ابرام لويس حنا
الحوار المتمدن-العدد: 8348 - 2025 / 5 / 20 - 12:18
المحور:
الطب , والعلوم
الملخص: يهدف هذا المقال إلى الرد على الادعاءات الشائعة التي تزعم أن بعض الأعضاء في جسم الإنسان (مثل عضلات الأذن، نتوء دارون، الجهاز الدهليزي، والثنية الهلالية في العين) لا يمكن تفسيرها إلا عبر التصميم الذكي، وأن وصفها كأعضاء أثرية يفتقر إلى الأساس العلمي. نعتمد في هذا الرد على أحدث الأدلة البيولوجية والوراثية والتشريحية المنشورة في الدوريات العلمية والموسوعات الموثوقة.
مقدمة:
لطالما كانت "الأعضاء الأثرية" (Vestigial Organs) مثار جدل في النقاشات حول نظرية التطور، حيث تُستخدم غالبًا من قِبل معارضي التطور كدليل على وجود "تصميم ذكي". لكن التقدم العلمي الحديث، خاصة في علم الوراثة والوظائف الفيزيولوجية، أظهر أن هذه الأعضاء قد تكون ذات وظائف حيوية حالية أو أن تراجعها هو جزء من التغير التطوري وليس دليلاً ضده.
تشير الأبحاث العلمية الحديثة إلى أن كثيرًا من أعضاء الجسم البشري هي آثار لعضلات وأعضاء كانت لها وظائف محددة في أسلافنا، لكنها فقدت هذه الوظائف أو تغيرت عبر التطور يُطلق عليها مصطلح “vestigial structures” أو الأعضاء الأثرية، وهي في الأصل أداة لتتبع التاريخ التطوري للكائنات الحية. فقد أثبتت الموسوعات العلمية وجود أكثر من مئة عضو أثري في جسم الإنسان (مثل الزائدة الدودية والعصعص والأضلاع الزائدة والأسنان العقلية، وعضلات الأذن الخارجية وغيرها) وتوضح الأدلة الحديثة أن هذه الهياكل غالبًا ما تحتفظ بوظائف ثانوية بسيطة، أو قد تتحوّل لاستخدامات جديدة تُعرف بظاهرة التطور الثانوي (exaptation). فعلى سبيل المثال، أشار داروين نفسه إلى أن العضو الذي فقد وظيفته الأصلية قد يتولاها وظيفة جديدة كليًّا. وبعبارة أخرى، إن وجود وظيفة ما – حتى لو كانت ثانوية أو بسيطة – لا ينفي أن الأصل التطوري للعضو يعود إلى أشكال سابقة من الكائنات. وعلى النقيض من الادعاء القائل بأن وجود وظيفة دليل على الخلق الخاص، فإن التطور يفترض إمكانية إعادة توظيف أو تعديل الأعضاء تدريجيًّا، الأمر الذي يؤكده كل من داروين والنظريات الوراثية المعاصرة.
أولاً: عضلات الأذن الخارجية (Auricular Muscles)
================================
في العديد من الثدييات تلعب عضلات الأذن دورًا حيويًا في توجيه صيوان الأذن نحو مصدر الصوت وتحسين حاسة السمع. أما في الإنسان الحديث، فهذه العضلات ضئيلة وغير وظيفية إلى حد كبير. وقد أظهرت الدراسات الكهربائية العصبية الحديثة (EMG) وجود نشاط كهربائي بسيط في هذه العضلات عند تمركز السمع على صوت ما. فُسر ذلك بأن الإنسان قد فقد (منذ ملايين السنين) القدرة على تحريك أذنيه بشكل فعال لتعويضها بحركات الرأس لتوجيه السمع. وبذلك تُعتبر عضلات الأذن أثرًا تطوريًّا، إذ إنها لم تختفِ بالكامل وإنما ظلّت جيناتها ونسيجها ضئيلًا يُنبه عليها انتباه الإحساس (كما أظهرت تجارب حديثة).
أما عن الادعاء بأن هذه العضلات مصممة لتحمي الأذن من الأصوات العالية أو تلعب دورًا في التوازن أثناء العطس أو إخراج الشمع.
فالجواب العلمي هو لا. فالعضلات التي تُوصف هنا ليست العضلات الداخلية (مثل العضلة الركابية stapedius أو العضلة الموترة للطرَقة tensor tympani)، بل المقصود بها عضلات تحريك صيوان الأذن (anterior, superior, posterior auricular muscles). هذه العضلات موجودة لدى معظم الثدييات لتحريك الأذن نحو الصوت (كما تفعل القطط والخفافيش والكلاب). أما في الإنسان، فقد أصبحت ضعيفة وغير فعالة، ولا يستطيع معظم الناس تحريك آذانهم باستخدامها (1).
أما عن رد الفعل السمعي الوقائي من الأصوات العالية، فالعضلات التي تقوم بهذه الوظيفة ليست عضلات الأذن الخارجية إطلاقًا، بل عضلات وسط الأذن الداخلية، وتحديدًا:
Stapedius muscle- (العضلة الركابية): وهي أصغر عضلة في الجسم، تتقلص كرد فعل للصوت العالي لحماية الأذن الداخلية.
Tensor tympani- (العضلة الموترة للطَرَقة): أيضًا تنقبض لتقليل حركة الطبل وتقليل انتقال الصوت العالي.
هاتان العضلتان تعملان ضمن ما يسمى acoustic reflex أو "منعكس الركابي"، وهذه الآلية موجودة أيضًا في الرئيسيات والثدييات الأخرى، وهي ليست فريدة في الإنسان (2)
إذن:
من الخطأ الخلط بين عضلات الأذن الخارجية (التي تحرك صيوان الأذن) وبين عضلات الأذن الداخلية (التي تتحكم في طبلة الأذن)، كما لا يوجد أي مصدر علمي موثوق يشير إلى أن عضلات تحريك صيوان الأذن تلعب دورًا في الحماية من الأصوات العالية.
أما عن ادعاء "المضغ أو الضحك يحرك الأذن لطرد شمع الأذن" فالجواب العلمي: هذا غير مثبت علميًا ولم يرد في أبحاث منشورة، فلا توجد دراسات منشورة في PubMed أو دوريات علمية معتمدة تؤكد أن عضلات الأذن الخارجية لها علاقة مباشرة بطرد شمع الأذن، فحركة شمع الأذن (cerumen) ناتجة عن نمو الجلد في قناة الأذن الخارجية باتجاه الخارج، وهي آلية بيولوجية مستقلة لا تعتمد على حركة عضلية. بعض الحركات مثل المضغ قد تؤثر ميكانيكيًا على شكل القناة السمعية قليلًا، لكن هذا لا يدخل ضمن وظيفة عضلات صيوان الأذن. (3)
أما عن اقتباس موسوعة "بريتانيكا" بأن:
“Many of the so-called vestigial organs are now known to fulfill important -function-s.”
— Encyclopedia Britannica Vol. 8, p. 926
فهذا القول صحيح جزئيًا لكنه لا ينقض فكرة التطور بل يؤيدها، فعلم الأحياء التطوري الحديث لا يقول إن الأعضاء الأثرية يجب أن تكون بلا وظيفة تمامًا، بل كثير من الأعضاء الأثرية قد تُعاد توظيفها (exaptation) أو تحتفظ بوظائف ثانوية ضعيفة. فمثلاً؛ الريش نشأ من زوائد حرارية قبل أن يصبح أداة للطيران. (4)فـ "العضلات الكبيرة" التي كانت تحرك أذن الإنسان آثارها ما زالت موجودة، فنحن نملك هذه العضلات، ولكنها ضمرت. وهي غير فعالة في معظم البشر. هذا هو بالضبط ما يقصده العلماء بـ"عضو أثري" – بقايا من عضو كان يعمل بفعالية في الأسلاف. (5) وفي الحقيقة، بعض الناس يمكنهم تحريك آذانهم قليلاً بسبب بقاء هذه العضلات نشطة جزئيًا — وهذا تنوع وراثي طبيعي يدل على المسار التطوري الذي لم يُمح بالكامل.
فالعضلات المحركة لصيوان الأذن عند البشر مثل (auricularis anterior, superior, posterior) هي بالفعل ضعيفة النشاط مقارنة بالحيوانات الأخرى مثل الكلاب أو الخيول، وهي لا تتحرك عند أغلب الناس إلا بشكل طفيف أو لا إرادي.(6). بالإضافة إلى ذلك، تُظهر الدراسات العصبية أن هذه العضلات تُفعّل من خلال مركز في الدماغ المتوسط يُدعى "nucleus of the facial nerve"، الذي لا يزال نشطًا عند البشر رغم قلة استخدامه، مما يشير إلى صفة تطورية موروثة وليست وظيفية بالضرورة (7).
ثانيًا: نتوء دارون (Darwin s Tubercle)
===========================
هو نتوء صغير في حافة الأذن الخارجية، واكتشفه داروين ووصفه بأنّه “بقايا نقطة مدببة في أذن أسلافنا”. ففي العديد من الثدييات يشكل طرف الأذن نقطة مدببة تساعد في التقاط الأصوات، بينما في الإنسان يوجد هذا الطرف المبدئ في أحسن الأحوال كنقطة صغيرة أو نتوء (تجده في حوالي 10% من البشر) وهو بروز غضروفي صغير يقع عند التقاء الثلث العلوي والأوسط من صيوان الأذن. وصفه داروين في كتابه The Descent of Man (1871) كدليل على أن الأذن البشرية تحمل بقايا تشبه ما يوجد في الثدييات الأخرى التي تحرك آذانها بحرية. (8) ويؤكد داروين أن هذا الهيكل هو في الواقع “بقايا تطورية” (vestigial feature) تستدعي سلفية مشتركة مع الرئيسيات ذات الأذنين المدببتين
إذن: علم التشريح يقر بأنها سمة أثرية (Vestigial Trait).
ولكن هل وجودها في 10% فقط ينفي كونها أثرًا تطوريًا؟
والرد هو لا إطلاقًا، فهذا لا ينفي تطوريّتها، بل يتفق تمامًا مع مفاهيم الوراثة التطورية، فليس معنى كونها أثرًا تطوريًا ويجب أن في كل البشر، فهذا غير صحيح لأن:
- الصفات الأثرية ليست ملزمة بالظهور في 100% من الأفراد.
- الصفات الأثرية تخضع للتغير الجيني، والاختفاء الجزئي بسبب:
(1) الطفرات
(2) الانتخاب الطبيعي أو العشوائي
(3) عدم الضغط الانتقائي للإبقاء عليها (9)
وعليه، انتشارها بين 10–35% من البشر لا يتعارض مع كونها صفة أثرية، بل هو سلوك تطوري طبيعي. . صحيح أن هذه السمة لا تظهر لدى كل البشر، لكنها تُظهر نمطًا وراثيًا متسقًا مع الصفات الموروثة القديمة التي تتلاشى تدريجيًا بفعل قلة الانتخاب الطبيعي لها. فنمط الظهور هذا لا يتعارض مع التفسير التطوري، بل هو متسق مع نظرية الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي. حتى الصفات السائدة يمكن أن تختفي إذا لم تُضف ميزة بقاء للكائن.
أما عن إقتباس البعض بكلام "أنتوني سكالفاني" فـأنتوني سكالفاني لم ينف تطور النتوء، بل هو جراح تجميل، وكلامه حول الوراثة تم تحريفه أو اقتباسه جزئيًا خارج سياقه، فهو يقول:
“Autosomal dominant traits... may have no -function-al importance... and Darwin s point may be just variation´-or-degeneration.”
وهذا لا ينفي كونها صفة أثرية! بل يقول:
- قد تكون صفة ناتجة عن طفرة قديمة
- قد لا يكون لها وظيفة حالية
- وهي وراثية سائدة مع نفوذية غير تامة (incomplete penetrance)
وهذا ينطبق تمامًا على كثير من الصفات الأثرية الأخرى في الإنسان والحيوان، مثل:
- العضلة الأخمصية (Plantaris muscle)
- عظمة الذيل (Coccyx)
- الضرس الثالث (ضرس العقل)
أما عن اختلافها عن أذن القردة؟ في (الشكل، الاتجاه، الجينات) فإنه لا يوجد اختلاف جوهري في الأساس التطوري. نعم، الطفرات غيرت شكل النتوء، وحجمه، وموقعه في بعض الأفراد، لكن النتوء ككيان:
- يمثل تماثلًا تشريحيًا (Homology) مع تراكيب موجودة في الثدييات ذات آذان متحركة.
- اتجاهه (لأعلى أو لأسفل) لا يغير حقيقة كونه بقايا بنية تطورية.(10).
فلا توجد وظيفة فسيولوجية مباشرة معروفة لنتوء داروين، مما يعزز كونه بنية أثرية، وفي علم التشريح التطوري:
- غياب الوظيفة الحالية لا يعني عدم وجود أصل تطوري.
- بل هو أحد المعايير الرئيسية لتصنيف البنية كأثر تطوري.
وهنا يُطرح سؤال هل يمكن أن يكون مجرد تنوع بشري طبيعي؟
والجواب هو نعم، لكنه تنوع ناتج عن طفرات جينية قديمة في سلالة تطورية، أي أنه مثال على تفاوت التعبير لصفة أثرية (variable expression of a vestigial trait) وليس مجرد "طفرة جديدة حديثة غير مرتبطة بالتطور"، كما يدّعي البعض. كما أظهرت دراسة حديثة حول التغيرات الشكلية للأذن الخارجية أن مثل هذه السمات تُصنف ضمن التباين الطبيعي وليس دليلاً على "تصميم جديد".(11)
ثالثًا: الجهاز الدهليزي (Vestibular System)
=============================
هو جزء من الأذن الداخلية، ويتكوّن من:
- القنوات الهلالية (Semicircular canals): مسؤولة عن الإحساس بالحركة الدورانية.
- الكييس والجيبيك (Utricle & Saccule): مسؤولان عن الإحساس بالتسارع الخطي وتغيير وضع الرأس. أي أنه يشمل الأذن الداخلية (القنوات نصف الدائرية والوحدات الساكنة utricle/saccule)
وهو مسئول عن:
- التوازن.
- إدراك الحركة والموقع.
- التنسيق مع البصر والعضلات.(12)
فهو لم يكن يومًا “عضوًا أثريًا” بلا وظيفة، بل من أوضح الأعضاء المعروفة الوظائف طبيًا منذ القرن الـ 19، و لم يصنف الجهاز الدهليزي أبدًا كعضو أثري من قِبل علماء الأحياء أو الطب، بل منذ اكتشافه، كان معروفًا بوظيفته الحيوية، فمنذ القرن التاسع عشر وهو يُدرس بوصفه مركزًا حيويًا للإحساس بالتوازن والتسارع الخطي والدوراني، ويُعد من المكونات الأساسية للأذن الداخلية لدى الفقاريات. فالأدبيات الطبية والفيزيولوجية مثل كتاب Boron, W. F., & Boulpaep, E. L. (2005). Medical physiology: A cellular and molecular approach. Elsevier لبورون وبولباب تصف هذا الجهاز كجزء لا يتجزأ من النظام الحسي البشري، ولكن تم توصيف وظيفته بالتفصيل في:
- Flourens (1824): أول من بيّن علاقته بالتوازن.
- Mach و Breuer (1873): درسا حركة السوائل في القنوات الهلالية.
إذن: القول بأنه “اكتُشفت وظيفته مؤخرًا” هو تضليل لا أصل له علميًا.
أما عن إدعاء بأن “دقته دليل على التصميم الذكي” هو مغالطة شائعة تعرف باسم "مغالطة من التعقيد" (Argument from complexity)؛ فوجود نظام معقد وفعّال لا يدل على وجود تصميم خارجي، بل هو نتيجة الانتخاب الطبيعي التدريجي الذي يُبقي فقط على الأنظمة القادرة على تحسين فرص البقاء. وعلم الأحياء التطوري والوراثي يملك نماذج واضحة لتطوره؛ حيث:
- ظهرت أول أشكال الإحساس بالتوازن في اللافقاريات البحرية مثل السلائل (Cnidarians) والرخويات، على شكل عضو يسمى Statocyst.
- في الأسماك تطور إلى قنوات هلالية مملوءة بسائل.
- مع تطور الكائنات البرية، أضيفت تكيفات إضافية لتناسب الحركة الرأسية والعمودية. (13)
وهنا يجب علينا أن نُثير إدعاء الادعاء بأنه “لو كان تطورًا لكانت أذن البرمائيات أبسط من الزواحف” وهذا خطأ في فهم التطور، فالتطور لا يعني دائمًا خط تطوري تصاعدي في التعقيد. فأحيانًا، السمات تتبسط أو تتغير تبعًا للبيئة والوظيفة.(14) فهذا الجهاز في الإنسان والحيوانات مكرس للتوازن والسمع، وليس عضوًا فقد وظيفته. ومع ذلك، فإن دليلاً التطوري على أصله واضح: فكل الفقاريات البدائية تملك جهازًا سمعيًا-توازنيًّا بسيطًا (شبيهًا بـ statocyst) انبثق منه النظام المعقد الحالي، كما تتشارك جميع الفقاريات في نفس البنية الأساسية للقنوات الدائرية والأكياس (النونيكلِر والسَّاتكول)، ما يدل على أصل واحد مشترك عبر التطور، ووبالتالي، فإن تعقيد الجهاز الدهليزي لا يناقض التطور بل هو نتيجة تراكم تعديلات طفيفة (على سبيل المثال، التطور التدريجي للقنوات نصف الدائرية وأحشاء الأذن الوسطى من عظام فك أسلافنا) وتحسينات تنتج عن الانتقاء الطبيعي عبر ملايين السنين.
مثال: التماسيح تطورت لتعيش في بيئة مائية هادئة نسبيًا، فاحتفظت ببعض التراكيب البسيطة، بينما الضفادع طورت أذن وسطى حساسة للقفز والتواصل الصوتي في اليابسة.
رابعًا: الثنية الهلالية في العين (Plica Semilunaris)
=================================
الثنية الهلالية في زاوية العين الداخلية هي في الواقع بقايا من الجفن الثالث أو "nictitating membrane" الموجود في الزواحف والطيور وبعض الثدييات مثل القطط، تقع بالقرب من الغدة الدمعية الإنسية (Lacrimal caruncle).
تشريحياً، هي بقايا أو نظير غير وظيفي جزئيًا لغشاء الجفن الثالث (Nictitating Membrane) الموجود في الزواحف والطيور هذا لا يعني أنها عديمة الفائدة اليوم، بل كما هو الحال في العديد من الأعضاء الأثرية، يمكن أن تكتسب وظائف ثانوية، مثل المساعدة في إفراز الميوسين عبر خلايا جوبلت وتنظيم طبقة الدموع.
وجود وظيفة حالية لا ينفي أنها أثر تطوري، فعديد من الأعضاء الأثرية قد تُحافظ على بعض الوظائف أو تتغير وظائفها مع الزمن. المفهوم العلمي الدقيق للأثرية لا يشترط أن يكون العضو بلا فائدة، بل أن يكون قد تطور من عضو مختلف الوظيفة أو أكثر تطورًا في الأسلاف. (15)
صحيح أن لها وظائف ثانوية بسيطة مثل:
- المساعدة في حركة الدموع.
- المساهمة الطفيفة في المناعة.
- تحتوي على خلايا كوبية (Goblet Cells) تفرز الميوسين.
- المساعدة في حركة الدموع باتجاه القناة الدمعية.
ولكن هذه الوظائف لا تنفي كونها بنية أثرية (Vestigial) فالكثير من البنى الأثرية قد تُحتفظ بوظائف ثانوية، لكنها أقل تطورًا أو استخدامًا مما كانت عليه في الأسلاف. نعم، كان يُنظر إليها كهيكل أثري، وما زالت كذلك، حتى مع وجود وظائف بسيطة لها. ولكن كما قلنا إن الفكرة الأساسية في علم الأحياء التطوري هي أن العضو الأثري: "هو بنية كانت لها وظيفة مهمة في الأسلاف، ولكنها فقدت معظم أو كل وظيفتها في الكائن الحالي." مثل: الحلمات في الذكور، ضرس العقل، الزائدة الدودية (قبل إعادة تقييم دورها المناعي الثانوي).، عضلة تحريك الأذن.
أما عن إدعاء بأنها: " مسؤولة عن إفراز الميوسين وبدونها يحصل جفاف العين"
فهو يُعد خلط بين أجزاء مختلفة من العين، فالميوسين يُفرز أساسًا من خلايا كوبلت (Goblet cells) المنتشرة في جميع أجزاء الملتحمة، وليس فقط في plica semilunaris. هذه الخلايا منتشرة في الجفن العلوي والسفلي، فوظيفة الترطيب ليست محصورة في هذه الثنية.(16)
وكذلك إدعاء بـان: “وجود عضلات يثبت أنها ليست عضواً أثرياً” ولكن وجود بعض الألياف العضلية لا يعني أن العضو ليس أثريًا. فالعضلات في الـ plica semilunaris، إن وُجدت، فهي ضعيفة وغير وظيفية تقريبًا. في حين الحيوانات التي تمتلك جفنًا ثالثًا فعّالًا، العضلات أكثر تطورًا وتمكن الغشاء من الحركة التلقائية لحماية العين (مثلاً في الطيور والزواحف) (17).
وكذلك الإستدال بإنه: " لا يوجد هذا الغشاء في بقية الثدييات؟" الذي يُعد سوء فهم لتنوع التطور، فالجفن الثالث كان موجودًا في سلف الفقاريات رباعية الأطراف (tetrapods) ولكن عبر ملايين السنين، تطور/ اختفى/ تضمر بشكل مستقل في سلالات مختلفة:
- بعض الثدييات احتفظت بجزء منه (مثل القطط، الجِمال، الأرانب).
- البعض الآخر فقده تدريجيًا (مثل الإنسان، القردة العليا).
فالتطور لا يفرض أن كل الكائنات يجب أن تحتفظ بكل البُنى.(18)، فإن كان العضو لا يقدم ميزة بقاء واضحة أو يُصبح زائدًا عن الحاجة بسبب بيئة جديدة، فقد يُضمر تدريجيًا. تطور الثدييات مع زيادة الجفون المتحركة وطرق حماية العين الأخرى جعل وجود الجفن الثالث غير ضروري. وفي حال تسبب في مشاكل، قد يُزال تمامًا، فما يُنتخب هو الوظيفة المفيدة للبقاء، وليس بالضرورة الإبقاء على كل عضو سابق، ففي البشر، فقدت الثنية الهلالية وظيفتها الأصلية (حماية العين) لكنها اكتسبت أدوارًا ثانوية (مثل توزيع الدموع). هذا يتوافق مع مفهوم "التكيف الجزيئي" (Exaptation) في التطور، كما أن جينات مثل FOXE3 المسؤولة عن تطور الجفون في الفقاريات تظهر تعبيرًا متباينًا في البشر، مما يدعم فكرة الضمور التدريجي.
بصورة مُختصرة الطية الهلالية في العين (Plica semilunaris) وهي في الزاوية الداخلية للعين وترتبط أحيانًا بانتقاد أنها “وظيفة غدّة دمعية إضافية”، لكن الأدلة العلمية تشير إلى أنها بقايا الغطاء البكري الثالث (الغشاء الرمش) الموجود في بعض الحيوانات. فالكثير من الثدييات ما زالت تحتفظ بغطاء بكري شفّاف يغطي العين للحماية (كالقطط والطيور)، بينما لدى الإنسان فقد أصبح مجرد طية رقيقة بالغة الصغر وتؤكد المصادر العلمية الحديثة أنها مطابقة لمستقى التطوري المتبقي من الجفن الثالث (nictitating membrane)
.
الخاتمة:
======
الإصرار على رفض التفسير التطوري للأعضاء الأثرية بناءً على تأويلات سطحية للوظائف أو على مفاهيم خاطئة عن علم الوراثة يُعد تجاهلاً للتراكم المعرفي الذي وفرته العقود الأخيرة من البحث العلمي. الفهم الصحيح للأثرية لا يعني أن العضو يجب أن يكون بلا وظيفة، بل أن تاريخه التطوري يوضح أنه تغير عن وظيفته الأصلية أو فقدها جزئيًا.
وبناءً على الأدلة الجينية، المقارنة التشريحية، والوظائف الحديثة المكتشفة، فإن ما يسمى بـ"الأعضاء الأثرية" يظل أحد الأدلة الداعمة للتطور، لا نفيًا له.
الحواشي
======
(1) “In humans, the auricular muscles are generally considered vestigial, and in most individuals, they do not produce visible movement of the auricle” .
– Gray’s Anatomy (41st Edition, 2015)
“Most people cannot voluntarily use these muscles, and their contraction has no measurable impact on hearing. Their evolutionary history suggests a past role in orienting the pinna toward sound."
– Encyclopedia Britannica, “Human Ear Anatomy”
(2) The acoustic reflex, involving the stapedius and tensor tympani muscles, helps protect the cochlea from loud sounds. This response is involuntary and distinct from the vestigial auricular muscles.”
– Purves et al., Neuroscience, 6th Edition
(3) “The removal of cerumen is facilitated by the outward migration of epithelial cells and not by muscle action.”
– Ballenger’s Otorhinolaryngology, 18th Edition
(4) “Vestigial does not necessarily mean non--function-al. Instead, it refers to structures that have lost their original -function- through evolution, though they may be co-opted for new uses.”
– Douglas Futuyma, Evolution, 4th Edition
(5) “The auricular muscles are homologous to those used by many mammals to orient their ears. In humans, they are present but largely non-function-al — a classic example of vestigiality.”
– Brusca & Brusca, Invertebrates, 3rd Edition
(6) Steklis, H. D., & Harnad, S. R. (1976). Evolutionary biology of primates. Academic Press.
(7) Darwin, C. (1871). The Descent of Man, and Selection in Relation to Sex.
(8) Darwin’s tubercle is a vestigial trait, present in some individuals as a small prominence on the helix of the ear, reflecting the ancestral mobility of the pinna in mammals.”
— Standring, Gray’s Anatomy, 41st Ed., 2015
(9) Vestigial traits may show variable expression´-or-incomplete penetrance, and their frequency may vary across populations due to neutral drift´-or-selection against visible traits."
— Futuyma, Evolution, 4th Edition
(10) “Darwin’s tubercle is homologous to the pointed ears seen in some mammals. Although variable in shape and size, it reflects conserved embryological development.”
— Sadler, Langman’s Medical Embryology, 14th Ed.
(11) Singh, P., et al. (2006). "Morphological variations of the human auricle: An Indian survey." Journal of Clinical and Diagnostic Research.
(12) The vestibular apparatus is essential for balance, posture, and spatial orientation.”
— Guyton and Hall Textbook of Medical Physiology, 13th Ed
(13) “The vertebrate vestibular system evolved from primitive gravity-sensing organs in invertebrates, gradually incorporating more complex semicircular canals for detecting angular motion.”
— Evolution of the vertebrate ear, Clack JA, Nature Reviews Neuroscience (2002)
(14) Vertebrate ears vary in complexity not strictly according to phylogenetic rank, but according to ecological need and sensory specialization.”
— Comparative Hearing: Amphibians, edited by Fay and Popper (1999)
(15) Scadding, S. R. (1981). "Do vestigial organs provide evidence for evolution?" Evolutionary Theory, 5(3), 173–176.
(16) Goblet cells are distributed throughout the conjunctiva and are responsible for mucin production, not-limit-ed to the plica semilunaris.”
— Duane’s Clinical Ophthalmology, 2021.
(17) “In humans, the remnant of the third eyelid is immobile and has no retractor muscle, unlike in lower vertebrates.”
— Comparative Anatomy of the Vertebrates, Kent & Carr, 2001.
(18) "The reduction of the nictitating membrane occurred independently in various mammalian lineages."
— Hall BK, Evolutionary Developmental Biology, 2nd ed.
#ابرام_لويس_حنا (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟