ابرام لويس حنا
الحوار المتمدن-العدد: 8424 - 2025 / 8 / 4 - 07:52
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
كما كررت وشددت سابقاً، الاحتلال يختلف عن (استمرار التقاليد الشعبية) وتقاليد (الشعب) و(اللغة)، فمثلا الاحتلال الأجنبي لمصر لم يُنسي شعب مصر لغته المصرية ولا تقاليده ولا عادته، بل أثمر في إيقاد شعلة الجهاد لطرد المُستعمر الدخيل.
وهنا في تلك المقالة الموسعة، فضلت أن أعلم الغندور (الدحيح) أن لمصر تاريخ مُشرف قدير، لا يمكن له ولا لألف قلم أو مُدعي علم أن يمحي تاريخ أجدادنا المُشرف وجهادهم من أجل تحرير الوطن والزود عن الوطن بالروح والنفس، وفضلت أن اتتبع الثورات المصرية منذ بدايات حكم البطالمة حتى نهايتها.
فرغم أن الدراسات ما بعد الاستعمار في النصف الثاني من القرن العشرين سلّطت الضوء على الوجه القاتم للحكم الإمبراطوري قديمًا وحديثًا، إلا أنّ العصر الهلنستي ما زال يُنظر إليه غالبًا كمرحلة إيجابية في تاريخ العالم القديم. فحتى إن لم نشارك اليونانيين إعجابهم المفرط بثقافتهم، فإن هذه الحقبة، من منظور يوناني-مركزي، تبدو زمنًا حافلًا بالحيوية والموهبة والتطور.
لكن الشعوب الواقعة تحت الحكم الأجنبي كان لها دائمًا رأي آخر. ففي مصر، على سبيل المثال، إذا كان البطالمة يرون أنفسهم حكّامًا محسنين، أو إذا أردنا نحن أن نمنحهم هذا الوصف، فإن كثيرًا من المصريين لم يتفقوا معهم. فقد شهدت البلاد بعد جيلين فقط من الحكم البطلمي بوادر تمرّد سنة 245 ق.م، ومنذ أواخر القرن الثالث قبل الميلاد أصبحت الثورات سمة متكررة في تاريخ المملكة. إذ كانت الحكومة تستهلك قدرًا كبيرًا من جهدها ومواردها في قمع هذه الانتفاضات أو الحيلولة دون وقوعها، ومع مرور الوقت، خاصة بعد ستينيات القرن الثاني ق.م، صار من الصعب التمييز بين التمرّد الداخلي وصراعات العائلات الحاكمة.
والتمرّد في ذاته كان خطوة خطيرة ويائسة، لأن الناس العاديين كانوا مستعدين للمخاطرة بحياتهم وبأمن أسرهم. وهذا يوضح مدى انتشار السخط على النظام الحاكم. وقد اختلف الباحثون في تفسير أسبابه: هل كان بدافع نزعة قومية مصرية معادية لليونان؟ أم بسبب ظروف اجتماعية واقتصادية ضاغطة؟
و
ينطلق هذا البحث من إعادة النظر في الشواهد –وهي في الغالب معقدة ومتغيرة– لفهم ما جرى بالفعل أثناء تلك الثورات، وتقديم إطار يساعد على نشر بردية جديدة من دبلن تعود إلى إقليم Lycopolite nome (مدينة الذئب)، تتناول ثورة الفرعون (عنخ‑ون‑نفر Χα όν νωφρις=Χαόννωφρις = Chaonnophris=Kha ón nōphris) في القرن الثاني قبل الميلاد.
قائمة ملوك البطالمة (305 – 30 ق.م)
======================
- بطلميوس الأول سوتر (Ptolemy I Soter) حكم: 305 – 282 ق.م
- بطلميوس الثاني فيلادلفوس (Ptolemy II Philadelphus) حكم: 282 – 246 ق.م
- بطلميوس الثالث إيورغيتيس الأول (Ptolemy III Euergetes I) حكم: 246 – 222 ق.م
- بطلميوس الرابع فيلوباتور (Ptolemy IV Philopator) حكم: 222 – 204 ق.م
- بطلميوس الخامس إبيفانيس (Ptolemy V Epiphanes) حكم: 204 – 180 ق.م
- بطليموس السادس فيلوميتور (Ptolemy VI Philometor) حكم: 180 – 145 ق.م
- بطلميوس السابع نيوس فيلوباتور (Ptolemy VII Neos Philopator) حكم: 145 ق.م (قصير جدًا)
- بطلميوس الثامن إيورغيتيس الثاني فيسكون (Ptolemy VIII Euergetes II Physcon) حكم: 170 – 116 ق.م (على فترات)
- بطلميوس التاسع سوتر الثاني لاثيروس (Ptolemy IX Soter II Lathyros) حكم: 116 – 107 ق.م، ثم 88 – 80 ق.م
- بطلميوس العاشر ألكسندر الأول (Ptolemy X Alexander I) حكم: 107 – 88 ق.م
- بطلميوس الحادي عشر ألكسندر الثاني (Ptolemy XI Alexander II) حكم: 80 ق.م (قصير جدًا)
- بطلميوس الثاني عشر نيوس ديونيسوس أوليتيس (Ptolemy XII Neos Dionysos Auletes) حكم: 80 – 58 ق.م، ثم 55 – 51 ق.م
- بطلميوس الثالث عشر (Ptolemy XIII Theos Philopator) حكم: 51 – 47 ق.م
- بطلميوس الرابع عشر (Ptolemy XIV Philopator II) حكم: 47 – 44 ق.م
- بطلميوس الخامس عشر قيصرون (Ptolemy XV Caesarion) حكم: 44 – 30 ق.م
- كليوباترا السابعة (Cleopatra VII Philopator): شاركت الحكم مع إخوتها ثم حكمت منفردة (51 – 30 ق.م)، وهي آخر حكام البطالمة.
ولنبدأ بـــ
I. بطليموس الثالث إيورغيتيس (Ptolemy III Euergetes)، سنة 245 ق.م
=================================================
تورد المصادر إشارات متفرقة إلى اضطراب وقع في مصر في زمن بطليموس الثالث، مِن بينها:
المؤرخ جستين (مؤرّخ لاتيني عاش غالبًا في القرن الثالث الميلادي عمله لكتاب Epitoma Historiarum Philippicarum Pompei Trogi أي مختصر التواريخ الفيلبّية/ فيلب المقدوني لبوبيوس تروغوس) الذي يقول:
«…لو لم يُستدعَ إلى مصر بسبب التمرد، لكان قد استولى على مملكة سلوقس بأكملها» (Justin, Epit. 27.1.9)
ويضيف جيروم:
«حين سمع إيورغيتيس ]لقب الملك بطلميوس الثالث بطلميوس الثالث إيورغيتيس الأول[ أنّ فتنة/ تمرد اشتعل في مصر…».
لكن جيروم لا يذكر أن الملك عاد مسرعًا إلى مصر، بل قال هناك فتنة في مصر، والكلمة اللاتينية التي تعبر عن فتنة هنا هي seditio وقد تعني مجرد مؤامرة في البلاط، غير أن إضافتها بعبارة in Aegypto (في مصر) توحي باضطراب أكبر. ومن اللافت أن جستين وجيروم استخدما اللفظة نفسها، ما يرجّح اعتمادهما على مصدر واحد أو حدث يُوصف حقاً بإنه (تمرد داخلي).
وترد إشارة أخرى في بردية P. Haun. I, 6 (من القرن الثالث ق.م):
«…لو لم يحدث تمرّد المصريين في ذلك الوقت…».
وبعد تصحيح النص على يد بيلو ياكوبسن، يتضح أن الكلمة المستعادة هي ἀποστασία (تمرّد)، فالبردية P. Haun. I, 6 (القرن الثالث ق.م) تسرد أحداث بترتيب زمني.
الأحداث المذكورة في البردية:
1- معركة أندروس (246/245 ق.م)
• هُزم فيها القائد البطلمي بطلميوس أندروماخوس وقُتل.
• بعد هذه الهزيمة يأتي ذكر "تمرّد المصريين".
2- الحرب الأيتولية (Antigonid–Aetolian war) سنة 229/228 ق.م.
3- وفاة سلوقس الثالث سنة 223 ق.م.
4- وفاة بطلميوس الرابع فيلوباتور (هنا يظهر خطأ في النص، لأن وفاته الحقيقية سنة 204 ق.م، لكن البردية تضعه في تسلسل زمني مبكر – يبدو أنه اضطراب في ترتيب الأحداث أو خطأ في النسخ).
الاستنتاج:
• التمرّد المشار إليه في البردية وقع بعد معركة أندروس (246/245 ق.م)، وقبل الحرب الأيتولية (229/228 ق.م).
• يعني الإطار الزمني المحتمل للتمرّد: 246 – 229 ق.م، وبالتالي: هو تمرّد مبكر في عهد بطلميوس الثالث إيورغيتيس، ولكنه ليس بالضرورة نفس التمرّد اللي ذكره جستين وجيروم عن عودته مسرعًا لمصر بسبب اضطراب داخلي، لكن ممكن يكون مرتبط به.
الشهادة هنا هو (وجود تمرد مَحلى) (من المصريين) انتهز فرصة غياب جيش أو غياب بطلميوس الثالث إيورغيتيس، في محاولة الانقلاب والسيطرة على الحكم، الذي من الواضح انه حدث في الدلتا.
لدرجة أن جستين (Justin, Epit. 27.1.9) يقول أنّ بطلميوس الثالث كان سيستولي على مملكة سلوقس كلها، «لو لم يُستدعَ إلى مصر بسبب فتنة في مصر (seditio in Aegypto)»، مما يوضح خطورة الموقف المصري وخطورة التمرد الذي قام به المصريين، ليضطره إلى العودة سريعًا.
بالأخص بعد انهزام قائد الأسطول البطلمي القائد البحري بطلميوس أندروماخوس أمام الأسطول المقدوني بقيادة أنتيغونوس الثاني غوناتاس الذي قُتل في القتال في معركة أندروس (246/245 ق.م) التي وقعت في بدايات حكم بطلميوس الثالث إيورغيتيس (246–222 ق.م) أثرها في النفوس بالتشجيع على العصيان والتمرد؛ إذ تشير بردية P. Haun. I, 6 إلى أنّ "تمرّد المصريين" وقع بعد وقت قصير من هذه الأحداث، مما يوحي بأنّ الفشل العسكري في الخارج كان له دور في إشعال الاضطرابات الداخلية. فبعد هذه الهزيمة مباشرة تأتي الإشارة في البردية إلى "تمرّد المصريين" (ἀποστασία). مما يبدو أنّ الفشل العسكري في الخارج كان له أثر في إشعال اضطراب داخلي بمصر.
وبالرغم إن الحدث الذي يذكره كلاً من جستين وجيروم قد يكون مُختلف عن التمرد المذكورة في البردية، لكن كلاهما يشير إلى حالة اضطراب داخلي في مصر خلال النصف الأول من حكم بطليموس الثالث، وكلاهما تمرد مصري.
لكن الحقيقة أن غياب تفاصيل أوفى من مصادرنا الرئيسة يجعلنا في حيرة: هل كان الأمر مجرد دسائس بلاط، أم انتفاضة حقيقية؟ (انتهزت غيابه للاستقلال) لكن عبارة ἀποστασία Αἰγυπτίων (تمرّد المصريين) ذات دلالة قوية بإنها كانت حركة مصرية للاستقلال. ومن المعقول أن نتصوّر أنّ إيورغيتيس قد واجه بالفعل نوعًا من التمرّد في مصر، خصوصا استخدام تعبير عام وهو «المصريون» في P. Haun. I, 6 مما يوجّهنا في اتجاه تمرّد محلّي.
بحث العلماء في أسباب أخرى لهذا التمرد، لكنها لم تكن مقنعة، في محاولة لتفسير تمرّد سنة 245 والانتفاضات القادمة التي ستصطدم بسواحل التاريخ المصري مثل:
(1) بردية قرية هبة Hibeh (P. Hib. II, 198) –وهي من أواخر الأربعينيّات– بني سويف، والتي نجد فيها قوانين ضد قطّاع الطرق والفارّين ومن يُؤويهم. مما قد يُرى ذلك انعكاسًا لظروف مضطربة، لكن قطع الطريق كان آفة مستمرة في مصر البطلمية والرومانية، وليس بالضرورة أشدّ في تلك الحقبة تحديدًا. فقطع الطريق خطرًا دائمًا في تاريخ مصر اليونانية–الرومانية بأسره، ولا سبب خاصّ يجعلنا نعتقد أنّه كان أشدّ في تلك المرحلة منه في غيرها، كما تشير بعض المقاطع إلى فساد إداري، لكن النصوص مجتزاه جدًّا بحيث لا تسمح باستنتاج واضح بأن الفساد كان سببًا مباشرًا للتمرّد، كذلك احتوت البردية على إشارات إلى سوء الإدارة، لكن سوء الإدارة من الصعب أن يقود إلى تَمرد للمصريين، خصوصا ان تلك البرديات تنتمي لبني سويف، في حين من الواضح ان التمرد الذي واجه إيورغيتيس كان في الدلتا.
(2) برديات قرية تبتونيس Papyrus Tebtunis, III, 703 بالفيوم، وهي مجموعة تعليمات من ديويكيتيس (dioiketes διοικητής المدير أو المشرف العام، أعلى مسؤول مالي وإداري في المملكة البطلمية، أشبه بـ وزير المالية أو رئيس الجهاز الإداري للدولة) إلى إكونوموس (oikonomos οἰκονόμος مدير البيت/الاقتصاد، المسؤول الإداري/المالي عن إقليم واحد) والذي تتناول –إلى جانب أمور أخرى كثيرة– مسألة الفارّين وسوء الإدارة.
مما دعى البعض ليرى بأنّ كِلا النصّين (P. Hib. II, 198 وP. Tebt. III, 703) يُظهران «انشغالًا بالفارّين من البحّارة»؛ لكنّ الفارّين لا ينخرطون بالضرورة في تمرّد، ولفظة «انشغال» قويّة جدًّا هنا: فالنصّان يتناولان مسائل كثيرة أخرى، خصوصًا أنّ السطور ذات الصلة في P. Tebt. III, 703 تشكّل جزءًا صغيرًا من نصّ ضخم، يتّسم عمومًا بنبرة إيجابية، ولا يمكن اعتباره إلا بجهدٍ خاص انعكاسًا لظروف ثورةٍ حديثة أو سببًا محتمَلًا لثورة مقبلة.
(3) مشاكل زراعية؛ ففي Papyrus Londiniensis VII, 1954–1955 (برديات موجودة في المتحف البريطاني في لندن) نرى بعض الفلاحين في نزاع مع "داميس" حاكم الإقليم (nomarch) حول أرضٍ استأجروها –من غير الواضح تمامًا طبيعة المشكلة– وبالمناسبة نفسها يُخطِرون "أبولونيوس" أنّ أخطاءً تُرتكب في ضيعته لأنّه لا يوجد شخص يفهم شيئًا عن الزراعة (...μή ὑπάρχειν ἄνθρωπον συνεχῶς περὶ γεωργίαν وبالمثل في Papyrus Michigan, Zenon archive. 43.5–6 (برديات منشورة ومحفوظة في جامعة ميتشغان، نسبة إلى زينون من كاونوُس، وهو كاتب/وكيل يوناني عاش في مصر البطلمية، والتي تٌقدر بـحوالي 2000 بردية! اكتُشف في الفيوم (قرية أم العلا – Philadelphia) والتي تَدور حول كيف أدّت البيروقراطية غير الكفؤة إلى تأخير في توزيع البذور للزراعة: «إنّ حكّام الأقاليم لم يفعلوا شيئًا صحيحًا (οὐθὲν τῶν κατὰ λόγον)» في قياس السمسم والقمح.
ولكن إلى أيّ مدى يمكن لفقرات متفرقة كهذه أن تعبّر عن أزمة، أو بداية أزمة، في ثقة الفلّاحين بالإدارة البطلمية؟ مقابل الافتراض المعتاد (والراجح غالبًا) بأنّ المجتمعات الزراعية تفترض دومًا أنّ الحكومات لا تفقه شيئًا مما يفعله الفلّاحون في الواقع؟ يبدو لي أنّ الاحتمال الثاني هو الأرجح. فهل تعكس هذه أزمة زراعية عامة؟ على الأرجح لا؛ فهي أقرب إلى مشكلات اعتيادية موجودة في كل العصور.
ومثلها الحرب بين الفلاحين مع رعاة يونانيين، حيث نرى نموذجاً لهذا النزاع في PSI Papiri della Società Italiana, IV, 280 (249/248) حيث اشتبك الفلاحون مع رعاة الماعز التابعين لـ"أبولونيوس" بسبب أرض رعي أرادوها لدوابّهم.
فهل يُمكن القول بأن لدينا بالفعل أساس متين للقول إنّ الفلاحين هاجموا رعاة أبولونيوس لأنّهم يمثّلون مصالح «الطبقة العليا والغزاة الأجانب»؟ قد يكون هذا صحيحًا، لكنّه ينطوي على قفزة في التفسير مشكوك فيها بشدّة. ولعلّ ما يكشف أكثر هو نوع السخط الزراعي المتجلّي في الأنخوريسيس (anachoresis ἀναχώρησις ترك الأرض والانسحاب) والإضرابات.
وهكذا من المشاكل الزراعية؛ الوثيقة الشهيرة PSI V, 502 (257/256) حيث كان بانكيستور ( Παγκεστωρ "المحصِّل العام" أو "المفتش العام" )" تحت ضغط لتفسير تقاعسه الظاهر؛ إذ لم يرضَ بعض الفلّاحين عن التغيير التعسّفي في عقودهم الذي اقترحه "أبولونيوس" (الوزير المالي الأعلى)، وبعد التفكير فيه لثلاثة أو أربعة أيام، أضربوا عن العمل. وفي النهاية، وبعد مفاوضات طويلة –أو بالأحرى بعد إصرارهم العنيد على موقفهم– يبدو أنّهم حصلوا على ما يريدون، رغم أنّ تفاصيل ما حدث غير واضحة تمامًا. هذا الحدث الذي قد يُظهر توتّرًا بين الحاكم اليوناني والفلاحين المصريين الذين ساورهم الشكّ تجاه تجديدٍ ما حاول "أبولونيوس" إدخاله، غير أنّه حتى لو لم يكن أمرًا عاديًّا، فلا يوجد ما يوحي بوجود أزمة أو جوّ مهدِّد. فقد فكّر الفلاحون في الأمر، ولم يُعجبهم، لكنّهم تصرّفوا على نحوٍ معقول، وبدا أنّه مقبول (ولو كان مُغضِبًا لأبولونيوس). كما يُسجَّل إضراب في P. Cairo Zen. II, 59245 (سنة 252) ، وربما أيضًا في P. Cairo Zen. II, 59203 (سنة 254) ، لكن لا نعرف ملابساته. وبوجه عام، لا تشير المشكلات الزراعية التي نسمع عنها في هذه الفترة إلى نظام زراعي مأزوم، بل إلى نوع المشاكل الفردية التي يمكن العثور عليها في أي عصر.
(4) لعل أقرب ذكر او مواجهة عسكرية تذكرها بردية من برديات يونانية متحف برلين BGU = Berliner Griechische Urkunden, VI, 1215 بالرغم إن التأريخ غير مؤكّد، والمصدر الجغرافي مجهول، والنصّ مجتزأ. ومع ذلك، فإنّ مضمونه يرجع لفترة البطالمة، وهو تقرير رسمي يصف هجوم بعض المصريين على حُراس، لكن عندما كُشف أمرهم حوّلوا أنظارهم إلى البيوت الواقعة على أطراف المستوطنة (οἰκίας) وشنّوا هجومًا على بيت نخثنيبس (Nechthenibis) مستخدمين آلة حصار (ὄργανον) غير أنّهم أُرغموا على التراجع حين هُدّد السور الخشبي بالانهيار عليهم. ثم يواصل التقرير: (فاعلم إذن أنّ المصريين لا يحرُسون القرية كما أمرناهم في البداية، لأنّ خليص لا يقدّم تقريره/أداءه كما يجب).
فمن هو خليص؟ ولماذا تقاعس المصريين عن الدفاع؟ ولماذا هاجموا بيت نخثنيبس الذي يبدو أنه مسئول مصري أو يوناني؟
وبالتالي فإن النص يُظهر لنا انه كان بالفعل مصريين يُهاجمون المسئولين اليونانيين أو المسئولين المصريين الذين كانوا في صفّ السلطة (الحكومة البطلمية)
.
لكنه بكل تأكيد لا يرتقي ليكن حدث التمرد والحرب من حربٍ قاسية خاضها إيورغيتيس ولا فيلوباتور من بعده ولا ابنه ابفانيس.
لذا يمكن القول بإن العلاقة بين (السلطة اليونانية والفلاحين المصريين) كانت في انسيابية حتى ولو كان هناك بعض التوترات والمشاكل الإدارية، لكنها لا تُشير إلى أزمة خطيرة أو أجواء تهدد بانفجار ثوري، وهذا على ضوء مئات الوثائق بين 250 و230 ق.م فإننا لا نجد أثرًا لفكرة «الانفجار الثوري في الأربعينيّات»، ما عدا محاولة الدلتا لاستراد الأرض والحرية بالقوة (من جهة الدلتا) حتى الآن.
II- بطلميوس الرابع فيلوباتور (Ptolemy IV Philopator) – معركة رفح وما بعدها (217 ق.م)
=======================================================
تجمع المصادر القديمة إشارات متفرقة نتائج معركة رفح (Raphia، 217 ق.م) في مصر خلال عهد بطليموس الرابع فيلوباتور، فقد ذكر بوليبوس (Polybius 5.107) أنّه "بعد هذه الأحداث مباشرة اندلعت الحرب ضد المصريين"، بقوله:
(أمّا بطليموس، فقد جاءت حربه ضد المصريين مباشرةً بعد هذه الأحداث. فهذا الملك، بتسليحه المصريين في حربه ضد أنطيوخوس، اتخذ خطوة كانت نافعة في حينها، لكنها كانت خطأً بالنسبة للمستقبل. إذ إنّ الجنود، وقد امتلأوا فخرًا بانتصارهم في معركة رفح، لم يعودوا مستعدين للطاعة، بل أخذوا يبحثون عن قائد ورمز يتبعونه، معتقدين أنّهم قادرون على أن يعتمدوا على أنفسهم كقوة مستقلة. وهو ما نجحوا في تحقيقه بعد وقت قصير) (Polybius 5.107).
وهنا ثاني إشارة لوجود تَمرد مصري، وتمرد بين (فيلوباتور) وبين (المصريين).
وهذه إشارة يجب أن نتذكرها جيداً إذ فيما بعد؛ لأن مرسوم حجر رشيد الذي سُك في عهد ابنه، يشهد إن ابن فيلوباتور وهو بطليموس الخامس إبيفانيس، ضرب الذين خرجوا عن طوع ابيه وهاجموا المعابد، حيث قتل قادة أو مسئولي (منف) والذين اتخذوا (سجن الكوم/ شيكان) حصناً لهم.
وهنا لدينا احتمالين إما كانوا قادة ومسئولين مصريين أو كانوا قادة ومسئولين يونانيين، وتبيان ذلك هو؛
(أ) بالرغم إنه لم يُذكر صراحة في مَرسوم حجر رشيد، بإن الأعداء كانوا يونانيين، لكن يظهر بإنهم لم يكونوا يحترموا الملك ولا الآلهة ولا حُرمة المعابد المصرية، بل كانوا يعيثون في الأرض فساداً، كما يذكر النص:
- (أما مضللو العصاة في زمن والده وهم الذين عاثوا في الأرض فسادًا، وألحقوا أضرارًا بالمعابد، فإن هؤلاء عندما أتى إلى «منف» عاقبهم انتقامًا لوالده ولبلاده بما يستحقون)
- (تعدوا الطريق التي كان يحبها جلالته، والتي هي تصميم الآلهة)
- (تأمل، لقد جمع العدو الجنود، وتخبطوا في المقاطعات، وضربوا أرض «حور» أي المعابد وتعدوا طرق جلالته وطرق والده المبجل، وقد أمر الآلهة أن يقهروا في «منف» في العيد، عندما يتسلم مملكة والده، وقد قتلهم عندما طعنهم/ضربهم بالخشب).
- (فالأعداء الذين جمعوا الجنود وقادوهم ليشيعوا في المقاطعة الفوضى، وخربوا المعابد، وكذلك الذين اعترضوا طريق الملك ووالده؛ فإن الآلهة جعلتهم في قبضته في «منف»، وذلك في عيد تسلمه وظيفة ملك والده، وقد جعلهم يُضربون بالخشب).
- (وقد زحف جلالته نحو … بوساطة الأعداء الذين كانوا في داخلها؛ لأنهم عملوا أضرارًا كثيرة في مصر، ولقد تعدوا الطريق التي كان يحبها جلالته، والتي هي تصميم الآلهة...وقد أعطى فضة كثيرة من أجل ذلك)
- (وقد زحف على مدينة «شكان/سجان» التي كانت محصنة بكل الأعمال الممكنة؛ لأنه كان يوجد بداخلها أسلحة كثيرة وكل معدات الحرب. وقد أحاط العدو الذي كان في المدينة المذكورة بالجدران والسدود من جوانبها الخارجية، وهؤلاء كانوا قد ارتكبوا أوزارًا كثيرة بالنسبة لمصر؛ وذلك لأنهم لم يعملوا على حسب أمر الملك أو أمر الآلهة).
لذا فَمن المُحتمل بإنهم قادة يونانيين كانوا يُهيجون الشعب ولا يَحترمون مٌقدرات ولا مٌقدسات المصريين، وإن اسلوبهم هو ما قاد لوجود تمردات مِن المصريين، بل اعتبروا الأرض (أرضهم) وعاثوا فيها فساداً، ومِن ثَم أصبحوا أعداء للآلهة ومن ثم أعداء للملك.
(ب) ولكن الاحتمال الثاني أنهم كانوا قادة مصريين، ثاروا على (حكم الملك) و(المعابد) لإثارة الشعب ضد اليونانيين والبطالمة، بالأخص عندما سعى البطالمة لكسب دعم الكهنة المصريين لضمان شرعية حكمهم، حيث اعتمد البطالمة على منح الامتيازات للمعابد مثل الإعفاء من بعض الضرائب، ترميم المعابد القديمة، تمويل الطقوس، ومنح هبات من الأراضي. في المقابل، دعم الكهنة الشرعية الدينية والإلهية للملك، عبر دمج صورة الملك البطلمي بالفرعون المصري، وتثبيت ذلك في النقوش والاحتفالات الدينية. وهو ما يثبته كذلك حجر رشيد (196 ق.م) الذي يقدم مثال نموذجي ويبيّن تحالفًا واضحًا بين الكهنة والبطالمة، حيث اجتمعت الكهنة ليعلنوا الامتنان لبطلميوس الخامس إبيفانيس وعطاياه تجاه المعابد، في المقابل، قرر الكهنة أن تُقام له تماثيل في المعابد، وأن تُقام له أعياد، وأن يُعبد جنبًا إلى جنب مع الآلهة. هذا التحالف الديني–السياسي هو ما منح الحكم البطلمي غطاءً شرعيًا في أعين المصريين، وهو ما أثار القادة المصريين، لذا أعلنوا الحرب ضد الملك وضد الكهنة والمعابد.
وهو ما يعترف به بوليبيوس بقوله:
(حين حاصر بطلميوس، ملك مصر، مدينة ليكوبوليس، استسلم له قادة/ زعماء/ أمراء المصريين οἱ δυναστoὶ τῶν Αἰγυπτίων في رعب دون قيد أو شرط. لكنه أساء معاملتهم، وبذلك عرّض نفسه لخطر عظيم. وحدث أمر مشابه حين أوقع بوليكراتس بالمتمرّدين وصاروا في قبضته. إذ إنّ أثينيس Athinis، وباوسيراس Pausiras، وخيسوفوس Chesufus، وإيروباستوس Irobastus، وهم الزعماء الباقون على قيد الحياة، اضطرّوا بحكم الظروف أن يأتوا إلى سايس Sais ليسلّموا أنفسهم إلى أمانة الملك. غير أنّ بطلميوس، إذ خان العهد، ربطهم عراةً إلى العربات، وجرّهم في الشوارع، وبعد أن عذّبهم قتلهم. وعندما بلغ نوكراتيس بجيشه، وكان أريستونيكوس قد قدّم له الجنود المرتزقة الذين جندهم من اليونان، أخذهم وسار إلى الإسكندرية. وهكذا لم يشارك في أي عمل من أعمال الحرب، بسبب جور بوليكراتس مع أنّ عمره كان يومئذٍ خمسًا وعشرين سنة) (Pol. 22.17.1–6).
فهنا يوضح بوليبيوس (22. 17. 1–6) بالتفصيل وقائع قمع الثورات في مصر البطلمية في عهد بطلميوس الخامس إبيفانيس:
- الحصار الأول (ليكوبوليس 197 ق.م):
حيث حاصر بطلميوس الخامس مدينة ليكوبوليس (Lycopolis) في مقاطعة البوصيريت (Busirite). وقد استسلم القادة المصريون استسلموا طوعاً، لكن الملك أساء معاملتهم (استسلموا في أمان، لكنه غدر بهم وقتلهم).
- الحادثة الثانية (سايس 185 ق.م):
حيث تمكن بوليكراتس (Polycrates) تمكّن من أسر المتمرّدين، وعندما جاء القادة الباقون على قيد الحياة إلى سايس ليسلّموا أنفسهم، خان بطلميوس الخامس العهد كذلك وربطهم عراة إلى العربات، وجُرّوا في الشوارع، وعُذّبوا، ثم قُتلوا.
هؤلاء القادة كانوا مصريين؛ إذ الأسماء التي يذكرها بوليبوس (أثينيس Athinis، باوسيراس Pausiras، خيسوفوس Chesufus، إيروباستوس Irobastus) مكتوبة بصيغة يونانية منقولة عن المصرية. فالمؤرخون الإغريق كانوا يكتبون الأسماء الأجنبية بحروف يونانية، وغالبًا يكيّفونها مع أوزان يونانية (إضافة -ας، -ος في النهاية). هذا يجعل الاسم يبدو يونانيًا شكليًا، لكن جذوره مصرية، وعلى هذا فأن أسماءهم المصرية هي كالتالي:
- Athinis (Ἀθινις): يُرجَّح أنها صيغة يونانية لاسم مصري يبدأ بعنصر "آثين/آتن"، ربما مرتبط بالشمس أو بأتون.
- Pausiras (Παυσιρας): يبدو أنه نقل يوناني لاسم مصري يبدأ بعنصر "باوسير" أو "با-أوسير" (أي: "الذي ينتمي إلى أوزير/أوزيريس").
- Chesufus (Χησουφος): ربما من اسم مصري فيه عنصر "خيسو" أو "خسو" (قد يرتبط بكلمة "خاسو" = الغرباء أو الأقاليم).
- Irobastus (Ἰροβαστος): يحتمل أنه من "إيرو–باستت" (خادم/كاهن الإلهة باستت).
أي أنّها أسماء مصرية خالصة، لكنها وصلت إلينا مشوّهة قليلًا بسبب النقل إلى اليونانية.
وعلى هذا يتضح أن الحركة المصرية استمرت ضد فيلوباتور و إبيفانيس للاستقلال بمصر، لذا يَستخدم بوليبوس يستخدم عبارة "الحرب ضد المصريين" وكأنّه يشير إلى غضب شامل اعترم المصريين، بالأخص الدلتا.
ونلاحظ إن بوليبوس عادةً يكتب عن البطالمة من منظور سياسي–عسكري. لكن هنا، وللمرة الأولى، يذكر أسماء قادة مصريين بأعيانهم مما يعني أنّ الثورة (185 ق.م) كانت كبيرة بما يكفي ليلتقط تفاصيلها، وأنّ زعماءها كانوا معروفين كمقاومين مصريين. فالنص يَعطي لمحة نادرة عن هوية قادة الانتفاضة المصرية في العصر البطلمي.
وهنا نُلاحظ أن الجانب الديني لعب دوراً، فهل مِن الممكن ان تكون نقطة بدء المسيحية هي بتحويل الثورة ضد الحاكم إلى الثورة الروح بدعم مِن الكهنة!
يُعلق كذلك بوليبوس على كلامه الذي ذكره في (Polybius 5.107) بأنّ فيلوباتور ارتكب خطأً كبيرًا، حين اضطر فيلوباتور إلى الاستعانة بالجنود المصرية، لأن عدد المرتزقة البطالمة لم يكن كافيًا في معركة رفح؛ غير أنّ هذه الخطوة، في نظر بوليبوس، كانت بداية لمشكلات جسيمة، إذ شجعت المصريين على الثقة بأنفسهم ومهّدت لاحقًا لتمرّدات واسعة ضد السلطة البطلمية. إذ إنّهم، وقد انتشوا بانتصارهم، صاروا أكثر جرأة، وأيقنوا أنّ بوسعهم الاعتماد على أنفسهم، فبحثوا عن قائد خاص بهم، ولم يطل الأمر حتى وجدوا ضالتهم.
وبعدما عاد، يكمل بوليبوس قائلا:
(قد يتساءل بعض قرّائي لماذا، بينما عالجتُ في مواضع أخرى تسلسل أحداث كل سنة على حدة، فإنّي في حالة مصر وحدها أقدّم هنا روايةً لأحداث امتدّت على فترة طويلة. والسبب في ذلك أذكره كما يلي: إن بطلميوس الرابع فيلوباتور، الذي أتحدث عنه الآن، بعد انتهاء الحرب على سوريا الجوفاء (Coele‑Syria)، انصرف كليًا عن طريق الفضيلة، وأخذ يعيش حياةً ماجنة كما وصفتها من قبل. ثم في أواخر حكمه اضطرته الظروف إلى خوض الحرب التي ذكرتُها، وهي حرب لم يكن فيها ما يستحق الذكر سوى التوحّش المتبادل وفوضويّة المقاتلين؛ فلم تَشهد معركةً فاصلة، ولا قتالًا بحريًا، ولا حصارًا، لذلك بدا لي أنّ روايتي ستصير أسهل عليّ في الكتابة، وأسهل على قرّائي في المتابعة، إن أنا عالجت هذا الجزء من مهمّتي لا بالاقتصار على التلميح سنويًا إلى أحداث صغيرة لا تستحق كثيرًا من الانتباه، بل بأن أقدّم مرّة واحدة صورة حيّة، إذا جاز القول، لطبيعة هذا الملك) (بوليبوس، الكتاب 14، الفصل 12).
ولذا فَمن الواضح أن الانقلاب والتمرد الشعبي كان مٌسلحاً، وأصبح هناك قتالا ومجازر دموية وهي الحرب التي يصفها (بالحرب ضد المصريين) التي كان قادتها مصريين يسعون للاستقلال، تلك الحرب التي كانت (فوضوية، ودموية وتوحش متبادل، ضارية ووحشية من دون معارك فاصلة أو حصارات منظّمة) (بوليبوس 14. 12).
الإشكال الزمني عند بوليبيوس
-----------------------------
بوليبيوس في (5. 107) يوحي بأن التمرّد وقع "مباشرة بعد رفح" (217 ق.م)، لكنه في (14. 12) يؤكد أن فيلوباتور عاش حياة ترف فترة طويلة بعد الحرب، ثم بعد زمن "أُجبر" على مواجهة التمرّد. هذا تناقض ظاهر: هل الثورة كانت فور رفح، أم متأخرة لاحقًا في عهده؟
التفسيرات الممكنة
- بعض الباحثين حاولوا تأويل كلمة "مباشرة" عند بوليبيوس على أنّها لا تعني فورًا، بل "نتيجة مباشرة" لرفح، حتى لو بعد سنوات. أي أنّ بذور الثورة زُرعت يوم سلّح المصريين، لكنها نضجت لاحقًا.
- كان هناك بالفعل تمرّد أوليّ بعد رفح، ثم تمرّد أكبر لاحقًا في العهد نفسه.
مرسوم منف (Memphis Decree, 217 ق.م):
---------------------------------------------------
تورد النسخة الديموطيقية تفاصيل حملة رفح وانتصار فيلوباتور، وما تلاها من استقبال حافل في سوريا ثم عودته المظفرة إلى مصر حيث أغدق المكافآت على جيشه. أمّا النسخة اليونانية فتقتصر على ما جرى بعد عودته، ولا يرد في أيٍّ من النصّين ذكرٌ لثورة داخلية أو اضطراب محلّي . ولكن هذا هو البديهي والطبيعي لانه مرسوم احتفالي بالنُصر فكيف يذكر التمردات!!
III. بطلميوس الخامس إبيفانيس (Ptolemy V Epiphanes) – مصر السفلى (197–185 ق.م)
==========================================================
ناقشنا آنفاً مرسوم حجر رشيد، وكيف هو مُرتبط بالحرب (ضد المصريين) التي خاضها فيلوباتور، وها هو إبيفانيس ابنه يستكمل طريق أبيه، وقد ناقشنا سابقاً لما تم الهجوم على المعابد بسبب التعاون الديني السياسي بين الكهنة وبين البطالمة، وهو ما أدي إلى غضب القادة المصرية، فهو شهادة على استمرارية الثورات والتمردات ضد البطالمة.
مرسوم حجر رشيد (Rosetta Stone, 196 ق.م) يذكر المرسوم ما يلي:
=============================================
(١) النص المصري القديم
(وقد زحف جلالته نحو … بوساطة الأعداء الذين كانوا في داخلها؛ لأنهم عملوا أضرارًا كثيرة في مصر، ولقد تعدوا الطريق التي كان يحبها جلالته، والتي هي تصميم الآلهة، وعلى ذلك فإنه سد كل القنوات التي تجري في هذه المدينة، ولم يعمل مثل ذلك بوساطة الملوك السابقين، وقد أعطى فضة كثيرة من أجل ذلك.
وعين جلالته مشاة فرسانًا على هذه الترع لحراستها وحمايتها — الباقي ترك — … عميقة جدًّا، وقد تغلب جلالته على هذه المدينة، وأخضع الأعداء الذين كانوا في داخلها، وقد أوقع فيهم مذبحة عظيمة كما فعل «رع» «وحور» بن «إزيس» مع عدوهما قبل ذلك في هذا المكان.
تأمل، لقد جمع العدو الجنود، وكان على رأسهم، وتخبطوا في المقاطعات، وضربوا أرض «حور» (= المعابد) وتعدوا طرق جلالته وطرق والده المبجل، وقد أمر الآلهة أن يقهروا في «منف» في العيد، وهناك كذلك يتسلم مملكة والده، وقد قتلهم عندما طعنهم/ضربهم بالخشب.
(٢) ترجمة النص الديموطيقي
--------------------------------
(وقد زحف على مدينة «شكان/سجان» التي كانت محصنة بكل الأعمال (الممكنة)؛ لأنه كان يوجد بداخلها أسلحة كثيرة وكل معدات الحرب. وقد أحاط العدو الذي كان في المدينة المذكورة بالجدران والسدود من جوانبها الخارجية، وهؤلاء كانوا قد ارتكبوا أوزارًا كثيرة بالنسبة لمصر؛ وذلك لأنهم لم يعملوا على حسب أمر الملك أو أمر الآلهة.
وقد سد (الملك) القناة التي تحمل المياه للمدينة المذكورة، ولم يكن في استطاعة الملوك السالفين أن يأتوا بمثل ما فعل، وقد أنفق نقودًا كثيرة على ذلك، وأمر المشاة والفرسان أن يحرسوا القناة المذكورة، وأن يتنبهوا لفيضان المياه (النيل) التي كانت مرتفعة في السنة الثامنة؛ وذلك لأن القناة المذكورة التي كانت تجري لري حقول كثيرة جدًّا كانت منخفضة عنها، وقد استولى الملك على المدينة المذكورة بالقوة في زمن قصير، وقد حاصر الأعداء الذين كانوا في الداخل وسلمهم للمقصلة مثل ما فعل «رع» و«حور» بن «إزيس» مع أولئك الذين قاموا في وجههما من الأعداء قبل ذلك في المكان المذكور.
فالأعداء الذين جمعوا الجنود وقادوهم ليشيعوا في المقاطعة الفوضى، وخربوا المعابد، وكذلك الذين اعترضوا طريق الملك ووالده؛ فإن الآلهة جعلتهم في قبضته في «منف»، وذلك في عيد تسلمه وظيفة ملك والده، وقد جعلهم يُضربون بالخشب.
(٣) النص الإغريقي
----------------------
وكان الملك قد زحف على «ليكوبوليس- سجن الكوم، الغربية» الواقعة في المقاطعة البوصيرية (المقاطعة التاسعة من مقاطعات الوجه البحري) وهي التي كانت قد احتُلت وحُصنت لمقاومة حصار مجهز بمستودعات أسلحة وبكل الموارد الأخرى، ولما رأى أن أمد العصيان كان طويلًا بين الرجال الكفرة المتجمعين فيها، وهم الذين كانوا قد ألحقوا ضررًا بالغًا بالمعابد وبكل سكان مصر؛ فإنه بعد أن عسكر أمامها أحاطها بالتلال والخنادق والتحصينات المنيعة، ولكن لما كان النيل قد ارتفع ارتفاعًا عظيمًا في السنة الثامنة «من حكمه» وقد كان في العادة يفيض على السهول فإنه منعه، وذلك بسده عند نقط عدة عند فتحات مجاري المياه، وقد أنفق على ذلك مبلغًا من المال ليس بالقليل. هذا، وقد أقام على حراستها فرسانًا ومشاة —وكان الثوار أمَّلوا أن يرفع فيضان النيل الحصار. وفي الحال استولى على البلدة بالهجوم، وقضى على كل الرجال الكفرة الذين كانوا فيها، وذلك مثلما أخضع سابقًا «هرميس» و«حور» بن «إزيس» «وأوزير» العصاةَ في نفس الإقليم، أما مضللو العصاة في زمن والده وهم الذين عاثوا في الأرض فسادًا، وألحقوا أضرارًا بالمعابد، فإن هؤلاء عندما أتى إلى «منف» عاقبهم انتقامًا لوالده ولبلاده بما يستحقون عندما وصل إلى هناك ليؤدي الأحفال اللازمة لتسلمه التاج)
التحليل:
------
عندما نضع ما مرسوم نقش حجر رشيد إلى جانب ما ذكره بوليبوس (Pol. 22.17.1–6) أنّه حين حاصر بطلميوس مدينة ليكوبوليس (Lycopolis)، استسلم له قادة المصريين (οἱ δυναστoὶ τῶν Αἰγυπτίων)، غير أنّه قتلهم رغم ذلك، يتضح لنا إنها كانت ثورة مصرية مُسلحة وغضب شعبي، حاول بطليموس إبيفانيس امتصاص الغضب بترميم المعابد والاعفاءات الضريبة على الشعب بالإضافة إلى انهاء الحركة المسلحة ضد وقتل قادة ثورتها، بل يظهر أن القادة المصريين ومعاونين من اليونانيين، كانوا يَضعون أنفسهم كند لبطليموس إبيفانيس.
ومن هنا تتضح الصورة التمرد الذي واجه فيلوباتور ومن بعده بطليموس الخامس، كان تمرد مصري، وتوحش بسبب ما يقوم به المسئولين البطالمة من ناحية ومن ناحية أخرى دعم القادة المصريين، ضده وضد المعابد.
ونستطيع أن نستخلص حسب ما ورد في حجر رشيد أنّ المتمرّدين جمعوا جيشًا، وأثاروا القلاقل في الأقاليم (وفي النسخة اليونانية: "أقلقوا البلاد") وألحقوا الأضرار بالمعابد ("شواطئ حورس" في النسخة الهيروغليفية، السطر 1). ويُرجَّح أنّ عبارة "إقلاق البلاد" مقصود بها مصر عمومًا لا تحديد تمرّد زراعي بالذات، فالمراد عندهم كان ببساطة الإشارة إلى البلاد كلها، لا إلى جزء منها دون الآخر وذلك في قولهم (المتمردين أزعجوا البلاد). أمّا مهاجمة المعابد فمعلومة أكثر أهمية: فإذا كان الغضب قد بلغ هذا الحدّ، فهو لم يُوجَّه ضد اليونانيين أو مؤسساتهم فحسب، بل كان رجال الدين المصريون أنفسهم هدفًا للهجوم. وغالبًا ما يُفَسَّر هذا على أنّه تعبير عن أزمة قومية خصوصا أن يصبح الكهنوت في صف المحتل الحكم البطلمي ويُشرع له ومن ثمّ هدفًا مشروعًا للمتمرّدين القوميين.
شهادة بردية (P. Mich. inv. 6974)
-----------------------------------------
وهي بردية تحوي على مرسوم صادر في 12 نوفمبر 198 ق.م «بشأن قادة المصريين الذين استُعبدوا في أثناء التمرّد في البلاد» (περὶ τῶν ἐχόντων σώματα Αἰγυπτία ἀπὸ τῆς ἐν τῇ χώρᾳ ταραχῆς Owners of Egyptians who were enslaved during the revolt in the country). ويهدف المرسوم إلى توثيق شراء عبد يُدعى "ثاسيون" (Thasion).
ويكشف هذا النص عن جانب آخر من وحشية التمرّد: إذ كان رجال المتمرّدين يُقتلون، وتُستعبد نساؤهم. ويُذكر أنّ المشتري يقيم في مدينة أرسينوي (Arsinoe)، شارع "إيورغيتيس" (Euergetis Street)، دون أن يكون ثمة وضوح إذا ما كان ثاسيون من ضحايا التمرّد في مصر السفلى أو العليا.
النتيجة
--------
يبدو أنّ إبيفانيس كان يتوقّع أنّ سقوط ليكوبوليس سنة 197 ق.م سينهي مشاكله في مصر السفلى، لكن الأمل خاب، إذ لا نستطيع الجزم إن كانت الدلتا قد بقيت في حالة تمرّد مفتوح بعد سقوط المدينة، أم أنّ أحداث سنة 185 مثّلت اندلاعًا جديدًا. وما يلفت الانتباه مرة أخرى هو أنّ المعابد كانت هدفًا رئيسيًا لهجمات المتمرّدين. وللمرة الأولى يذكر بوليبوس أسماء زعماء الانتفاضة، وجميعهم يحملون أسماء مصرية. فالتمرّد كان ذا طابع قومي خالص فإنّ قيادته جاءت من مصريين، وهم الذين وفّروا للمتمرّدين محورًا للولاء.
IV- بطلميوس الرابع فيلوباتور (Ptolemy IV Philopator) / بطلميوس الخامس إبيفانيس (Ptolemy V Epiphanes) ، ثورة حَـرُنّوفر Haronnophris وخَـعُنّوفر Chaonnophris في طيبة (206–186 ق.م)
================================================
مع تتويج الزعيم المصري حَـرُنّوفر (Haronnophris) فرعونًا في طيبة أواخر سنة 205 ق.م، اندلعت أخطر ثورة محلية ضد الحكم البطلمي. فقد استمرت نحو عشرين عامًا، حتى سنة 186 ق.م حين هُزم خلفه خَـعُنّوفر (Chaonnophris)، وظلّت مناطق واسعة من مصر العليا تتقلّب بين السيطرة البطلمية وهيمنة المتمرّدين بحسب تغيّر موازين القوة. والتي يصفها ديودوروس الصقلي (Diod. 31.17b) بأنه "حيث اجتاحت روح التمرد/ الانتفاضة/ الثورة السكان" ويستخدم كلمة τάραξις التي تعني تمرد، ثورة.
تشير بوادر الاضطراب بإن الثورة كانت قائمة بالفعل في أواخر عهد بطلميوس الرابع فيلوباتور (Ptolemy IV Philopator) مثلما أوردنا سابقاً، بالإضافة إلى أنه توقّف دفع الضرائب في بنك طيبة سنة 207 ق.م ولم يُستأنف إلا سنة 192/191 ق.م، كما تعطّلت أعمال البناء في معبد إدفو سنة 207/206 بسبب ما تصفه نصوص هيروغليفية بـ «المتمرّدين الجهلة».
ويرى أخرون أنّ الثورة بدأت مع تولّي بطلميوس الخامس إبيفانيس (Ptolemy V Epiphanes)، مستندًا إلى نص P. Gr. Choachiti = Papyrus Graecus Choachitis 12, V, 28–29 (Choachitis" هو اسم مقاطعة في مصر القديمة كانت تقع في منطقة الفيوم) الذي يذكر: «ἐν τῇ γενομένῃ ταραχῇ ἐπὶ τοῦ πατρὸς τῶν βασιλέων θεοῦ Ἐπιφανοῦς» (أثناء الاضطراب الذي وقع في عهد الملك الإله إبيفانيس، والد الملوك [الحاليين]») لكنه قد يعني ببساطة أنّ الثورة كانت جارية آنذاك لا أنّها اندلعت في عهده حصراً، ومع توقّف الضرائب وهجوم المتمرّدين على إدفو منذ 207/206، يبدو أنّ الشرارة انطلقت بالفعل في أواخر عهد فيلوباتور.
أما فيما يَخص بسنوات حكم حَـرُنّوفر وخَـعُنّوفر فالمعطيات حولها وفيرة نسبيًا وجميعها نصوص ديموطيقية، عدا نقش فريد من أبيدوس باللسان المصري لكن بحروف يونانية. وتشير النصوص إلى مهاجمة معبد إدفو وربما معبد آمون في طيبة، إلا أنه لم يمنع نقل جثمان والدة ثور أبيس من دندرة إلى منف، وهذا يعني أنّ الثوّار سمحوا عمدًا بمرور الجثمان احترامًا للشعائر المقدّسة.
تُسمّى الثورة في الوثائق عادةً (ταραχή) أي (اضطراب، فتنة، شغب، قلاقل)، كما هناك نص يسميها بــ (ثورة المصريين τῶν Αἰγυπτίων ) أي ثورة المصريين ضد البطالمة، فمن الواضح أنّنا بإزاء ثورة مصرية صِرف.
وقد أفضت حالة الفوضى إلى اغتصاب ممتلكات وأراضٍ بغير وجه حق؛ وأشهر الأمثلة قضية هيرمياس (Hermias): فقد كان أبوه، بطلميوس (Ptolemaios)، جنديًا حكوميًا انسحب إلى ما وراء طيبة أثناء الثورة (P. Tor. Choachiti 12, V, 27–29 [117 ق.م]). في غيابه استولى آخرون على منزله أو جزء منه. حاول هيرمياس سبع مرات (126/125–117/116) استعادة ملكيته لكنه فشل في إقناع السلطات. وإذا صحّ أنّ نص SB VIII, 9681 (175–169 أو 163–145 ق.م) يشير إلى هذه الثورة، فنجد حالة مشابهة: فارس يوناني يواجه نزاعًا حول ملكية منزله في إدفو، إذ غادر والده البلدة زمن «ثورة المصريين»، فاستولى آخر – ربما مصري – على العقار. وكذلك أثناء الثورة، تركت زوجة بيتحاروريس أرضها (80 أرورا) وسافرت إلى الدلتا، ثم أعلنت الدولة الأرض بلا مالك (ἀβίανoτα) وباعت 57 أرورا لرجل اسمه بيمسايس. عند عودتها، لم تجد إلا 27 أرورا، لكن بيمسايس استولى عليها أيضًا ورفض إرجاعها.
تكشف هذه الشواهد عن آثار اجتماعية واقتصادية للثورة، لكنّها لا توضّح أسبابها المباشرة. ومع ذلك، يمكن استشفاف دوافعها من ردود الحكومة، عسكرية وإدارية. وهنا يبرز مصدران أساسيان:
- مرسوم منف سنة 196 ق.م (حجر رشيد): قرار كهنوتي لتكريم الملك إبيفانيس بعد قمع تمرّد ليكوبوليس في الدلتا (197 ق.م).
- مرسوم العفو (9 أكتوبر 186 ق.م): P. Köln Papyrologica Coloniensia (مجموعة البرديات المحفوظة ونُشرت من جامعة كولونيا بألمانيا VII, 313، والذي صُدر بعد شهر من هزيمة خَـعُنّوفر، ويُعد استجابة مباشرة من الحكومة لإنهاء الحرب.
الأول يكرّس شرعية الملك ويبرز دوره في حماية المعابد والسكان، بينما الثاني يعكس محاولة استيعاب المصريين بعد عقدين من التمرّد المتواصل في طيبة.
ففي مرسوم منف (Memphis decree) لا نجد سوى إشارة واحدة واضحة، لكنها موجزة، إلى الوضع في طيبة (السطر 19–20 في النص اليوناني؛ السطر 11–12 في النص الديموطيقي): وهي أنّ أيّ متمرّد يعود إلى موطنه سيحتفظ بممتلكاته. وهذا يفترض أنّ الحكومة كانت قد صادرت ممتلكاتهم، وأنها باتت الآن مستعدة لإعادتها إلى من تخلّى عن القضية وعاد إلى بيته. وبعبارة أخرى: كان ذلك عفوًا عامًا. ولعلّ انتصار الحكومة في الدلتا جعل الوقت مناسبًا لإظهار بعض التساهل، ومحاولة كسر شوكة المقاومة في طيبة عبر تقديم التنازلات.
قد تكون التدابير الأخرى التي اتخذها إبيفانيس وسُجّلت في المرسوم مرتبطة أيضًا بطيبة؛ ومن غير المعقول أن تكون بلا صلة بها. والجزء الذي يصف منح إبيفانيس يركّز تركيزًا شبه كامل على العطايا والامتيازات الممنوحة للمعابد والكهنوت؛ أمّا التنازلات المقدّمة إلى عامة الشعب فقد ذُكرت، لكن بإيجاز شديد. وهذا أمر مفهوم، إذ إنّ المرسوم صدر عن الكهنة، ومن الطبيعي أن يركّز على ما يخصّهم؛ غير أنّ هذا التركيز يظل لافتًا. فالأمر يعكس، جزئيًا على الأقل، إدراك الكهنة لأهميتهم المتزايدة بالنسبة للتاج، وربما تباهوا بالتنازلات التي استطاعوا انتزاعها من الملك. لكنه كذلك يعكس السياسة البطلمية: فالحكومة كانت تدرك أنّ حكم مصر من غير شرعنة الكهنوت المصري أمر شبه مستحيل، ومع ما كان يجتاح البلاد من ثورات، وقطاع لا يزال في حالة تمرّد فعلي، أصبح من المهمّ بشكل متزايد أن يُضمن ولاء سائر الكهنوت وألا يُستعدى بأي وجه من الوجوه.
ومن هنا تأتي سلسلة الإجراءات لمصلحتهم (السطر 14–18، 28–35 في النص اليوناني؛ السطر 8–10، 16–20 في النص الديموطيقي):
- ضمان جميع موارد المعابد القائمة،
- تخفيض الضريبة المدفوعة عند الدخول في السلك الكهنوتي إلى ما كانت عليه في السنة الأولى من حكم فيلوباتور،
- إعفاء الكهنة من الالتزام بالحضور إلى الإسكندرية كل عام،
- إعفاء بثلثي الضريبة على قماش البوص (byssos) مع إسقاط رسوم وغرامات مستحقة للخزانة،
- إعفاء الأراضي المقدسة من ضريبة الأرطبة (artaba tax) ، وضمان تخصيص الأبومايرا (apomoira) لمصلحة المعابد،
- وأخيرًا، منح متنوعة أخرى لصالح المعابد.
إنها قائمة مثيرة للإعجاب، اختُتمت بتتويج إبيفانيس فرعونًا، وهو حدث يزداد شأنه إذا كان حقًا أوّل بطلمي يُتوّج بهذه الصفة. إنّ مدى القلق الذي استبدّ بالبطالمة يتضح جليًا عند مقارنة وثيقة منف بأقدم المراسيم الكهنوتية الباقية بتمامها تقريبًا، وهو مرسوم كانوبوس (Canopus) المؤرّخ بسنة 238 ق.م، في عهد جدّ إبيفانيس، بطلميوس الثالث إيرجيتيس. ففي هذا الأخير، كان الاهتمام منصبًا بالدرجة الأولى على تنظيم المعبد، وتقويمه، وشعائره؛ وإيرجيتيس موصوف طبعًا بأنه محسن عظيم، لكن لا ذكر هناك لضمانات، أو إعفاءات ضريبية، أو إسقاط ديون. فلم يكن ثمة شعور لدى التاج بالحاجة إلى استرضاء الكهنوت. بعد جيل واحد، باتت الثقة البطلمية أضعف بكثير. وبمواجهة معارضة وطنية يقودها زعماء دينيون يقدّمون أنفسهم بوصفهم مخلّصين يبشّرون بعصر ذهبي جديد، صار الملك في حاجة ماسّة إلى دعم وطني–ديني آخر، فسعى إلى تأمين ولاء هذا الدعم عبر تنازلات بالغة السخاء.
ومع ذلك، لا يجوز أن نستنتج من هذا كله أنّ النزعة الوطنية وحدها تفسّر الوضع. فالإجراءات الموجّهة إلى عامة الشعب في مرسوم منف توحي بوضوح بأنّ السخط الاقتصادي والاجتماعي كان يُنظر إليه على أنه مشكلة قائمة. وقد خُصّت هذه الإجراءات بتلخيص سريع (السطر 13–14 في النص اليوناني؛ السطر 7–8 في النص الديموطيقي)، لكن لو كان الكهنة معنيّين بوصفها بالتفصيل نفسه الذي وصفوا به المنح الخاصة بهم، لربما بدت أكثر أهمية بكثير. إذ نقرأ أنّ الملك ألغى بعض الضرائب، وخفّف أخرى (من دون أن يُحدَّد أيها)، وأسقط المتأخرات الضخمة المستحقّة للخزانة، وأفرج عن بعض المسجونين، وأسقط الدعاوى عن آخرين. فالضرائب، والديون، والنظام القضائي، كلها عناصر أساسية في استياء الشعب المصري، وقد استجاب الملك بتقديم تنازلات. فالشعب لم يكن فحسب مضطهدًا، بل كان مضطهدًا من قِبل نظام أجنبي. وقد وجدت صيحات الغضب المصرية تعبيرها في القومية الدينية والتمرد الشعبي والقومية الوطنية، وكانت تلك العصا بعناصرها المجتمعة ضربوا بها مضطهديهم الأجانب، لكن ليس بالضرورة هي التي وضعت العصا بين أيديهم ابتداءً.
صورة أوفى بكثير عن الضيق الاقتصادي والاجتماعي نجدها في مرسوم العفو لعام 186 ق.م (P. Köln VII, 313) يبد النص بما بقي منه بإعلان عفو عن الذين هجروا بيوتهم (العملية المعروفة بـ anachoresis) وارتكبوا أعمال سلب وغيرها، ما عدا القتل أو نهب المعابد (A 1–6). والمقصود بهذا، على الأرجح، أولئك الذين انضموا إلى قضية المتمرّدين، لكن من غير أن يقترفوا عنفًا مفرطًا. ثم يأتي عفو عام آخر عن الجرائم المرتكبة قبل تاريخ محدّد (A 6–10)، ثم عفو ثالث لاحقًا في النص (A 25–27) مخصّص لرجال الشرطة صغار النفوس، وبين هذه وتلك سلسلة كاملة من إعفاءات الضرائب والديون لفئات مختلفة (A 10–25)، مثل الفلاحين على الأراضي الملكية (A 13–17)، أو أصحاب الكروم والبساتين والحمّامات (A 19–22). كما جرى تقييد سلطات الشرطة في الاعتقال، على الأقل في ما يخصّ الديون والنزاعات الخاصة (B 10–20)، ووضعت قيود على مصادرة السفن (B 5–9).
فالضرائب المفرطة، والديون، والموظفون الفاسدون: هذه بعض المكوّنات الجوهرية في حالة الاستياء بمملكة إبيفانيس. وحين اقترنت بقوة الغضب الوطني، لم يكن من المستغرب أن تنفجر مصر في ثورة خصوصا في ظل المُحتل الأجنبي، ومع استمرار الثورات المحلية ضده كذلك في الدلتا من عناصر مُسلحة.
V-بطلميوس السادس فيلوميتور Ptolemy VI Philometor، وبطلميوس الثامن يورجيتيس الثاني Ptolemy VIII Euergetes II، وكليوباترا الثانية Cleopatra II: ديونيسيوس بيتوسارابيس Dionysius Petosarapis والصعيد (حوالي 165 ق.م)
=================================================
تأتي ثورة ديونيسيوس بيتوسارابيس في سياق سياسي بالغ الاضطراب في عهد الحكم المشترك لكل من بطلميوس السادس فيلوميتور (Ptolemy VI Philometor) وأخيه بطلميوس الثامن يورجيتيس الثاني (Ptolemy VIII Euergetes II) وأختهما كليوباترا الثانية (Cleopatra II). فبعد وفاة بطلميوس الخامس، آل الحكم إلى هؤلاء الملوك الثلاثة وهم لا يزالون في مقتبل العمر، الأمر الذي أوجد حالة من الانقسام داخل البيت البطلمي بين أنصار الإخوة، كما شجع القوى الخارجية على التدخل. فقد استغل أنطيوخوس الرابع إبيفانيس (Antiochus IV Epiphanes) هذا الضعف وغزا مصر (170–168 ق.م)، ولم تُرفع يد السلوقيين عنها إلا بتدخل الرومان. كل هذه الظروف أظهرت بجلاء هشاشة السلطة المركزية، وأتاحت المجال أمام شخصيات محلية طموحة –مثل ديونيسيوس بيتوسارابيس– لتجربة حظها في الاستيلاء على الحكم أو على الأقل توجيه التمرّد ضد البطالمة.
يذكر ديودوروس (31. 15a) أنّ ديونيسيوس بيتوسارابيس، وهو أحد "أصدقاء الملك"، حاول الاستئثار بالسلطة. وبعد فشله في إشعال العداء بين الملكين الشابين انسحب، ثم بدأ يحرض بعض الجنود الميالين إلى التمرّد، فانتقل إلى مدينة إيلوزيس (Ἐλευσίς / Eleusis) –وهي حيّ أو معسكر عسكري في ضواحي الإسكندرية– حيث اجتمع إليه من اختار الثورة، وتمكّن من حشد قوة قوامها أربعة آلاف جندي متمرّد. لكن الملك خرج عليه وانتصر، فانسحب ديونيسيوس "إلى المصريين"، محاولًا إثارة العامة على العصيان. وبما أنّه كان رجلًا نشيطًا وقوي التأثير، فقد لقي ترحيبًا واسعًا بين المصريين، وسرعان ما وجد من بينهم كثيرين مستعدين للانضمام إليه. لكنه لا يوضح ديودوروس ما آلت إليه حركته، ولا يحدّد موقع نشاطه بدقة؛ غير أنّ بدايته كانت قرب الإسكندرية، بينما يبدو من الإشارة إلى انسحابه "إلى المصريين" أنّه اتجه إلى الداخل. ومن المؤكّد أنّ اضطرابات اندلعت في الفيوم وهيراكليوبوليس، وربما اقتصر نشاطه على مصر السفلى، وهو ما قد يؤكده نص ورقة برديّ ترجع لأواخر 164 ق.م (P. Tebt. III, 781) عن تدمير معبد آمون في مويريس (Μοῖρις / بحيرة قارون الحالية) بإقليم الأرسينوي، وكذلك وثيقة أخرى (P. Amh. II, 30 = Wilcken, Chrest. 9) من سكنوبايو نيسوس في الفيوم، حيث أجبر المتمرّدون الأهالي على إحراق عقود الملكية.
إنّ إجبار المتمرّدين للمصريين على إحضار عقودهم القانونية وإحراقها لا يمكن اعتباره تصرّفًا عشوائيًا، بل هو عمل ثوريّ بالغ الدلالة؛ إذ استهدف في جوهره إسقاط النظام القانوني–الإداري البطلمي الذي كانت العقود تمثّل عماده الأساسي في توثيق الملكية وفرض الضرائب. كما أنّ كثيرًا من هذه العقود كانت تُرتّب ديونًا ثقيلة على الفلاحين أو التزامات تجاه المعابد والدولة، ومن ثمّ فإن إحراقها عُدّ بمثابة إعلان لإلغاء تلك الديون والقيود. كذلك فإن ضياع المستندات الرسمية أتاح التشكيك في شرعية الملكية، بل فتح الباب أمام إعادة توزيعها أو استعادتها من أيدي اليونانيين والمتعاونين مع السلطة. وأخيرًا، فإن اختيار العاصمة بالذات لتنفيذ هذا الإجراء منح الحدث بُعدًا رمزيًا واضحًا، باعتباره إعلان قطيعة مباشرة مع الدولة البطلمية ونظامها المالي–القانوني.
كما تكشف بعض الوثائق البردية عن اتساع رقعة الاضطرابات المرتبطة بثورة ديونيسيوس بيتوسارابيس، وامتدادها إلى هيراكليوبوليس، حيث نقرأ في (P. Gen. III, 128.2-10) أنّ جنديًا يهوديًا يُدعى ماردونيوس كان قد اختفى لمدّة عامين، ثم عاد ليستغل حالة الفوضى ليستولي على أملاك رجلٍ قُتل أثناء الأحداث، بينما مات والداه أيضًا في خضمّ الاضطرابات. وتدل هذه الرواية على أنّ التمرد استمر فترة غير قصيرة، بما يكفي لأن يختفي أشخاص لسنوات ثم يعودوا ليجدوا الأوضاع ما تزال غير مستقرة. ومن الشهادات الأخرى ما ورد في (UPZ I, 14.8-9)، حيث يذكر أبولونيوس أنّ والده جلوكيوس، وهو ناسك بارز في السيرابيون الأكبر بمنف، قد مات "في زمن الثورة"، وهو ما تؤكّده وثيقة أخرى تُؤرّخ الحادثة في أكتوبر 164 ق.م. وفي وثيقة أخرى (UPZ I, 7.12-14) نعلم أنّ موظفًا يوناني الأصل يُدعى بطلميوس، وكان يخدم في المعبد نفسه، تعرّض في نوفمبر 163 لاعتداء عنيف من الخبازين الذين اقتحموا الحرم بقصد طرده، بعد أن حاولوا ذلك سابقًا أثناء "الثورة"، مبرّرين فعلهم بأنّه يوناني، وهو ما يكشف بوضوح عن بُعد عرقي في هذه الصدامات بين المصريين واليونانيين. أما في الصعيد، فيسجّل ديودوروس (31 .17b) اندلاع حركة قوية حين اجتاح الشعب دافع شديد للثورة، فتوجّه الملك بجيش ضخم واستعاد السيطرة على المنطقة بأكملها ما عدا بانوبوليس (أخميم) التي كانت محصّنة طبيعيًا، فشكّلت معقلًا لأشدّ المتمرّدين بأسًا. وبعد حصار طويل استولى عليها، وعاقب قادتها بصرامة، ثم عاد إلى الإسكندرية. وتؤكّد أوستراكا يونانية نشرها (Skeat and Turner 1968) هذه الصورة، إذ تحوي نبوءة أُعلنت للملوك المشتركين (بطلميوس، وأخوه، وكليوباترا) تنبّأت بهزيمة المصريين وتقدّم الملك إلى طيبة، وهو ما يربط بين الشهادة الأدبية عند ديودوروس والأدلة الأثرية المباشرة. ومن مجموع هذه المصادر يتّضح أنّ ثورة ديونيسيوس لم تكن حدثًا عابرًا، بل حركة طويلة الأمد امتدت من الدلتا إلى الصعيد، وأفرزت مشهدًا من الفوضى الاجتماعية تداخل فيه الديني مع الاقتصادي والعرقي، قبل أن تُخمد تدريجيًا في أواخر 164 ق.م، مع بقاء بؤرها مشتعلة حتى 163–162 ق.م.
VI- بطلميوس الثامن يورجيتيس الثاني (Ptolemy VIII Euergetes II) وثورة حارسيس/ آرسيس (Harsiesis) 131–130ق.م
======================================
في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد كانت مصر البطلمية تعيش واحدة من أتعس مراحلها، إذ دخلت الأسرة الحاكمة في صراع دموي أضعف الدولة وأطلق العنان للثورات المحلية. فبعد وفاة بطلميوس السادس فيلوميتور سنة 145 ق.م، تولّى أخوه بطلميوس الثامن يورجيتيس الثاني الحكم، وتزوج من أرملته كليوباترا الثانية، ثم أقدم على قتل ابنها الصغير بطلميوس السابع ليستأثر بالعرش. غير أنّه لم يكتفِ بذلك، بل تزوج أيضًا من ابنة كليوباترا الثانية، أي كليوباترا الثالثة، مما أثار نقمة الأم وأشعل الحرب الأهلية. وفي سنة 132 ق.م أعلنت كليوباترا الثانية نفسها ملكة منفردة في الإسكندرية، مدعومة بجماهير واسعة ضد أخيها–زوجها بطلميوس الثامن، فاندلعت حرب أهلية استمرت نحو عشر سنوات، تقلبت خلالها السلطة بين الطرفين، واتسمت بمذابح ودموية شديدة. وفي النهاية، حوالي 126 ق.م، تمكن بطلميوس الثامن من استعادة السيطرة بالقوة، وانتقم من أنصار كليوباترا الثانية بوحشية، حتى قيل إنه سلخ جثث المعارضين وأرسلها إليها. وبعد سنوات من الفوضى، جرت مصالحة عائلية هشة، إذ حكم بطلميوس الثامن مع زوجتيه كليوباترا الثانية والثالثة، وبدأ يعدّ ابنه بطلميوس التاسع للحكم. لكن هذه المصالحة لم تُنهِ الانقسامات، بل كشفت انهيار الدولة من الداخل.
لا تنسى أنّ هذا التفكك الأسري والسياسي أضعف السلطة المركزية وأفسح المجال أمام المصريين لقيادة حركات مقاومة كبرى، مثل ثورة ديونيسيوس بيتوسارابيس في منتصف القرن الثاني ق.م، ثم ثورة حارسيس/ آرسيس في 131–130 ق.م، اللتين تجلّى فيهما السخط الشعبي على الحكم البطلمي، ومهّدتا تدريجيًا لانحدار المملكة البطلمية بأكملها.
في هذا الجو المضطرب ظهر رجل مصري يُدعى حارسيس/ آرسيس، استغل الموقف فاستولى على مبلغ ضخم قُدّر بتسعين وزنة من بنك طيبة (حوالي 2.5 طن من الفضة!) من الخزانة الرسمية. لذا سجلته النصوص "عدو الآلهة" (عدو المعابد والدولة البطلمية). فالثورة تحتاج جيشًا ضخمًا من المرتزقة والسلاح والمؤن. والتسعون وزنة من الفضة (نحو 2.5 طن) كانت كفيلة بتمويل رواتب الجنود فترة طويلة، لتأمين قوته في الجنوب ومواجهة البطالمة. السيطرة على الخزانة المركزية في طيبة إعلان صريح بأنه الحاكم الشرعي. البنك لم يكن مجرد مكان لحفظ المال، بل مؤسسة من مؤسسات الدولة البطلمية، والاستيلاء عليه كان تحديًا مباشرًا لسلطة الملك في الإسكندرية. أما في عيون المصريين، فقد مثّل ذلك دليلًا على أنّ خَـعُنّوفر ملكٌ حقيقي قادر على التحكم في موارد البلاد. لكن لم يدم حكمه طويلًا، إذ سيطر على طيبة لفترة وجيزة قبل أن يُجبر على التراجع شمالًا إلى مدينة إل-هيبه (El-Hibeh)، حيث نجده مذكورًا في الوثيقة الديموطيقية بتاريخ 16 سبتمبر 130 ق.م. ولا نعرف شيئًا آخر عن ثورته، بل إنّ معرفتنا القليلة عنه لم تتضح إلا بعدما قام العالم L. Koenen بجمع الخيوط المتفرّقة. وهناك إشارة عابرة محتملة إلى انتفاضته في نص (UPZ II, 225، سنة 131 ق.م)، لكن مُجرد اشارته كملك في مدينة إل-هيبة ببني سويف، فهذا يعني انهم اعتبروه ملكاً شرعياً. وتشير بعض النصوص إلى أحداث مرتبطة بثورته، فبردية (UPZ II, 225) تلمّح إلى اضطراب في تلك السنة، بينما رسالة من باثيريس (يناير 130 ق.م) تتحدث عن حملة عسكرية لقمع "الغوغاء" في هيرمونثيس/ أرمنت جنوب الأقصر، بوصفهم ثائرين.
لكن الأهم من ذلك هو خيبة الأمل التي حلت على البلاد والتي انعكست بوضوح في "نبوءة الفخّاري" (Oracle of the Potter) ]آلا تذكرنا بنبوءة حقل الفخاري في الإنجيل؟![ (تلك النبوءة التي كتبت على رويت بدم المُتمردين / يهوذا مثل نبوءتها الموجودة هنا المصرية[ ، التي تمثّل مثالًا نادرًا على الدعاية المصرية المعادية لليونان. فقد صيغت هذه النبوءة بروحٍ سوداوية تنبؤية، تنذر بزوال الإسكندرية حتى تصير مجرّد قرية صيادين، وعودة السلطة إلى منف، وازدهار مصر من جديد. ورغم أنّ الباحثين كانوا يضعون تاريخ هذه النبوءة في القرن الثالث، فإنّ الإجماع العلمي الآن يتجه إلى أنّها تنتمي إلى الحقبة 130–116 ق.م، أي مباشرة بعد ثورة حارسيس. وبما أنّها عمل منفرد لا يُعرف مدى انتشاره، يصعب الحكم إن كانت تعكس مقاومة فكرية واسعة ضد الحكم اليوناني، أو أنّها ظلّت محصورة في أوساط مثقفة محدودة. ومع ذلك، فإنّها تبقى شاهدة مهمّة على صدى السخط العام الذي عُبّر عنه مرارًا بالثورات المتكررة. ومن هنا، فرغم قلّة ما نعرفه عن حارسيس، فمن المرجّح أنّ أهميته كانت أكبر بكثير ممّا توحي به الشذرات القليلة الباقية من ثورته.
وبحلول الربع الأخير من القرن الثاني ق.م، كان الملك البطلمي منهكًا وممزقًا بفعل سنوات طويلة من الحرب الأهلية، ولا يظهر ذلك أوضح ممّا جاء في "مرسوم العفو العام" لسنة 118 ق.م (P. Tebt. I, 5 C. Ord. Ptol. 53)، الذي سجّل المصالحة بين بطلميوس الثامن وأخته كليوباترا الثانية وابنتها كليوباترا الثالثة. فقد كان هذا المرسوم شاهدًا مدوّيًا على تفشّي الفساد وانهيار النظام. تكرار الإجراءات السابقة فيه يبرهن فشلها المستمر: العفو عن المجرمين وقطاع الطرق، محاولة إعادة الناس إلى بيوتهم وأعمالهم، كلّها خطوات سبق تكرارها في أعوام 196 و186 و163 وحتى 145/144 ق.م وظلّت بلا جدوى.
وكما في السوابق، نلاحظ محاولات تهدئة الكهنوت وضمان ولائهم عبر العطايا، والإعفاءات، وحماية مواردهم وامتيازاتهم (الأسطر 50–84). أما على مستوى الضرائب، فقد تراكمت المتأخرات دون أمل حقيقي في تحصيلها، فأعلنت الحكومة إعفاءات واسعة (الأسطر 11–24؛ 49؛ 193–197). ومع عزوف الفلاحين عن دفع مستحقاتهم، أهملوا كذلك أعمال الريّ الحيوية، وزراعة الأرض كما هو مطلوب، بل وقطعوا الأشجار (الأسطر 197–206). وكان ذلك تهديدًا مباشرًا لاستقرار الريف. والأخطر من ذلك حجم الفساد الإداري: موظفو الجمارك في الإسكندرية استولوا لأنفسهم على مصادرات ورسوم غير قانونية (الأسطر 25–35)، وكتبة المخازن استغلوا مقاييس أكبر من المسموح لابتزاز الفلاحين (الأسطر 85–92)، بينما مارس الموظفون المحليون في مختلف الأقاليم سلسلة من التجاوزات، من ابتزاز وعمالة قسرية، إلى مصادرة أراضٍ، وتجنيد غير قانوني، واعتقالات باطلة (الأسطر 178–187؛ 255–264). وفي ظل هذه الأوضاع، لم يكن الاضطراب بعيدًا عن السطح أبدًا.
VII- بطلميوس التاسع سوتر الثاني (Ptolemy Soter II) وثورة طيبة 88–86 ق.م
=================================
مع مطلع القرن الثاني قبل الميلاد اندلعت ثورة كبرى في صعيد مصر ضد الحكم البطلمي، قادها أولًا حَـرُنّوفر ثم خلفه خَـعُنّوفر. اتخذت الثورة من طيبة مركزًا لها، لكنّها لم تقتصر على الجنوب، إذ امتدت شمالًا حتى إقليم ليكوبوليس (يُرجَّح أنّه أسيوط الحالية)، أي على مسافة تزيد عن 300 كيلومتر من طيبة. هناك تسبّب القتال في مذبحة كبرى: قُتل معظم السكان، جفّت الأرض، وتحوّلت الحقول إلى "أراضٍ بلا مالك" استولى الناجون على أجزاء منها سرًا. لم يكن الهدف من هذا التوسّع السيطرة الدائمة، بل سياسة تدميرية: إنهاك الإقليم، قطع الإمدادات، وإضعاف الحكم البطلمي.
ورغم أنّ خَـعُنّوفر نجح أحيانًا في استعادة طيبة أو التقدّم شمالًا، فإن المتمردين لم يقدروا على الاحتفاظ بمدنهم طويلًا. وبحلول عام 191 ق.م كانوا قد دُفعوا جنوبًا وربما خرجوا من مصر تمامًا، لكن آثار التمرّد ظلت واضحة؛ إذ احتاجت الإدارة البطلمية لسنوات من العمل المضني لإعادة مسح الأراضي وإصلاح نظام الضرائب في المناطق المدمّرة.
وفي النهاية، وبعد سلسلة من الثورات المتعاقبة، جاء ردّ الملك بطلميوس الخامس إبيفانيس (سوتر) قاسيًا: فقد وجّه ضربته مباشرة إلى قلب الحركة، مدينة طيبة. لم يكتفِ باستعادتها، بل عاقبها بعنف: دمّر أجزاء منها، صادر أراضيها ومعابدها، وفرض عقوبات شديدة على سكانها وكهنتها. كان ذلك إعلانًا صارمًا بأن زمن ثورات الصعيد قد انتهى، وأنّ أي محاولة جديدة ستقابل بخراب مماثل.
وهكذا شكّلت هذه الأحداث سلسلة مترابطة: امتداد الثورة من طيبة إلى ليكوبوليس دمّر الريف وأرهق السكان، ثم جاء التدمير البطلمي لطيبة ليكون الضربة القاضية التي أغلقت صفحة ثورات المصريين ضد البطالمة.
وتفصيل ذلك التالي؛
بعد وفاة بطلميوس السادس فيلوميتور في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، اندلع صراع على السلطة بين أخيه بطلميوس الثامن يورجيتيس الثاني وأخته كليوباترا الثانية. استمر هذا الصراع لفترة طويلة وأثر بشكل كبير على استقرار المملكة البطلمية. عندما توفي بطلميوس الثامن حوالي عام 116 ق.م، تولت زوجته كليوباترا الثالثة الحكم مع ابنها الأكبر بطلميوس التاسع سوتر الثاني. إلا أن كليوباترا الثالثة سرعان ما انقلبت على ابنها وطردته إلى قبرص، وأعادت تعيين ابنها الأصغر بطلميوس العاشر ألكسندر الأول حاكمًا. بعد مقتل بطلميوس العاشر في عام 88 ق.م، عاد بطلميوس التاسع سوتر الثاني إلى مصر ليستلم الحكم مجددًا. خلال فترة حكمه اندلعت ثورة طيبة بين عامي 88 و86 ق.م، فقام بطلميوس التاسع بقمعها بقوة ودمّر مدينة طيبة.
كانت ثورة الصعيد في حدود سنة 88 ق.م من أبرز هذه الأحداث. يذكر المؤرخ بوسانياس (Pausanias 1.9.3) أن بطلميوس التاسع سوتر الثاني، عندما عاد لحكم مصر للمرة الثانية، شنّ حربًا على "المتمردين الطيبيين" (Gripaioi)، وتمكّن بعد ثلاث سنوات من إخضاعهم ودمّر مدينة طيبة تدميرًا كاملاً"
يظهر في ملف مراسلات بلاتون ، وهو على الأرجح المسؤول العسكري الأعلى في الصعيد (الإيبيستراتيجوس) (Epistrategos) أنه في مارس 88 ق.م حثّ سكان باثيريس على الصمود ومساعدة بعضهم البعض، وأمرهم بإطاعة القائد المعين نختيريس حتى وصوله. (مستوطنة عسكرية–مدنية، تقع بالقرب من جبل الطير (Gebelein)، على بعد حوالي 30 كيلومترًا جنوب غرب الأقصر)، كما حذرهم من احتمال حدوث "عصيان متمرّد"، وفي رسالة أخرى (P. Bour. 12، مؤرخة 1 نوفمبر 88 ق.م) أبلغ الكهنة والسكان أنّ بطلميوس سوتر وصل إلى منف، وأنّ القائد هيراكس يقود جيشًا كبيرًا لإخضاع الصعيد، معربًا عن أمله أن يرفع هذا الخبر معنوياتهم. وفي الرسالة نفسها (P. Bour. 10 = SB III, 6643) وجّه تعليماته إلى نختيريس بحراسة المدينة والحذر من احتمال "العصيان المتمرّد"،وفي رسالة أخرى (P. Baden 16) –رغم أنّ اسم الكاتب وتاريخها غير محفوظين– يحثّ سكان باثيريس على الصمود "من أجل سيدنا الملك".
يُمكن تلخيص ما سبق كالتالي؛
كان حارسيس/ آرسيس كان آخر مصري لقب نفسه فرعون، ثم اندمجت الثورات مع الحروب الأهلية البطلمية، لكن أحداث الصعيد حوالي سنة 88 ق.م تُعتبر ثورة حقيقية ضد الحكم البطلمي، تظهر رسائل بلاتون في مارس 88 بداية الاضطرابات وتوقع حصار باثيريس، وبما أنه كان مسؤول الصعيد فمن المرجح أن الثورة اندلعت في ذلك الوقت. كما كانت أحداث الصعيد مرتبطة بعودة سوتر أو بالمشاكل التي وقعت في الإسكندرية، فما حصل في تلك الفترة كان مزيج من:
- ولاءات عائلية متنازعة (سوتر الثاني ضد بطالمة آخرين)
- صراعات محلية بين معابد ومدن (مثل دعم باثيريس لسوتر ودعم طيبة لعبادة آمون)
- بالإضافة إلى رغبة أوسع في الثورة ضد الحكم البطلمي نفسه.
باختصار، كانت الثورة في الصعيد نتيجة عوامل عائلية، دينية، محلية، ورغبة عامة في مقاومة البطالمة. لكن لم تكن (كل) الاضطرابات مجرد صراع قومية، بل تعكس خليطًا من ولاءات أسرية متنازعة، خصومات محلية بين المعابد، ونزعات ثورية قومية–دينية-وطنية ضد الحكم اليوناني البطلمي، مع ثورة طيبة و حارسيس / آرسيس.
فالأسباب الأعمق للثورات كانت مزيجًا من السخط القومي والديني مع أزمات اجتماعية واقتصادية مستمرة والثورة على البطالمة وعدم الخضوع للملك، وكل هذه العوامل كانت تنتظر القائد أو اللحظة المناسبة للانفجار. كما لعبت الجغرافيا دورًا، فالصعيد بُعده عن العاصمة ووجوده مراكز دينية مصرية قوية، ونظام ملكية الأراضي المختلف، جعل منه بيئة خصبة للتمرد المستمر.
ثم أن تدمير طيبة على يد بطليموس سوتر الثاني في حوالي 86-85 ق.م يوضح أن هذه الثورة لم تكن مجرد صراع محلي، بل كانت هزة كبرى للصعيد ومؤشرًا على عمق الأزمة في المملكة البطلمية.
ففي حوالي 86–85 ق.م، وبعد ثلاث سنوات من المواجهات، تمكن بطليموس التاسع سوتر الثاني من إخضاع الثورة الكبرى في طيبة. لم يكن انتصاره عسكريًا فحسب، بل تبعه فعل انتقامي قاسٍ، إذ أمر بتدمير المدينة تدميرًا كاملًا كما يذكر بوسنياس، فخُرّبت المعابد، وأُحرقت الأحياء، ونُهبت الثروات. كان الهدف واضحًا: القضاء على طيبة كرمز قومي وديني للمصريين، ومنعها من أن تكون بؤرة متجددة للثورات كما كانت طوال القرنين الثالث والثاني ق.م. وهكذا، لم يكن سقوط طيبة مجرد صراع محلي في الصعيد، بل هزة كبرى كشفت عمق الأزمة في المملكة البطلمية، ووضعت حدًّا لدور طيبة التاريخي كمركز للمقاومة الوطنية.
المراسلات الرسمية بخصوص ثورة خَـعُنّوفر (Chaonnophris) من ليكوبوليس Lycopolis حوالي 190 ق.م
===========================================
تكشف هذه البردية النادرة عن فصل مهم من ثورة خَـعُنّوفر ضد الحكم البطلمي، الجزء الأوضح منها، وهو العمود الثاني من الجزء أ، يقدّم شهادة مباشرة عن آثار التمرّد في إقليم ليكوبوليس (و الاسم اليوناني لمدينة مصرية قديمة يُرجَّح أنّها تقع في أسيوط الحالية) أي على بُعد يزيد عن 300 كيلومتر شمال طيبة، أي أكثر بمرتين من أبيدوس التي كانت تُعدّ سابقًا أقصى نقطة شمالية ظهرت فيها الثورة.
فبعد أن خلف خَـعُنّوفر حَـرُنّوفر سنة 199 ق.م، سيطر لفترة قصيرة على طيبة قبل أن يُطرَد منها في نهاية العام، ثم يبدو أنّه تقدّم شمالًا نحو ليكوبوليس، وربما استعاد طيبة لاحقًا. غير أنّه بحلول عام 191 ق.م دُفع جنوبًا، وربما خرج من مصر نهائيًا. ومع ذلك ظلّ الجنوب المصري في حالة من التعبئة، وهو ما يظهر في كون ليكوبوليس كانت تزوّد الجنود بالمؤن في منطقة طيبة حتى سنة 188 ق.م.
لكن أثر الثورة في ليكوبوليس كان مدمّرًا: فقد قُتل معظم السكان وجفّت الأرض، ولم يبق سوى ناجين استولوا سرًا على الأراضي الخالية المجاورة لممتلكاتهم. هذه الأراضي عُدّت رسميًا "أراضي بلا مالك"، لكن الدولة لم تستطع تحديد المستولين عليها لأنهم لم يدفعوا عنها ضرائب. في المقابل، ظلّ مسح الأراضي المزروعة قائمًا كل عام، واستمرت الضرائب تُجبى منها دون انقطاع.
تبدأ البردية بسرد أرقام دقيقة لمساحات الأراضي المقاسة، مع فروقات طفيفة و"هوامش خطأ" في الحسابات، ثم تشرح أنّه منذ ثورة خَـعُنّوفر تضرر الإقليم بشدة: السكان قُتلوا، الأرض عطلت، والأراضي الخاصة فوضوية. ورغم أنّ الإدارة البطلمية نجحت في استئناف مسح الأراضي الخصبة وفرض الضرائب عليها، فإنها لم تتمكن بعد من مسح الإقليم كله أو مواجهة ظاهرة الاستيلاء غير الشرعي.
وفي ختام العمود الثاني، تأتي لهجة البردية كأنها نسخة من رسالة إدارية وُجهت إلى الموظفين المحليين، تحثّهم على بذل أقصى جهد لإعادة النظام: استكمال مسح الأراضي، إعادة تنظيم الجباية، وتثبيت حدود الأملاك، حتى في ظل الظروف العصيبة التي خلّفتها الثورة.
وهكذا يظهر أنّ خَـعُنّوفر لم ينجح في دمج ليكوبوليس ضمن أراضيه، بل اعتمد على سياسة تدميرية هدفت إلى إنهاك الإقليم وحرمان الدولة من موارده. ومع أنّ المتمرّدين لم يمكثوا طويلًا، فإن الدمار السكاني والزراعي الذي خلّفوه كان عميقًا، واضطرت الإدارة البطلمية إلى سنوات من العمل المضني لإعادة الأمور إلى نصابها.
خاتمة
====
تكشف المصادر المصرية واليونانية معًا أنّ ثورات المصريين في العصر البطلمي لم تكن مجرد انتفاضات محلية عابرة، بل محاولات جادة لاستعادة السيادة. فثورة حَـرُنّوفر وخلفه خَـعُنّوفر امتدّت شمالًا حتى إقليم ليكوبوليس (أسيوط الحالية تقريبًا)، حيث خلّفت دمارًا سكانيًا وزراعيًا واسعًا، في الوقت الذي كانت فيه طيبة نفسها ساحة معارك متكررة بين المتمرّدين والبطالمة. تشير البرديات، مثل بردية دبلن (TCD Pap. Gr. 274)، إلى أنّ السكان قُتلوا أو هُجّروا، وأنّ الأرض جفّت، فيما استولى ناجون على الأراضي "بلا مالك" خفية. ورغم أنّ الإدارة البطلمية نجحت لاحقًا في إعادة مسح الأراضي وفرض الضرائب، إلا أنّ آثار الفوضى بقيت سنوات طويلة.
ومن الناحية السياسية والعسكرية، يُظهر استيلاء خَـعُنّوفر على أموال بنك طيبة (تسعين وزنة من الفضة) أنّ الثورة كانت تحتاج إلى تمويل سريع للجنود المرتزقة، وفي الوقت نفسه كانت خطوة رمزية لإعلان نفسه "ملكًا شرعيًا" يسيطر على خزانة البلاد. غير أنّ البطالمة تحرّكوا بسرعة، ومع تراجع الموارد وانهيار الولاء، خسر المتمرّدون مواقعهم.
وفي المقابل، لم يكن ردّ فعل البطالمة أقل عنفًا، إذ دُمّرت مدن مثل طيبة على يد بطلميوس الثامن يورجيتيس (سوتر الثاني) في نهاية القرن الثاني ق.م، حتى غدت المدينة التي كانت يومًا قلب الديانة المصرية مجرد أطلال، في إشارة إلى إرادة السلطة البطلمية في سحق آخر معاقل المقاومة.
أما على المستوى الفكري، فقد انعكست خيبة أمل المصريين في نصوص مثل "نبوءة الفخّاري"، التي بشّرت بخراب الإسكندرية وزوال الحكم اليوناني وعودة المجد إلى منف. هذه النبوءة تحمل نفسًا سوداويًا وتعبّر عن وعي قومي جريح، وهي من أندر الأمثلة على الدعاية المصرية المعادية للبطالمة. والمثير أنّ اسمها وحده يذكّر القارئ المسيحي بـ "حقل الفخّاري" في الإنجيل، وكأنّ الفخّار والطين تحوّلا رمزًا كونيًا للخيانة والخراب والزوال.
وهكذا، يتكامل المشهد:
- ثورات امتدت من الدلتا حتى طيبة إلى ليكوبوليس.
- دمار واسع بفعل المتمردين وردّ فعل البطالمة.
- صراع على الموارد والشرعية السياسية.
- أدب نبوئي سوداوي عبّر عن روح الهزيمة والأمل المؤجَّل.
كان مِن الممكن ان نقبل المُحتل والخضوع له، لكننا فضلنا طرده والثورة عليه، وبالرغم من قتامة لوحة مصر البطلمية المتأخرة: بلد يتمزّق بين سلطة أجنبية ومقاومة محلية، بين عنف السيف وسواد النبوءة، لكن تلك اللوحة التي أصر فيها المصريين على طرد (المُحتل الأجنبي) لتبقى مصر حرُة شريفة، تُروى بدم الأبطال. تلك اللوحة، التي كانت ستكرر، لولا نُصرة جيشنا لمصر، ولولا ما قام به صاحب العظمة والجلالة الرئيس السيسي، من إنقاذ مصر الغوغاء، لتصبح مَصر بلد قوية، شعب واحد وإرادة واحدة.
وعاشت مصر حرةَ إلى البلد، ترويها دماء شهداها الأبطال، ودام عزك يا وطن.
#ابرام_لويس_حنا (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟