|
قراءة في مجموعة -نون أيار- للشاعرة نسرين بدّور.
رياض الشرايطي
الحوار المتمدن-العدد: 8340 - 2025 / 5 / 12 - 02:51
المحور:
الادب والفن
"نون أيار" أو كتابة الجسد بلغة النحلة :
في "نون أيار"، لا نستقبل ديوان شعر بالمعنى التقليدي للكلمة، بل نُدعى للدخول إلى ألبوم شعوري حيّ، حيث كل قصيدة غرفة، وكل بيت نافذة، وكل كلمة نفسٌ مكتوم، وكل فاصلة لحظة بين ضحكة طفلة وغصة أمّ.
نسرين بدّور لا تكتب الشعر، بل تعيشه وتتسلّل منه إلى الورق. لا تُقيم في اللغة بل تجعل اللغة تقيم فيها، وتعيد توزيعها كما يُعاد ترتيب البيت بعد ليلة قلق. إنها تكتب من الداخل، من الأمكنة الضيقة: المطبخ، الحمام، الخزانة، السرير، صوت الباب، رائحة القهوة، أنفاس النوم. لكنها من هذه الأمكنة تصنع كوناً شعرياً بلا حدود، يشبه الأنوثة حين تتحوّل إلى شجرة، وإلى ناي، وإلى فراشة تنقّط عسل المعنى من أزهار التعب.
ما تفعله الشاعرة هنا هو إعادة بناء الحواس من خلال الكلمات. لا تطلب من القارئ أن يفهمها، بل أن يشعر بها. أن يُصغي إلى شهقات النص، إلى تنهيدات الحبر، إلى رعشة الذاكرة. فنصوص الديوان ليست تعبيراً عن "أفكار"، بل هي تجلّيات لحالات وجودية: التعب، التكرار، المحبة، الرغبة، الانمحاء، المقاومة الصامتة، الأمومة بوصفها قصيدة لا تنتهي.
"نون أيار" هو ديوان لا يتوسّل المقولات الكبرى، بل يخيط الشعر بخيوط رفيعة جداً، تستعصي على الملاحظة أحياناً، لكنها قادرة على جمع الجسد والذاكرة، الصوت والصمت، الداخل والخارج، في صفحة واحدة. إنه نصّ نسويّ لا يرفع شعارات، لكنه يُمارس مقاومة لغوية ناعمة، تُذكّرنا بأنّ البيت ليس نقمة بل مسرحٌ آخر للخلق، وأنّ اللغة قد تُغزل من ضوء عيني طفلة أو من ضيق خزانة لا تكفي يومين من الأمومة.
النقطة 1: الأنوثة كخطاب كوني لا بيولوجي:
أولًا: من الحرف إلى التكوين الرمزي.
العنوان "نون أيار" بحد ذاته ليس صدفة تركيبية، بل مفتاح تأويلي. "نون" ليست فقط حرفًا هجائيًا، بل رمز مركزي في التصوف، في القرآن، في الأنثروبولوجيا، وفي الشعر العربي النسوي. النون قرآنيًا هي “رمز سرّي”، "نون والقلم وما يسطرون"، وهذا يتقاطع مع وظيفة الشاعرة كامرأة تكتب بـ"قلم النون" وتخطّ سرديتها الذاتية بالمعنى الوجودي.
"نونُ أيار كنحلةٍ في ضوءِ السُحبِ تزهرُ، والعسلُ يُقطَفُ من واقعٍ مرٍّ"
هنا تتحوّل "نون" من مجرّد حرف إلى كيان طبيعي (نحلة)، كيان حيوي يمتص من المرارة ما يحوّله إلى عسل. إنها الأنثى التي "تُنتِج" جمالها من محيطٍ خانق.
في النص التأسيسي للمجموعة:
"نونُ أيار كنحلةٍ في ضوء السحب تزهرُ، والعسل يُقطف من واقعٍ مُرّ"
تصوغ نسرين بدّور انزياحًا كاملًا للغة عبر هذا البيت، حيث يصبح الحرف (نون) كائناً نابضاً، أنثوياً، مُنتجاً للعذوبة من بيئة قاسية. هنا تتقاطع ثلاثة مستويات دلالية:
-نون الحرف: كرمز إلهي في "نون والقلم وما يسطرون".
-نون الجسد: كأداة تحول (النحلة التي تفرز العسل من المر).
-نون القصيدة: كنقطة انبثاق المعنى والحنان في آن.
بهذا، لا تعود "الأنوثة" مرتبطة بالجسد، بل مرتبطة بـ"قدرة الخلق" و"مخاض المعنى"، وهو ما يتوافق تماماً مع ما تذهب إليه جوديث بتلر حين تؤكد أن الهوية الجندرية ليست ماهية بل أداء، خطاب، إنتاج لغوي.
ثانيًا: "النون" ككتابة جسدية .
ضمن الإطار النسوي لما بعد البنيوية، خاصةً في طروحات هيلين سيكسو (Hélène Cixous)، نجد أن المرأة مدعوّة لـ"الكتابة بجسدها" — أي أن تستخرج النص من العرق، الرحم، الندبة، اللذة، الخسارة، لا من المعاجم الباردة. نسرين بدّور تطبّق هذا حرفياً، لكن دون تنظير. اللغة هنا تنزف، لا تُؤلف:
"أنا نثى اليقين، لعاشق السُدى واليقين... قطفتُ من شفاهِ الشكِّ شِعراً"
هنا تتحوّل الشاعرة إلى "جسد كاتب"، كل أعضائها تتكلّم: الشفاه تقطف الشعر، القلب يكتب بالنحل، الجسد كلّه يتحوّل إلى أبجدية.
●. تجاوز الجندر: الذات الشاعرة ككائن كلّي :
نسرين لا تكتب لتُثبت أنها امرأة، بل تكتب بوصفها كوناً. كل نصوصها لا تقدّم "المرأة" كشخص، بل كحالة كونية: تُرضع، تُحب، تُنظف، تُكتب، تُولد، تُنجب الكلمات، تعجن القصائد كما تعجن الخبز. كما في قولها:
"العسل نتاج زاهيةٍ في موجٍ... ولدتُ الفصل من رحمِ هذا... وتنعّعتُ في ربيعِ أيارَ الينان"
إنها تُحوّل الطبيعة إلى رحم، والكلمات إلى مواليد، والفصول إلى تواريخ جسدية، فيتماهى الكون مع القصيدة، والمرأة مع الخلق.
●. الأنوثة والكتابة: جسد يُنتج لغة :
في كثير من المقاطع، نجد ارتباطًا عضويًا بين الجسد والقصيدة:
"شفاهها عسل لي يخال... طاقةٌ استمدّتْ نداها من الذهب"
هذا النوع من اللغة لا يأتي من "حرفة لغوية"، بل من إحساس جسدي محض. القصيدة ليست بنية تركيبية، بل إفرازٌ من مسامّ العاطفة. وهذا يضع نسرين في قلب ما تصفه إيرغاراي: “الكتابة الأنثوية لا تسعى لإقناعك، بل لتجعلك تشعر بما تشعره هي. تُدخل جسدها في اللغة، فتمضي الحروف مرتعشة”.
ثالثا: شعرية الحياة اليومية — "حين يصبح البيت أبجدية مضيئة".
3.1. اليومي كتجلٍّ شعري: من المطبخ إلى المتن :
في قصيدة "أحلام أم"، لا توجد استعارات كبرى، بل:
-تنظيف الملابس.
-تجهيز الخزانة.
-صراخ الأبناء.
-احتياج لحديث مسروق.
"فقط تنظيف ملابسه... وتنظيف الخزانة... الحديث ينهكني... وقتي فُقد مع أطفالي".
هنا تصبح القصيدة نفسها أمّاً: تعتني بتفاصيلها كما تعتني الشاعرة بأطفالها، وتصبح الكتابة تمرينًا على التحمّل، على الاعتناء. وهذا يُعيدنا إلى ما كتبته ريبيكا سولنيت: "الكتابة عند النساء هي ردّ فعل ضدّ المحو... هي حفرة تُحفر في الرمل كي لا يجرفكِ الطوفان".
3.2. كتابة في خضمّ القلق: الفوضى كجمال شعري :
في نصوص كثيرة، نجد بنية مفككة ظاهرياً، ولكنها تعبّر عن كثافة الحياة المعاصرة. إنها قصائد تُكتب بين صوت طنجرة الضغط، ونوم الطفلة، وحوارات الزوج. كمثل قولها:
"صديقتي صديقي مع الحديث أريدُ... الحديث ينهكني عندما لا تستطيع ابنتي أن تنام"
هنا تكتمل الصورة الشعرية للحياة: لا وقت منظم، لا لحظة تأمل، بل كتابة تمزج الحبر مع الحليب، اللغة مع التعب، الجُملة مع الصرخة.
3.3. التفاصيل اليومية كأداة مقاومة :
هي لا تُجمّل اليومي، بل تُعريه، لكنها في الوقت نفسه تُظهر فيه ما لا يُرى عادةً: أن الشِعر ليس "خارج الزمن"، بل داخله تمامًا. الشِعر لا يحدث في المقاهي ولا في الغيوم، بل في مشهد طفلة لا تنام، وفي شعور أم تفقد ذاتها تدريجياً دون أن تُفصح. كما تقول:
"أنا قوية جداً... لأني ضعيفة أمام أطفالي... وخائفة من فيضان الحبر"
هذا اعتراف كونيّ، يُحوّل الحبر إلى رمز للانهيار والسيطرة معاً، ويجعل من الحياة اليومية بياناً نسوياً ناعماً لا يقلّ عمقاً عن أي خطاب ثوري.
3.4. مقارنة مع تيارات نسوية موازية :
نستطيع أن نقارن شعر نسرين بـ:
-"آن كارسن" في "طبيعة الجوع": حيث الجوع العاطفي والجسدي يغزل القصيدة.
-"إيتيل عدنان" في "الست ماري روز": حيث الحرب والأمومة تندمجان في اليومي.
-"جمانة حداد" في "أنا هي والأخرى": التي تُجري عملية راديكالية على الجسد، بينما نسرين تُجري العملية ذاتها على "روتين العائلة".
نسرين بدّور لا تصنع من نفسها بطلة تراجيدية، بل تمارس بطولة الصمت والانتباه. تعيش الحياة العادية لكنها تُضيئها من الداخل بالشعر. لا تكتب شعراً عن البيت، بل تكتب البيت نفسه كقصيدة. لا تكتب عن الأنوثة، بل تكتب من داخل رحم الأنوثة.
النتيجة؟ ديوان لا يُقرأ فقط، بل يُعاش، يُلمس كملاءة نظيفة، يُشمّ كرائحة الخبز، يُسمع كصرخة طفلة، ويُكتب كما تُكتب الحياة: قطرة قطرة. تنهيدة تنهيدة. بيتًا بيتًا.
ثالثًا: الخروج من ثنائية "المرأة/الرجل" إلى الأنوثة بوصفها بنية شعرية .
نسرين بدّور لا تكتب ضدّ الرجل، بل تكتب "من داخل أنوثتها"، بما يجعلها تتجاوز ثنائية "نحن/هم" التي حبست فيها الكثير من الكاتبات أنفسهن. إنها لا تطلب اعترافاً ذكورياً، بل تخلق خطاباً خارجياً.
وهذا يشبه ما قالته جوليا كريستيفا عن "الكتابة الأنثوية": "ليست محاولة لتكرار ما يكتبه الرجال، بل فعل انشقاق عن اللغة الذكورية وإعادة خلقها".
مثالٌ على ذلك هذا البيت:
"نونُ أيار تعني الشعر... زهرة النسَيين، هبة العاطفة، فصل الهداية"
نون أيار هنا تعني ولادة جديدة للغة نفسها، حيث القصيدة ليست بناء عقلانيا، بل انبثاق عطريّ، توليد وجدانيّ، لا يخضع للبنى الذكورية للعقلانية والخطية.
رابعًا: من "المرأة الطبيعية" إلى "المرأة الكونية" .
في معظم القصائد، لا تصف نسرين نفسها كامرأة بيولوجية بل كامرأة كونية، تختزن في قلبها النحل، الزهر، الشوق، الزمن، الفصول، الانكسار، والعسل. هذه ليست "امرأة" بل "كونٌ مصغّر"، كما في هذا المقطع:
"العسل نتاج زهرة في موجٍ... والندى ضوء من صدر الأرض..."
هذه المشهدية تضع الأنثى في موقع "الأرض"، لا بوصفها تربة للاستغلال، بل "أرض المعنى"، تمامًا كما ترى لوس إيريغاراي في مقاربتها للمرأة باعتبارها فضاءً شعريًا ينبت الوجود فيه.
النقطة 2: شعرية الحياة اليومية — "حين يصبح المطبخ معبداً لغوياً"
أولاً: تفكيك الهرم الشعري التقليدي .
تقليدياً، كان يُنظر إلى "الحياة اليومية" كمنطقة دونية في الشعر: الشارع، المطبخ، التكرار، الغسيل، الضجيج... ولكن مع نسرين بدّور، يحدث العكس: هذه التفاصيل تصبح نصًا مقدّسًا، والقصيدة تُكتب من داخل "ضيق الزمن". تقول:
"لأنني أريدُ كما أطفالي تربيةَ ما أريدُ... وصديقتي صديقي مع الحديث أريدُ..."
هنا لا نتحدث عن حدث عظيم، بل عن مشهد منزلي بسيط، يصبح نصاً وجوديًا.
ثانيًا: القصيدة كتمرين على الحياة .
في "أحلام أم"، لا توجد قصة، ولا حبكة، فقط مشاهد متكررة: ابنة، بيت، ضيق وقت، تنظيف، قهوة، نوم مضطرب. لكن هذا التكرار اليومي لا يقتل الشعر، بل هو "نَفَس القصيدة":
"فقط تنظيف ملابسه... ربما لا تقسُ ملامحه على ابنتي..."
وهذا يعيدنا إلى ما قالته سيمون دي بوفوار في "الجنس الآخر": "المرأة لا تمتلك وقتها، بل تقترضه من مسؤولياتها"، وهنا تتحوّل هذه المسؤوليات إلى فصول من قصيدة معجونة بالتعب والفرح والضيق.
ثالثًا: المقاومة الناعمة: شعرية ضد القسوة اليومية .
بدلًا من الغضب السياسي أو المواجهة الصريحة، نجد في نسرين "مقاومة ناعمة" تنبع من تفاصيل صغيرة، كما في قولها:
"الأعمال المنزلية لا تنتهي، والطفلة لا تنام، والحديث يتقطّع، لكن الحياة تُكتب في التفاصيل"
هنا تتلاقى هذه الرؤية مع فلسفة هنري لوفيفر حول "اللحظة اليومية"، باعتبار أن الشعر الحقيقي يكمن في تكرار العادي، في الحياة كعَمَل فني لا يرى أحد تعبه.
رابعًا: المقارنة مع نماذج نسوية مشابهة .
●غادة السمان: تكتب من بيروت المتفجّرة، لكن نسرين تكتب من المطبخ المنهَك. كلتاهما تتكئان على "النثر المشبّع بالشعور"، لكن نسرين أكثر حميمية.
●إيتيل عدنان: تكتب من وسادة الشرفة، من تفاحة الغداء، من نزهة، لكن نسرين تكتب من وراء الباب، في صوت ابنتها، في ترتيب الكنبة.
●فرجينيا وولف: حين كتبت عن "غرفة تخص المرء وحده"، كانت تدافع عن مكان المرأة في الأدب؛ ونسرين تمارس هذا الحق بنَفَس شعري يومي، تؤثّث القصيدة كأنها تؤثث البيت.
نسرين بدّور في "نون أيار" لا تكتب الشعر فقط، بل تعيد تعريف الشعر. تفتح نافذة صغيرة على المطبخ، فيدخل من خلالها الكون. تعصر الحروف من الرُضّاعة، من الهمس، من النوم المقطوع، من الذاكرة التي لا تنام. تجعل من كل فعل يومي طقساً مقدّساً: إعداد الطعام يتحول إلى تنقيط لغوي، تغيير حفاض يصبح تحريراً لغوياً، تنهيدة تصبح بيت شعر.
ولذلك، فإننا أمام مشروع شعري أنثوي لا يطالب بالاعتراف، بل يُعيد ترتيب اللغة وفق نبض الأمهات.
خامسا. الزمن كجسد داخلي: من الساعة الخامسة إلى "الفصل الخامس"
5.1. كسر التقويم واستحداث زمن شخصي :
منذ الصفحات الأولى، نُواجه في الديوان ما يمكن تسميته بـ"التمرّد الزمني"، حيث ترفض الشاعرة الخضوع لتقويم الدولة والمجتمع، وتبتكر زمنًا داخليًا ذاتيًا، فتقول:
"الفصل الخامس... الساعة الخامسة... أيار نون..."
هذه المفردات الزمنية لا تؤدي وظيفة إخبارية، بل تكوّن بنية شعريّة مغايرة للزمن. وهنا يتحقق ما وصفه غاستون باشلار بـ"الزمن الشعري"، أي ذاك الذي لا يُقاس بالثواني، بل بدرجة الألم، الحنين، أو الحب.
5.2. الزمن كمرآة للأمومة والتعب :
في قصيدة "أحلام أم"، يتحوّل الزمن إلى كابوس ناعم:
"أريد كما أطفالي تربية ما أريد... وقتي فُقد مع أطفالي"
الزمن هنا ليس خطياً، بل حلقيًّا. الأم تستيقظ وتنام وتكرر، ولا فرق بين أمس واليوم. الزمن انمحى وصار "تعباً دائماً"، وهنا تتحقق مقولة أدريانا ريتش: "زمن الأمومة ليس زمناً للإنجاز، بل للانمحاء في حياة الآخرين".
5.3. أيار كثقب زمني: ميلاد، موت، بعث :
"إلا نسرينَ، أيار ما كان..."
هذا البيت يعيد بناء مفهوم الزمن. أيار ليس شهراً بل عتبة وجودية؛ كلّ شيء يتغير فيه: الأمومة تتأزم، القصيدة تُولد، الحنين يُغسل، والفصل الخامس يُصبح مجالاً للنجاة. أيار ليس ربيعاً، بل رحمًا زمنياً للقصيدة.
سادسا. الصورة الشعرية واللغة المجازية: الجسد المتخيل للغة .
6.1. من المحسوس إلى المجازي: تشكيل لغة محسوسة باللمس :
تستند نسرين بدّور إلى صور مركّبة، غالبًا حسّية، تستدعي اللمس والرائحة والطعم أكثر من البصر، كما في:
"شفاهها عسلٌ... استمدّت نداها من الذهب"
هذا الأسلوب يتقاطع مع مفاهيم بول ريكور عن المجاز الجذري، حيث لا يكون المجاز مجرد بديل بل طريقة لتجربة العالم. الجسد هنا يُترجم شعريًا: الشفاه ليست عضواً، بل "موقعاً للمجاز".
6.2. بلاغة العسل: تكرار لا تكرار فيه :
العسل، النحل، الندى، الذهب، الزهر... كلها صور متكررة في الديوان، لكنها لا تعود بنفس المعنى كل مرة. بل تتطوّر، تتغير وظيفتها الرمزية من قصيدة لأخرى:
في "الرحيق أنثى" يصبح العسل رمزًا للحب المحرَّر.
في "فراشتي الذهبية" يصبح العسل وعداً بالشفاء من التعب.
وفي "النون عاشتْ"، يصبح العسل وسيلة إيمانية للرحمة والشعر.
هذا التحوّل يجعلنا أمام بنية رمزية متطوّرة لا ثابتة، تتسق مع نظرية جيل دولوز عن الصورة باعتبارها "إعادة تكوين دائم للمعنى عبر السياق".
6.3. القصيدة كبنية جسدية: الشعر = جسد :
"نثرتُ بذور الأنشودة في بيت... من عنق القصيدة"
الصورة هنا تُجسّد القصيدة بوصفها كائناً حياً: لها عنق، لها صدر، تُنجب، وتُرضع... وهذا ما يجعل من الديوان كله نوعاً من الجسد المجازي للغة. إنها تكتب "بشعور الجلد" على حد وصف مارغريت دوراس.
سابعا. الجسد والبوح: الشعر كعملية كشف عاطفي .
7.1. الجسد ككائن صوتي:
القصائد مليئة بمفردات الجسد، لكنها لا تُقدَّم بوصفها مثيرة أو جنسية، بل باعتبارها موضعاً للتعب، للحب، للإرهاق، للحليب، للبكاء. مثال:
"صدر السماء... شفاهها تطلب النوم... وجهه لا يقسو على ابنتي"
هذا التقديم يُحيل إلى ما سماه إيمانويل ليفيناس بـ"وجه الآخر"، حيث يُصبح الجسد مجالًا أخلاقيًا، مكانًا لحضور الآخر واعتراف الذات به.
7.2. بوذية التعب: كتابة من داخل الإرهاق :
القصيدة هنا ليست مكتوبة "رغم التعب"، بل من داخل التعب. تعب الأم، تعب المرأة، تعب اللغة. وهو ما عبّرت عنه بوضوح:
"أخافُ من فيضان الحبر، لأنني ضعيفة جداً أمام أطفالي"
الكتابة نفسها تصبح عبئًا جميلًا، عملية تهتك، ومقاومة داخلية، وصلاة أنثوية. الحبر يُعادِل الدم، والخوف يُعادِل الحياة.
8. التخييل والذاكرة: القصيدة كمجال استعادي.
8.1. من الطفولة إلى البنت: هوية مزدوجة :
في "أحلام أم"، لا تتكلم الشاعرة بصوت واحد، بل بصوتين: هي الأم والابنة، هي البنت التي تنام، وهي الأم التي توقظ. وهذا تداخل بين الماضي والآن يولّد صورة معقدة للذات الأنثوية، حيث الزمن دائري.
"الزمن الجميل تعيشه طفلة... لكن الزمن الآن ممتلئ بالألم"
هذه الثنائية تخلق نصاً متعدد الطبقات، فيه الذات تتذكر ذاتها وهي تربيها الآن.
8.2. القصيدة كآلية تذكّر شعري :
العديد من القصائد، مثل "العمر قطار"، و"النون عاشت"، ترتكز على الحنين، لكنها لا تحنّ إلى ماضٍ مثالي، بل تحنّ إلى لحظة تماس بين الذات والحياة. هذا يعيدنا إلى أطروحة بيير نورا حول "أماكن الذاكرة"، حيث القصيدة تصبح بؤرة شعورية لاستعادة الذات عبر الصورة والشذرة.
تاسعا. المكان الحميمي: البيت كقصيدة، والغرفة ككون شعري .
9.1. من الجغرافيا إلى الوجود :
في قصيدة "أحلام أم" وغيرها، لا يظهر البيت كمكان مادي، بل كبنية وجدانية. إنه مكانٌ ينبض بالتعب، الحب، العناية، الخوف، والصمت. الجدران ليست إسمنتاً بل مرايا تعكس أمومة الشاعرة، كما تقول:
"صديقتي بابي طقّت... ماما نريدُ الحديثَ... وقتي فُقدَ مع أطفالي"
البيت هو المكان الوحيد الذي يُمكن فيه للمرأة أن تكون نفسها، لكنه أيضاً المكان الذي يبتلع زمنها وطاقتها. وهنا نلمس ما تطرحه فرجينيا وولف عن "الغرفة التي تخصّ المرأة وحدها" كمطلب وجودي لا كتابي فقط.
9.2. المطبخ كمساحة مقاومة لا استعباد :
في بعض المواضع، يبدو المطبخ وكأنه مركز الكون:
"تنظيف الصحون... تحضير الطعام... رائحة القهوة... رتابة التكرار"
لكن هذه الرتابة لا تُقدّم كمهانة، بل كإيقاع داخلي تنتظم عليه القصيدة. المطبخ يصبح مختبر معنى، وتجربة لغوية، تمامًا كما كتبت لورين بيرك عن "الطهو كفعل لغوي أنثوي".
عاشرا. اللغة بوصفها مأوى الجسد والروح: القصيدة كبيت لغوي .
10.1. الحرف جسدٌ: “نون” كنقطة البدء، والحرف كوطن:
الشاعرة تتعامل مع الحروف لا كأدوات، بل ككائنات:
"النون عالم... النون عاشت... النون شروق... حكاية ألف نونهِ"
هنا تُبنى اللغة على أساسٍ شبه روحي، الحرف الأول (نون) هو الخلق، والنص هو بيت هذه الحروف، كما يقول هايدغر: "اللغة مأوى الوجود".
10.2. التراكيب البسيطة والعمق المركّب :
من خصائص لغة نسرين بدور:
▪︎جمل قصيرة.
▪︎تكرار الكلمات المفتاحية: (عسل، نون، أيار، فراشة، شرفات، ندى).
▪︎بناء صوتي داخلي.
مثل قولها:
"الورد ميلاد... العسل ممتع كحكاه... نثرتُ بذور الأنشودة...".
اللغة هنا لا تُحلّل فقط، بل تُلمس وتُشمّ. إنّها لغة حسيّة، ماديّة، تكاد تخرج من الورق.
إحدى عشر . الإيقاع الداخلي: صوت العاطفة ونبض التعب .
11.1. غياب الموسيقى الخارجية لصالح نغمة داخلية :
نسرين لا تلجأ إلى التفعيلة أو العمود، لكنها تخلق موسيقى داخلية عبر:
التكرار الإيقاعي: "أيار أيار..."، "الحب الحب..."
الجناس الناعم: "الندى، النور، النحل..."
الجمل المتوازنة بنغمات قصيرة.
"العسل ممتعٌ كحكاه... الشمس تستقلّ الضوء... سنابل قمح غالية"
هذا الأسلوب يقرّبها من تجربة أنسي الحاج، حيث يصبح النثر قصيدة لا تحتاج قافية لتُغنّى.
11.2. لغة تخرج من الصدر لا من القاموس :
"أنا ضعيفة جداً أمام أطفالي... وأخاف من فيضان الحبر"
الصوت هنا شخصيّ، مألوف، صادق. هو صوت امرأة تتكلّم لا لتبهر، بل لتبقى، لتشفي، لتصمد. كما تقول مارجريت آتوود: "الكتابة ليست للزينة، بل للبقاء".
إثنى عشر . ثنائية الأنوثة والحرية: الذات بين الأسر والانعتاق .
12.1. شعرية الأسْر المختار: حين تصبح العبودية حرية مشروطة :
"لا أقسو على ابنتي... الحديث يُنهكني... لكني أحبهم أكثر من راحتي"
هنا نجد نموذج الأسر المُحبّ: إنها تضحّي لا لأنها مرغمة بل لأنها اختارت ذلك. لكن الشعر يُعطيها نافذة. نسرين لا تُحرر نفسها من الأمومة، بل تُحرر الأمومة ذاتها عبر الشعر.
12.2. الحرية بوصفها لغزًا لا هدفًا :
في مواضع عديدة، تتحدّث الشاعرة عن الضيق، عن القيود اليومية، لكن دون أي خطاب شعاراتي. الحرية هنا ليست مطلبًا خارجيًا، بل حالة نفسية تتفاوت بحسب درجة الحب والمعنى والتعبير.
هذا الموقف يُقارب قول سيمون فايل: "الحرية لا تعني غياب الضرورة، بل إيجاد المعنى داخلها".
نسرين بدّور لا تكتب "من الخارج"، بل من داخل الحياة: من المطبخ، من الغرفة، من القلب، من التعب، من ضيق الوقت، من تفاصيل لا يراها أحد... لكنها تراها وتكتبها وتحولها إلى شعر.
ديوان "نون أيار" ليس مجرد كتاب، بل بيت لغويّ، زمن بديل، جسد رمزيّ، مرآة داخليّة، وأمومة مكتوبة بالحبر والحنان والحسّ.
ثلاثة عشر. المناخ الشعري في "نون أيار": الكتابة من داخل العاطفة اليومية.
13.1. الشعر كفعل حسي في مناخ مزيج من الحميمي والكوني :
نسرين بدّور لا تكتب من مشهد عام ولا من وحي لحظة انتشاء. بل تكتب من عمق المعايشة: من الداخل، من البيت، من تفصيل الغسيل، من دمعة طفلة، من همسٍ قُطِع منتصفه.
تقول:
"الساعة رسل... والحديث ينهكني... الوقت فُقدَ مع أطفالي"
المناخ العام هو مناخ اضطراب هادئ، محكوم بالصبر، لا بالانفعال، بما يجعل صوت الشاعرة يتناوب بين الرقة والفزع، بين الأمل واليأس، على إيقاع خافت، كأن كل قصيدة هي محاولة للإفلات من الغرق عبر الحبر.
13.2. الطبيعة كمناخ داخلي: من نسيم الشرفة إلى صدر القصيدة :
في قصائد مثل "الريان أيار" و"إيمان أيار"، تستحضر الشاعرة عناصر الطبيعة (الندى، العصافير، القمح، الزهر) لا كصور شعرية معزولة بل كمكونات نفسية.
تقول:
"من القمحِ إلى الرغيف، من الأرض إلى الإنسان... جنان الدنيا في شبر مزهر"
بهذا يتحوّل المناخ الشعري من "إطار للقصيدة" إلى "بنية داخلية للذات". وهذا يتقاطع مع فكرة إيتيل عدنان التي تقول: "أنا لا أصف الشجرة، بل أُعيد تكوينها داخلياً لأصبحها".
أربعة عشرة. قصيدة نسرين بدّور وعلاقتها بقصيدة النثر .
14.1. الشكل الحُر لا كسرًا للوزن بل تحررًا من الإيقاع الخارجي :
الديوان مكتوب بالكامل بصيغة قصيدة النثر، لكن ذلك لا يعني غياب الموسيقى. بل تتأسس القصائد على ما يمكن تسميته بـ"إيقاع الهمس"، أو كما تسميه جيني بوله le souffle poétique (الزفير الشعري).
أمثلة من الديوان:
"ها العسل ممتعٌ كحكاه... شفاهها عسل... الناي في وحشة الأمل..."
إننا هنا أمام لغة تتنفس لا تُدندن. هذا النوع من البناء يعكس ولاءً حقيقياً لجوهر قصيدة النثر كما صاغها أدونيس وأنسي الحاج، أي:
▪︎نثر بتركيب شعري.
▪︎استعارة حيوية لا تجميلية.
▪︎إيقاع داخلي غير محسوب ولا موزون.
14.2. لا "بلاغة صادمة"... بل بلاغة رقيقة :
نسرين لا تلجأ إلى القطيعة أو الهدم أو التفجير اللفظي. بل تعتمد على بلاغة النعومة: التكرار، الترقيق، التلاعب الخفيف بالصوت والمعنى. وهو ما يقربها من تجارب مثل لميعة عباس عمارة أو منى ظاهر أكثر من تجارب العنف اللغوي (مثل نوال السعداوي في سردها، أو جمانة حداد في صراخها الرمزي).
خمسة عشر. مواطن الجمال الفني في "نون أيار": القصيدة ككائن ناعم يقاوم.
15.1. الجمال كجمال غير مكتمل: التوتر بين الرغبة والعجز:
أجمل ما في قصائد نسرين أنها لا تدّعي الكمال. بل تكتب عن لحظات الخيبة والتعب واليأس... وتعترف بأنها لا تملك وقتاً حتى للحديث.
"فقط تنظيف الخزانة... فقط لا تقسو ملامحه على ابنتي..."
هنا الجمال ليس في البلاغة، بل في الصدق الموجِع، وهذا ما يجعل القارئ يشعر أن القصيدة تنمو من داخله لا خارجه.
15.2. الرموز الصغيرة كجمال دقيق: الفراشة، النحلة، الزهرة :
"فراشتي الذهبية... جناحها المدى... صدركِ خاتمي الذهبي..."
هذه المفردات تُشكل "حقلًا رمزياً ناعمًا"، فيه تتكرر الرموز لكنها لا تعيد المعنى نفسه. الفراشة مرة عاشقة، ومرة طفل، ومرة قصيدة، ومرة الشاعرة نفسها.
وهذا الاستعمال المتحوّل للصورة يُوازي ما ذهب إليه بول فاليري حين قال: "الشعر هو فنّ تغيير المعنى بالإصرار على الشكل".
ستة عشر. مقارنات شعرية نسوية: موقع نسرين بدّور داخل خارطة قصيدة النثر النسوية .
للقصيدة التي تكتبها نسرين بدّور في "نون أيار" موقع مميز داخل تيارات قصيدة النثر النسوية المعاصرة، إذ تجمع بين الحميمية اللغوية والوعي بالذات الأنثوية، دون أن تسقط في خطابية شعاراتية أو تجريبية مفرطة. وعند مقارنتها بشاعرات بارزات في المشهد العربي والفرنكفوني، تتضح ملامح هذا التفرّد:
▪︎إيتيل عدنان:
نجد تقاطعًا بين نسرين وعدنان في الكتابة من الداخل، لكنّ إيتيل عدنان تنزع نحو التجريد والفلسفة اللغوية المتأملة في نصوص مثل الست ماري روز أو الربيع العربي، بينما نسرين تبقى أوفى لعالمها الحسيّ، البيت، الطفلة، الأطباق، الشرفة، حيث لا تفكر القصيدة في العالم بل تُكتب من داخل العالم اليومي. نسرين لا تكتب سياسةً، بل عاطفةً شديدة التسيّس في طابعها الحياتي.
▪︎غادة السمان :
أما غادة السمان، فإنها تجسّد نموذج الشاعرة التي تكتب من الجرح العالي، من المنفى والتمرّد، مع توظيف لغوي حادّ وفضاء شعري يشبه الرصيف الدمشقيّ أو المقهى الباريسيّ. بالمقابل، نسرين تكتب من الهدوء، من المطبخ، من غرفة نوم بنتها، لا تهتف بل تهمس بحنان مرهق، وتبدو قصائدها أقرب إلى صلوات أمّ قلقة منها إلى بيانات غضب.
▪︎سعاد الصباح :
لغة سعاد الصباح تحمل وهجاً عاطفياً قومياً، تسرد المرأة بصفتها وطنًا، وتكتب قصائدها بإيقاع شعريّ أكثر انتظامًا، متكئة على الغنائية العالية والمفردات الفخمة. بالمقابل، نسرين بدّور تعتمد على لغة شديدة التقشّف، ناعمة، مُتحاشية لأي صدى خطاب سياسي أو قومي. القصيدة عند نسرين لا تُدافع عن المرأة بصفتها ضحية أو رمزاً، بل تروي كيف تنام الأم، وكيف يضيع وقتها، وكيف تكتب من بقايا اليوم المبعثر.
▪︎لميعة عباس عمارة :
لميعة تُجسّد القصيدة الغنائية الحنونة، المليئة بالعذوبة والرقة، مع حضور قويّ للأنوثة المرحة والمغناج أحياناً، وهي تشبه نسرين من حيث الإيقاع السلس والنبرة الحيّة، لكنّ نسرين تميل أكثر إلى كثافة وجدانية صامتة، مشبعة بالألم غير المعلن والبوح المتحفظ.
هكذا نلاحظ أن نسرين بدّور ليست تكرارًا لأي تجربة نسوية معروفة، بل تكتب من موقعٍ خاص:
-من البيت وليس من الشارع،
-من الرغبة في النجاة وليس من الغضب الثوري،
-من الشعر لا من التنظير،
-ومن حسّ امرأة لا تطالب بالاعتراف، بل تعيد تركيب العالم انطلاقًا من وسادة ابنتها.
سبعة عشرة. المعجم الشعري عند نسرين بدّور: لغة الحواس، لغة القلب، لغة الأشياء الصغيرة.
17.1. معجم يقوم على الحسيّات لا المجردات :
المعجم الشعري في "نون أيار" يتّسم بأنه لا يحتكم إلى المفاهيم الكبرى، بل إلى التفاصيل الحسية المتكررة:
النحل، العسل، الشفاه، الحليب، القهوة، الزهر، الندى، القمح، الغسيل، الباب، النوم، الحديث، الأم، البنت، الحلم...
كلها كلمات بسيطة، مألوفة، لكنها تعاد شعريًا في السياق لتكوّن شيفرة وجودية دقيقة، تتراكم قصيدة بعد قصيدة، فتتحوّل إلى ما يشبه "المفردات المقدسة" الخاصة بالشاعرة.
"العسل ممتعٌ كحكاه، الزهر مرآة، الشفاه قصيدتي، الناي صمتي، الغسيل تعب روحي..."
إنه معجم يُشبه نَفَسًا متقطعًا، تكتبه امرأة تقف في منتصف المطبخ، تكتب بعين واحدة، بينما الأخرى تراقب طفلتها. وهذا ما يجعل القصيدة أقرب إلى نَفَسٍ داخلي لا إلى بيان بلاغي.
17.2. تكرار المفردات بوظائف متحوّلة :
كثير من الكلمات تتكرر عبر صفحات الديوان، مثل:
-أيار: يظهر أكثر من 20 مرة، كموسم، كرمز، كميلاد.
-العسل: يظهر كمكافئ شعري للجمال المُتعَب.
-الشفاه: تُستخدم للدلالة على الشعر، التذوق، الهمس.
-الساعة الخامسة: ليست وقتًا بل حالة شعورية.
لكن التكرار هنا ليس ترهلاً بل انزياحًا؛ الكلمة لا تعود بذات المعنى، بل تتبدل سياقيًا. تكتب جوليا كريستيفا عن هذا النمط من التكرار بوصفه: "عودة مفردة إلى ذاتها وهي أخرى، تعني ما كانت لا تعنيه."
ثمانية عشرة. اللغة الشعرية: بين السكون الكلاسيكي والانفجار المكتوم .
18.1. مزج واعٍ بين الفصحى البسيطة والعبارة الشفاهية :
اللغة التي تكتب بها نسرين ليست "نخبوية"، بل تتسم بـ:
-الانسياب السلس: الجمل غالبًا قصيرة، بلا تزويق زائد.
-مفردات من الحياة اليومية: (نوم، حديث، بنتي، خزانة، قهوة...). -إدراج نبرة الحديث الشفوي داخل النثر الشعري.
وهذا يجعل القصيدة أقرب إلى "بورتريه وجداني" منها إلى لوحة بيانية. تقول:
"أريد كما أطفالي... لكني لا أستطيع، فقط أنظف، فقط أرتّب، فقط أُحبّ"
نلاحظ هنا أن الشعر يُولد من الامتناع والحرمان والاقتصاد التعبيري، وهي تقنيات تنتمي إلى روح قصيدة النثر في بعدِها النفسي لا التجريدي.
18.2. توتّر بين الهدوء الظاهري والانفجار الداخلي :
تبدو القصائد مسالمة في ظاهرها، لكنها في العمق مكتظة بالعاطفة المكبوتة، بالحنين، بالألم غير المعلن. وهذا يذكرنا بما كتبه بول فاليري عن الشعر الصامت: "أجمل الشعر هو ما لا يُقال، بل ما يوشك أن يُقال ويتردّد."
في قصيدة "الرحيق أنثى"، نقرأ:
"أُحبّكَ دون إعلان، أكتبك على وسادة ابنتي، وأعجنك مع الحليب..."
هنا الشعر يتحرك تحت جلد اللغة. لا يوجد صراخ، بل رجع صدى عاطفي ناعم، وهو ما يمنح القصيدة جمالاً داخليًا بلا زخرفة خارجية.
المعجم في "نون أيار" بسيط، لكنه يتكلم أكثر مما يصرّح. الكلمات اليومية تنقلب إلى رموز كونية. الشفاه ليست للقبلة بل للحكي. العسل ليس طعماً بل حياة. الغرفة ليست جدراناً بل نصّاً مفتوحاً.
أما اللغة، فهي مشغولة لا بتزيين الجملة، بل بإضاءة ما هو غير مرئي داخل الجملة. قصائد نسرين بدّور ليست مدوّية، لكنها عميقة كالماء الساكن، خطرة كالحنين، ومضيئة كفنجان قهوة بين بكاء ابنة ونظرة حب غائبة.
في الختام، و في خضمّ هذا التحليل الذي توزّع على ثمانية عشر نقطة، تبين لنا أن ديوان "نون أيار" لا يمكن اختزاله في قصائد أنثوية بالمعنى السياقي، بل هو مشروع شعري متكامل الملامح، تقترحه نسرين بدّور بوصفه تجربة شعرية مقاومة تُستخرج من رحم الحياة اليومية.
الشاعرة تُخالف كل السياقات التقليدية، وتعيد تعريف القصيدة بوصفها:
-مكاناً للحب دون زينة.
-حواراً بين اللغة والرضاعة.
-صلاة تُؤدّى في المطبخ.
-وبوحًا يُقطر من صدر مثقل بالواجبات.
لقد فكّكنا المعجم، والمكان، والإيقاع، والصورة، والجسد، والرمز، والتاريخ، وتوقفنا عند اللغة المتقشّفة والغنية في آن، بين الكلاسيكي والشفاهي، ولامسنا موقع الشاعرة ضمن الشعر النسوي النثري العربي، بوصفها صوتا حميميا رقيقا يقف في عمق الجسد لا في واجهة الخطاب.
ديوان "نون أيار" هو إذا شكلٌ من أشكال استرداد الحق في الحضور، في التعبير، في صناعة زمن خاص، وخلق طقس شعري داخلي تتماهى فيه الذات مع المعنى، والقصيدة مع الرغبة، واللغة مع العرق الحيّ للمرأة اليومية.
ولا نجد أبلغ من مقولة الكاتبة كاترين كليمان في خاتمة هذا التحليل:
"الأدب النسوي ليس ما يُكتب عن النساء، بل ما يُكتب انطلاقاً من لحظةٍ لا تنتمي لأحد سوى المرأة وهي تكتشف جسدها في اللغة."
وهذه اللحظة بالذات هي ما تنبض به قصائد "نون أيار"، حيث تكتب نسرين بدّور الأم، والعاشقة، والمعلمة، والمربية، والأنثى... لا لتصف ما هي عليه، بل لتصنع من ذاتها ما لا يُوصف.
رياض الشرايطي / تونس
#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القصيد ما بعد النّثر
-
بيان
-
بكاءُ السُندسِ في المنفى....
-
عيد الشّغل: من نضال طبقي إلى مناسبة رسمية بروتوكولية.
-
الحداثة وما بعد الحداثة بين ديكتاتورية البرجوازية وخيانة الت
...
-
مراجعة مجلّة الشّغل التّونسية: بين تعزيز الاستغلال الرّأسمال
...
-
نساء بلادي أكثر من نساء و نصف
-
النّضال من أجل الدّيمقراطية والحرّيات العامّة والخاصّة
-
الدولة البوليسية المعاصرة
-
إرهابيّ أنا
-
حاسي الفريد / ما يشبه القصّة
-
المركزية الديمقراطية
-
عالم يُنتج وآخر يستهلك: الثورات الصناعية الاربعة
-
الصهيونية العربية: خيانة الداخل وخنجر في خاصرة الأمة
-
ملمّ بي
-
اسم الهزيمة
المزيد.....
-
نخبة من المخرجين وجزء ثانٍ من فيلم توم كروز.. كل ما تود معرف
...
-
الروائي أحمد رفيق عوض يشارك في ندوة حول الرواية الفلسطينية ب
...
-
كل الأولاد مستنيين يظبطوه”.. تردد قناة ماجد كيدز للأطفال وأح
...
-
بعد عرض أفلام الشهر”.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على الن
...
-
سوريا تحضر بثقلها الثقافي في معرض الدوحة للكتاب من خلال -سوق
...
-
رحيل مغني -الراب- كافون.. أبرز الوجوه الفنية التونسية بجيل م
...
-
السيرة الذاتية مفتاحٌ لا بدّ منه لولوج عالم المبدع
-
من قبوه يكتب إليكم رجل الخيال.. المعتقل السياسي لطفي المرايح
...
-
شاهد.. أنثى أسد بحر شهيرة تواكب الإيقاع الموسيقي أفضل من الإ
...
-
يطارد -ولاد رزق 3-.. فيلم -سيكو.. سيكو- يحقق إيرادات تفوقت ع
...
المزيد.....
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
المزيد.....
|