغسطس، استُقبل فيسباسيان (69–79 م) في مضمار السباق بوصفه فرعونًا مصريًا أصيلًا، وأُعلن ابنًا للإله الخالق آمون وتجسيدًا للإله سيرابيس. وتشير تسمية "ابن آمون" إلى التقليد الفرعوني، فضلًا عن تحيتها الشهيرة للإسكندر الأكبر في واحة سيوة. أما ارتباطه بسيرابيس، الإله اليوناني-المصري الحامي للإسكندرية والمملكة البطلمية السابقة، فقد استرضى الذوق المحلي المعاصر. وقد أثبت فيسباسيان صدق هذه الادعاءات بشفائه رجلًا أعمى وآخر مُقعدًا باستخدام البصق والدوس، وهما من الطقوس المحلية التقليدية. وتكررت مظاهر اهتمام الأسرة الحاكمة بالدين المصري عندما حضر ابنه تيطس في عام 70 م طقوس تكريس عجل أبيس الجديد في ممفيس، عقب قمع الثورة اليهودية وتدمير معبد القدس. وامتدت تداعيات هذه الثورة إلى مصر في عام 73 م، حين تعرّض معبد ليونتوبوليس للنهب، وهو المعبد الذي أسسه الكاهن الأعظم أونياس اللاجئ في عهد بطليموس السادس (180–145 ق.م). وعلى النقيض من ذلك، شجّع فيسباسيان على بناء المعابد المصرية في إسنا، وكوم أمبو، ومدينة هابو، وسلسلة، وواحة الداخلة.
عهد تيطس (79–81 م)، ودومايتان/ دوميتسيان (81–96 م)، ونيرفا (96–98 م)
أما العهود التالية لكل من تيطس (79–81 م)، ودومايتان (81–96 م)، ونيرفا (96–98 م)، فقد تركت أثرًا أقل وضوحًا في البلاد، رغم أن العملة الرسمية في الإسكندرية بدأت حينها تُظهر آلهة المقاطعات المصرية، وهو ما يُعد دليلاً على سياسة موالية لمصر انعكست حتى في إيطاليا. فقد أسّس دومايتان معابد لإيزيس وسيرابيس في بينفينتو وفي روما ذاتها، مستخدمًا رموزًا فرعونية لإضفاء الشرعية على مزاعمه الإمبراطورية. وقد أدى تركيزه على السلطة المطلقة وازدرائه لمجلس الشيوخ إلى اغتياله ونهاية سلالة فلاڤيوس. وقد آلت العرش إلى نيرفا، القنصل السابق وأحد المتآمرين المحتملين، الذي تخلى عن مبدأ الوراثة لصالح تبني ورثة مؤهلين. وفي مصر، خُلد رعاية تيطس في الداخلة وإسنا، ودومايتان في أخميم، أرمنت، دندرة، إسنا، كوم أمبو، فيلة، وسلسلة، أما نيرفا فقد وُثق وجوده فقط في إسنا.
عهد تراجان (98–117 م)
ومع اعتلاء تراجان للعرش (98–117 م)، استمرت رعاية العبادات المحلية في دندرة، إسنا، الجبلين، كلابشة، كوم أمبو، مدينة هابو، وفيلة. وقد شهد معبد دندرة تأسيس معبد لأفروديت الجديدة، جُسدت فيه الإمبراطورة بلوتينا في صورة حتحور، ما يمثل أول ارتباط مباشر بين أحد أفراد الأسرة الإمبراطورية (بخلاف الإمبراطور) والآلهة المصرية. ومع ذلك، كانت الانقسامات الدينية أكثر وضوحًا، إذ اندلعت ثورات يهودية جديدة بإيحاء من "المسيّا" المزعوم في قورينا Cyrene (شرق ليبيا). وقد أُخمِدت انتفاضة أولى في الإسكندرية عام 114 بسرعة، إلا أن نقل القوات في العام التالي للمشاركة في حملة فرثية أشعل حرب عصابات شرسة في الريف استمرت ثلاث سنوات (115–117 م). وقد دفعت مجازر الإغريق على يد جماعات يهودية مسلحة السلطات إلى تسليح الفلاحين المصريين، في خطوة يائسة تُذكِّر بسياسة بطلمية مماثلة سبقت معركة رفح عام 217 ق.م. وقد سُحِق التمرد، وانقرض الوجود اليهودي الفعّال في مصر حتى القرن الثالث الميلادي. وكان وقع هذه الأحداث الاجتماعية شديدًا إلى درجة أن مدينة أوكسيرينخوس ظلت تحتفل بنجاتها من "قطاع الطرق اليهود" بعد أكثر من ثمانين عامًا.
عهد هادريان (117–138م)
ويمثّل ختام عهد تراجان اكتمال تطوير نظام الالتزامات العامة (الليتورجيا)، مع توسيعه ليشمل جباية الضرائب وإلغاء نظام المزارعة الضريبية،كان على هادريان (117–138م) أن يتولى مهمة استعادة الاستقرار في البلاد، وفي عام 118م أصدر مرسومًا بتخفيض الضرائب العقارية استجابة لتراجع الإنتاج الزراعي خلال سنوات التمرد (والذي كان ناتجًا عن التدمير والتجنيد القسري على السواء). ويُعزى تمرد محلي وجيز أثناء طقوس تكريس عجل أبيس في عام 122م—وهو تمرد أقل نجاحًا بكثير مقارنة بانتفاضات السكان الأصليين ضد البطالمة عقب معركة رفح—إلى سياسة تسليح الفلاحين.
وفي عاميه الرابع عشر والخامس عشر (130–131م)، قام هادريان وبلاطه الإمبراطوري بزيارة رسمية إلى مصر استمرت نحو ثمانية إلى عشرة أشهر. وشملت الجوانب السياحية للرحلة صيد أسود في الصحراء الليبية، ورحلة نيلية، وزيارة صباحية لتمثالي ممنون في طيبة الغربية، حيث نقشت الشاعرة بالبلا (Balbilla)، مرافقة الإمبراطورة سابين، أبياتًا تذكارية على ساق التمثال "المغني" اليسرى leg of the "singing" colossu.
غير أن الأثر الأكثر أهمية لتلك الزيارة تمثّل في تأسيس المدينة اليونانية "أنتينوبوليس" تخليدًا لذكرى غرق أنتينوس، الشاب المُقرّب من الإمبراطور. ووفقًا للاهوت المصري، فإن موتًا كهذا يقتضي تشبيهًا خاصًا بأوزيريس الغريق، إله العالم السفلي. وكان "التأليه بالغرق" قد شكّل الأساس اللاهوتي لعبادات الأبطال المحليين في معبد دندور النائي خلال عهد أغسطس، لكن عبادة هادريان المؤلّهة لأنتينوس بأسلوب مصري امتدت إلى سائر أرجاء الإمبراطورية. وقد نُقشت مراسم "فتح الفم" التي خضع لها أنتينوس، كما تُجرى للآلهة، بالهيروغليفية على آخر مسلّة أمر ببنائها، والتي نُصبت لاحقًا في روما.
ويُحتمل أن المستشار الديني لهادريان كان الشاعر والكاهن المصري بانكراتيس (Pancrates)، الذي نُسبت إليه لاحقًا نصوص سحرية مرتبطة بالإمبراطور. وقد أصبحت "أنتينوبوليس" رابع مدينة يونانية في مصر تُمنح حقوق المواطنة الكاملة، ويبدو أن ديْنها تجاه الديانة المصرية المحلية قد أُقرّ من خلال الامتياز الخاص الذي منح لمواطنيها، إذ سُمح لهم بالزواج من المصريين الأصليين، في سابقة نادرة.
ولضمان النجاح الاقتصادي لتلك المدينة الجديدة، أمر هادريان عام 137م بإنشاء طريق بري يربطها بميناء برينيكي على البحر الأحمر، منافسًا بذلك طريق التجارة الأقدم المؤدي إلى نهر النيل عبر قفط. ومن المحتمل أن "الطريق الهادرياني" (Via Hadriana) قد حوّل بالفعل تجارة التوابل الهندية الثمينة بعيدًا عن وادي الحمامات، إذ شهد الميناء المجاور على البحر الأحمر، قُصير (الذي يُرجّح أنه كان يُعرف بـ "ميوس هورموس Myos Hormos ")، تراجعًا ملحوظًا في أعقاب عهد هادريان.
وإلى جانب "أنتينوبوليس"، يُوثّق دعم هادريان للمعابد المصرية في كل من أرمنت، ودندرة، وإسنا، وفيلة. وقد شهد عهد هادريان أيضًا رواجًا ثقافيًا معاصرًا لما يُعرف بـ "الجنون المصري" (Egyptomania)، تمثل أوجهه الأبرز في "قسم كانوبوس Canopus " الشهير في فيلّا الإمبراطور على ضفاف نهر التيبر بروما، حيث استُنسخت مناظر معمارية ونيلية فرعونية كرمزٍ للفخامة والحكمة الغابرة.
عهد أنطونيوس بيوس (138–161م)
بدأ عهد أنطونيوس بيوس (138–161م)، أول الأباطرة الأنطونيين، بمناسبة ميمونة تمثّلت في الاحتفال "الألفي" عام 139م بانتهاء دورة سوتيك (Sothic Cycle) الكاملة، ما أشار إلى عودة التقويم المدني المتجول إلى الدقة. وقد شهد هذا العهد الطويل آخر مشروعات البناء المعبدّي الكبرى في مصر، حيث أُضيفت مبانٍ في أرمنت، ودندرة، وقُفط، وإسنا، والمدامود، ومعبد مدينة هابو، وطود. ولم يُكد السلم المحلي يُنغَص إلا باضطراب في الإسكندرية عام 153م أسفر عن مقتل الوالي، وهي سابقة غير معهودة. ومع ذلك، يُقال إن الإمبراطور زار المدينة لاحقًا، ورعى بناء مضمار جديد للسباق وبوابات للمدينة.
وقد ازدادت رفاهية الإسكندرية بفضل سيطرتها على تجارة الهند التي تمر عبر البحر الأحمر ووادي النيل. أما الريف فقد دخل في فترة طويلة من التدهور الاقتصادي نتيجة الاضطرابات الاجتماعية، والضرائب المفرطة، والإهمال في صيانة أنظمة الري الحيوية. وتحولت الخدمة اللوجستية، التي كانت نظريًا شرفًا تطوعيًا، إلى التزام قسري نظرًا لعدم توفر المتطوعين. وكان المرشحون الفقراء للقيام بهذه المهام يسعون إلى الهروب من أعبائها المالية بالتخلي عن ممتلكاتهم الزراعية والفرار (الانسحاب / anachōrēsis). وفي عام 154م، أدان منشور رأس السنة الصادر عن الوالي أولئك "الذين فروا من بعض الخدمات الإجبارية بسبب ما حولهم من فقر"، وعرض العفو عن "أولئك الذين لا يزالون بعيدين عن منازلهم خوفًا". وإذ فشلت الدولة في تقليل حصص الضرائب المفروضة على القرى المتقلصة سكانيًا، أصبح من تبقّى من العائلات عاجزًا عن الوفاء بالتزامات الدولة، ففرّ بدوره، ما أدّى إلى حلقة مفرغة من انخفاض الإنتاج والسكان. وأصبحت القرى مهجورة، واستعادت الصحراء أراضي الفيوم التي كانت خصبة في السابق، مما مهّد الطريق لثورة شعبية.
عهد ماركوس أوريليوس (161–180م)
واندلعت التوترات الاجتماعية في عهد ماركوس أوريليوس (161–180م) بثورة شرسة (171–175م) شنّها "الرعاة" المحليون (boukoloi) بقيادة الكاهن إيسيدوروس Isidorus. وبعد أن هزموا القوات الرومانية المقيمة، لم يتمكن الرومان من إخماد الثورة إلا بعد وصول تعزيزات بقيادة أفيديوس كاسيوس، حاكم سوريا وابن والي مصر الأسبق. غير أن كاسيوس، ما إن تحقق له النصر، حتى أمر قواته بإعلانه إمبراطورًا بناء على شائعة كاذبة بوفاة أوريليوس. وقد اعترفت به مصر ومناطق أخرى من الشرق لمدة ثلاثة أشهر عام 175م، حتى قُتل على يد أحد قادة مئة. وزار أوريليوس المقاطعات التائبة والإسكندرية عام 176م، مانحًا العفو للمدينة وعائلة كاسيوس. وقد فاقم الدمار الثوري انتشار الطاعون في مصر، كما في معظم أنحاء الإمبراطورية، منذ عام 165م وحتى عام 180م. وقد ظهرت أدلة مادية على هذا الوباء في وادي الملكات بطيبة، حيث وُجدت مقبرة جماعية (القبر رقم 53) تحتوي على نحو 276 جثة مغطاة بالجير الحي. وهذه النهاية الدراماتيكية تتناقض بشدة مع حالة الدفن الهادئة لأصحاب المكانة الرفيعة من السكان المحليين في العصر الروماني، حيث تظهر سجلاتهم الأثرية مجتمعًا مستقرًا عاش فيه الشيوخ والمرضى لفترات طويلة دون عنف واضح.
ورغم ثورة إيسيدوروس، فقد قدّمت الديانة المصرية العون لأوريليوس خلال حملته على نهر الدانوب عام 172م، من خلال الكاهن الساحر هارنوفس، الذي قيل إنه جلب المطر لإنقاذ القوات الرومانية. وكفرعون، يظهر أوريليوس في النقوش بمعابد دندرة، وإسنا، وكوم أمبو، وفيلة. وربما استجابة للثورة المحلية.
عهد كومودوس (180–192م)
أما كومودوس (180–192م)، الذي لم يكن أكثر رقيًا من سلفه، فقد أمر فورًا بقتل أسرة كاسيوس التي سبق أن نالت العفو. وربما انعكس هذا الحدث في آخر "أعمال شهداء الوثنيين"، التي صوّرت الإمبراطور غير المحبوب بأنه "استبدادي، فظ، وغير مثقف". وكانت الأزمة الاقتصادية في البلاد، التي بدأت تتجلى منذ عهد أنطونيوس، قد أصبحت خطيرة بدرجة استدعت تدعيم حصة الحبوب السنوية المخصصة لروما بأسطول حبوب إضافي من شمال إفريقيا. كما يشير انخفاض معيار الفضة والتوقف عن سك النقود البرونزية إلى مزيد من الأزمات المالية. وكان كومودوس آخر الأباطرة الذين ظهروا على نطاق واسع كراعٍ فرعوني، حيث ظهرت نقوشه في أرمنت، وإسنا، وكوم أمبو، وفيلة. ولا يشير الانخفاض اللاحق في الصور الفرعونية إلى تغيّر رسمي في موقف الدولة تجاه الثقافة المحلية، بل إلى غياب الموارد المتاحة للكهنة ولأعمال البناء، وقد تفاقم هذا الوضع مع مقتل كومودوس وما تبعه من اضطراب في الخلافة.
أزمة القرن الثالث (اضطرابات واغتيالات كثيرة)
سيبتيموس سيفيروس (193–211م)
وفي عام 193م، وهو عام مشابه لعام 69م من حيث الفوضى السياسية وتعدد المطالبين بالعرش، تنازع السلطة بيرتيناكس، وديديوس جوليانوس، وبسكنيوس نيجر، وسيبتيموس سيفيروس. ورغم أن بيرتيناكس أُعلن إمبراطورًا في روما في الأول من يناير، لم يُعترف به في مصر إلا قبل اثنين وعشرين يومًا من اغتياله في 28 مارس، ولم تصل أخبار وفاته إلى الريف إلا بعد منتصف مايو. ولم يُعترف بخلفه الروماني ديديوس جوليانوس مطلقًا. وبحلول يونيو، أظهرت البروتوكولات الرسمية وسك العملات الإسكندرانية أن الولاء المحلي قد انتقل إلى بسكنيوس نيجر، قائد سوريا والقائد الشعبي السابق لحامية أسوان المصرية.
أما المنافس الناجح الذي أسس السلالة السيفيرية فكان سيبتيموس سيفيروس (193–211م) Septimius Severus، الذي سيطر على روما وشمال إفريقيا ومصر قبل أن يهزم نيجر في معركة كيزيكوس على مضيق مرمرة battle of Cyzicus on the Propontis. وقد تأكد ولاء مصر لقضية سيفيروس بحلول 13 فبراير، كما تُظهر إحدى برديات مدينة أرِسينوي في الفيوم. وقد قام سيفيروس وعائلته بجولة في المقاطعة في عامه الثامن (199–200م)، متبعًا خطى هادريان. وسُجلت زيارته لمصر على نقش بارز في معبد إسنا، حيث ظهر بصحبة زوجته جوليا وولديه كاراكلا وجيتا. وقد شملت الجولة الزيارة التقليدية لتمثال ممنون، الذي قام الإمبراطور بترميمه فلم "يُغنِّ" بعد ذلك أبدًا. أما الإصلاحات الإدارية والقانونية المقترحة، فكانت أهمها وإن كانت معيبة أيضًا، إذ مُنحت الإسكندرية وعواصم الأقاليم المجاورة مجالس بلدية طالما تطلعت إليها، وأُعفي سكان القرى من الخدمة الإلزامية في المدن اليونانية، وسمح للمرشحين للخدمة العامة (liturgies) بتفاديها دون سجن أو فقدان للمكانة، بشرط التنازل عن ممتلكاتهم العقارية لصالح الدولة. ومع ذلك، فإن تلك المجالس الجديدة كانت تفتقر إلى سلطة حقيقية، وتبدو هذه الإصلاحات محاولة لتحسين تحصيل الضرائب أكثر منها تغييرات فعلية.
وفي مطلع الزيارة الإمبراطورية (عام 199م)، أصدر الوالي كوينتوس إيميليوس ساتورنينوس مرسومًا يحظر الأوراكلز / النبؤات oracles (الاستشارات النبوئية الموكبية)، وهي عنصر أساسي في طقوس المعابد المحلية. ولم يكن هذا الحظر ناجحًا، وإن أدى إلى دفع تلك الممارسات إلى السرية؛ فأصبحت الأوراكلز الديموطيقية لاحقًا تجري بشكل خاص ومشفّرة. وتورد القصة اليونانية لـ"ثيسالوس Thessalos " تفاصيل واحدة من هذه الأوراكل التي أُجريت سرًا في طيبة. وفي أعقاب الزيارة (201م)، اندلع صراع ديني أكثر خطورة، تمثّل في أولى موجات اضطهاد المسيحيين في مصر. ووفقًا لأوسابيوس، فإن الشهداء شملوا الإسكندريين ومهتدين "من كل أنحاء مصر والصعيد"، ما يشير إلى انتشار أولي للمسيحية بين السكان الأصليين. ويُعد اللاهوتي أوريجين، الذي تيتم في هذه الحملة السيفيرية، أول كاتب يميز بين "المسيحيين المصريين" و"المسيحيين اليونانيين"، وتبدأ برديات الكتاب المقدس بالظهور في الصعيد في نفس الفترة.
كاراكلا (211–217 م)
إذا كان عهد سبتيميوس سيفيروس قد اتّسم بتزايد الانقسام الاجتماعي داخل الدولة الرومانية، فإن حكم ابنه كاراكلا (211–217 م) بدأ بخطوة غير مسبوقة تمثّلت في منح المواطنة الرومانية لجميع سكان الإمبراطورية عام 212 م. وقد تبنّى كاراكلا اسم العائلة "أوريليوس" (Aurelius) ــ نسبةً إلى ماركوس أوريليوس ــ وأصبح هذا الاسم (و"أوريليا" للإناث) يُمنح بوصفه اسمًا شخصيًا وراثيًا لكل "روماني" جديد، فصار شائعًا بشكل خاص بين المصريين.
ومع أن هذا الإجراء منح مكانة رمزية، فإن المواطنة لم تكن تمنح امتيازات كبيرة، بل أصبحت تترتب عليها أعباء ضريبية مثل ضريبة الميراث. وكما كان توسيع المجالس المحلية على يد والده، بدا هذا الإجراء أقرب إلى رمزية شكلية منه إلى تغيير فعلي.
وقد أشعل تولّي كاراكلا الحكم صراعًا مع شقيقه الإمبراطور الشريك "جيطا Geta "، انتهى بمقتله في عام 212 م، تلاه قرار بمحو ذكراه رسميًا (damnatio memoriae) وإزالة صوره من المعابد، بما في ذلك معبد إسنا. وكان مجرد الإشارة إلى اسم جيطا كفيلًا بالتسبب في مشاكل، كما تبيّن خلال زيارة كاراكلا لمصر عام 215 م، حين سخر السكندريون علنًا من ادّعاءاته البطولية، واستهزؤوا بتبريره لمقتل شقيقه باعتباره دفاعًا عن النفس. وردًا على ذلك، أمر كاراكلا بإعدام وفد المدينة البارز الذي خرج لاستقباله، وسمح لقواته بنهب المدينة وقتل سكانها على مدى عدة أيام بشكل عشوائي. أعقب ذلك تعليق التجمعات العامة، وزيادة الوجود الشرطي، وطُرد السكان المصريون من المدينة، باستثناء من كانت لديهم شؤون تجارية أو دينية.
ورغم محاولات لاحقة لتبرير وحشية كاراكلا بدعوى "الأمن العام"، فإن هذه المزاعم تبقى موضع شك. فطرد السكّان الأصليين لم يكن بدافع عنصرية محضة، بل ارتبط بالرغبة التقليدية في ضمان بقاء إنتاج الريف من خلال الإبقاء على العمال الفلاحين في قراهم: "المطلوب منعهم هم أولئك الذين يفرّون من الريف حيث ينتمون، تهرّبًا من العمل الزراعي، لا الذين يقصدون الإسكندرية بدافع رغبة في رؤية المدينة المجيدة، أو طلبًا لحياة ثقافية، أو لأغراض تجارية عرضية." وقد لاحظ كاراكلا أن "الفلاحين الحقيقيين" يمكن تمييزهم من خلال لهجتهم وملابسهم وسلوكهم. ومع ذلك، فإن هذا التقييم الساذج لم يأخذ بعين الاعتبار أن هؤلاء الفارّين لم يهربوا من العمل الزراعي، بل من الضرائب المنهكة وسوء الإدارة المستمر من قبل الدولة.
ماكنوس (217–218 م) ، إلجابالوس (218–222 م)
وبعد اغتيال كاراكلا، نشب صراع على العرش بين قاتله ماكنوس (217–218 م) وبين إلجابالوس (218–222 م)، الذي زُعم أنه ابن كاراكلا وكاهن للإله الشمسي السوري إل-جبعل في إميسا (حمص). وكان إلجابالوس محميًا من قبل جوليا ميسا، جدته من جهة الأم وعمة كاراكلا.
وقد خالف ماكرينوس الحظر الذي فرضه أغسطس على تدخل أعضاء مجلس الشيوخ في شؤون مصر، فعين واليًا سناتوريًا لحكم الإقليم المنهار، الذي لم يعد له قيمة استراتيجية تُذكر بالنسبة للإمبراطورية. وعندما وصل نبأ هزيمة ماكرينوس ومقتله في أنطاكية، اندلعت أعمال شغب عنيفة في الإسكندرية قُتل خلالها السناتور، وطُرد الحاكم الروماني.
وُثق اسم ماكرينوس مرة واحدة فقط في كوم أمبو، ولم ترد أية إشارات إلى إلجابالوس في المصادر المصرية. وقد أثار إلجابالوس استياء الأعراف الرومانية بسلوكه الديني، والجنسي، ومظهره، ما أدى إلى اغتياله على يد الحرس الإمبراطوري بأمر من جدته، لتُعلن تولية سيفيروس ألكسندر (222–235 م) إمبراطورًا.
وباستثناء ذكره في البروتوكولات اليونانية على البرديات، لم يُسجَّل حضور ألكسندر في مصر، وإن كان يُحتمل أنه زار الإسكندرية. ويبدو أن تعيين أحد المتمردين السابقين من الحرس الإمبراطوري ــ المدعو "إيباغاثوس" ــ واليًا لمصر (حوالي 228 م) كان إشارة واضحة إلى مدى تدهور مكانة مصر سياسيًا.
وفي حملة فارس عام 232 م، أظهرت القوات المصرية تمرّدًا مماثلًا، ما عكس حال التدهور في صفوف الفرق العسكرية المقيمة. وبعد هزيمة ألكسندر أمام قبائل الألاماني على نهر الراين، قُتل على يد جنوده، لينتهي بذلك عهد الأسرة السيفيرية ويبدأ عصر من الأباطرة المتنافسين، الذين لم يكن لهم شأن يُذكر في مصر، تمامًا كما لم تكن مصر ذات أهمية بالنسبة لهم.
ماكسيمينوس (235-238م)، جوردان الثالث (238-244م)، فيليب العربي (244-249م)
انتُخب ماكسيمينوس (235-238م) من قبل الجيش في ألمانيا، فواجهه لمدة اثنين وسبعين يومًا في عام 238م المرشحان من مجلس الشيوخ جوردان الأول وابنه جوردان الثاني، ثم خلفاؤهما الإمبراطوران المشاركان بالبلبينوس وبوبيينوس (238م). وقد نجا هذان الأخيران من اغتيال ماكسيمينوس العسكري، إلا أنهما سقطا ضحية لحراس البريتوريان بعد حكم دام تسعة وتسعين يومًا. ثم انتقل العرش إلى الشاب جوردان الثالث (238-244م)، الذي قطع حملته الناجحة ضد شابور الأول ملك إيران بموته المفاجئ، الذي يرجح أنه تم بتحريض من نائبه فيليب العربي (244-249م). وكما أشار ميلن:
"الطريقة الوحيدة التي مارست بها مصر أي تأثير على السياسة الإمبراطورية في ذلك الوقت هو عدم قدرة الحكومة المركزية على تحصيل الإيرادات في المقاطعات الشرقية أجبر فيليب على إبرام السلام مع القوط على نهر الدانوب."
تراجانوس ديسيوس (249-251م)
يظهر الخرطوش الخاص بفيليب بشكل غير بارز على الجدار الخلفي الداخلي لمعبد إسنا، حيث تم استبداله لاحقًا باسم الطاغية العسكري التالي، تراجانوس ديسيوس (249-251م). ويُعد هذا المسح الأخير لاسم إمبراطور في إسنا مثالًا نهائيًا على ظاهرة "الخرطوشات المشطوبة"، وهي سمة تقليدية للنزاعات الأسرية طوال تاريخ الفراعنة.
وعلى النقيض من تناقص رعاية المعابد الإمبراطورية، انتشر المسيحية الريفية بشكل واسع، وهو ما بدأ يظهر بوضوح في عهد سيفيروس. وبرز بطريرك الإسكندرية ديونيسيوس (247-264م) لنشاطه في تجنيد المتحولين من السكان الأصليين، أو "الأقباط". وكانت العبادات التقليدية معقدة ومكلفة وتزداد غموضًا. لقد أضعفت التدخلات الرومانية تمويل المعابد، وقللت من الدور الاجتماعي للكهنة المحليين واللغة الديموطيقية المكتوبة. وبما أن الدين المصري كان يؤكد على حياة أبدية تتوسط فيها شخصية ملكية تجمع بين الإنسانية والإلهية، فإن هذه العقيدة كانت تعزز الحياة. ومع ازدياد صعوبة الحياة في مصر الرومانية وبعد ابتعاد الأباطرة عن الشأن المحلي، فقدت اللاهوتية التقليدية جاذبيتها. ومن اللافت أن الجنة الفرعونية القديمة تحولت في المسيحية القبطية إلى جحيم (Amente). وعندما تُركت المعابد لأسباب اقتصادية أو اجتماعية، حلّت المسيحية مكانها مع وسيط مماثل ولاهوت مبسط ورفض للروابط الدنيوية. ولا تبرز هذه التمييزات أكثر من استشهادات المسيحيين المتحمسين التي يُسعى إليها بنشاط. وأصبح اعتناق المسيحية شكلاً من أشكال الاحتجاج الاجتماعي.
في عهد ديسيوس (250م)، جرت محاولة للحد من تزايد رفض المسيحية، إذ طُلب إثبات تقديم ذبائح للآلهة الجماعية، مشترطًا أن "يقدم كل مواطن ذبيحة ويسكب نذوره ويتذوق لحم الذبيحة." ولا تزال العديد من شهادات الذبيحة (libelli) من مصر محفوظة، وبينما امتثل بعض المسيحيين، أُعدم كثيرون آخرون.
وهددت اضطرابات داخلية وخارجية على حد سواء البلاد. ولأول مرة منذ عهد أغسطس، تعرضت الحدود الجنوبية لمصر لهجمات، حيث قام البلميون الرحل بغارات على منطقة دوديكاشوينوس في النوبة السفلى. وفي كلابشة، يعد نقش يعود لعهد فيليب آخر دليل على الاحتلال الروماني.
في عام 251م، قُتل ديسيوس على يد القوط وتوقفت الاضطهادات المسيحية. وُلد القديس أنطونيوس (حوالي 251-356م)، مؤسس الرهبنة، في نفس الحقبة في قرية قمن العروس على بعد حوالي 75 كم جنوب القاهرة الحديثة. وعلى الرغم من الانطباع العام بالصعوبات الاقتصادية، ازدهرت بعض المناطق في منتصف القرن الثالث. توثق الأرشيف الضخم لهيرونينوس (حوالي 247-270م) من ثيولافيا في الفيوم ممتلكات أفيانوس، التي تعد "أكبر مزرعة خاصة موثقة في الإمبراطورية الرومانية."
تريبونيانوس غالوس (251-253م) وإميليان (253م)
تشهد العملات الإسكندرانية وبروتوكولات الوثائق اليونانية بشكل حصري تقريبًا على العهود المضطربة لتريبونيانوس غالوس (251-253م) وإميليان (253م). وفي السنة الأخيرة لغالوس، سجّل مبعوث مروي إلى روما مهمته في فيلة بأطول نقش ديموطيقي معروف.
فاليريان (253-260م)، جاليانوس (253-268م)
ومع تزايد الغزوات الجرمانية في الغرب والاعتداءات المتجددة من شابور الأول في الشرق، قسم فاليريان (253-260م) الإمبراطورية عمليًا مع ابنه جاليانوس (253-268م)، متوقعًا التقسيم الرسمي الذي حدث لاحقًا في عهد ديوكلتيانوس. ولصرف الأنظار عن الكوارث الخارجية، أعاد فاليريان اضطهاد المسيحيين، مطالبًا بتقديم الذبائح ومصرحًا بمصادرة ممتلكات رجال الدين.
وفي حين وصّفته الكنيسة المسيحية بالشيطان، يظهر فاليريان في أرمنت كفرعون أصيل، يرعى دفن بوكيس، الثور المقدس المقيم في طيبة. ويعد أسر فاليريان على يد شابور في 260م أدنى نقطة في تاريخ الإمبراطورية الرومانية، والتي تميزت فيما بعد بـ "عام الثلاثين إمبراطورًا"، وهو تقدير مبالغ فيه إلى حد ما.
وفي سوريا، أعلن الجيش ماكريانوس وكوييتوس (260-261م) إمبراطورين، واللذان اعترف بهما في مصر حتى قفط. وبعد هزيمتهما، أجبر الحشد الإسكندراني الحاكم أميليانوس على قبول أوسمة إمبراطورية. وتمكن أميليانوس من صد غارات البلميون التي امتدت الآن من النوبة السفلى إلى طيبة. وفي أغسطس 262م، هُزم على يد قوات جاليانوس في معارك شوارع دامية عبر الإسكندرية، دمرت المدينة وخفضت سكانها بنحو ثلثي عددهم.
كلوديوس الغوطيسي (268-270م)، وكوينتيلوس (270م)، وأوريليان (270-275م)
بعد اغتيال جاليانوس، شكلت عهود كل من كلوديوس الغوطيسي (268-270م)، وكوينتيلوس (270م)، وأوريليان (270-275م) فترة صراع على مصر بين روما وزينوبيا، ملكة دولة تدمر المتمردة. أعلن ابن زينوبيا فابالاتوس حكمه المشترك في الشرق تحت سلطة أوريليان، لكن تدمر أعلنت استقلالها في 271م واحتفظت بمصر معظم ذلك العام قبل أن يستعيدها الجنرال الروماني والمستقبل الإمبراطور بروبس. وثارت تدمر والإسكندرية مجددًا في 272م، بدعم من فيرموس، تاجر إسكندراني ثري له علاقات اقتصادية مع البلميون.
وبعد سحق تدمر، حاصر أوريليان الإسكندرية وأجبر فيرموس على الانتحار. واحتفاءً بهذا، قدمت أوكسيرينخوس تمثالًا ذهبيًا للنصر للإمبراطور.
عهد تاكيتوس (275-276م)، أخيه فلوريان (276م)، بروبس (276-282م)
لم يُذكر عهد تاكيتوس (275-276م) في مصر، وكانت ترقية أخيه فلوريان (276م) محل نزاع ناجح من قبل بروبس (276-282م)، الذي دعمته الفيلق المصري. واستمر غزاة البلميون في تهديد صعيد مصر، وامتد نفوذهم شمالاً حتى قفط وبطلمايس قبل أن يُهزموا على يد بروبس. ثم أُسند إلى الفيلق الروماني المنتصر مهمة إصلاح السدود، وهو عمل مهين يعكس تدهور البنية التحتية المحلية الذي استمر بلا توقف في عهد كاروس (282-283م)، وكارينوس (283-285م) ونوميريان (283-284م).
ديوكلتيانوس (284-305م)
أول إعادة تنظيم منهجية جرت على يد ديوكلتيانوس (284-305م)، الذي حول الإمبراطورية عام 293م إلى "التتراركية" تحت حكم اثنين من الأوغسطوس (ديوكلتيانوس في الشرق، وماكسيميانيانوس في الغرب) بمساعدة اثنين من القيصرات (غاليريوس وكونستانتيوس كلوروس على التوالي). قُسمت المقاطعات في أنحاء الإمبراطورية بحيث تضاعف عددها، وتم تجميع هذه الوحدات الأصغر ضمن ثلاثة عشر إقليمًا (ديوسيز) تحت حكّام نائبين (فيكاريوس)، مع منح السيطرة الرئيسية لأربعة مفوضين بريتوريين، كل منهم يخضع لأحد التتراركيين. وفي مصر، أصبحت طيبة (الثبايد) مقاطعة مستقلة. استمر هذا التقسيم الإداري في القرنين الرابع والخامس، فيما أعيد توحيد مصر كديوسية تتكون من ست مقاطعات حوالي عام 371م. وبوجود مقاطعات أصغر، فقدت النومات التقليدية أهميتها الإدارية، وبحلول 308م حلت وحدات فرعية جديدة تسمى "باجي" محلها.
كما جرت محاولة لإصلاح مالي واسع النطاق. ففي مسعى لمكافحة التضخم، أصدر ديوكلتيانوس قرارًا بوضع حدود قصوى للأسعار والرواتب في أنحاء الإمبراطورية، كما جُدّد نظام الضرائب ليأخذ في الاعتبار اختلافات التربة والمحاصيل. وُضع النظام الضريبي الجديد في مصر عام 297م، وكان له معدل متغير يُحدد سنويًا، "أول ميزانية في تاريخ المالية." بعد إصلاحات ديوكلتيانوس، فقدت مصر الكثير من الخصائص الفريدة التي احتفظت بها منذ عهد أغسطس. ولأول مرة في مصر الرومانية، قُسمت السلطة بين مسؤول مدني (برايزس) وحاكم عسكري (دوكس)، وأُدمجت العملة المصرية ضمن النظام الإمبراطوري الأوسع. ومع ذلك، ظلت مصر مضطربة، ففي عام 293م، وفي أثناء اقتراح ديوكلتيانوس لإصلاحاته، ثارت قفط ودُمّرت على يد غاليريوس، قيصر الشرق الجديد.
تبع ذلك تمرد في الإسكندرية (297-298م) بزعامة لوسيوس دوميتيوس دوميتانوس ونائبه أخيلوس، وأشرف ديوكلتيانوس شخصيًا على حصار المدينة لمدة ثمانية أشهر. واحتُفل بانتهاء التمرد بنصب العمود المعروف خطأً اليوم بـ"عمود بومبي"، والذي كان يحمل في الأصل تمثالًا للفارس الإمبراطوري. استمرت زيارة ديوكلتيانوس بتفقد معبر فيلة الحدودي الجنوبي، حيث شُيدت بوابة دفاعية باسمه. وباعتراف روما بعدم قدرتها على القضاء على غارات البلميين في النوبة السفلى، انسحب ديوكلتيانوس رسميًا من منطقة دوديكاشوينوس، مثبتًا الحدود الجديدة عند أسوان. وسُلمت الأراضي المفقودة، مصحوبة بدفع إعانات سنوية، لقبيلة النوبيين كحاجز ضد المزيد من الغزوات البلمية. ويُحتفظ بسجل لزيارة الإمبراطور، وكشف عن ضعف تحضيرات الإدارة المحلية، في بردية من بانوبوليس تعود إلى عام 298م.
في 302م عاد ديوكلتيانوس إلى مصر. وفي آخر زيارة لإمبراطور متسلط، وزع الخبز المجاني على سكان الإسكندرية وانتقد بشدة الدين الغريب المانوي. وفي العام التالي، وأثار خوفه من الطوائف المتمردة أعنف هجوم ضد المسيحية بعد توقف دام حوالي أربعين عامًا. وعُرفت هذه الحملة في المصادر المسيحية بـ"الاضطهاد العظيم"، وكان تطهير المسيحيين في مصر شديد العنف تحت الحكام سوسيانوس هيروكليس (310م) الذي أشار إليه يوسابيوس، وساتريوس أريانوس (304-307م)، الذي صور كشرير في العديد من شهادات الاستشهاد القبطية. قد تكون تقديرات الكنيسة القبطية لعدد الشهداء بين 144,000 و800,000 مبالغًا فيها، لكنها توضح بجلاء شدة الاضطهاد. ومن القرن السادس وحتى اليوم، بدأ التقويم القبطي يُحسب من "عصر الشهداء"، والذي يُحتسب بأثر رجعي ابتداءً من تولي ديوكلتيانوس الحكم عام 284م، وليس من ميلاد المسيح. على النقيض من ذلك، نال ديوكلتيانوس تكريمات فرعونية كاملة في أرمنت على لوحة بوكيس عام 295م، وفي الأعوام التالية استُخدم "عصر ديوكلتيانوس" بشكل مصطنع باحترام لتجنب ذكر الأباطرة المسيحيين. بعد تنحي ديوكلتيانوس وماكسيميانيان عام 305م، استمر الاضطهاد بلا هوادة حتى صدر أمر بالتسامح الديني من غاليريوس (305-311م).
بعد جيل واحد، انهارت التتراركية الهشة بسرعة بسبب الصراعات الشخصية في الغرب والشرق. ففي إيطاليا، أطاح ماكسنتيوس بزواره الثاني كأوغسطوس في 307م، قبل أن يُهزم هو نفسه على يد "قيصر" قسطنطين في معركة جسر ميلفيان الشهيرة عام 312م. تحدى ماكسيمين دايا (310-313م)، الذي كان قيصر الشرق من 305 إلى 310م، منصب الأوغسطوس مع ليكينيوس (308-324م)، زميله العسكري وابن غاليريوس الراحل. حكم ماكسيمين من مصر حتى آسيا الصغرى، وشجع بشدة العبادات التقليدية في الشرق، فأنشأ هرمية جديدة للكهنوت الوثني تحت رؤساء كهنة إقليميين. ورغم افتراض أن هذا الإصلاح الكهنوتي استُلهم من الممارسة المسيحية، لوحظ تأثير مصري قوي في دور الكاهنات واشتراط أن تكون الأزياء الكهنوتية من الكتان الأبيض. ويُتوقع مثل هذا التأثير المصري في الدفاع الوثني الأوسع، إذ سيطر رجال الدين الأصليون تدريجيًا على المدارس الفلسفية الإسكندرانية "اليونانية"، منتجين "الجسد الهيرمي" الهجين من التكهن النظري ومجموعات السحر التطبيقي.
كونه آخر أباطرة الشرق عدائية تجاه الوثنية، يُعد ماكسيمين دايا أيضًا آخر إمبراطور يُعترف به رسميًا في النصوص الهيروغليفية. في موقع طهطا في مصر الوسطى، تحتفظ كتل من معبد متهدم بخراطيشه إلى جانب مشهد تقديم مقتطع. وبحمله لقب فاليريوس ماكسي (مينوس) قيصر، يُعتقد أن هذه الكتل تعود للفترة 305-310م قبل إعلان ماكسيمين أوغسطوس، لكن النصوص الهيروغليفية لا تلتزم بدقة بالفروق اللقبية في التتراركية. وتُؤرخ لوحة في أبردين (رقم 1619) تسجل دفن أم بوكيس في أرمنت إلى السنة الثامنة لقيصر ماكسيمين، أي قبل عامه الأخير كأوغسطوس (311/312م).
في 313م عبر ماكسيمين بجيشه إلى تراس، لكنه هُزم على يد ليكينيوس في تزارالوم قرب نهر إيرغن. وتراجع إلى طرطوس حيث مرض وتوفي، مسلّمًا السلطة لأول إمبراطور مؤيد للمسيحية في الشرق. وفي نفس العام، أصدر قسطنطين في الغرب مرسوم ميلانو الذي منح التسامح الديني للمسيحيين والوثنيين، واتبعه ليكينيوس بنفس السياسة في الصيف.
بالنسبة للمسيحية المصرية، يُعتبر عام 313م عامًا مهمًا إذ شهد معمودية باخوميوس (حوالي 292-346م)، الجندي السابق الذي وضع أول قواعد رهبانية تعاونية في قرية تابنسي المهجورة، والتي كانت موقعًا سابقًا لعبادة الإلهة إيزيس.
عهد ليكينيوس في مصر (313-324م)، رغم طوله النسبي، موثق بشكل ضئيل. خلال حكمه بدأ استخدام "عصر ديوكلتيانوس" في تواريخ ثور بوكيس المولود عام 316/317م ("السنة 33 لديوكلتيانوس") والمتوّج عام 322/323م ("السنة 39 لديوكلتيانوس"). لقد فشلت استراتيجية ديوكلتيانوس في النوبة، واستؤنفت غارات البلميين بحيث تعرّض دير تابنسي للمضايقات بين 323 و346م. ويقال إن ليكينيوس انقلب ضد رجال الدين المسيحيين بإجراءات مقيدة في 320 و321م، وأدت العلاقات المتدهورة مع قسطنطين إلى نشوب عداء مفتوح منذ 316م. وبعد هزيمته على يد قسطنطين عام 324م، أُسر ليكينيوس وأُعدم.
قسطنطين (324-337م)
في عهد قسطنطين كإمبراطور وحيد (324-337م)، اقترب تحول الإمبراطورية "الرومانية" إلى "البيزنطية" من الاكتمال. استمرت وأُوسعت الإصلاحات الجذرية في الجيش والمالية والإدارة التي بدأها ديوكلتيانوس، واشتدت الانقسامات بين الشرق والغرب. تم إدخال نظام ضريبي جديد في 313م يعتمد على دورات ضريبية مدتها خمسة عشر عامًا تُسمى "الإندكشنات"، وتحسب بأثر رجعي ابتداءً من 312م. وفي 331م، نقل الإمبراطور العاصمة الإمبراطورية رسميًا من روما إلى القسطنطينية، مدينة بيزنطة السابقة على البوسفور، وتحولت الأوجسطية اللاتينية التي أسسها أغسطس إلى إمبراطورية تزداد يونانية. والأهم أن إمبراطورية قسطنطين أصبحت أكثر ميلاً للمسيحية، رغم أن الإمبراطور نفسه لم يُعمّد إلا قبل أسبوع واحد من وفاته.
في عام 325، بعد وقت قصير من توليه الحكم كإمبراطور وحيد، تصدّى قسطنطين لدور الحكم في مجمع نيقية الذي عُقد لتقرير ألوهية المسيح. وقد يكون السبب في عدم قيام الإمبراطور بالزيارة المخططة إلى مصر هو انعقاد هذا المجمع، كما تشير نصوص من أوكسيرنخوس تتناول الاستعدادات لاستقبال إمبراطوري. حضر المجمع 220 أسقفًا، وأصدر قانون نيقية، الذي أنصف أثناسيوس الإسكندري ضد "الهرطوقي" آريوس، الذي أنكر أن المسيح "متماثل الجوهر مع الآب." وأدى رفض أثناسيوس لاحقًا إعادة إدخال الآريوس المُهين إلى خلاف مع قسطنطين، تفاقم بفعل تقارير تفيد بأن أثناسيوس تجرّأ على فرض ضرائب لصالح كنيسته. ونفي الأسقف الإسكندري عام 335، المرتبط بثورة قادها فيلومينوس، وضع نموذجًا للعداء الذي سيهيمن على علاقات الكنيسة بالدولة في مصر طوال فترة الاحتلال البيزنطي. تم طرد أثناسيوس من كرسيه خمس مرات قبل وفاته عام 373. وزادت حرصه على الأرثوذكسية من تعميق الانشقاق الميليتياني المحلي، الذي كان يتعلق بإعادة تأهيل المسيحيين الذين تنازلوا عن إيمانهم خلال الاضطهادات السابقة.
على الرغم من الصراعات العقائدية الجديدة، توسع الرهبانية المصرية بدعم رسمي، ففي عام 330 أسس مكاريوس "العظيم" مجمع الأديرة الذي لا يزال قائمًا في وادي النطرون. وبناءً على دراسات الأسماء، اعتُبر عام 330 عامًا مفصليًا في مصر، حيث بلغت نسبة المسيحيين نحو 50٪ من السكان، وارتفعت إلى 80 أو 90٪ بحلول نهاية القرن. ومع ذلك، يبدو هذا التقدير مبالغًا فيه، فهناك إحصائيات أخرى تشير إلى أن نسبة التحول إلى المسيحية لم تتجاوز 25٪ بحلول 350، و50٪ بحلول 388.
رغم النمو السريع للمسيحية في عهد قسطنطين، استمرت مراكز الوثنية في الإسكندرية والريف المصري. فقدت طيبة مكانتها لصالح بانوبوليس، مسقط رأس الفيلسوف زوسيموس (حوالي عام 300) وعدة عائلات كهنوتية بارزة. وتعكس تعقيدات الفترة مصير عائلة أورليوس بيتاربشينيس البانوبوليتية، حيث كان الابن الأكبر أورليوس هوريون رئيس كهنة الإله المحلي المن ذي العضو التناسلي البارز، في حين كان شقيقه هاربوقراتيون خطيب البلاط الإمبراطوري في القسطنطينية.
قسطنطيوس (337-361)
كان قسطنطيوس (337-361)، ابن وخليفة قسطنطين في الشرق، متبعًا متعصبًا للآرية، وسيطرت خلافاته المتكررة مع أثناسيوس على سياسة الإمبراطورية تجاه مصر. وأثرت آراؤه الدينية المتشددة سلبًا على إرث مصر ما قبل المسيحية. ففي أرمنت دُفن ثور بوكيس الذي وُلد في عهد ليكينيوس غير المعترف به عام 340، في "السنة 57 لديوكلتيانوس"، وهو آخر خراطيش ملكية محفوظة، وأيضًا آخر دفن لثور بوكيس. وبعد ذلك، تعرضت السراديب للنهب وتم "طرد الأرواح الشريرة" من هذه اللوحة بإضافة ثلاثة صلبان حمراء مرسومة واسم يسوع المسيح المتكرر. ومن المرجح أن هذه التصرفات تعود لفترة حظر العبادة الوثنية تحت ثيودوسيوس الأول، لكن في عهد قسطنطيوس عام 341، تحولت التسامح الرسمي مع المسيحية إلى اضطهاد رسمي للأديان التقليدية: "لتنتهِ الخرافات، ولتبطل جنون القرابين." ومنذ 353، صدرت سلسلة من المراسيم الإمبراطورية التي أدت إلى حظر الاحتفالات الطقسية وإغلاق المعابد بالقوة. وفي 359، تنبأ عراف الإله بس في أبيدوس بنهاية عهد قسطنطيوس، فأصدر الأخير قرارًا بإلغاء العرافات في أنحاء الإمبراطورية، لكنه فشل في ذلك. وتوفي بعد عامين وهو في حملة ضد ابن عمه المتمرد جوليان.
جوليان العرش (361-363)، جوفيان القصير (363-364)، الإمبراطور فالنس (364-378)
عند اعتلاء جوليان العرش (361-363)، استعادت الوثنية الدعم الرسمي من البلاط الإمبراطوري. في مصر، استغلت الحشود الإسكندرانية هذه المناسبة لقتل الأسقف الآريوسي جورج، الذي فرضته المدينة عليه قسطنطيوس عام 357. وحاول جوليان في أنحاء الإمبراطورية الدفاع عن المعابد المتدهورة وإعادة تأهيلها. وُجهت تهمة النهب إلى القائد العسكري أرتيميوس الذي استولى على سيرابيوم الإسكندرية، فأُعيد إلى البلاط وأُعدم. نُفي أثناسيوس حينها ليس فقط من الإسكندرية، بل من مصر كلها، فانسحب إلى الثبايد حتى وفاة جوليان أثناء حملته على الفرس.
سمح عهد جوفيان القصير (363-364) بعودة أثناسيوس الذي احتفظ بمقعده رغم تولي الإمبراطور الآريوسي فالنس (364-378)، المؤسس المشارك لسلالة فالنتينيان. وبخلاف سلفه، سُجن الأسقف التالي، بطرس، وحُل محله بآريوسي. تفاقمت الانشقاقات إثر محاولة تجنيد الرهبان عسكريًا. ومن بين الرهبان الجدد في 370/371 كان شنودة الأتريبى (حوالي 348-466)، الذي أصبح فيما بعد رئيس دير الأبيض في سوهاج، وأحد أبرز أساتذة اللغة القبطية المتعصبين. وفي 373، سجل نقش ديموطيقي في معبد فيلة ("السنة 90 لديوكلتيانوس") غارة البلميين على واحة الخارجة. وربما بدعم من الشابور الثاني الفارسي، قام كل من البلميين والسراسين بغارات على الأديرة في سيناء في نفس العام. واغتيل فالنس خلال فراره من هجوم الجيش الرومي على يد الفيسغوث في تراس.
ثيودوسيوس الأول (379-395)
أعلن ثيودوسيوس الأول (379-395) في 380 أن الإيمان النيقوي الذي أيدته الإسكندرية وروما هو الدين الحقيقي الوحيد، منهياً بذلك الدعم الإمبراطوري للآرية التي انتشرت بين القبائل الجرمانية في الغرب. وقاد الإمبراطور حملات ضد "الهرطقات" المختلفة، ودعمها في الإسكندرية البطريرك ثيوفيلوس (385-412). في 24 فبراير 391، أصدر ثيودوسيوس مرسومًا من ميلانو موجهًا إلى روما يحظر بشكل مفاجئ كل أشكال الوثنية في الإمبراطورية. وفي 16 يونيو صدر مرسوم ثانٍ موجه خصيصًا إلى الإسكندرية ومصر.
وفي فعل استفزازي، حاول ثيوفيلوس تحويل معبد محلي إلى كنيسة. اكتُشفت آثار مقدسة وعُرضت في الشوارع، مما أثار أعمال شغب بين المسيحيين والوثنيين. ثم نهب ثيوفيلوس سيرابيوم الإسكندرية المرموق، الذي لجأ إليه الوثنيون بقيادة الفيلسوف أوليمبيوس. ونهب أيضًا سيرابيوم ضواحي كانوبوس (أبو قير)، واستقر الرهبان بين أنقاضه. ورُويت لاحقًا في الأساطير القبطية قصصًا تبرز قدرة الأسقف على استخراج الذهب من المعابد المدمرة. وفي النهاية، حُول سيرابيوم إلى كنيسة القديس يوحنا المعمدان، وأصبح معبد كانوبوس كنيسة القديسين كيرلس ويوحنا. وتعرضت المعابد القديمة في أنحاء مصر لنفس المصير، ولا تزال بقايا الكنائس المتداخلة واضحة في دندرة، إيسنا، الأقصر، مدينتي حابو وأماكن أخرى. وقد أُقرّت هذه السياسة رسميًا من قبل شنودة، وتُشاد بها في الأساطير القبطية: «هكذا في موقع معبد لروح نجسة، سيصبح من الآن فصاعدًا معبدًا للروح القدس. وإذا كانت فيه سابقًا وصفات لقتل روح الإنسان... الكلاب والقطط، التماسيح والضفادع، الثعالب، الزواحف الأخرى، الوحوش والطيور، المواشي... فإن ما سيكون فيه من الآن فصاعدًا هو كتب الخلاص والروح.»
في الصيف الذي تلا تفكيك سيرابيوم، شهد النيل فيضانًا استثنائيًا، ونتيجة لهذه البركة المعتبرة، حدثت أعداد كبيرة من التحولات الدينية. هرب العديد من مفكري الإسكندرية الوثنيين، منهم أمونيوس "كاهن القرد (تحوت)" والشاعر كلوديان الذي تحمل أعماله طابع اللاهوت المحلي. وعلى الرغم من الحظر، لم تمت الوثنية تمامًا بعد. ففي 24 أغسطس 394، نُقشت آخر كتابة هيروغليفية مؤرخة في معبد الحدود في فيلة، تسجل عيد ميلاد أوزوريس في السنة 110 لديوكلتيانوس.
أركاديوس (395-408)، عهد ثيودوسيوس الثاني (408-450)
أركاديوس (395-408)، الابن الأكبر لثيودوسيوس، رسّخ التمييز بين الإمبراطوريتين الشرقية والغربية، ويُعتبر غالبًا أول إمبراطور بيزنطي حقيقي. واستمر العبادة التقليدية في فيلة دون انقطاع، كما يتضح من نقش ديموطيقي في السنة 124 لديوكلتيانوس (407/408) يخلّد عبادة "رئيس أسرار إيزيس."
سادت في عهد ثيودوسيوس الثاني (408-450) صراعات عقائدية جديدة بين كيرلس "العظيم" من الإسكندرية والبابا نسطوريوس، الذي أنكر لمريم لقب "ثيوتوكوس" أو "والدة الإله". وبفضل مهارات كيرلس الخطابية ودعم شنودة ورهبانه، أُدان نسطوريوس في مجمع أفسس عام 431 ونُفي إلى واحة الخارجة عام 435، حيث توفي بعد 451، بعد أن نجا من أسر أثناء غارات البلميين التي دفعت 20,000 لاجئ إلى دير شنودة الأبيض. ومن أبرز الأحداث القبطية كان النزاع "المونوفيزي" في مجمع أفسس الثاني عام 449، الذي شكل ساحة لصراع سياسي بين الإسكندرية وروما والقسطنطينية. وكان البطريرك فلاؤين القسطنطيني قد بدأ اتهامات ضد رئيس دير محلي يدعى يوتيكوس، الذي تدعمه الإسكندرية بقيادة البطريرك ديوسكوروس الأول (444-454/58)، وحقق نصراً ضد اعتراضات البابا ليو المرسلة متأخرًا. وكان هذا ذروة التأثير اللاهوتي للإسكندرية، إذ رفضته روما والقسطنطينية في العهد التالي.
وقعت شحنات غضب عارمة على الوثنيين البارزين أيضًا. ففي 415، جُرّدت الفيلسوفة هيباتيا عارية في شوارع الإسكندرية قبل أن تُقتل على يد حشد من الرهبان في كنيسة القديس ميخائيل، مقر البطريرك الرسمي. واستمرت الفلسفة الوثنية تحت إشراف العالم البانوبولي هورابولو الأكبر (حوالي 408-450) وأحفاده أسكليبيادس، هيرايكسكوس (كلاهما حوالي 425-490) وهورابولو الأصغر (حوالي 450-500).
في نقش ديموطيقي في فيلة عام 435 (السنة 152 لديوكلتيانوس)، وثق أحد الكهنة المصريين المعروفين، إسمت الأكبر، أول نبي لإيزيس، دوره كـ"كاتب الكتب الإلهية." وكان من رعايا الأديان القديمة البلميون والنوبيون، الذين سجلت أفعالهم العسكرية بلغتهم اليونانية "الهمجية". في معبد كلابشة، ترك سيلكو، ملك النوبيين، مشهد نصر ونصًا، بينما تحفظ رسالة من قصر إبرم تصريحات ملك البلميين فونين إلى أبورني، ملك النوبيين. ورغم كون البلميين أعداء للمسيحيين، فقد رُسموا كبطولة لدى التقليديين. زارهم أوليمبيودوروس من طيبة وكتب عن تجاربه السارة (حوالي 425)، واحتلت حياة الرُحّل موضوع ملحمة متقطعة في أواخر القرن الخامس.
ماركيان (450-457)
اتخذ الإمبراطور ماركيان (450-457) قرارين حاسمين لتاريخ مصر عام 451. إذ أُبرم معاهدة سلام مع البلميين، سمحت لهم بالوصول السنوي إلى معبد فيلة وحق استعارة تمثال العبادة للمواكب النبوية. وهكذا نجى فيلة من دمار التحول الديني لما يقرب من قرن. وقد عُقد مجمع خلقيدونية ردًا على مجمع أفسس الثاني، وأدين فيه ديوسكوروس ونُفي، مما ضمن انشقاقًا دائمًا مع الكنيسة القبطية مستمرًا حتى اليوم. وأدت الخلافات بين منتصري المجمع إلى مزيد من الانقسام بين روما والقسطنطينية بعد 33 عامًا فقط. في 452، نُقشت آخر كتابات ديموطيقية مؤرخة في فيلة. وفي 2 ديسمبر من "السنة 169 لديوكلتيانوس"، سجل إسمت الأكبر وشريكه الأصغر الذي يحمل الاسم ذاته استمرارهما في الخدمة في المعبد، ربما وقت زيارة البلميين. وفي 11 ديسمبر نُقشت الكتابة الديموطيقية الأخيرة، وسمّت "أقدام بيتيناخت الأصغر" الذي حضر الاحتفالات. وربما استمر معرفة الديموطيقية لفترة أطول، كما تشير حيوات القديسين التي تخص أسقف القرن السابع بيسنتيوس من قفط، حيث رويت معجزة "العجيبة الثانية والثلاثون" التي تضمنت قراءة لفافة جنائزية قديمة قبل محادثته مع مومياء أعيد إحياؤها. وتُروى قصة ديموطيقية عن سيتا الأول وُجدت في قبر مسيحي قبطي.
ليو الأول (457-474)، ليو وزينو (474-491)
عند تولي ليو الأول (457-474) العرش، مزّق حشد الإسكندرية الأسقف المفروض من البلاط، بروتريوس، الخليفة المكروه لديوقسوروس. ووفقًا للنمط المألوف في الكنيسة القبطية، تم اختيار بطريرك جديد من بين الرهبان. رفض ليو وزينو (474-491) تيموثاوس "القط"، مما استمر في التباعد الإمبراطوري مع الإسكندرية، الذي أُصلح لفترة وجيزة في فترة حكم الباسيليسكوس المونوفيزي (475-476). عاد زينو إلى السلطة عام 476 مع سقوط الإمبراطورية الغربية على يد الجرماني أودواكر. وفي 482، حاول زينو المصالحة بإصدار "الهينوتيكون"، الذي رفض كلًا من خلقيدونية وتعاليم يوتيكوس. واعتُبر هذا المرسوم إهانة للسلطة البابوية، فقام البابا بفرض الحظر على الإمبراطور البيزنطي عام 484. وفي نفس العام، قاد تمرد جديد ضد زينو الجنرال إيلوس، ما تورطت فيه نخبة المثقفين الوطنيين في الإسكندرية، مما أدى إلى استجواب هيرايكسكوس وهورابولو الأصغر، المحتمل كاتب "الهيروغليفية"، وهو بحث في الرمزية الهيروغليفية.
أناستاسيوس (491-518)، جستين الأول (518-527)، عهد جستينيان (527-565)
في عهد أناستاسيوس (491-518)، غزا الفرس الدلتا، لكنهم لم يتمكنوا من احتلال الإسكندرية فانسحبوا. وانتهى حكم الوثنيين على الجامعة الإسكندرانية عام 517 عندما تولى جون فيلوبونوس قيادتها. واستؤنفت غارات البلميين على صعيد مصر واستمرت في عهد جستين الأول (518-527). في 540، في عهد جستينيان (527-565)، تحوّل النوبيون إلى المسيحية في صراع بين مبشري الإمبراطور وزوجته المونوفيزية ثيودورا. وانضم النوبيون إلى الجيش البيزنطي في سحق قوة البلميين. وفي 543، أرسل جستينيان نارسيس الأرمني لإغلاق معبد فيلة، وسجن كهنته، ونقل التماثيل الإلهية إلى القسطنطينية. وأُعيد تكريس آخر معقل للدين المصري ككنيسة، بواسطة حيلة وفقًا للأسطورة القبطية. وحتى عام 552، عُثر على مواطن من أمبوس (كوم أمبو) وهو يصلح الأضرحة للبلميين.
جوستين الثاني (565-578)، تيبريوس الثاني (578-582)، موريس (582-602)، فوكس (602-610) أو هيراكليوس (610-641)
من منظور مصر التقليدية، لا حاجة للكثير من الكلام عن فترات حكم جوستين الثاني (565-578)، تيبريوس الثاني (578-582)، موريس (582-602)، فوكس (602-610) أو هيراكليوس (610-641) التي اتسمت بالفوضى. ففي عام 577، أعيد تحصين فيلة ضد البلميين، وأدى انتشار قطاع الطرق الداخلي إلى قطع إمدادات الحبوب إلى الإسكندرية في عهد موريس، وعادت الحروب إلى مصر عام 609 مع ثورة هيراكليوس ضد فوكس. في السنة السابعة من حكم هيراكليوس (616)، نجح الفرس في غزو مصر واحتلّوها لحوالي عشر سنوات. وعند عودة هيراكليوس في 627، أشعلت الخلافات العقائدية القديمة التي ربما شجعت القبط على القبول أو الامتثال أثناء الفتح العربي الذي قاده عمرو بن العاص في الفترة من 640 إلى 642. وينسب إلى هذا الأخير التدمير النهائي لما تبقى من مكتبة الإسكندرية.
بعد الفتح، استمر الإرث المصري القديم عبر الوسائط الفنية القبطية، والمعتقدات الأخروية، والفلكلور، وبخاصة اللغة القبطية التي ظلت مهيمنة على معظم البيئات المحلية حتى بعد عام 705، عندما فرض الوالي الأموي عبد الله بن عبد الملك استخدام العربية في كل الشؤون الحكومية. وظلت اللغة القبطية، كوسيلة للنصوص الأدبية والوثائقية، مستخدمة حتى القرن الرابع عشر. وفي رمزية الكنيسة القبطية الحديثة، لا تزال ملامح مصر القديمة حية.
#ابرام_لويس_حنا (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرد على الدحيح (الجزء الثاني) (الاحتلال البطلمي لمصر) وهل ا
...
-
الرد على حلقة الدحيح، الجزء الأول، (الاستعمار الفارسي الأخمي
...
-
(المُخلص الإمبراطوري) رداً على (المُخلص اليهودي المصري)
-
كيف نشأت الحركة المسيحية الخلاصية !!
-
الترجمة الكاملة لأعمال أغسطس (نقش أنقرة Monumentum Ancyranum
...
-
كليوباترا السابعة في مواجهة تشويه الدعاية الإمبراطورية
-
الجذر المصري للألفاظ السامية (عبد، الأبد، إبادة، أبهة)
-
الأصل المصري للكلمات السامية (واد، وَدَّأَ، وَأد، وطّأ، وطى،
...
-
آشور لم تنتصر (كشف زيف الاحتلال الآشوري لمصر)
-
الأصل المصري لمدينة (تِمْنة حارس) التوراتية
-
الرد التطوري العلمي على المزاعم حول الأعضاء الأثرية؛ هل ضرس
...
-
الرد التطوري العلمي على المزاعم حول الأعضاء الأثرية؛ هل عضلا
...
-
الرد التطوري العلمي على المزاعم حول الأعضاء الأثرية؛ هل حلما
...
-
نص العهد القديم، مدخل إلى الكتاب العبري (الجزء الأول)
-
رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا (الجزء العشر
...
-
رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا (الجزء التاس
...
-
رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا (الجزء الثام
...
-
رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا (السابع عشر
...
-
رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا (الجزء الساد
...
-
رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا (الجزء الخام
...
المزيد.....
-
من شركة محلية إلى صيحة عالمية.. كيف أصبحت -Jet2 Holidays- ظا
...
-
شاهد.. تسجيل صادم يكشف آخر ما قاله مراهق يشتبه بقتله والديه
...
-
الجاكيت الرجالي بإطلالات المشاهير العرب.. قصّات مبتكرة وألوا
...
-
اجتماع مرتقب للكابينت لبحث السيطرة على غزة.. كاتس: على رئيس
...
-
وزارة الداخلية السورية تعلن إحباط -مخطط إرهابي- لتفجير كنيسة
...
-
عودة طيور الفلامنغو إلى بحيرة فان في شرق تركيا خلال الهجرة ا
...
-
في منطقة البقاع.. إسرائيل تعلن استهداف -قيادي- في حزب الله
...
-
يحيى السنوار يثير عاصفة جدل في جناح ولادة بمستشفى ألماني.. ك
...
-
قمة مرتقبة في واشنطن بين أرمينيا وأذربيجان.. هل تُنهي عقوداً
...
-
حريق -ضخم- يلتهم أكثر من 11 ألف هكتار في إقليم أود جنوب فرنس
...
المزيد.....
-
السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية)
/ رحيم فرحان صدام
-
كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون
/ زهير الخويلدي
-
كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية
/ رحيم فرحان صدام
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
المزيد.....
|