أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ابرام لويس حنا - الرد على حلقة الدحيح، الجزء الأول، (الاستعمار الفارسي الأخميني) وهل وقع انهيارللحضارة المصرية؟















المزيد.....



الرد على حلقة الدحيح، الجزء الأول، (الاستعمار الفارسي الأخميني) وهل وقع انهيارللحضارة المصرية؟


ابرام لويس حنا

الحوار المتمدن-العدد: 8423 - 2025 / 8 / 3 - 22:27
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


في البدء أريد ان أشدد على إن انهيار الحضارة مختلف تماماً عن الاحتلال، فكارثة وقع فيها الغندور، في حلقته (1000 عام من انهيار الحضارة) وهي الخلط بين (استمرار التقاليد والحضارة المصرية) حتى في زمن الفرس والبطالمة والرومان وفي الفترة الإسلامية، وبين تراجع التوسعات المصرية.

وفضلت البدء بالاحتلال الفارسي أو الأخميني، لانه يُعد النقطة الذي يبدأ من بعده الصراع على مصر من القوى الإمبراطورية.

(مقدمة)
غزا قمبيز مصر في أوائل عام 526 ق.م، ويبدو أنّه بقي في وادي النيل في السنوات التي تلت ذلك. للأسف، لا نعرف الكثير عن تفاصيل إقامته هناك. تشير المصادر المعاصرة إلى أنّ قمبيز اتخذ اسم عرش مصريًا، واستعمل الألقاب الفرعونية، كما زار مدينة سايس، العاصمة السابقة للأسرة السادسة والعشرين.

أما مصدرنا الأساسي الآخر، "التواريخ" لهيرودوت، فموثوقيته أصعب في التقدير: إذ يصوّر الكتاب الثالث قمبيز على أنّه مجنون ارتكب سلسلة من الجرائم (الدينية) في مصر، بدءًا من قتل عجل أبيس المقدس، وصولًا إلى إحراق تماثيل الآلهة المصرية (انظر مثلًا: التواريخ 3. 27–29، 3. 37). والتي تتناقض مع نقش أودجا-حور-رسنت (Udjahorresnet In-script-ion) ومع ذلك، هناك أمر واحد ثابت: أن حكم قمبيز لمصر، والذي استمر أربع سنوات، وحكمه للإمبراطورية الفارسية الذي استمر ثماني سنوات، انتهيا بأزمة سياسية عصفت بأجزاء واسعة من غربي آسيا القديمة، والمصدر الأساسي لهذه الأزمة هو نقش بيستون الذي أُنجز بأمر من داريوس الأول، ويجمع بين مشهد بارز ونص ثلاثي اللغة كُتب بالفارسية القديمة والبابلية والعيلامية.

يزعم النقش أن رجلًا يُدعى غاوماتا (Gaumata) نفّذ انقلابًا على قمبيز في ربيع 522 ق.م، وأنه حكم أجزاءً من الإمبراطورية الفارسية لعدة أشهر. كما يذكر النقش أنّ قمبيز توفّي، وأن داريوس ومعه عدد من الرجال قتلوا غاوماتا، ثم أُعطي المُلك لداريوس. ما تلا ذلك كان فترة مضطربة استمرت عامًا ونصف تقريبًا، حاولت خلالها عدة أقاليم الانفصال عن الحكم الفارسي. ووفقًا لنقش بيستون، كانت مصر واحدة من تلك الأقاليم: إذ يقال إنها ثارت عند مطلع عام 522/521 ق.م، بينما كان داريوس لا يزال في بابل.

إنّ ذكر نقش بيستون لوجود ثورة مصرية في بداية حكم داريوس الأول معروف منذ أكثر من 150 عامًا: ففي عام 1853 نشر إدوين نوريس (Edwin Norris) ترجمة للنص العيلامي من نقش بيستون، والذي – على خلاف النسختين المنشورتين سابقًا بالفارسية القديمة والبابلية – تضمَّن اسم "مصر" في قائمة الأقاليم المتمرّدة. وإذا قبلنا تاريخية هذه الثورة، فيمكن عدّها أول تمرد في مصر الأخمينية. غير أنّ التفسيرات المتعلقة بهذه الحادثة تنوعت تنوعًا واسعًا منذ نشر نوريس. فقد شكك بعض الباحثين أصلًا في وقوع الثورة، ورأوا أن أول تمرد ضد الفرس لم يحدث إلا في وقت لاحق من حكم داريوس. بينما قبل آخرون بوقوعها، لكنهم اختلفوا حول مدتها: فهناك من رأى أنها لم تستمر سوى عدة أشهر أو عام واحد على الأكثر، وهُزمت في 521 أو 520 ق.م؛ في حين ذهب آخرون إلى أنّها استمرت عدة أعوام، وأن داريوس لم يُعيد إخضاع مصر إلا في 519 أو حتى 518 ق.م. ولو صحّت الفرضية الأخيرة، لكانت الثورة المصرية أطول ثورات أزمة بيستون أمدًا.

فبين القرنَين السادس والرابع قبل الميلاد، شهدت مصر الأخمينية ما لا يقل عن خمس ثورات ضد الحكم الفارسي: الأولى نحو 521 ق.م، تلتها ثورات في 487/86 ق.م، 463/62 ق.م، 404 ق.م، وأخيرًا بين 343 و332 ق.م. وقد يكون قد وقع عدد إضافي من الثورات في النصف الثاني من القرن الخامس ق.م، غير أنّ شحّ المصادر يحول دون إعادة بنائها بدقة. وكما لاحظ بيير بريان سنة 1988، فإنّ السؤال حول من ثار، وأين، ومتى، ولماذا، وضد من، ظلّ يحتاج إلى دراسة معمّقة.

رغم نجاح قمبيز في إخضاع مصر، إلا أن تاريخها في العصر الأخميني تميّز بسلسلة من الثورات المتكررة:

- ثورة 521 ق.م – اندلعت بعد وفاة قمبيز (522 ق.م) وأزمة الخلافة في إيران. نجح مصري يُعرف اليوم باسم بِتوباستيس سِحِريب رع (Petubastis Seheribre / Petubastis IV) في الاستيلاء على الحكم، واتخذ مظهر الفرعون التقليدي. أعاد دارا الأول إخضاع البلاد لاحقًا. تلك الثورة التي ربما انطلقت من واحة الداخلة، ثم امتدت إلى هيراكليوبوليس وربما منف. المصادر المصرية تذكر أسماء شخصيات بارزة أيّدت بتوباستيس، مثل حاكم هيراكليوبوليس (حورمااخرو)، إضافة إلى جنود ارتبطوا بنظام العطاءات الزراعية، وغيرهم، فالواحات الجنوبية كانت قد عرفت نشاطًا ملحوظًا في عصر الأسرة السادسة والعشرين، خاصة في عهد أحمس الثاني، الذي ترك نقوشًا في الداخلة والواحات الشمالية (الواحات البحرية، سيوة). وبالتالي استُخدمت كمركز لثورة بتوباستيس سيحر إيبري (521 ق.م). بل قد يكون النشاط الفارسي المكثّف في الواحات – خاصة في الخارجة – جزءًا من سياسة عقابية/وقائية: أي حرمان الداخلة من دورها كمركز إقليمي متمرّد، وبناء مركز جديد تحت إشراف فارسي في الخارجة. هذا الاتجاه طرحه Olaf Kaper (2015)، وتبنّاه لاحقًا باحثون مثل Henry Colburn وMelanie Wasmuth. بإختصار يُمكن تمثلها المقاومة من الشمال.

- ثورة 487/486 ق.م – وقعت في أواخر عهد دارا الأول، لكنها لم تُقمع إلا في عهد ابنه وخليفته خشايارشا (Xerxes) حوالي 485/484 ق.م. وبالرغم إنها ليست واضحة المنشأ، لكنها تركت أثرًا ملحوظًا في الصعيد: فهناك وثائق ديموطيقية تُظهر اعترافًا ببسمتيك الرابع عند أسوان (قرب إلفنتين) وفي هو (قنا). المؤيدون شملوا جنودًا مصريين ورعاة أوز يعملون في الصعيد، وربما بعض كهنة طيبة أنفسهم. في المقابل، شخصيات إدارية مرتبطة مباشرة بالسلطة الفارسية – مثل الحاكم الفارسي أتيَواهيا في قفط – ظلّت مخلصة للملك الأخميني، والتي يُمكن تمثليها المقاومة من الجنوب، حيث شاركت طيبة (Thebes) وأراضي آمون في ثورة 487/86 ق.م.

- ثورة 463/462 ق.م – اندلعت في بداية عهد أرتحشستا الأول (Artaxerxes I). استمرت ما بين 6 و10 سنوات قبل إخمادها. في العقود التالية ظهرت أسماء ملوك مصريين حكموا أجزاءً من الدلتا. من غير الواضح إن كانوا قادة ثورات جديدة أم حكامًا ذاتيين أقرّهم الفرس لتجنب الصراع العسكري.

- ثورة إيناروس (460–454 ق.م)، أرسلت أثينا أسطولًا يضم نحو 200 سفينة لدعم الثورة المصرية، وحاصرت القوات الفارسية في ممفيس، وهو دليل على حلف مصري–أثيني–قبرصي ضد الفرس [Thucydides, I.104 Diodorus, XI.71–74].

- ثورة 404 ق.م – بقيادة أمورتايوس الثاني (Amyrtaios II). نجحت الثورة في تحرير مصر، وظلت مستقلة لأكثر من نصف قرن.

- حتى بعد إعادة احتلال مصر من قِبل أرتحشستا الثالث عام 343 ق.م (بداية الأسرة الحادية والثلاثين/الفترة الفارسية الثانية)، ظهر ملك متمرّد آخر قوّض سلطة الفرس.

ومن خلال هذه الشواهد يظهر أنّ الثورات كانت صراعات سياسية مسلّحة، ترافقت مع صدامات عسكرية بين المتمرّدين والقوات الإمبراطورية، وأسفرت غالبًا عن تنصيب ملوك محلّيين تبنّوا ألقابًا فرعونية تقليدية، وعن تدمير أبنية، وسقوط قتلى من الجنود والمدنيين، واسترقاق أو ترحيل جماعات من السكان.

بالمقارنة مع أقاليم أخرى من الإمبراطورية الأخمينية، تُعَدّ استمرارية المقاومة المصرية ونجاحها النسبي استثناءً لافتًا. فقد تميّزت مصر بقدرتها على إنتاج ملوك ثائرين حافظوا على التقاليد الفرعونية، بل وأفلح بعضهم في استعادة الاستقلال لفترات ملحوظة. فالثورات التي عصفت بمصر في العصر الفارسي (من القرن السادس إلى الرابع قبل الميلاد) معروفة جيدًا لدى الباحثين في الإمبراطورية الأخمينية. فمنذ القرن التاسع عشر، تضمنت معظم دراسات تاريخ الإمبراطورية – وكذلك دراسات تاريخ مصر الأخمينية – نقاشًا حول هذه الثورات. وغالبًا ما ركزت هذه الدراسات على أن الثورات كانت متكرّرة وأنها انتهت بالنجاح النهائي عبر استعادة المصريين لاستقلالهم.

ومع ذلك، وبرغم الأثر الكبير الذي خلّفته هذه الاضطرابات على المجتمع المصري وعلى طريقة إدارة الفرس للبلاد، فإن عدد الدراسات التي تناولتها بتحليل عميق يظل محدودًا جدًا. في عام 2012 صدر كتاب بعنوان Trouble in the West: Egypt and the Persian Empire (525–332 BCE) من تأليف ستيفن روزيتسكا (Stephen Ruzicka)، أستاذ التاريخ الكلاسيكي بجامعة كارولاينا. للوهلة الأولى يبدو أنّ الثورات المصرية في العصر الفارسي كانت الموضوع الرئيس للكتاب؛ إذ يتناول تاريخ الصراع المصري–الفارسي منذ ثورات القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، وحتى الصدامات مع الملوك المصريين المستقلين في مطلع القرن الرابع ق.م. وقد جادل روزيتسكا بأنّ الهمّ الأكبر للفرس في الغرب لم يكن الإغريق – كما تصوّر المصادر اليونانية القديمة – بل المصريين.

هذه الملاحظة على كتاب روزيتسكا تعكس مفارقة عامة في دراسة الثورات المصرية التي هي معروفة ومتكررة الذكر في الدراسات الحديثة. ومعترف بأنها كانت متكررة وناجحة جزئيًا. لكن، لم تحظَ الثورات في ذاتها بقدر كافٍ من البحث المتعمق. يمكن تفسير جانب من هذه المفارقة بالاعتماد المفرط على النصوص التاريخية اليونانية–الرومانية التي كانت المصدر الرئيس لإعادة بناء تاريخ الإمبراطورية الأخمينية. غير أن تركيز تلك النصوص كان على العلاقات الفارسية–اليونانية بالدرجة الأولى؛ أما الأحداث في الأقاليم الأخرى فكانت تُذكر عرضًا دون تفاصيل وافية.

- مثال نموذجي على ذلك هو ثورة 487/486 ق.م: يذكرها هيرودوت في التواريخ على أنها وقعت بعد حملة دارا الفاشلة على ماراثون Marathon. حيث توفي دارا قبل أن يواجهها بنفسه، فأرسل ابنه خشايارشا (Xerxes) جيشًا قضى على التمرد. لكن النص لم يذكر شيئًا عن هوية قادة الثورة، ولا عن مدى نجاحها داخل مصر (Herodotus, Histories 7.1, 7.4–5, 7.7).

بجمع شذرات كهذه، تمكن الباحثون المحدثون من رسم خط زمني تقريبي للثورات، لكن دون تفاصيل دقيقة. وكان لشحّ المعلومات في المصادر الكلاسيكية اثره، خصوصا بعد فك رموز الهيروغليفية والديموطيقية والمسمارية في القرن التاسع عشر، فمنذ منتصف القرن التاسع عشر بدأ اكتشاف نقوش تشير إلى ملوك مصريين ثوار لم تذكرهم النصوص اليونانية، مثل خباباش (Khababash) الذي حكم أجزاء من مصر في القرن الرابع ق.م خلال الفترة الفارسية الثانية. وفي عام 2014 كُشف عن كتل معمارية تحمل اسم بتوباستيس (Petubastis Seheribre)، عُرف في السبعينيات بأنه ملك متمرّد حكم (أو سيطر على أجزاء من) مصر في عام 521 ق.م، أي في مطلع عهد دارا الأول. إلى جانب ذلك ظهرت مصادر أخرى: أختام منقوشة، رسائل ديموطيقية، وحتى نقش ملكي أخميني واحد على الأقل.

إلا ما أريد التركيز عليه هنا هو إنه في عام 1953 طرح فريدريش كينيتس (Friedrich Kienitz) فرضية مفادها أن أغلب الثورات المصرية انطلقت من الدلتا حيث ربط ربطها المؤرخون الإغريق الثورات صراحةً بمنطقة الدلتا. وأشهر مثال هو ثورة إيناروس (Inaros) في منتصف القرن الخامس ق.م، حيث يروي ثوكيديديس (Thucydides) أنّ إيناروس كانت قاعدته كانت في ماريّا (Marea) غرب الدلتا. ومن هناك بدأ ثورته ضد الحكم الفارسي معتمدًا على دعم عسكري أثيني، وتمكّن من السيطرة على أجزاء من شمال مصر (Peloponnesian War 1.104, 1.109–110). انطلاقًا من ذلك، افترض كينيتس أنّ باقي الثورات كانت مشابهة وهكذا ثورة 487/486 التي كانت بعد 20 عاماً.

ففكرة «ثورات الدلتا» تقوم على أنّ معظم الثورات المصرية كانت من الدلتا او تحول حول الدلتا الجذور يقودها زعماء أمرًا مقبولًا على نطاق واسع. فهي تتكرر في مقالات وكتب عديدة عن مصر الأخمينية، بما في ذلك كتاب Trouble in the West لروزيتسكا، الذي يستخدم باستمرار مصطلح "Delta dynasts" للإشارة إلى زعماء الثورات بين القرنين السادس والرابع ق.م، وبالرغم من أن روزيتسكا يُرجعها إلى الزعماء الليبين، فمن الواضح إنها كانت تحالفات مصرية ليبية على الأقل، إن لم تكن مصرية خالصة، خصوصاً إن ليبيا كانت تُدرك علم اليقين إنه بسقوط مصر سقوطها، وإن سَقطت مصر، سَقطت ليبيا.

ولا يفوتنا كذلك بالإضافة على إيناروس، إشارة ثوكيديديس إلى أمريتيوس (Amyrtaios) «ملك المستنقعات» في منتصف القرن الخامس ق.م – وهو وصف يُفهم عادةً على أنه إشارة إلى الدلتا). كما أن النصوص اليونانية والمصرية التي تبيّن أنّ الملوك المستقلين في أوائل القرن الرابع ق.م جاؤوا جميعًا من مدن الدلتا – شأنهم في ذلك شأن الأسرة السادسة والعشرين التي خرجت من سايس في الدلتا. لكن ما لم يُلتفت إليه كثيرًا هو أنّ دور الدلتا أقل وضوحًا في أواخر القرن السادس وأوائل القرن الخامس ق.م: فهيرودوت لم يذكر شيئًا عن أصل ثورة 487/486 ق.م، ولا نملك معلومات مماثلة عن ثورة 521 ق.م. بالرغم أنّ مصادر مصرية معاصرة أظهرت أنّ هذه الثورات وغيرها وصلت فعلًا إلى مصر العليا: ففي عام 1907 نُشر بردية من طيبة مؤرخة بالسنة الأولى من حكم خباباش، الملك المتمرّد في الفترة الفارسية الثانية. ومنذ السبعينيات ظهرت نصوص جديدة: وثائق من ميدوم، هو، وواحة الداخلة مرتبطة بثورتي 521 و487/486 ق.م. كما أظهر أوستراكون ديموطيقي أنّ سلطة إيناروس كانت معترفًا بها في عين مناوِر (ʿAyn Manawir) في واحة الخارجة. والموقع نفسه قدّم دليلًا على وجود ملك آخر في نحو 400 ق.م، إبان استقلال مصر عن الحكم الفارسي.

كما تكشف هذه المصادر أي أجزاء من البلاد طالها الاضطراب، وهل كانت الثورات محصورة في منطقة معينة أم شملت أقاليم أوسع. فالنصوص التي ذُكرت أعلاه توضّح أنّ كثيرًا من الثورات لم تقتصر على حدود الدلتا، بخلاف ما يذهب إليه الرأي الشائع (communis opinio). فحين يُؤرَّخ عقد مصري باسم أحد الملوك الثوار، فهذا يعني أنّ أطراف العقد اعترفوا بشرعيته بدلاً من ملك فارسي. وبذلك تتيح لنا هذه الوثائق فرصة للنظر في هوية الأفراد الذين عاشوا في تلك الفترة – حتى وإن لم نستطع الجزم إن كانوا من أنصار الثورة النشطين أم مجرد "شهود صامتين" يسكنون منطقة انتقلت من أيدي الفرس إلى حكم مصري متمرّد. فحتى الآن، ما تزال دوافع المقاومة المصرية موضع جدل:

- فالبعض يربطها بـ كراهية الأجانب (xenophobia).

- وآخرون بفترات ضعف السيطرة الأخمينية.

- أو بـ الطموح الشخصي لزعماء الدلتا الساعين للاستقلال.

- أو حتى بدوافع اجتماعية–اقتصادية، مثل زيادة الضرائب والإتاوات المفروضة لصالح فارس.

- بوليانوس (القرن 2م) يعزو ثورة 521 ق.م إلى "ὠμότητα" الحاكم أرياندس، أي قسوته أو سوء إدارته، وربما ارتبط ذلك بتلاعب مالي أو إرهاق ضريبي.

- هيرودوت يربط ثورة 487/86 ق.م بالتجنيد الإجباري لدعم حملة داريوس ضد اليونان؛ ثم يشير إلى أنّ أحشويرش شدّد الاستعباد والضرائب بعد سحقها.

- ثورات جوع ("Hungeraufstände") نتيجة مجاعات محتملة؛ وقد تعزز هذا الطرح دراسات حديثة حول ثوران براكين أثّر على فيضان النيل وأدى لشحّ الموارد في سنوات سبقت ثورة 487/86 ق.م.

- توقيت الثورات ارتبط غالبًا بأزمات إمبراطورية أوسع: مثل أزمة بيستون (522/21 ق.م) التي شجعت المصريين على الانفصال.

- ولكن العامل الأول والأخير كان (تحرير الوطن) و(رفض سلطة المحتل)، وتكوين التحالفات ضد (الفرس) للزود عن الأرض والعِرض.

- تداخل جميع هذه العوامل بدرجات متفاوتة.

هذا بالإضافة إن مصر لم تكن في عزلة، بل نسجت شبكة تحالفات مع قبرص والمدن اليونانية لمواجهة الفرس؛ فمنذ عهد أحمس الثاني (570–526 ق.م) كانت لمصر علاقات قوية مع قبرص، وذكر هيرودوت أن أحمس "أخضع قبرص وأجبرها على دفع الجزية" [Herodotus, Histories, II.177]. والنقوش واللقى القبرصية (مثل تماثيل أوشابتـي ورموز العنخ) تُظهر النفوذ المصري الواضح، ما يدل على علاقة تبعية سياسية وعسكرية وثقافية وهو ما توضحه العملات القبرصية في القرن الخامس–الرابع ق.م بشكل صارخ، حيث حملت رموزًا مصرية (كالعنخ والشمس المجنحة والثور والنسر)، في وقت كانت مصر في مواجهة الفرس، ما يكشف عن تواصل وتحالف ثقافي–سياسي. ففي ثورة إيناروس (460–454 ق.م)، أرسلت أثينا أسطولًا يضم نحو 200 سفينة لدعم الثورة المصرية، وحاصرت القوات الفارسية في ممفيس، وهو دليل على حلف مصري–أثيني–قبرصي ضد الفرس [Thucydides, I.104 Diodorus, XI.71–74]، حتى بعد فشل هذه الثورة، استمر نفوذ مصر في قبرص، حيث شاركت الأخيرة في صراعات الفرس–اليونان، وهو ما يعكس استمرار فكرة التحالف المتوسطي ضد الهيمنة الفارسية.

وهنا أريد أن اضرب مثالاً على (استمرارية الحضارية المصرية)، وعلى التعامل بحكمة، حتى تحرير البلاد؛ وهو تمثال نقش أودجا-حور-رسنت (Udjahorresnet In-script-ion) المعاصر لفترة قمبيز الذي لا يذكره بالاسم حتى استحقاراً أو استخفافاً، تُظهر سيرة أودجاحوررسنت – والتي كُتبت على الأرجح في عهد دارا الأول – صورةً تؤيدها إلى حدّ ما نصوص معاصرة فعلية من عهد قمبيز، لدينا حوالي تسعة نصوص مصرية مؤرخة لتلك الفترة، منها:

- ختم وبصمة ختم غير مؤرّخين.

- كسرة منحوتة من قصر أبريس بمنف تحمل بداية اسم قمبيز.

- قشان على شاهد قبر ثور أبيس (Apis epitaph) وتابوته من السرابيوم بسقارة.

- أربعة برديات ديموطيقية من أسيوط.

تثبت النقوش الخاصة بالثور أبيس تثبت أنه تبنّى اسم العرش المصري (موس]د[ رع) (Mesutire)، إذ يرد مرتين على التابوت، يليهما مباشرة اسم "قمبيز"، ومرتين على الشاهد الجنائزي. كما اتخذ لقب حورس مصري: سماتاوي (Smatawy) أي "الذي يوحّد الأرضين". وتشير النصوص (الأختام، نقوش أبيس، صيغ التأريخ في البرديات) إلى أنه كان يُدعى بالألقاب التقليدية: "فرعون"، "ملك مصر العليا والسفلى"، "سيد الأرضين"، و"الإله الجميل الحي إلى الأبد".

هذه السياسة – أي تبنّي التقاليد الملكية المحلية – كانت على الأرجح وسيلة لتثبيت شرعية قمبيز في نظر المصريين. وهي نفسها السياسة التي اتبعها كورش بعد فتح بابل، حيث احتفظ بلقبه الإيلامي "ملك أنشان" لكنه ظهر في النصوص البابلية كـ "ملك بابل" و"ملك سومر وأكد"، وهي نفس الألقاب التي حملها ملوك بابل الجدد قبله.

ويُظهر أن الفرس اعتمدوا على النخب المحلية لتثبيت شرعيتهم. ويُظهر بوضوح أن الشرعية الدينية كانت مفتاح الحكم، وأن الفرس لم يستطيعوا حكم البلاد إلا عبر شراكة قسرية مع المؤسسة الكهنوتية. وهو شهادة حية على انتهاك حُرمة المعابد وأن أودجا توسّط لإعادة تطهيرها، وشهادة حية على استخدام قمبيز أسلوب "الحرب بالوكالة" فــ "شعوب كل البلاد الأجنبية" جاءت معه، وإن كانت الأفضل أن نفهم أن تلك الإشارة تٌشير إلى امتداد نفوذه أكثر من كونه جيش ضخم، فالنقش لا يصف معارك مدمّرة داخل مصر بعد بيلوسيوم، بل يركّز على تنظيم المعبد وإعادة الأمور الدينية، وأخذ الألقاب إشارة إلى شرعنة سياسية أكثر من حملة إبادة.

فلو كان هناك دمار شامل، كان النقش حتمًا سيذكر إعادة بناء المعابد أو المدن. لكن العكس: هو يصف تطهير المعابد فقط. هذا يوحي أن الفرس اعتمدوا على السيطرة الإدارية مع حاميات. كما يوضح أن الفرس لم يجرؤوا على نسف الرمزية المصرية، بل سعوا إلى تحالف شكلي مع النخب الكهنوتية يضمن لهم الشرعية.

وتُظهر البرديات الآرامية من جزيرة إلفنتين (قريبة من أسوان) أن الحامية كانت مزيجًا من يهود + يونانيين + آراميين في خدمة الفرس. لا تُظهر أن الجيش الفارسي كان منتشرًا في كل القطر، بل كانت حاميات إستراتيجية عند الحدود والمعابد المهمة. هذا أقرب إلى نظام نقاط عسكرية صغيرة بدل الاحتلال الكاسح.

فبالرغم مِن أن الجيش المصري هُزم بقيادة بسماتيك الثالث، وبحسب رواية هيرودوت بإن المعركة كانت عنيفة حتى إنّ عظام القتلى ظلّت ماثلة على أرضها بعد عقود (هيرودوت، التواريخ 3. 12). ومع ذلك، لم يستطع السيطرة كملك شرعي على مصر بالرغم من مُحاولة أخذ الشرعية بالقوة، واتخاذ الألقاب الفرعونية التقليدية باعتباره "ملك مصر العليا والسفلى" [راجع: Herodotus, Histories, III.10–15]. حتى في معبد Hibis يظهر داريوس بلقب "المختار من رع بين الجهات الأربع"، وهو لقب غير مألوف في التقاليد الفرعونية، ويشير إلى شرعية مفروضة من الخارج لا وراثة أصيلة.

كما إن الاستمرار في استعمال اللغة الديموطيقية في الوثائق القانونية والمالية (مثل برديات إلفنتين) يكشف أن الإدارة المصرية بقيت تعمل داخل الإطار المصري التقليدي. وكانت الثورات دليلاً على عدم السيطرة والسمة الأبرز في العلاقة بين المصريين والفرس وأقوى برهان على هشاشة النفوذ الأجنبي.

فلو كانت مصر قد أُخضعت إخضاعًا نهائيًا عام 525 ق.م، لما اضطر الفرس لإعادة غزوها مرارًا:

- غزو 373 ق.م بقيادة أرتحشستا الثاني، وانتهى بالفشل.

- غزو 343 ق.م بقيادة أرتحشستا الثالث، الذي استعاد مصر لفترة قصيرة فقط.

فتكرار الحملات العسكرية دليل على أن مصر كانت تستعيد استقلالها مرارًا، وأن السيطرة الفارسية كانت مؤقتة.

وبالتالي فإن الصورة الأقرب للواقع ليست سيطرة فارسية مطلقة، ولا استقلال مصري، حاول المستعمر ان يفرضه نفسه على استقلاله لكنه فشل، وتظهر النفوذ المتقطع؛ مما أجبر الفرس على إعادة غزوها أكثر من مرة. والسيادة الظاهرية لا الجوهرية؛ فالفرس لم يتمكنوا من دمج مصر في إمبراطوريتهم كولاية عادية، بل بقيت كيانًا متميزًا بهويته الدينية والسياسية.

نقش أودجا-حور-رسنت (Udjahorresnet In-script-ion)

( المكرَّم من نيت العظيمة، أمّ الإله، ومن آلهة سايس، الأمير، والحاكم، وحامل الخاتم الملكي، الرفيق الأوحد، الصديق الأمين الحبيب للملك، الكاتب، ومفتّش كتبة المجلس، والكاتب الأكبر لقاعة الاستقبال العظمى، ومدير القصر، وقائد الأسطول الملكي تحت ملك مصر العليا والسفلى (غنم برَ Khenemibre أحمس الثاني)، وقائد الأسطول الملكي تحت ملك مصر العليا والسفلى (عنخ قرَ/ عنخكارع Ankhkare بسماتيك الثالث)، أودجا-حور-رسنت (ودجاه حُرسن Udjahorresnet= Udja-horresne)؛ المولود من مدير الحصون (الخاصة بالتاج الأحمر)، كبير البـَ/ الــبيه Pe وكاهن الأناب/ التوبة rnp، وكاهن عين حورس، ونبي نيث/ ناس Neith سيدة إقليم سايس Sais الذي يُدعى بيت أونس Pettuaneith وهو يقول:

لما جاء ملك الأرضين جميعًا (ولد رع، عجل رع، مزود رع/ موسى]د[ رع Mestu-Ra) ، إلى مصر، كان شعوب كل البلاد الأجنبية معه. أخضع الأرض كلها، وأقام نفسه ملكًا عظيمًا على مصر، السيد الجبّار على هذا القطر. وقد منحني جلالته كرامة رئيس الأطباء، وأمر أن أكون قريبًا منه بصفتي الرفيق ومدير القصر. لقد صغت له الألقاب الملكية، ومنحتُه اسم ملك مصر العليا والسفلى: ابن رع.

عرّفتُ جلالته بعظمة سايس، إذ هي مقرّ نيت، الأم العظيمة، التي ولدت رع، الابن البكر، قبل أن يكون هنالك ميلاد. شرحت له عقيدة عظمة بيت نيت، بما أنه السماء نفسها في كامل هيئتها، وكذلك عقيدة عظمة معابد نيت الأخرى، وآلهتها وآلهاتها القاطنين فيها. وبيّنت له عظمة قصر Hat-nat (الحضنات/ القصر الملكي)، بما أنه مقرّ السيد وربّ السماء، ومعه عقيدة عظمة المصليّة الجنوبية (رجنات/ رجاء Resenet) والشمالية (Mehenet محنيط/ مَعنيت)، وبيت رع، وبيت أتوم، بما أنها المساكن السرّية لجميع الآلهة.

المكرَّم من إله مدينته وسائر الآلهة، الأمير، العَدِل، حامل الخاتم الملكي، الرفيق الأوحد، الصديق الحقيقي المحبوب للملك، كبير الأطباء، ودج-حر-رسنو Udjahorresne، ابن أتميرديس/ أد مِرَدس Atemirdis يقول: طلبت إلى الملك قمبيز ضد الأجانب الذين اتخذوا معبد نيت مقامًا لهم، لكي يُطرَدوا منه، ويُعاد المعبد إلى مجده القديم. فأمر جلالته بطرد كل الغرباء الذين أقاموا في المعبد، وهدم بيوتهم، وأن يحملوا بأنفسهم كل نجاساتهم خارج حرم المعبد. كما أمر بتطهير المعبد، وإعادة كهانه الشرعيين إليه. وأمر أن تُعاد القرابين الإلهية لنيت العظيمة، وسائر آلهة سايس، كما كان في السابق. وأمر بإعادة أعيادهم ومواكبهم كما من قبل. فعل جلالته ذلك لأنني كنت قد علّمته بعظمة سايس، مدينة الآلهة، حيث يقيمون على عروشهم إلى الأبد.

المكرَّم من آلهة سايس، رئيس الأطباء أودجا-حور-رسنت، يقول: لما وصل الملك قمبيز إلى سايس، أتى بنفسه إلى معبد نيت. سجد سجودًا عظيمًا أمام جلالتها، كما فعل كل ملك من قبله. قدّم القرابين للإلهة العظيمة، أمّ الإله، نيت القديرة، وللآلهة الذين في سايس، كما يفعل كل ملك محسن. فعل جلالته ذلك لأنني علّمته بعظمة الإلهة، إذ هي أم رع نفسه.

المكرَّم من أوزرَ/ ذارع حماج/ حما-كا Osiris-Hemag يقول: أدّى جلالته جميع الطقوس في معبد نيت. وثبّت السكب لسيد الأبدية في معبد نيت، كما فعل الملوك منذ القدم. فعل جلالته ذلك لأنني علّمته بجميع الطقوس التي جرت في هذا المعبد على يد الملوك، بسبب عظمة هذا المعبد، بما أنه مقام جميع الآلهة الخالدين إلى الأبد.

المكرَّم من آلهة الإقليم سايس Sais، رئيس الأطباء ودجاه حُرسن Udja-horresne، يقول: لقد أرسيتُ ممتلكات نيت العظيمة، الأم الإلهية، كما أمر جلالته، إلى أبد الآبدين. زوّدتُ مؤسسات نيت، سيدة سايس، بكل الخيرات، كما يفعل كل خادم أمين لسيده. كنتُ رجلاً صالحًا في مدينتي. أنقذتُ الشعب من الكارثة العظمى التي اجتاحت البلاد كلها، والتي لم يشهد مثلها هذا القطر من قبل. حميتُ الضعيف من القوي، ونجّيتُ الخائف ساعة البليّة. فعلتُ لهم كل خير في وقته.

المكرَّم من إلهه مدينة سايس، رئيس الأطباء ودجاه حُرسن Udja-horresne، يقول: كنتُ بارًّا بأبي، ممتثلًا لإرادة أمي، رحيمًا بإخوتي. أثبتُّ لهم ما أمر به جلالته، ووهبتُهم الأراضي الخصبة إلى أبد الآبدين، كما شاء جلالته. صنعتُ تابوتًا لمن لم يكن له نعش. جعلتُ أبناءهم يحيون، وأوطدتُ بيوتهم، وصنعتُ لهم كل خير كما يفعل الأب لابنه، حين حلّت الكارثة في هذا الإقليم، بل في البلاد كلها.

الأمير، الحاكم، حامل الخاتم الملكي، الرفيق الأوحد، نبي الأحياء، رئيس الأطباء أودجا-حور-رسنت، ابن أتميرديس Atemirdis ، يقول: إن جلالة الملك دارا الأول، الحي إلى الأبد، أمر أن أعود إلى مصر بينما كان في آرام (Arma)، لأنه سيد جميع الأقاليم وملك مصر العظيم، لأعيد إنشاء "بيت الحياة" (مدرسة الكتبة)، وأصلح ما تهدّم. وقد حملني الغرباء من إقليم إلى إقليم حتى أدخلوني مصر سالمًا حسب أمر ربّ الأرضين. ففعلتُ ما أمر به جلالته. اخترتُ لهم النجباء دون الأدنياء، وأسلمتُهم إلى معلّم حاذق ليدرّبهم على كل فن. وأمر جلالته أن يُعطَوا كل ما يلزم لكي يتقنوا حرفتهم. فعل ذلك لأنه عرف أن هذا العمل هو السبيل لإحياء ما تهدّم، وإقامة أسماء الآلهة ومعابدهم وقرابينهم وأعيادهم إلى الأبد.

رئيس الأطباء أودجا-حور-رسنت، يقول: كنتُ وفيًّا لكل سادتي الذين خدمتهم، فمنحوني حليّ الذهب، ورفعوني بالمجد.

يا جميع آلهة سايس! أعلنوا ما فعله رئيس الأطباء أودجا-حور-رسنت من المجد العظيم، وامنحوه اسماً طيباً في هذه الأرض إلى الأبد.

يا أوزير، ربّ الأبدية! إن رئيس الأطباء أودجا-حور-رسنت يضع ذراعيه وراءك ليحمي صورتك. فليُصنع له كل مجد كما صنع هو لهيكلك، حاميًا له إلى الأبد.

مائدة ملكية من القرابين يمنحها أوزير–حماكا Osiris Hemaka,: وفرة من الخبز والجعة والثيران والإوزّ وسائر الخيرات والأشياء الطاهرة لصورة رئيس الأطباء أودجا-حور-رسنت، التقيّ نحو آلهة سايس.

مائدة ملكية من القرابين يمنحها أوزير المقيم في القصر (Hat-nat): قرابين جنائزية من خبز وجعة وثيران وإوزّ وأكفان وبخور وكل الخيرات لصورة رئيس الأطباء أودجا-حور-رسنت، التقي نحو جميع الآلهة)

لكننا نلاحظ إن تلك السياسة لم تكن شاملة تجاه المعابد، فمثلا تشير بردية P. BN 215 (القرن الثالث ق.م) إلى ما عُرف بـ "مرسوم قمبيز": حرمان المعابد من دعم ملكي كانت تناله في عهد أحمس، وإجبارها على جلب مواردها بنفسها. وبرديات من طيبة (سنة 12 من دارا الأول = 511/10 ق.م) تبيّن أن جباية الأعشار انتقلت من كتبة آمون إلى "وكلاء طيبة" (rdw n Nwt)، ربما كانوا موظفين للدولة، مع احتمال تحويل جزء من الموارد إلى الخزانة الملكية، فالفضة في طيبة كانت تُوزن في خزائن آمون، ثم أصبحت – من عهد دارا – تُوزن في معبد بتاح بمنف، مما قد يكون لذلك دور مباشر في دفع بعض كهنة وأتباع آمون للانضمام إلى ثورة بسمتيك الرابع (487/86 ق.م).

بعد أن أعاد خشایارشا إخضاع مصر سنة 485/84 ق.م، يذكر هيرودوت في التواريخ (7. 7) أنّ البلاد عانت من "عبودية أقسى" مما كانت عليه في عهد دارا الأول. وتدعم الأدلة المادية هذا التصوير، إذ يغيب اسم الملك عن جدران المعابد المصرية، كما يظهر تراجع واضح في ثروة ونفوذ النخبة المحلية؛ حيث تندر المقابر الضخمة والتماثيل واللوحات الجنائزية المؤرخة لعصره وعصر خلفائه. وقد أدى هذا الوضع إلى افتراض شائع في الدراسات الحديثة يرى أنّ هذه السياسة القمعية لم تؤدِّ إلا إلى تعميق أسباب التمرّد، أي أنّ تشديد القهر ولّد مقاومة متزايدة، فيما يشبه حلقة "القمع–المقاومة" التي بلغت ذروتها في ثورة منتصف القرن الخامس ق.م. إلا أنّ المقارنة مع بابل تثير الشك في هذه الفرضية؛ فبعد قمع ثورة بابل سنة 484 ق.م انتهجت الدولة هناك سياسة مختلفة، تمثلت في إغلاق الأرشيفات الشمالية، واستبدال الأسر ذات الأصول الشمالية برجال محليين (homines novi) في مناصب المعابد الجنوبية. وقد أثبتت هذه السياسة فعاليتها، إذ لم تثُر بابل مرة أخرى. ومن هنا يظلّ السؤال مفتوحًا: هل نجحت سياسات خشایارشا في مصر فعلًا في إخماد مقاومة الجنوب، أم أن الأمر يحتاج إلى مراجعة أدقّ؟

وعلى أية حال، فإن التجربة المصرية تكشف أن موقع البلاد على أطراف الإمبراطورية جعلها ساحة جذّابة للتمرّد، مهما كانت طبيعة السياسة المتبعة. فجنوبًا كان هناك الاتصال بالنوبة/السودان، وغربًا ليبيا، وشمالًا المتوسط حيث المدن الإغريقية المستقلة. ومن هذا الإطار ظهرت ثورة منتصف القرن الخامس ق.م بقيادة إيناروس الذي حظي بدعم قوي من الإغريق. وعليه يمكن القول إن مصر بعد 487/86 ق.م دخلت مرحلة جديدة: لم يعد الجنوب مركز المقاومة الرئيس، بل تحوّل الثقل إلى الوجه البحري (الدلتا)، وارتبطت التمردات ارتباطًا أوثق بالقوى الأجنبية، خاصة ليبيا واليونان. فمصر في العصر الأخميني كانت من أبرز الأقاليم التي لم تكفّ عن تحدي الحكم الفارسي، وانتصرت وستنتصر دوماً وإلى الأبد إن شاء الله.

كما كان سقوط النفوذ الفارسي في مصر نتيجة مباشرة للهزائم الكبرى التي ألحقها الإسكندر الأكبر بالفرس في قلب آسيا. فبعد انتصاره الأول في غرانيكوس (334 ق.م) تمكن من السيطرة على آسيا الصغرى، ثم حقق انتصارًا حاسمًا على دارا الثالث في إيسوس (333 ق.م)، حيث فرّ الملك الفارسي تاركًا عائلته في أيدي الإسكندر. هذه الهزيمة زعزعت هيبة الفرس، وأفقدتهم السيطرة على مناطقهم الغربية، ومنها مصر. وعندما وصل الإسكندر إلى مصر سنة 332 ق.م لم يجد مقاومة تذكر؛ بل استُقبل بوصفه محررًا من الاحتلال الفارسي، واعترف به المصريون فرعونًا في منف، ثم حصل على شرعيته الدينية من واحة سيوة بزيارة معبد آمون. وبعد ذلك بعام واحد، في غوغميلا (331 ق.م)، أجهز الإسكندر على دارا الثالث، وبسقوطه انتهت الإمبراطورية الأخمينية تمامًا، وأصبحت مصر جزءًا من العالم المقدوني البطلمي.

في كل هذا لا نُلاحظ انهيار الإمبراطورية المصرية او الدولة المصرية، لكننا نلاحظ ونستشهد بالمقاومة المصرية والحفاظ على الأرض واللغة وحضارتنا كما هي بدون تغير.



#ابرام_لويس_حنا (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- (المُخلص الإمبراطوري) رداً على (المُخلص اليهودي المصري)
- كيف نشأت الحركة المسيحية الخلاصية !!
- الترجمة الكاملة لأعمال أغسطس (نقش أنقرة Monumentum Ancyranum ...
- كليوباترا السابعة في مواجهة تشويه الدعاية الإمبراطورية
- الجذر المصري للألفاظ السامية (عبد، الأبد، إبادة، أبهة)
- الأصل المصري للكلمات السامية (واد، وَدَّأَ، وَأد، وطّأ، وطى، ...
- آشور لم تنتصر (كشف زيف الاحتلال الآشوري لمصر)
- الأصل المصري لمدينة (تِمْنة حارس) التوراتية
- الرد التطوري العلمي على المزاعم حول الأعضاء الأثرية؛ هل ضرس ...
- الرد التطوري العلمي على المزاعم حول الأعضاء الأثرية؛ هل عضلا ...
- الرد التطوري العلمي على المزاعم حول الأعضاء الأثرية؛ هل حلما ...
- نص العهد القديم، مدخل إلى الكتاب العبري (الجزء الأول)
- رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا (الجزء العشر ...
- رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا (الجزء التاس ...
- رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا (الجزء الثام ...
- رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا (السابع عشر ...
- رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا (الجزء الساد ...
- رؤية العالم اليوناني للمسيحية (سيلسوس) نَموذجًا (الجزء الخام ...
- المَصادر القديمة اليونانية لإسطورة الطوفان مع مُقارنتها بالم ...
- المختصر المفيد في أسطورة نوح وأولاده، والأصل الأسطوري لقصته


المزيد.....




- -أرجو ألاّ تنسوه-.. محمد رمضان ينشر صورًا من حفله الذي شهد ح ...
- الجيش السوداني يُعلن التصدي لقوات الدعم السريع في الفاشر
- ألمانيا - وزارة الداخلية تدرس مطالب باستقبال أطفال من غزة وإ ...
- نتانياهو يطلب من الصليب الأحمر تأمين الطعام للرهائن في غزة و ...
- -رفقاء- الذكاء الاصطناعي ينافسون الأصدقاء الحقيقيين بين المر ...
- إسرائيل تفرج عن مستوطن قتل فلسطينيا من الإقامة الجبرية
- حلوى تتسبب بتسمم مئات بولاية جزائرية.. ما القصة؟
- تجدد المواجهات بين دمشق وقسد يثير انقساما بالمنصات
- الشيخ فيصل آل ثاني.. 60 عاما من ريادة الأعمال وحفظ التراث
- شريطا الأسيرين الجائعين يربكان إسرائيل ويسعران سجالاتها


المزيد.....

- السيرة النبوية لابن كثير (دراسة نقدية) / رحيم فرحان صدام
- كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون / زهير الخويلدي
- كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي / تاج السر عثمان
- كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي / تاج السر عثمان
- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - ابرام لويس حنا - الرد على حلقة الدحيح، الجزء الأول، (الاستعمار الفارسي الأخميني) وهل وقع انهيارللحضارة المصرية؟