أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - بوتان زيباري - السويداء: صدى الدم في وحدةٍ مكسورة















المزيد.....

السويداء: صدى الدم في وحدةٍ مكسورة


بوتان زيباري

الحوار المتمدن-العدد: 8409 - 2025 / 7 / 20 - 19:40
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


في جبال السويداء حيث تُخفي الصخور حكايات القرون، وتنام الأصوات بين طيات الرياح، تُكتب اليوم فصول جديدة من ملحمة الدم والنار، لا تختلف كثيراً عن تلك التي رُسمت بحبر الحنين والانتماء في كتب التاريخ. فالزمن يعيد نفسه، لكن بوجوهٍ مختلفة، وأدواتٍ أكثر قتلاً. وسط هذا المشهد المعتم، تظهر السويداء كمفترق طرقٍ بين خيارين: إما أن تكون وحدةً حقيقيةً تُبنى على العدالة والمشاركة، أو أن تكون ساحةً للصراعات التي تُغذّيها المؤمرات وتُزيّنها المصالح. والمؤلم أن الدم يُراق باسم الوحدة، بينما يُنسى أن الوحدة الحقيقية لا تُفرض بالقوة، بل تُزرع في القلوب بالمساواة.

في هذه الأرض التي عرفت الاعتدال والصبر، اندلعت الاشتباكات بين البدوٍ والمسلّحين من الطائفة الدرزية، فكانت صرخةً مدوّيةً من قلب التاريخ، تذكّر بأن التوترات لم تُحل، بل تراكمت. فدماء سقطت، وبيوتٌ هُدمت، وعائلاتٌ نزحت، وآلامٌ توارت خلف الإحصائيات. وحسب تقارير الأمم المتحدة، فإن أكثر من 87 ألف شخص نزحوا، وسقط مئات الضحايا، بينهم نساء وأطفال، فيما لم تعد الثلاجات في المستشفيات تكفي لاستقبال الجثث، وغدت الشوارع مساجد للرحمة. هذا المشهد البشع لم يكن مجرد اشتباك عسكري، بل هو انعكاس لصراعٍ أعمق، يمتد جذوره إلى جرحٍ قديم لم يندمل، وسياسةٍ تُدار بمنطق القوة لا بالحكمة.

دمشق، التي أرسلت قواتها بحجة استعادة الاستقرار، ظنت أنها تملك الضوء الأخضر من واشنطن، مستندةً إلى تصريحات مبعوثها توماس باراك التي دعت إلى "مدرسة الدولة الموحّدة"، واعتبرت أن المفاوضات الأمنية في باكو تُعدّ ضمانةً لتحركها. لكن السياسة ليست بريئة، والحسابات الدولية ليست بسيطة، فجاء الرد الإسرائيلي سريعاً وقاسياً، عبر ضربات جوية استهدفت مواقع للجيش السوري، وكأنها تقول: "لا تعبثوا بدم الدروز، فهناك خطوط حمراء لا يجوز تجاوزها". فإسرائيل، التي حاولت الصمت في البداية حفاظاً على مسار السلام الذي تروّج له الإدارة الأمريكية، انقلبت فجأةً تحت ضغوط داخلية، خاصة من الدروز في الداخل الإسرائيلي، فحوّلت القصف إلى رسالة سياسية واضحة: لا مجال لفرض السيطرة على الجنوب السوري دون موافقة صريحة.

لكن الأسئلة الكبرى ما زالت تبحث عن إجابات: ماذا يعني أن تُبنى دولة باسم الوحدة، ثم تُستخدم تلك الوحدة سلاحاً لقمع المكونات الأخرى؟ وهل الوحدة أن تُهمَش الأقليات وتُهمَل حقوقها، أم أن تكون لكل مكون مكانة وصوت في القرار؟ فالوحدة الحقيقية ليست في توحيد السلاح فقط، بل في توحيد القلوب، وفي إعطاء كل طرف حقه في المشاركة، دون تمييز طائفي أو عرقي. والمؤلم أن دمشق، بدل أن تُصغي إلى صوت الداخل السوري، فضّلت أن تُعطي أذنها للدعم الخارجي، فازدادت الحالة تعقيداً، وتوسّعت الفجوة بين المركز والهامش، وتحولت السويداء إلى مسرحٍ لصراعاتٍ أكبر من حجمها الجغرافي.

السياسة التي تُدار بمنطق القوة تُنتج دوماً الانقسام، وتُغذي الشكوك. والجيش الذي دخل السويداء بحجة الحفاظ على وحدة الدولة، أعاد إنتاج الجروح القديمة، وخلط الأوراق بطريقةٍ عميقة، فكان أن انسحب البدو بعد اتفاقٍ، لكنهم أبقوا على التهديد: "سنردّ بقوة إن انتهك"، وهو ما يُشير إلى أن المسألة لم تُحسم، بل تأجلت. فالحرب هنا ليست فقط بين جيشٍ وقبيلة، بل بين رؤيتين للدولة: رؤية تُريد فرض الوحدة من فوق، ورؤية تُطالب بمشاركة حقيقية من تحت. وفي هذا الصراع، يبقى الضحية هو الإنسان السوري، الذي يُقتَل مرتين: مرة بالرصاص، ومرة بصمت المؤسسات والدول.

التأمل الفلسفي هنا يأخذنا إلى سؤالٍ أعمق: ما معنى أن تُبنى دولة باسم "النظام والانتظام"، بينما أول ما تُدمّره هو الوحدة؟ إن الدولة ليست مجرد مؤسسات وحدود، بل هي كيانٌ روحيّ يتكوّن من التنوع والاختلاف، وتجربة التعايش بين المكونات. وعندما تُختزل الدولة في ثنائية "المركز أو الفوضى"، يُفقد البُعد الإنساني، ويُصبح القانون أداةً للقمع، والوحدة شعاراً للهيمنة. وهنا تظهر الحاجة إلى نموذجٍ مختلف، يُعيد النظر في مفهوم الدولة، ويُعطي لكل طائفة وقومية حقها في المشاركة، دون أن يُفهم ذلك على أنه انفصال أو تقسيم، بل على أنه اعترافٌ بالواقع، واحترامٌ لحقوق الإنسان.

ومن هنا، يتقاطع الملف الدرزي مع الحلم الكوردي، في رؤيةٍ ترى أن الوحدة لا تعني القمع، بل تعني التعدّد والمشاركة. فالكورد، مثل الدروز، يطالبون بحقهم في أن يكونوا جزءاً من الدولة، لا أن يكونوا رقعةً تُحكَم بالقوة وتُهمَل في القرارات. والدولة الحقيقية هي التي تُعطي كل مكون حقه، وتحترم التنوع، وتعترف بأن الهوية ليست تهديداً، بل غنى. والوحدة التي تُبنى على القمع، هي وحدةٌ هشّة، ستنهار أول ما تهبّ عليها الرياح.

الكلام هنا ليس فقط عن السياسة، بل عن الإنسان، وعن الروح التي تربط بين الجبال والهوية، وبين الدم والوطن. والأدب الشعبي، في هتافه البسيط "بتراب الواحد فينا دماً"، يُعبّر عن حلمٍ لا يزال بعيد المنال، وهو حلم التوازن، حيث لا يُستخدم الدم وسيلةً للقرار، بل يكون الدافع لبناء عدالةٍ حقيقية. فالوحدة ليست سجناً، ولا هي سلاحاً يُستخدم ضد الأقليات، بل هي مساحةٌ من الحرية المشتركة، حيث يُمكن لكل مكون أن يتنفّس، وأن يُعبّر عن نفسه، دون خوفٍ من أن يُمحى أو يُهمَش.

وفي الختام، فإن السويداء ليست مجرد بقعة جغرافية، بل هي مرآةٌ تعكس واقع سوريا بأكملها، وجدلية الصراع بين الوحدة والانفصال، والقوة والعدالة، والمركز والهامش. فهل تُسمَع أصوات المكوّنات قبل أن تُسكب دماء جديدة؟ وهل تفهم دمشق أن للدروز والعلويين والكورد والبقية وجداناً متكاملاً لا يُختزل في ولاء للمركز؟ وهل يدرك الأميركي والإسرائيلي أن الوحدة التي لا تُبنى على العدالة، ما هي إلا قصرٌ من رملٍ يهوي مع أول نسمة من الريح؟

الجواب لا يكمن في القوة، ولا في التدخلات، بل في الحكمة، وفي الإصغاء إلى صوت الضمير، وفي إعادة النظر في مفهوم الدولة، لتكون وطناً للجميع، لا سجناً للبعض. والكتابة، والأدب، والنضال السياسي، هي السبيل الوحيد لبناء جذور السلام، وليس سلاماً مزيفاً يُغطّى بالكلمات، بل سلاماً حقيقياً يُبنى على الحقيقة، والمساواة، والاحترام المتبادل.



#بوتان_زيباري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين الثورة والتجديد: من خُميني إلى الشرع السنيّ
- دمٌ على جدران التاريخ: سردية الكورد بين المذابح والانتفاضات
- هل نحن أصحاب سردنا أم مجرد متلقين؟
- أزمنة النبع الكوردي: من أطلال التشتت إلى ضياء السياسة
- رسائل لم تُسلَّم... وذاكرة لا تموت
- كوردستان: الجرح النازف في جسد الشرق الأوسط الممزق
- الشرق الأوسط يُعيد تشكيل خارطته.. فهل من يقظة كوردية تُعيد ل ...
- التطبيع السوري الإسرائيلي.. صراع المصالح وتنافس الأدوار في ظ ...
- لعبة الأقنعة: تشريح الصراع التركي بين الديمقراطية والاستبداد ...
- الهدنة والردع: أطياف القوة في لعبة المصالح المتشظية
- سلامٌ هشٌّ.. كالزجاج يلمع ويُخفي شظايا الحرب
- أطياف الصراع: قراءة فلسفية في تداعيات الضربة الإيرانية والرد ...
- ملحمة الصراع الإيراني-الإسرائيلي وتصدعات الشرق المكسور
- صراع الوجود وأسئلة المصير: الهجوم الإسرائيلي على إيران بين ا ...
- سقوط الأقنعة: حين يصبح الفساد سلاحاً للانهيار والهيمنة
- تأملات في الخطاب والهوية بين السجال والوجود
- رياح التمرد والهشاشة: الكورد بين مطرقة الذات وسندان الجوار
- اللامركزية بين مطرقة السلطة وسندان الحرية: تأملات في فلسفة ا ...
- صراع الجبابرة: إيران وسوريا في دوامة الشرق الأوسط الدامية
- الكوردايتي: سيمفونية تحوّلٍ من البقاء إلى الازدهار


المزيد.....




- مفاجأة غير متوقعة.. العثور على ضعف ما أبُلغ عنه من عدد حيوان ...
- جان نويل بارو يزور كييف بعد وابل من القصف الروسي
- سرعتها تفوق 700 كيلومتر في الساعة..كييف تعثر على حُطام المُس ...
- إيران تكشف عن موعد ومكان محادثاتها مع -الترويكا- الأوروبية.. ...
- ترقب بشأن تطور هجوم برشلونة بعد التحاق النجم الانجليزي راشفو ...
- استئناف المحادثات النووية بين إيران والقوى الأوروبية في إسطن ...
- عشائر بدو سوريا.. جذور عميقة في التاريخ وامتداد في الجغرافيا ...
- السجن ثلاث سنوات لطالب في كوت ديفوار بتهمة الإساءة للرئيس
- المحتوى المضلل يجد طريقه إلى -شات جي بي تي- بفضل المحتالين
- ما المواد -المتطرفة- التي أقرت روسيا تغريم الباحثين عنها؟


المزيد.....

- اشتراكيون ديموقراطيون ام ماركسيون / سعيد العليمى
- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - بوتان زيباري - السويداء: صدى الدم في وحدةٍ مكسورة