أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - فلسفة ما بعد الإنسان: تحولات الذات في عصر الكائنات المعززة














المزيد.....

فلسفة ما بعد الإنسان: تحولات الذات في عصر الكائنات المعززة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8413 - 2025 / 7 / 24 - 02:53
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
تشير فلسفة ما بعد الإنسان (Posthumanism) إلى تحوّلٍ جذري في فهم الإنسان، ليس فقط بوصفه مركز الكون أو الكائن الأرقى، بل بوصفه نقطة عبور نحو نماذج جديدة من الوجود تتجاوز الخصائص البيولوجية والأنطولوجية التي لطالما كانت معيارًا لتعريف الإنسان. نشأت هذه الفلسفة كرد فعل على التقاليد الإنسانية الكلاسيكية (Humanism) التي وضعت الإنسان محورًا للمعرفة والقيمة والمعنى، معززة بفكر التنوير الأوروبي ومرتكزة على العقل والعلم والسيطرة على الطبيعة. إلا أن ما بعد الإنسان لا يعني ببساطة رفض هذه المقولات، بل يعيد تشكيلها في ضوء المتغيرات التكنولوجية، والبيئية، والرقمية، والميتافيزيقية التي باتت تؤثر على طريقة تموضع الإنسان في العالم. ففي قلب هذه الفلسفة يقف سؤالٌ مفصلي: ما الذي يبقى من الإنسان عندما يتلاشى مفهومه التقليدي وتُلغى الحدود الفاصلة بينه وبين الآلة، الحيوان، الكائنات الاصطناعية، أو حتى البيئات الرقمية؟

أحد أبرز محاور هذه الفلسفة هو تفكيك الثنائية الصارمة بين الإنسان وغير الإنسان، والتي لطالما حكمت الفلسفات الغربية منذ أفلاطون حتى ديكارت. ما بعد الإنسان يدعو إلى تجاوز هذه الانقسامات، ويقترح نموذجًا تعدديًا للعقل والكينونة، حيث لا يُنظر إلى الإنسان ككائن متفرد في العقلانية أو الأخلاق، بل كعقدة ضمن شبكة واسعة من العلاقات البيئية والتقنية والكوزمولوجية. في هذا السياق، تتقاطع فلسفة ما بعد الإنسان مع تيارات مثل الأنطولوجيا التعددية، والنظرية النسوية الجديدة، ونقد الأنثروبوسين، وتسائل الحدود الأخلاقية والسياسية لتصنيف الكائنات. ليس المقصود من هذا التجاوز إنكار إنسانية الإنسان، بل فتح المجال أمام أشكال بديلة من الحياة والتفكير والكينونة قد لا تستجيب للمقاييس البشرية التقليدية.

أما من الجانب التكنولوجي، فقد أسهمت التطورات السريعة في الذكاء الاصطناعي، والهندسة الوراثية، والروبوتات، والنانو تكنولوجيا، والواقع الممتد، في تغذية الخيال الفلسفي لما بعد الإنسان. هنا، لا يُنظر إلى التكنولوجيا كأداة فحسب، بل كامتداد للكائن البشري، أو كعامل فاعل بحد ذاته قادر على إعادة تشكيل طبيعة الإنسان وأفقه التطوري. وقد ظهرت مفاهيم مثل "السايبورغ" (Cyborg) – الكائن الهجين بين الإنسان والآلة – و"الذكاء فوق البشري" (Superintelligence)، لتشير إلى إمكانات تتجاوز القدرات البيولوجية أو المعرفية الطبيعية. ويزداد هذا التوجه عمقًا مع تحوّل الهوية الإنسانية إلى معطى رقمي يمكن تحميله، وتعديله، ونقله عبر وسائط جديدة، مما يثير أسئلة غير مسبوقة حول الجسد، والهوية، والحرية، والموت، والخلود.

لكن فلسفة ما بعد الإنسان ليست خطابًا احتفاليًا بالتكنولوجيا فحسب، بل تتضمن أيضًا نقدًا عميقًا للسلطة، والسيطرة، وعدم المساواة، التي قد تُنتجها هذه التحولات. إذ يُحذر بعض الفلاسفة من خطر تحويل الإنسان إلى "منتج" تقني، أو تقويض قيم العدالة والكرامة من خلال تسليع الكائن البشري أو فصله عن جذوره الاجتماعية والطبيعية. كما تتقاطع هذه المخاوف مع النقاشات البيئية حول مستقبل الأرض في ظل الهيمنة التكنولوجية والاستهلاك المفرط، حيث يدعو مفكرو ما بعد الإنسان إلى ما يُعرف بـ"التحول البيوسياسي" الذي يعيد إدماج الإنسان في شبكة الحياة بدل أن يضعه خارجها أو فوقها.

من ناحية أخرى، تقدم فلسفة ما بعد الإنسان إمكانًا جديدًا لفهم الأخلاق والوعي، ليس من منطلق التفوق البشري، بل من منظور تشاركي يُعلي من قيمة الآخر المختلف – سواء كان آلة واعية، أو حيوانًا ذكيًا، أو حتى بيئة طبيعية ذات حساسية. هذا التوسيع للمجال الأخلاقي يتحدى التصنيفات الثابتة ويقترح نموذجًا للمسؤولية يتجاوز الحدود الأنطولوجية بين الذات والغير. وبذلك، تتحول فلسفة ما بعد الإنسان إلى دعوة لإعادة تعريف الكينونة والسلطة والمعنى، ليس فقط من منطلق تجاوز الإنسان، بل من منطلق إعادة تخيله على نحو أكثر تواضعًا، تواصلاً، وتشاركية مع الوجود المتعدد.

إن أهمية هذه الفلسفة اليوم لا تكمن في بُعدها النظري فقط، بل في كونها تتيح لنا أدوات لفهم التحديات المعاصرة – من الذكاء الاصطناعي إلى التغير المناخي – ضمن أفق أنطولوجي وأخلاقي جديد. فهي تدفعنا للتفكير في ما يعنيه أن نكون بشرًا في عالم لم نعد نحتله وحدنا، بل نتقاسمه مع كائنات جديدة – بعضُها من صنع أيدينا، وبعضُها يسبقنا في التاريخ الكوني. وبينما ينهار المشروع الإنساني الكلاسيكي أمام هذه التحولات، تفتح فلسفة ما بعد الإنسان أفقًا فلسفيًا محفوفًا بالتحديات والفرص، يفرض علينا إعادة التفكير في طبيعة الإنسان، وحدود المعرفة، وأخلاق المستقبل.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إدارة الأزمات بعد الإنسان: الدولة الخوارزمية، والمجتمع تحت ا ...
- الفلسفة في مواجهة المستقبل: تأملات عميقة في وعي الآلة، أخلاق ...
- المؤسسات في زمن الذكاء الفائق: من البيروقراطية إلى الخوارزمي ...
- التكامل الذكائي: من سيادة العقل إلى خوارزمية السيطرة
- أنقاض المعنى: الفلسفة الأوروبية بين مشروع العقل وانهيار اليق ...
- الكسب في الفكر الأشعري: فلسفة التوفيق بين الجبر والاختيار
- الفلسفة الأوروبية المعاصرة وتحديات العصر الحديث: بين العلمنة ...
- الأمن القومي في زمن السيادة الرقمية: الذكاء الاصطناعي والخوا ...
- الفلسفة في مواجهة الزمن : قراءة عميقة في تحولات العقل الأورو ...
- الفاتيكان والسردية الاستعمارية: من بركات الغزو إلى مباركة ال ...
- العلمنة النقدية في فكر محمد أركون: بين تحرير المقدّس ونقد ال ...
- هندسة السمعة في عصر الذكاء الاصطناعي : من الإدراك البشري إلى ...
- ما وراء اللفظ: نظرية الصفر اللغوي ومقامات الإعجاز في القرآن
- ما بعد العقل البشري: الذكاء الفائق كأزمة حضارية شاملة
- العنف المؤسِّس: الجذور النظرية للمركزية الغربية وبنية الهيمن ...
- الدوغمائية: سجون العقل ومأزق الإنسان أمام الحقيقة
- هندسة العقل الحديث: ريشنباخ وبناء الفلسفة العلمية المعاصرة
- العالم عند مفترق الطرق: صراعات الديمقراطية والتكنولوجيا واله ...
- ضياع المعنى وتشظي الانتماء: الهوية في مرايا ما بعد الحداثة
- من تأسيس العقل إلى تفكيك الذات: تحولات الفلسفة الأوربية من ا ...


المزيد.....




- وزير إسرائيلي يثير ضجة بتصريح عن -محو غزة-.. ونتنياهو -يتبرأ ...
- آخر دفعة من أهالي العشائر تغادر السويداء والحكومة تعلن إنجاز ...
- -تراشق- بين -حماس- ومبعوث ترامب بعد إعلانه فشل المفاوضات بشأ ...
- جيفري إبستين: لقاء مسؤول من وزارة العدل الأمريكية وغيلين ماك ...
- أبرز ردود الفعل الدولية على إعلان فرنسا نيتها الاعتراف بدولة ...
- كيف تحول القيود الإسرائيلية دون وصول المساعدات الأساسية إلى ...
- مجموعة أمريكية تستحوذ على نادي الخلود في الدوري السعودي
- السفينة -حنظلة- تواصل الإبحار نحو غزة بعد عودة الاتصال بناشط ...
- أول تعليق من إدارة ترامب على اعتزام ماكرون الاعتراف بالدولة ...
- انفجارات مستودع أسلحة في إدلب تودي بحياة 12 شخصا وتصيب أكثر ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - فلسفة ما بعد الإنسان: تحولات الذات في عصر الكائنات المعززة