أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - خالد خليل - الحداثة بين الجذور والنقد: نحو وعي متجاوز لتأصيل المستقبل














المزيد.....

الحداثة بين الجذور والنقد: نحو وعي متجاوز لتأصيل المستقبل


خالد خليل

الحوار المتمدن-العدد: 8405 - 2025 / 7 / 16 - 14:34
المحور: قضايا ثقافية
    


مقدمة

لم تعد الحداثة مجرّد مشروع تاريخي انطلق من أوروبا في القرن السابع عشر، بل باتت تحدّيًا كونيًا يخترق كل الثقافات، ويسائلها في أعماقها: ما معنى أن تكون حديثًا؟ وما حدود الشرعية في نقد الحداثة نفسها؟ لقد جرى التعامل مع الحداثة في العالم العربي، غالبًا، عبر ثنائية قاتلة: إما القطيعة المطلقة مع التراث باسم التقدّم، أو الاحتماء الغريزي بالتراث بوصفه حصنًا ضدّ التغريب. وبين هذين القطبين، تتبدّد كل محاولة جادة لتوليد حداثة منتمية، نقدية، ومبدعة.

محمد عابد الجابري، في مشروعه الضخم لإعادة بناء العقل العربي، سعى إلى مقاربة ثالثة تقوم على “التجديد من الداخل”، عبر تحليل محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد كنموذجين للوعي المُستقِلّ في مواجهة السلطة، السياسية أو اللاهوتية. غير أن أسئلتنا اليوم تجاوزت هذا الإطار: نحن في عصر ما بعد الحداثة، بل ما بعد الإنسانية (post-humanism)، حيث لم تعد السلطة محصورة في الدولة أو الكنيسة، بل باتت الشبكات المعلوماتية، والذكاء الاصطناعي، والاقتصاد الرقمي، هي القوى الحقيقية التي تُشكّل وعينا وتسجننا في نماذج تفكير مُعدّة سلفًا.

فكيف نعيد تأصيل الحداثة، ونقدها، في عالم يعيش انقراضًا بطيئًا للمعنى؟

أولًا: تأصيل الحداثة كفعل مقاومة لا كامتثال

الحداثة، في أصلها الفلسفي، لم تكن نمطًا في اللباس أو نمطًا اقتصاديًا بل كانت موقفًا أنطولوجيًا من العالم: إعلانًا لسيادة العقل، وتمجيدًا للإنسان كذات حرّة قادرة على معرفة، وتحويل، وتجاوز واقعها. غير أن هذه الحداثة، منذ لحظة ميلادها، كانت تحمل تناقضاتها: العقل الذي حرّر الإنسان من خرافاته، هو نفسه العقل الذي بنى السجون والمعتقلات، وخطّط للمجازر الاستعمارية.

لذلك، لا بد من تأصيل حداثة عربية جديدة ليست استنساخًا لنموذج غربي مهزوم أخلاقيًا، ولا تقوقعًا في ماضٍ ميتافزيقي، بل مشروع نقدي ينبثق من المعاناة الحقيقية للإنسان العربي: من قهره، من فقره، من تهميشه، ومن اغترابه عن ذاته وتاريخه ولغته.

وهذا التأصيل يجب أن يتأسس على أربع ركائز:
1. الكرامة كمرجعية مركزية بدلًا من “العقل المجرد”.
2. الزمنية المفتوحة بدلًا من الحتميات التاريخية الميكانيكية.
3. المعنى الوجودي بدلًا من التراكم الكمّي للتقنية.
4. المشاركة الشعبية في إنتاج المعرفة بدلًا من احتكارها في نخب مغلقة.

ثانيًا: نقد الحداثة من الداخل – تفكيك البنية الاستلابية

الحداثة المعاصرة، بخاصة في تجلياتها الرقمية، لم تعد وعدًا بالتحرّر بل صارت نظامًا مُحكمًا من “الاستلاب الطيفي” – حيث يُستلب الإنسان لا عبر القمع، بل عبر الإغراق في اللذة، والترفيه، والسرعة، والشاشات. هنا تتحوّل الذات إلى مُستهلك دائم للمعنى، لا منتِج له.

يستدعي هذا الواقع نمطًا جديدًا من نقد الحداثة، ليس بوصفها مشروعًا غربيًا فحسب، بل كمنظومة تكنولوجية-رأسمالية أصبحت كونًا بديلًا، يحكم السلوك، ويصوغ المشاعر، ويعيد تشكيل الإدراك ذاته.

في هذا السياق، يظهر دور المثقف – لا كمجرّد ناقد سياسي – بل كمنقّب عن الإمكانات المطمورة للإنسانية. والمثقف الجديد ليس بالضرورة حاملًا لشهادة أو منصب، بل هو كل من يستطيع أن يُنتج شرخًا في الجدار، أن يُحدث خلخلة في النموذج السائد، أن يُعيد طرح الأسئلة الأصلية:
• ما الذي يجعل الحياة جديرة بالعيش؟
• ما معنى أن نكون أحرارًا في زمن الخوارزميات؟
• كيف نستعيد إنسانيتنا دون الهروب إلى ماضٍ متخيل أو مستقبل وهمي؟

ثالثًا: نحو حداثة طيفية – بديل خارج النموذج

إن الخطأ المتكرر في مشاريع التأصيل العربي للحداثة هو السعي لنسخ النموذج الغربي تحت شعار “تأصيل الحداثة”، وكأن التأصيل لا يكون إلا باستيراد النموذج ثم تغليفه بآيات قرآنية أو شواهد تراثية. أما مشروعنا اليوم، فيجب أن ينطلق من نقد الحداثة ذاتها كنموذج أغلق المستقبل، وفقد الشعور، وأفرغ الإنسان من جوهره الزمني.

نقترح هنا مفهوم “الحداثة الطيفية”: حداثة لا تنشغل فقط بالآلة والتقنية، بل تؤمن أن في الإنسان طيفًا غير مرئي – هو ذبذبة معناه الداخلي – وأن كل نمط حضاري لا يُعترف بهذا الطيف مصيره الانهيار.

في هذه الحداثة الجديدة:
• يُعاد بناء العقل لا حول العقلانية الأداتية بل حول الزمن الشعوري.
• تُصاغ الأخلاق لا من مرجع خارجي، بل من تذبذب المعنى في الذات.
• يُعاد تعريف الحرية لا كممارسة ميكانيكية للاختيار، بل كقدرة على توليد الممكن من رحم اللامفكر فيه.

خاتمة: ما بعد الجابري، ما بعد الحداثة

إذا كان الجابري قد شرّع باب النقد أمام العقل العربي، فإنّ زماننا يتطلب أكثر من ذلك: يتطلب شجاعة الخروج من النموذج كلّيًا، والبدء من نقطة الأصل: الإنسان كمعلومة متذبذبة، تتشكل وتزول وتخلق ذاتها من الداخل.

الحداثة ليست منتجًا نستعيره، بل لحظة حية نخلقها. وهي إما أن تكون فعلًا وجوديًا ينبثق من التحدي والخلق، أو لا تكون.

المقال مقدمة لكتاب يحمل عنوانًا: “نقد الحداثة الطيفية: من الجابري إلى الذكاء الاصطناعي”
الكتاب سيصدر قريبا بإذن الله.



#خالد_خليل (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جنود الإسرائيليين في ظلّ العدوان على غزة: انكشاف العطب الداخ ...
- سماء تسعل مرآة
- من “أمير الجهاد” إلى “رئيس الدولة”
- معركة الانفجار العظيم: قراءة نقدية في ضوء نظرية التذبذب المع ...
- نواة الوعي: كيف يتشكل الشعور من تذبذب المعلومة؟ والذكاء الذي ...
- نواة الوعي: كيف يتشكل الشعور من تذبذب المعلومة؟
- قصيدة عارية
- السياسة حين تتفسخ… والأخلاق حين تُخنق
- ما بعد التطبيع: سيادة مُفرّغة، ووعيٌ قيد التدوير
- الذي رأى الصوت وهو ينزف (تتمة لقصيدة أغنية)
- أغنية
- قراءة نقدية مقارنة: الزمن في فكر هيرتوغ وفي إطار مشروعنا الع ...
- من رماد النار إلى ولادة الشرق: قراءة في نتائج الحرب واستشراف ...
- ما بين تل أبيب وطهران: حين تُطلق الصواريخ وتسقط العروش
- نتنياهو في قلب الإعصار: حرب إيران وحدود المناورة الصفرية
- نحو قراءة استراتيجية للحظة الشرق الأوسط: جدلية الانفجار الجي ...
- أشعر…
- لماذا يتراجع ترامب؟ ولماذا بدأت إسرائيل بالانكفاء؟
- أريد…
- معمارية الرد السيادي المتعدد المحاور: تجسيد للرؤية الإيرانية ...


المزيد.....




- هذا ما قاله أبو عبيدة.. إسرائيل وحماس تتبادلان الاتهامات بعر ...
- في أول ظهور منذ مارس.. أبو عبيدة يتحدّث عن -معركة استنزاف طو ...
- البرازيل: المحكمة العليا تفرض على الرئيس السابق بولسونارو وض ...
- أكسيوس: إسرائيل تطلب من واشنطن إقناع دول باستقبال مهجّرين من ...
- هل تستحق مشدات الخصر كل هذا العناء؟ إليك 8 آثار جانبية محتمل ...
- روسيا تحكم بالسجن على 135 متظاهرا ضد إسرائيل بداغستان
- واشنطن بوست: الديمقراطيون يجرّبون الشتائم لمواجهة تأثير ترام ...
- أردوغان لبوتين: الاشتباكات في السويداء تشكل تهديدا للمنطقة ك ...
- غاليبولي الإيطالية تستضيف -حنظلة- قبل إبحارها لكسر الحصار عن ...
- صحفي يواجه نائبا جمهوريا بتصريحاته حول إبادة وتجويع المدنيين ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - خالد خليل - الحداثة بين الجذور والنقد: نحو وعي متجاوز لتأصيل المستقبل