مظهر محمد صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8409 - 2025 / 7 / 20 - 00:49
المحور:
سيرة ذاتية
انتهى أستاذنا القدير من درس الاقتصاد الجزئي في تلك القاعة الجامعية الأنكلو-سكسونية، التي ضمّت طلابًا من شتى أنحاء الأرض، بعد أكثر من ساعة ونصف قضيناها في تتبّع اشتقاق رياضي معقّد، أراد استاذنا من خلاله ، البرهنة على توازن السوق بين سلعتين، مستخدمًا أعنف أدوات الاقتصاد الرياضي فتكًا.
وكانت النتيجة التي ختم بها درسه في : توازن السوق… بإشارة سالبة!
همس في أذني ذلك الطالب الكوري المتقد ذكاءً ( يي جون) ، والذي قدم للتو من جامعة سول لمتابعة تعليمه العالي في جامعتنا في شمال أميركا، قائلاً:
“كيف يمكن للسوق أن تنتهي على لوحة أستاذنا بهذا الكم من المعادلات… بإشارة سالبة؟ كان ينبغي، على الأقل، أن تكون نتيجة التوازن صفرًا أو موجبة!”
فقلت له هامسًا:
“ربما هناك حالة استثنائية… إنه عالم الرياضيات، واحة مخيفة في أدغالها!”
أجابني:
“أتمنى أن أسأله، لكنني… لا أستطيع ، ألا ترى أنه رجل متعجرف، متعالٍ على طلبته على نحو لا يُحتمل؟”
قلت له:
“حاول أن تستفسر منه!”
فجمع الطالب شجاعته، وسأل أستاذنا بصوت خافت:
“هل يجوز أن تحمل حالة السوق المتوازنة إشارة سالبة؟”
احتقن وجه الأستاذ، وسكت هنيهة، ثم ازداد حنقه، والتزم الصمت، ونحن بدورنا غرقنا في صمت أشد. ثم كانت إجابته الحاسمة، بكلمة واحدة فقط، توجّه بها إلى الطالب (يي جون )الكوري الجنوبي الذكي المهذّب:
“أخرس!”
صمت الجميع، وانتهى الدرس. وانصرفنا ونحن نتقلب على حافات استبدادٍ أكاديمي، لا يصحو من نشوة دكتاتوريته، فيما نحن تائهون في خوفٍ من مجهولٍ لا يرحم.
ذهبنا نقلب بطون الكتب، وبدأت نقاشاتنا كخلايا نحل من طلاب قدموا من شمال العالم وجنوبه، لولوج عالم النظرية الاقتصادية الكلاسيكية، حيث يُفترض أن السوق يتوازن عند تقاطع قوى العرض والطلب، أي عندما تتساوى الكمية المعروضة مع الكمية المطلوبة عند سعر موجب، يُمثّل القيمة النقدية للسلعة.
ولكن… السؤال الذي ظلّ يراودنا:
هل يمكن أن يحدث التوازن بسعر صفري أو حتى بإشارة سالبة؟
نظريًا، لا يُفترض أن يكون السعر التوازني سالبًا، لأن السعر يُعد أداة تخصيص للموارد والتعبير عن الندرة.
لكن المفارقة الاقتصادية تكمن في أن السعر السالب لا يعني أن السلعة بلا قيمة، بل أن كلفة التخلص منها قد تكون أعلى من كلفة إنتاجها، أو أن السوق فقد مؤقتًا كفاءته في توزيعها.
مرّ أقل من نصف قرن على تلك الجدلية… بين التوازن السالب والموجب والصفر. لقد طويت صفحات من حياتي الأكاديمية والمهنية، ولكن أسئلة ضلت لم تغب عن بالي قط، خصوصًا مع كل ظاهرة اقتصادية نشهدها اليوم في عالم يعجّ بحالات “التوازن السالب”، كاستثناء لا كقاعدة.
فالحادثة الأولى التي أثارت ظاهرة التوازن السالب تجلت في الأسواق المغمورة بالإنتاج الفائض مثل النفط أو الغاز، كما حدث في نيسان 2020، حين انهار الطلب ووصل خام غرب تكساس إلى (سالب 37 دولارًا للبرميل)، بسبب تكاليف التخزين المكلفة جدًا، بحيث اضطر المنتج إلى دفع المال للمشتري كي يأخذ السلعة!
وتتكرر هذه الظاهرة في حالات التسعير البيئي أو الاجتماعي السلبي، كأن تكون السلعة غير مرغوبة اجتماعيًا أو ملِوثة (مثل النفايات الصناعية أو انبعاثات الكربون)، فتُولِّد سعرًا سالبًا رمزيًا مقابل نقلها أو تدويرها.
أما الاقتصاد الصيني، الموصوف اليوم بمصنع العالم، والذي حقق أعلى معدلات نمو في ناتجه المحلي الإجمالي خلال العقود الماضية، فقد بات يعيش محنة التوازن السالب في أسواقه.
اذ تبين مؤشرات الاقتصاد الصيني اليوم بكون الصين “مملكة العالم الأوسط - حسب النظرية الكونفوشيوسية " إلى أن أسواقها تناطح السعر السالب، الذي لا يعكس توازنًا اقتصاديًا مستقِرًا، بل اختلالًا مؤقتًا في آلية السوق.
حيث يرى الصينيون انفسهم حسب معتقدات الصينيون القدماء ان بلادهم مركز العالم حضاريًا وثقافيًا وجغرافيًا، واعتقدوا أن جميع الأمم الأخرى إما “برابرة” أو تقع في الأطراف المحيطة. هذه النظرة هي جزء من الفكر الكونفوشيوسي والإمبراطوري الصيني، حيث كانت الصين ترى نفسها محورًا للنظام العالمي، خصوصًا في ظل “نظام الروافد” (Tributary System)وهو شكل من اشكال الحرب الناعمة او الإمبريالية الثقافية والسياسية الصينية” في التاريخ الآسيوي مع محيطها الاقليمي"
وحسب مُنظري مدرسة فرانكفورت الفكرية :
“لم يعد الإنتاج هو المشكلة، بل ان المعضلة الحقيقية تكمن في كيفية تعبئة فائض القوة الصناعية لتعزيز أنظمة الهيمنة، والاستهلاك، والانهيار البيئي.”
فالتوازن بالسالب هو حالة اضطرارية، تنشأ عندما تتعطل فيها آلية السعر عن تحقيق التوازن بين العرض والطلب، و خصوصًا في ظل الحروب التجارية “الاترامبية” الاخيرة وفرض تعريفات كمركية إضافية على صادرات الصين إلى الولايات المتحدة (بنسبة تجاوزت 50%)
إضافةً إلى الأزمات الجيوسياسية، وتداعيات تغير المناخ، وحروب المعلوماتية و الذكاء الاصطناعي في خضمّ الثورة التكنولوجية الرابعة.
وعندما يتحول السعر إلى سالب، لا يعود السوق عقلانيًا، بل نكون أمام حالة نادرة يُصبح فيها التخلص من السلعة أغلى من إنتاجها.
تغمر الصين العالم اليوم بسلعها ، اذ جائت وكالة “بلومبيرغ” تحليلًا بهذا الشأن تحت عنوان :
“فائض الإنتاج يتحول إلى سلاح صناعي”
ليست المسألة إخفاقًا صينيًا في ضبط الإنتاج، بل هي، حسب بلومبيرغ، انعكاس لإستراتيجية صناعية متعمدة تقوم على ما يُعرف ب "فائض القوة (Surplus of Power).
فحتى وإن بدت النتائج مرهقة على المدى القصير، فإن التوازن السالب هو تكتيك جيو-اقتصادي ستربح الصين من خلاله الحرب العالمية على الأسواق.
إذ تُفضل بكين في ميزانها الدقيق بين النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي، الحفاظ على فائض الإنتاج كدرع قومي لمواجهة تحولات السوق العالمية، حتى وإن كان الثمن… هو الانخفاض وتحمل حروب الأسعار داخل الحدود وخارجها.
تذكّرت ثانية “ يي جون ”، ذلك الطالب الكوري الجنوبي، بعد اكثر من أربعين عامًا. اذ لم يحصل وقتها على جواب من أستاذ الاقتصاد الجزئي الديكتاتور الجامعي الانكلو سكسوني،
لكن يبدو أن الجواب جاء مؤخرًا، لا من قاعة الدرس، بل من سياسات النحاس الصينية!
إذ قالت بلومبيرغ في تقريرها اليوم إن:
“المشكلة لم تعد فقط في ما يُنتَج، بل في كيف يُستخدم فائض القوة الصناعية.”
The challenge today lies not in production per se, but in the deployment of surplus industrial power.
فعلى سبيل المثال، لا تزال مصاهر النحاس الصينية تعمل بكفاءة عالية، رغم مواجهتها لما وصفه التقرير بـ”رسوم معالجة سلبية غير مسبوقة”، أي أن الشركات تضطر إلى دفع مبالغ مقابل إنتاجها بدلًا من جني الإيرادات، في انعكاس لمستوى التنافس المحموم الذي يُكبد القطاع خسائر فادحة من أجل الحفاظ على الحصة السوقية.
وأخيراً ، عند الانتقال من التوازن الرياضي إلى الجيوصناعة ، تتجه الصين اليوم وغيرها من الدول إلى رسم خريطة جديدة للقوة الصناعية، إذ لم تعد الدول تُقاس بإجمالي الناتج المحلي فحسب ، بل بـمدى ما تمتلكه من “قدرة صناعية فائضة قابلة للتوجيه”.
لقد بدأت الجغرافيا الاقتصادية تتحول إلى جيوصناعة (Geo-Industry)، يُعاد فيها ترسيم النفوذ العالمي وعلى وفق من يملك القدرة على تصنيع السلع الحيوية،ويتحكم بمفاتيح التكنولوجيا والبنى التحتية الرقمية،وينقل الفائض إلى الخارج دون أن ينهار داخليًا.
نحن نعيش اليوم في نظام اقتصادي عالمي لا يحتفي بالتوازن الموجب كما ينبغي ان ندرسه ، بل يتهيأ لقبول التوازنات السالبة كأدوات للمنافسة والهيمنة، في عالمٍ تذوب فيه مفاهيم السوق التقليدية، ويُعاد كتابتها بلغة الجيوصناعة وفائض القوة.
ختاماً،إن الصراع لم يعد على إنتاج السلع فقط، بل على التحكم بوجهتها و توقيتها وسعرها… حتى لو أصبح سالبًا.
إنه عالم اقتصادي متسارع يعمل بلا توازنات موجبة، في صراع سالب من أجل البقاء.
انتهى
#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟