أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الشرايطي - صدى النازية في قلب الحداثة.















المزيد.....


صدى النازية في قلب الحداثة.


رياض الشرايطي

الحوار المتمدن-العدد: 8404 - 2025 / 7 / 15 - 20:13
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


عن تواطؤ الإمبريالية الأمريكية، والأوروبية، والصهيونية في إعادة إنتاج الفاشية المعاصرة.
"الفاشية ليست لحظة من الماضي، بل بنية في الحاضر تعيد تشكيل نفسها كلما عجزت الرأسمالية عن تسويق نفسها كخلاص." جورج لوكاش

◆ تمهيد: الفاشية لا تموت، بل تتقن التنكر.

ليست الفاشية مجرد أثر من آثار الماضي، بل آلية حكم متجددة تظهر كلما دخل النظام الرأسمالي مرحلة أزمة بنيوية تهدد بنيته الطبقية والاقتصادية. إن ما شهده العالم في ثلاثينات القرن العشرين مع صعود النازية لم يكن نتيجة لجنون فردي ولا لانحراف ثقافي، بل كان تعبيرا فجا عن منطق رأس المال حين تزاح الديمقراطية عن الطاولة ويستبدل بها العنف، التصفية، والهيمنة.
في عالم اليوم، حيث تحكم أمريكا العالم بالقواعد العسكرية والدولار، وتهيمن أوروبا عبر المؤسسات المالية، ويمارس الكيان الصهيوني استعمارا استطانيّا عنصريّا منهجيّا، لم تعد الفاشية بحاجة إلى الصليب المعقوف أو خطاب هتلري صريح، بل لبنية ناعمة تعيد إنتاج الاستبداد بأساليب مقوننة وموظفة. فالديكتاتورية الجديدة ترتدي بدلة ديمقراطية، وتستعمل لغة حقوق الإنسان، لكنها تمارس نفس منطق التوحش الكولونيالي: إخضاع الشعوب، سحق المقاومات، ومصادرة الحق في تقرير المصير.
كما قال أنطونيو غرامشي: "حين يحتضر القديم، ولا يولد الجديد، يظهر عالم من الوحوش". ونحن نعيش هذا الزمن الهجين: أنظمة تتظاهر بالمدنية، لكنها تحمل في داخلها فاشية مؤسسية مبرمجة.

◆ أولا: أمريكا : النازية بابتسامة هوليودية.

❖ الإمبراطورية التي أعادت تدوير الفاشية:
حين سقط الرايخ الثالث، لم تنته الفاشية، بل هجّرت عناصرها ومفكروها ومهندسوها نحو أرض جديدة: الولايات المتحدة الأمريكية. فالمخابرات الأمريكية جنّدت عشرات العلماء والضباط النازيين ضمن عملية "بيبركليب" (Paperclip)، ليس من باب التسامح، بل لأن الفاشية أثبتت فعاليتها في خدمة رأس المال، شرط أن يعاد تسويقها بلغة الحداثة.
تحوّلت أمريكا بعد الحرب إلى الوريث الطبيعي للعنف المنظم، فمارست ذات السياسات التي اتبعها هتلر، ولكن بأدوات أكثر نجاعة: حرب وقائية، سجون سوداء، إعلام شامل، وعقوبات اقتصادية. وكما قال هربرت ماركوزه: "حين تصبح الحرية مجرد ديكور في نظام السيطرة، تكون الفاشية قد اكتملت بهدوء".

❖ التفوق الأمريكي: تكرار لصدى العرق الآري:
النزعة الأمريكية في تصدير قيمها كمرجعية كونية ليست إلا شكلا حداثيا من فكرة "العرق المتفوق". فبدل التفوق الجرماني، صار هناك تفوق ليبرالي-تكنولوجي يعطي واشنطن الحق في احتلال العراق، قصف أفغانستان، تدمير ليبيا، وتجويع فنزويلا و قصف ايران. لا فرق بين خطاب كل رؤساء أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية و آخرهم ترامب عن "نشر الديمقراطية"، وخطاب هتلر عن "نشر النظام الجرماني".
في 2003، أعلنت أمريكا حربا على العراق بحجة أسلحة الدمار الشامل، وهي الأكذوبة الكبرى التي سوّقها الإعلام الأمريكي مثلما سوّق غوبلز كذبة "المؤامرة اليهودية". الحرب لم تكن أبدا لأجل الحرية، بل لحماية منظومة الهيمنة. وكما قال نعوم تشومسكي: "أمريكا لا تذهب للحرب إلا لحماية مصالحها الاقتصادية، ولا تبكي إلا حين تهتز قبضتها على العالم".

❖ الإعلام الأمريكي: غوبلز الما بعد حداثي:
تدير أمريكا آلة إعلامية فاشية بامتياز، لا تعتمد على الصراخ والخطب، بل على التكرار، التزييف، وتضخيم الأكاذيب في قوالب بصرية مبهرة. تماما كما قال غوبلز: "أعطني إعلاما بلا ضمير، أعطك شعبا بلا وعي". وما يسمى اليوم بـ"الإعلام الحر" هو في الواقع آلة قمع رمزية تبرر القتل وتخفي الحقائق.
هوليود ليست فقط صناعة ترفيه، بل جهاز أيديولوجي ينتج صورة أمريكا كمخلّص، ويصوّر الآخر ، العربي، المسلم، الثائر، الفقير ، كخطر يجب تحييده أو سحقه. إنه سيناريو فاشي بامتياز، فيه يتم إلغاء إنسانية الآخر لصالح بطل خارق يملك التفويض بالقتل.

❖ الإبادة الاقتصادية: الفاشية الصامتة:
الفاشية الأمريكية لا تمارس القتل المباشر دائما، بل تتقنه عبر الحصار والعقوبات. من العراق إلى كوبا، من إيران إلى فنزويلا، حوّلت أمريكا الاقتصاد إلى سلاح إبادة. إنها فاشية لا تشهر سكينا، بل تقطع الأوكسجين المالي والصحي والغذائي عن الشعوب.
قالت مادلين أولبرايت حين سئلت عن وفاة نصف مليون طفل عراقي بسبب الحصار: "نعم، الثمن يستحق". هذه الجملة تكفي لتظهر أن الفاشية ليست صورة نمطية من التاريخ، بل خطاب حيّ يدار من غرف الاجتماعات في واشنطن.

◆ ثانيا: أوروبا – الفاشية الناعمة تحت قناع التكنوقراطية.

❖ الفاشية المالية: الترويكا كآلة تجويع:
الاتحاد الأوروبي، الذي يتغنّى بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية، مارس أبشع أشكال الفاشية المالية ضد الشعوب. حين انهار الاقتصاد اليوناني، لم تهرع بروكسل لإنقاذ الديمقراطية، بل لإنقاذ المصارف. فرض على اليونانيين تقشف غير إنساني، سرّحت آلاف الأسر، انهارت الخدمات، وارتفعت نسب الانتحار.
قال أحد وزراء المالية اليونانيين: "لم أكن أتفاوض مع دول، بل مع بيروقراطية عمياء لا ترى الإنسان". إنها آلة تكنوقراطية تستبدل الجيوش بالموازنات، والجنرالات بالمحللين الماليين. إنها فاشية بلا مدافع، لكنها تميت ببطء.

❖ العنصرية المقنّعة: الإسلاموفوبيا كسياسة عمومية:
في فرنسا، بلجيكا، الدنمارك، وغيرها، يعاد إنتاج منطق الفاشية عبر قوانين منع الحجاب، وتشديد الرقابة على الأحياء الشعبية، وربط المهاجرين بالإرهاب. أوروبا التي تدّعي حقوق الإنسان، تصادر الهويات، وتعيد تعريف المواطنة وفق معيار إثني ثقافي. وكما قال إدوارد سعيد: "الاستشراق لم ينته، بل ارتدى بدلة علمانية".
اليمين المتطرف يحكم قبضته، لكن الأخطر هو تواطؤ الوسط الليبرالي، الذي يتبنّى خطابا ناعما لكنه يمرّر نفس السّياسات العنصرية. وما قانون الجنسية، ومشاريع الترحيل، ومراقبة المساجد، إلا بنى فاشية تمارس التمييز باسم "الاندماج".

❖ عنف الحدود: البحر الأبيض المتوسط كغرفة غاز مفتوحة:
الآلاف من اللاجئين يموتون سنويا في عرض البحر لأن أوروبا قررت أن تمنع الدخول، مهما كلف الثمن. تستخدم التكنولوجيا، الدوريات، والمليشيات لصدّ المهاجرين، وتترك القوارب لتغرق. إنها فاشية جغرافية، فيها تتحول الحدود إلى أدوات تصفية عرقية واقتصادية.
قالت منظمة أطباء بلا حدود: "البحر صار مقبرة للعدالة". وما تفعله أوروبا بالمهاجرين هو استمرار مباشر لمنطق الإبادة: هناك شعوب لا تستحق النجاة، فقط لأنها لا تنتمي للمركز الأبيض الغني.

◆ ثالثا: الكيان الصهيوني : النسخة الإثنية للفاشية.

❖ الفاشية الإثنية كأيديولوجيا مؤسسة:
الكيان الصهيوني ليس مجرد دولة عنصرية، بل هو تجسيد معاصر لما سماه روزا لوكسمبورغ "الفاشية الاستيطانية": نظام يقوم على نفي الآخر وجوديا، ويشرعن العنف كحق تأسيسي لبقاء المشروع. منذ بداياته، تأسس المشروع الصهيوني على فكرة "شعب الله المختار"، وحقه المطلق في "أرض الميعاد"، وهي مفاهيم دينية/قومية تم توظيفها سياسيا لتبرير التطهير العرقي، الإبادة، والتمييز.
إذا كانت النازية قد أقامت معسكرات الإبادة ضد اليهود والغجر والمعارضين، فإن الصهيونية أقامت الجدار العازل، الحصار، المستوطنات، والسجون المفتوحة كغزّة ، لتحيل الجغرافيا الفلسطينية إلى جزر معزولة تخضع لسيطرة عسكرية دائمة. لا فرق بين شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" وبين منطق هتلر في طرد كل من لا ينتمي إلى الدم الجرماني.
"الصهيونية شكل من أشكال الفاشية حين تحوّل الدين إلى مشروع استعماري"— إيلان بابي

❖ الاستعمار بوصفه تقنية فاشية:
الاحتلال الصهيوني يمارس الاستعمار لا كفعل طارئ بل كنظام مستمر، تتشابك فيه الإدارة المدنية بالهيمنة العسكرية والإيديولوجيا الدينية. الطفل الفلسطيني يقتل لأن النظام يعتبره تهديدا ديموغرافيا. البيت يهدم لأنه جزء من جغرافيا غير مرغوبة. المواطن يعتقل دون محاكمة لأنه لا ينتمي إلى "الشعب اليهودي". إنها فاشية إثنية تتجذر يوميا.
كذلك فإن جيش الاحتلال ليس مجرد أداة قمع بل مؤسسة أيديولوجية تربّى فيها الأجيال الصهيونية على الحقد العرقي والتفوق العسكري. وكما قالت غولدا مائير: "لم يكن هناك فلسطينيون"، فإن نفي الوجود الفلسطيني يصبح أساسا للهوية الصهيونية نفسها.

❖ دعم الغرب للفاشية الصهيونية: تواطؤ تاريخي:
رغم خطابات حقوق الإنسان، فإن الولايات المتحدة وأوروبا تدعمان الكيان الصهيوني ماليا، عسكريا، ودبلوماسيا. هذا الدعم ليس مجرد انحياز، بل اعتراف ضمني بأن المشروع الصهيوني يمثّل الامتداد الطبيعي للهيمنة الغربية في قلب الجنوب العالمي.
الأسلحة الأمريكية، المال الأوروبي، الحماية السياسية في الأمم المتحدة، كلّها أدوات تحوّل الكيان الصهيوني إلى واجهة فاشية للغرب، يخوض بها معاركه القذرة ضد كل محاولة للتحرر في المنطقة. كما قال ميشيل فوكو: "الاستعمار لا يموت، بل يُعيد تموضعه عبر وكلاء محليين".

◆ رابعا: التقاءات بنيوية : ثلاثية الفاشية المعاصرة ضد فلسطين والجنوب العالمي.

❖ تحالف غير معلن، وتكامل بنيوي وظيفي:
قد يبدو على السطح أن واشنطن وبروكسل وتل أبيب تمثل ثلاث دوائر جيوسياسية متباعدة، لكنها في العمق تُشكل مثلثًا استراتيجيا تتكامل فيه الوظائف، وتتطابق فيه الأهداف، وتتماهى فيه الأيديولوجيات حين يتعلق الأمر بإخضاع شعوب الجنوب وإسكات أي صوت مقاومة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
الولايات المتحدة تقدّم المظلة العسكرية والتكنولوجية والمالية، أوروبا توفّر الغطاء الدبلوماسي والشرعية القانونية والتجارية، أما الكيان الصهيوني فهو الذراع الميداني الذي يُجرب أدوات القمع والسيطرة على أرض حية: فلسطين. هذا التكامل ليس صدفة، بل بنية هيمنة تعيد إنتاج ما سماه سمير أمين "الاستعمار المعولم".
قال إدوارد سعيد: "ليس الغرب وحدة ثقافية، بل تحالف عسكري ومالي يدّعي تمثيل الحداثة". وفي هذا التحالف، لا تعدّ فلسطين استثناء، بل النموذج التجريبي.

❖ القضية الفلسطينية كتهديد وجودي لمنظومة القمع العالمي:
القضية الفلسطينية ليست مجرد صراع حدود أو هوية وطنية، بل تمثل رمزا لتحرر الجنوب من قبضة النظام الرأسمالي الإمبريالي. إنها مختبر تتقاطع فيه أدوات الهيمنة الثلاثية: العسكرة الأمريكية، العنصرية الأوروبية، والتطهير الإثني الصهيوني.
هذا ما يجعل من دعم المقاومة الفلسطينية واجبا أمميا، ليس فقط لأنها ضحية، بل لأنها تكشف زيف المعايير، وتجبر القوى العالمية على نزع أقنعتها. ولهذا بالذات، تعامل فلسطين كجرح يجب طمسه، وكحقيقة يجب إنكارها، وكثورة يجب شيطنتها.
قال تروتسكي: "الثورة تربك النظام لأنها تشعل سؤال الشرعية من جديد"، وفلسطين هي الثورة المستمرة التي تفضح تواطؤ الأنظمة وخيانة المؤسسات.

❖ الجنوب العالمي كهدف دائم للقمع والسيطرة:
التقاطع بين الثلاثي الإمبريالي يتجلّى أيضا في التعاطي مع دول الجنوب. فكل محاولة تحررية تقابل بالتجويع، الانقلاب، أو الحصار. أمريكا اللاتينية تعيش منذ عقود على وقع التدخل الأمريكي، أفريقيا تستنزف من قبل الشركات الأوروبية، والشرق الأوسط يقسّم ويحاصر ويراقب بعين صهيونية شريكة.
الجنوب، بحسب هذا الثلاثي، ليس كيانا مستقلا، بل خزان موارد وسوق للسلع ومجالا للاختبار. ولهذا فإن أي مشروع تقدمي، من فنزويلا إلى جنوب أفريقيا، يقابل بآلة قمع ناعمة أو خشنة. فكما قال فرانز فانون: "حين يرفض المستعمَر شروط العلاقة، يبدأ العنف الحقيقي ، عنف المستعمِر".

❖ وحدة الأدوات: العقوبات، التجريم، تجفيف الموارد:
التكتيكات متشابهة رغم اختلاف الجغرافيا:
العقوبات الاقتصادية تستخدم ضد إيران وكوبا وروسيا و فينزولا... الخ ، بنفس منطق الحصار على غزّة.
تجريم المقاومة يحدث في باريس ولندن وواشنطن، كما يحدث في تل أبيب.
المنظمات الأممية تخضع تمويلها لمعايير تفرض من مراكز القرار الغربية، ما يجعل المساعدات أداة ابتزاز.
وحدها فلسطين تجرّم مرتين: مرة كساحة مقاومة، ومرة كرمز عالمي يلهم قضايا أخرى. وهنا بالضبط يكمن رهاب هذا الثلاثي: أن يتحول الجنوب من ضحية إلى فاعل، ومن هامش إلى مركز.
"ليس الاستعمار حدثا، بل منظومة عقلية ومادية تعيد إنتاج نفسها بوجوه جديدة"
إنغريد سيسو

◆ خامسا: وهم من يعول على الصين في تعديل ميزان القوى شمال-جنوب.

❖ إعادة قراءة دور الصين: التبشير الزائف بالتوازن العالمي :
في ظل تشنجات النظام العالمي، اعتقد كثيرون، خاصة في أوساط يسارية وراديكالية، أن الصين قد تشكل بديلا حقيقيا لأمريكا، وربما تقود إلى تعديل ميزان القوى لصالح دول الجنوب. هذه الفكرة، وإن بدت جذابة، فهي في الواقع تغفل عن جوهر السياسة الإمبريالية الصينية وطبيعتها الطبقية والاقتصادية.
الصين، رغم نموها الاقتصادي الهائل، هي قوة إمبريالية جديدة تمارس استغلالا واسعا في دول الجنوب، خاصة في أفريقيا وآسيا. لا تختلف في جوهرها عن القوى الغربية، فهي تسند مصالحها إلى الشركات الكبرى، وتسعى لضمان مصالحها الجيو-اقتصادية عبر اتفاقيات غير متوازنة، قروض مشروطة، واستثمارات تقوّض السيادة الوطنية للدول المقترضة.
كما أن الصين في تحالفاتها الدولية لا تتخذ مواقف صلبة ضد سياسات الهيمنة الغربية، بل تلعب دور المنافس الاستراتيجي ضمن قواعد النظام العالمي الرأسمالي ذاته، وليس خارجه. لذلك، التوقع بأن الصين ستشكل دفاعا حقيقيا عن قضايا الجنوب هو وهم لا يرتكز على قراءة مادية وموضوعية لطبيعة النظام الصيني.

❖ غياب الموقف التحرري الصريح: مقارنة مع روسيا:
بالمقابل، تظهر روسيا، رغم محدودية نفوذها، مواقف واضحة في دعم بعض دول الجنوب ضد الهيمنة الغربية، لا سيما في مواجهة العقوبات الأمريكية والأوروبية. روسيا تسعى إلى بناء تحالفات جيوسياسية عميقة مع دول العالم الثالث، وتوفر بدائل اقتصادية وعسكرية تهدد الهيمنة الأحادية القطبية للغرب.
هذا لا يعني تبني روسيا كبديل مثالي، لكنها بالمقارنة أكثر وضوحا في دفاعها عن مصالح الجنوب كجزء من استراتيجيتها ضد الهيمنة الأمريكية. أما الصين، فتعتمد بشكل أكبر على استراتيجيات اقتصادية محكومة بالرأسمالية العالمية، لا تسمح لها بأن تكون قوة تحررية حقيقية.

❖ التبعية الاقتصادية والتكنولوجية: أسرى في شبكة نظام رأسمالي دولي:
الصين، رغم الحديث عن الابتكار والتكنولوجيا، تبقى جزء لا يتجزأ من منظومة الإنتاج الرأسمالية العالمية، وهي نفسها تستورد التكنولوجيا من الغرب وتصدر فائضها إلى الأسواق العالمية بأساليب تسويقية تنافسية، لكنها لا تكسر حلقة التبعية والهيمنة.
الجنوب، الذي يعول على الصين كمخلص، يقع في خطأ الاعتقاد بأن وجود قوة اقتصادية كبيرة في الشرق كفيل بتغيير القواعد الجيوسياسية دون تحولات جذرية في بنية النظام العالمي. الصين ليست سوى جزء من نفس اللعبة، حيث تتبدل الأدوار لكنها لا تغير قواعد الهيمنة الرأسمالية.
"من يظن أن الصين ستحرر الجنوب، لم يفهم أن الإمبريالية لا تموت، بل تتحول إلى أشكال جديدة تحمل نفس منطق الاستغلال."
فاطمة ميرزاوي

❖ المقاومة الشعبية لا تنتظر بدائل إمبريالية :
الرهان الحقيقي لتحرير الجنوب، وليس فقط فلسطين، لا يكمن في انتظار تحالفات إمبريالية متبدلة أو تنافسات بين الكبار، بل في بناء مقاومة شعبية مستقلة، تستند إلى التضامن الأممي، وتتبنى استراتيجية اشتراكية راديكالية تكسر المنظومة الرأسمالية بكاملها.
بالتالي، تظل القوى التي تعول على الصين بوصفها "ميزان قوة" جديد وهما سيتحول إلى خيبة أمل قاسية، إلا إذا ربطت نضالها بنقد الإمبريالية الشاملة، بما فيها الجديدة منها، ونبذت خطاب المساومة مع النظام العالمي الراهن.

◆ من الظلام إلى النضال ، المقاومة كحجر الزاوية لتحرير فلسطين والجنوب.

لقد استعرضنا في هذا المقال المديد والمفصل بنية الفاشية المعاصرة التي تتشكل في قلب النظام الرأسمالي الإمبريالي، وكيف أن الولايات المتحدة، أوروبا، والكيان الصهيوني يمثلون معا ثلاثية مروعة تعيد إنتاج منظومة الهيمنة والتوحش بأساليب متطورة وأدوات جديدة. لم تكن الفاشية ظاهرة من الماضي الغابر، بل هي بُنية حية متجددة، تنتقل بين القارات والأزمنة، وتتكيف مع الظروف لتضمن بقاء النظام الطبقي العالمي على حساب شعوب الجنوب وتحديدا على حساب القضية الفلسطينية، التي تبقى رمزا صارخا لمعاناة الاستعمار العنصري والاضطهاد الإمبريالي.
إن الصراعات الجيوسياسية التي تدار في عواصم المال والقوة ليست سوى وجها لهيمنة سياسية واقتصادية تعززها مؤسسات مالية دولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذين لا يقلان عن أدوات قمعية بحق الدول الفقيرة. هذه المؤسسات لا تعمل على التنمية أو العدالة الاجتماعية، بل تمارس سياسة الاستدانة والتبعية التي تفرضها العقوبات والتقشف، فتغرق دول الجنوب في دوامة من الفقر والديون، وتربط أيدي شعوبها بمصالح أجنبيّة.
في هذا المشهد الكارثي، لا يأتي أي تغيير من تحالفات إمبريالية جديدة مثل التي تمثلها الصين أو روسيا، التي لا تختلف جوهريا عن الغرب في التزامها بقواعد النظام الرأسمالي العالمي. الرهان على هذه القوى هو وهم قاتل، يخدع به النضال من الداخل، ويشغّل به واقع التبعية، ويشوّه به أفق التحرر.
المقاومة الشعبية، في فلسطين وفي كل دول الجنوب، هي وحدها الحصن الحقيقي ضد منظومة الاستغلال والاضطهاد. المقاومة ليست مجرد رد فعل على الاحتلال أو القمع، بل هي مشروع حياة يرفض الذل ويصنع بدائل اجتماعية وسياسية جديدة، تعيد الاعتبار للكرامة الإنسانية والحق في تقرير المصير. كما قال جورج سيمنون: "لا توجد حرية من دون مقاومة، ولا مقاومة من دون تضحية".
في فلسطين، حيث يتقاطع كل اضطهاد، وتتكثف كل أدوات الفاشية الحديثة، يكتب التاريخ من جديد عبر إرادة شعب لا يركع، وعبر تضامن عالمي متصاعد يرفض السكوت عن الجريمة. المقاومة الفلسطينية ليست مجرد قضية قومية، بل هي شعلة تضيء طريق التحرر لكل شعوب الجنوب، وتحطّم قناع الديمقراطيات الزائفة التي تمارس القتل باسم القانون.
على هذا الأساس، يجب أن يعاد بناء حركات التحرر والتضامن على أسس اشتراكية ثورية، ترفض مجرد التنازل أو المساومة مع النظام الرأسمالي. إنه نضال ضد القهر الاقتصادي، والهيمنة الثقافية، والعسكرة المفرطة، وضد أدوات الاستعمار المالي التي تمثلها مؤسسات مثل صندوق النقد والبنك الدولي، والتي تدفع دول الجنوب إلى المزيد من الفقر والتبعيد.
المستقبل الحقيقي يكمن في وحدتنا، في مقاومة الشعوب عبر الحدود، وفي بناء اقتصاد جديد يرتكز على العدالة الاجتماعية، وحماية الأرض، وحق الشعوب في ثرواتها. إنه نضال لا يمكن أن ينجح إلا بوعي راديكالي يفضح النفاق الإمبريالي، ويقوّي صمود المقاومة، ويرفض الاختلافات الفرعية التي تفرق بين قوى التحرر.
كما قال تروتسكي: "الثورة لا تنتصر إلا عندما تكسر الأغلال كلها، وليس فقط بعض الأغلال". فلسطين هي القلب النابض لهذه الثورة، رمز المقاومة وأمل التغيير، وبوصلة تحرر الجنوب من قيود الاستعمار الجديد.
لن يكون التحرر هبة من أحد، بل صنعا جماعيا، يستدعي الشجاعة والتضحية والوعي الثوري. في مواجهة الفاشية الحديثة، في ظل تحالفات الظلم الإمبريالية الثلاثية، لا خيار أمام الشعوب سوى المقاومة، التي تمثل الأفق الوحيد للحياة والكرامة والعدالة.



#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة سريعة في كتاب معذّبو الأرض لفرانز فانون
- ردّ على تفاعل نقدي من رفيق مع مقال- هل لا يزال لليسار معنى ف ...
- هل لا يزال لليسار معنى في ظل العولمة النيوليبرالية؟ .
- من اضغاث حقيقة متّهمة بالحلم. من المجتمع المدني إلى الجبهة ا ...
- الرّئيس العربي : حين يتحوّل الصندوق الانتخابي إلى بوّابة للع ...
- الإمبريالية في جسد جديد صراع الغاز، والمضائق، والعقول...
- الحرب التي تعيد ترتيب الجحيم: حين لا يكون الاصطفاف كافيا.
- قراءة لرواية -1984- لجورج أورويل. رواية ضدّ الزّمن ومركّبة ع ...
- قراءة تفكيكية في رواية - ورقات من دفاتر ناظم العربي - لبشير ...
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
- قراءة في قصّة “رحاب” من المجموعة القصصية - بلايك - للشاعر و ...
- -منتصر السعيد المنسي-: حفر في منطوق شهادة ذاتية ضد نسيان الط ...
- غزة تحترق: تاريخ حرب إبادة جماعية تقودها الصهيونية العالمية ...
- قراءة نقدية في المجموعة القصصية -ولع السّباحة في عين الأسد- ...
- الإمبريالية الأمريكية بنَفَس ترامب: وقاحة القوة ونهاية الأقن ...
- ورقة من محترف قديم في قطاع السّياحة
- القصيدة ما بعد الّنثر
- افكار حول البناء القاعدي والتسيير
- قراءة في مجموعة -نون أيار- للشاعرة نسرين بدّور.
- القصيد ما بعد النّثر


المزيد.....




- هل تفلح مساعي احتواء الوضع الأمني في السويداء السورية؟
- هل تنجح الدولة السورية في فرض الأمن وتوحيد السلاح في السويدا ...
- إعلام إسرائيلي: مفاوضات غزة حققت تقدما والطريق ممهد أمام اتف ...
- للذين أحبوا العمل أكثر من الراحة.. هكذا تتأقلم مع الحياة بعد ...
- القضاء الفرنسي يطالب بتحديد مكان بشار الأسد في تحقيقات جرائم ...
- الحوثيون يعلنون مهاجمة ميناء إيلات وهدفا عسكريا بالنقب
- حصيلة أممية تكشف أن 875 شهيدا مجوعا سقطوا بغزة
- واشنطن تطلب من إسرائيل التحقيق في مقتل أميركي بالضفة الغربية ...
- في قطاع عانى لسنوات طويلة حصارا خانقا.. كيف تطور المقاومة سل ...
- فشل انقلاب تركيا الأخير ونهاية عهد الدولة المسروقة


المزيد.....

- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي
- كشف الاسرار عن سحر الاحجار / عبدالاله السباهي
- زمن العزلة / عبدالاله السباهي
- ذكريات تلاحقني / عبدالاله السباهي
- مغامرات منهاوزن / ترجمه عبدالاله السباهي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الشرايطي - صدى النازية في قلب الحداثة.