|
عيد الشّغل: من نضال طبقي إلى مناسبة رسمية بروتوكولية.
رياض الشرايطي
الحوار المتمدن-العدد: 8328 - 2025 / 4 / 30 - 18:40
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
يعد عيد الشغل، الذي يُحتفل به في الأوّل من ماي من كلّ عام، مناسبة مهمّة لتجديد المطالب العمّالية والاحتفاء بالحقوق الأساسيّة التي تحققّها الطّبقة العاملة في مواجهة النّظام الرأسمالي. لكنّه تحوّل من مناسبة ثوريّة تعبّر عن النٍضال المستمر للعمّال إلى مناسبة شبه رسمية تُستغلّ لأغراض سياسوية . في هذا السياق، تتّضح الفجوة الكبيرة بين الهدف الثّوري الذي نشأ من أجله عيد الشّغل، وبين الواقع الذي يعاني فيه العمّال من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. هذا التدهور، الذي لا تقتصر تداعياته على النّواحي الاقتصادية بل يمتدّ ليشمل الثّقافة السّياسية والحركة العمّالية نفسها، يفرض علينا الوقوف أمام أسئلة جوهرية: لماذا تراجع دور عيد الشّغل في الإسهام في التغيير؟ وما العوامل التي أثّرت في تدنّي فعاليته كأداة احتجاجية وثورية؟
1.الجذور الرّمزية لعيد العمّال: نضال بدأ بالدّم ولم ينته بعد. عيد العمّال ليس وليد قرار رسمي ولا تقليد احتفالي، بل نتاج حريق دموي أشعلته نضالات الطّبقة العاملة في أواخر القرن التاسع عشر، وتحديدا في الولايات المتحدة. فخلال سنوات الثورة الصناعية، استُنزف العمال لساعات طويلة تصل إلى 16 ساعة يوميا في مصانع قذرة، تحت رحمة أرباب عمل لا يرون فيهم سوى أدوات لزيادة الربح. وقد انطلقت حركة الثماني ساعات كشرارة تمرد جماعي ضد هذا الجور. في الأول من ماي 1886، لبّى أكثر من 400 ألف عامل أمريكي نداء الإضراب العام، مطالبين بيوم عمل إنساني من 8 ساعات فقط. هذا التمرّد الطبقي لم يُقابل إلا بالحديد والنار: ففي 4 ماي، فجّرت الشرطة اعتصام "هاي ماركت" في شيكاغو بالرصاص، وسقط عشرات القتلى من العمال والمتظاهرين، ثم أُعدم قادة الإضراب في محاكمات صورية، ليُخلَّدوا فيما بعد باسم "شهداء شيكاغو". هذا العيد، إذن، ليس ترفا بل وشم دموي في جبين الرأسمالية الحديثة. كما عبّر الكاتب الشيوعي الأمريكي يوجين ديبس: "ما دام هناك من يكدح ليأكل الآخر، فكل عيد للعمال هو وقفة عزاء وغضب". لقد بدأ عيد العمال كتحدٍ صريح للرأسمالية، إعلان عن وجود جماعي للكادحين، وساحة لتحطيم وهم "الحرية الاقتصادية" التي لا تعني سوى حرية الرأسمالي في نهب العمال. ولذلك، فإن كل محاولة لتمييعه أو اختزاله في مظاهر احتفالية، هي اغتيال رمزي لتلك اللحظة الثورية التي جعلت من الأول من ماي مناسبة أممية لرفع راية النضال، لا لتزيينها بالورود.
2. عيد العمال في الفكر الاشتراكي: من ماركس إلى روزا إلى حاضرنا المأزوم.
منذ البداية، لم يتعامل الفكر الاشتراكي مع عيد العمال كمناسبة رمزية فقط، بل كأداة تعبئة، كمنصة للتمرّد، وكعنصر من عناصر "تسييس" الوعي الطبقي. فماركس وإنجلز في "البيان الشيوعي" لم يطرحا تحرير العامل من منطلق إنساني أخلاقي، بل من منظور مادي تاريخي: "تاريخ كل المجتمعات حتى الآن هو تاريخ صراع الطبقات". وهذا الصراع يجد في عيد العمال شكله المكثف والمرئي. ماركس لم يكن يطمح إلى تحسين شروط العمل داخل الرأسمالية، بل إلى نسف البنية الرأسمالية ذاتها، لأنها تنتج الاستغلال كمنطق وجود. ولهذا، فإن الأول من ماي لا يمثل يوما "للمطالب" فقط، بل لحظة فضح للمنظومة، وتعبير عن الرفض الجذري لما تخلقه من استلاب وفقر وتفاوت. كما كتب ماركس في "المخطوطات الاقتصادية والفلسفية": "العمل في الرأسمالية لا يخلق الإنسان، بل يشوّهه". أما روزا لوكسمبورغ، فقد كانت أكثر راديكالية في قراءتها لعيد العمال. ففي مقالها الشهير "عيد العمال"، تصفه بأنه "يوم الفعل الجماعي الثوري"، وتضيف: "إنه ليس مجرد تقليد سنوي، بل تجربة لتقويض شرعية النظام بأكمله". وقد ربطت بين الإضراب العام وبين التحول الثوري، مؤكدة أن النضال النقابي لا يكتمل دون أفق سياسي يقلب ميزان القوى لصالح البروليتاريا. في الحاضر المأزوم، حيث تمكّنت الرأسمالية المعولمة من تفكيك الروابط الطبقية، وتشتيت العامل الفرد في بحر من العقود الهشة والعمل غير المهيكل، لم يعد الاحتفاء بعيد العمال كافيا. بل المطلوب هو إحياء روح ماركس وروزا: العودة إلى الربط بين الاستغلال والإنتاج، بين العمل والاغتراب، بين النقابة والحزب، بين الإصلاح والثورة. عيد العمال إذا ، هو يوم لا يفهم إلا بوصفه لحظة استنهاض جماعي لرفض النظام بأسره، لا مجرد تحسين شروط العبودية فيه. إنه يوم لا يحتفل بالعمل، بل يعلن الثورة عليه، حين يكون شكلا من أشكال القهر. كما قال تروتسكي: "لا عيد للعمال إلا حين يصبحون هم الحاكمون، لا المحكومين".
3. الواقع المُعاش: من الشارع إلى الخطابات الرسمية.
في مفارقة صارخة، تحوّل عيد العمال من مناسبة نضالية تعبّر عن تمرد الطبقة الكادحة على شروط استغلالها، إلى طقس بروتوكولي تتصدره الخطابات الرسمية، وتصاحبه مظاهر فولكلورية تُفرّغ اليوم من معناه الثوري. لم يعد عيد العمال تظاهرة طبقية، بل صار فرصة للأنظمة لتجميل وجهها، وللنقابات البيروقراطية لتأكيد حضورها الرمزي دون مساءلة. في تونس مثلا، تتحوّل ساحة محمد علي كل سنة إلى مسرح خطابي يلقي فيه قادة الاتحاد العام التونسي للشغل كلمات مكرّرة عن "دور العمل في بناء الوطن"، فيما يتضوّر عمال الحضائر والآليات والمعلمين النواب والعملة العرضيون جوعا، وهم الذين لم تمسّهم أي تسوية تذكر منذ سنوات، بل تمت مصادرة أصواتهم في كثير من الأحيان باسم "المعركة الوطنية الكبرى" أو "المصلحة العليا للبلاد". الخطورة في هذا المشهد أن الدولة ، ومعها النقابات المهادِنة ، تعيد إنتاج رواية مخدّرة حول "الشراكة الاجتماعية" و"الوفاق الطبقي"، وكأنّ الاستغلال مسألة يمكن التفاهم حولها، لا صراعا جذريا على الثروة والسلطة. وهنا تبرز مقولة روزا لوكسمبورغ مجددا لتصف واقعنا بدقة: "الذين يتحدثون عن الوفاق الطبقي يقطعون الطريق على الثورة، فهم لا يريدون إلغاء الاستغلال، بل إدارته بأقل قدر من الضجيج." إن واقع العمال اليوم لا يحتاج إلى مزيد من التزيين، بل إلى تعرية جذرية. فمعظم البلدان التي تحتفل بعيد العمال تشهد نسب بطالة مهولة، وازدهارا لاقتصاد الهشاشة، وانهيارا لأنظمة الحماية الاجتماعية. في تونس وحدها، يُقدّر عدد العاملين في القطاع غير المنظّم بأكثر من 1.5 مليون شخص، دون ضمانات اجتماعية أو صحية، بينما يُنهك القطاع العام بسياسات تقشف مفروضة من الخارج. ويزداد الوضع قتامة عندما نلاحظ كيف تتواطأ الخطابات الرسمية مع آليات السوق النيوليبرالي، فتروّج لـ"النجاح الفردي" و"روح المبادرة"، في الوقت الذي يُدفع فيه العمال والطلبة والفقراء إلى هوامش المجتمع، ويُحمّلون مسؤولية فقرهم بوصفه "فشلا شخصيا"، وليس نتيجة بنية اقتصادية ظالمة. إن الواقع المعاش في عيد العمال هو واقع التجاهل، واقع الخطابات المنمّقة التي لا تخفي العطالة، ولا تداوي الأجور المتآكلة، ولا تحمي النساء العاملات من الموت في شاحنات لا تصلح لنقل الحيوانات. وهذا ما يجعل من الأول من ماي اليوم مرآة دامغة لمستوى النفاق الطبقي الذي يطبع أنظمتنا ومؤسساتنا. ومن هذا المنظور، يتحوّل السؤال إلى صيغة ماركسية ملحّة: "من يملك وسائل الإنتاج؟ ومن يملك وسائل التعبير عن هذا اليوم؟" فإذا كانت الطبقة الحاكمة تسيطر على الإعلام، والنقابات الكبرى محكومة بالحسابات السياسية، فمن بقي ليمثل العامل الحقيقي؟ الجواب يكمن في التنظيم القاعدي، في استعادة عيد العمال كأداة للنضال لا كذكرى رمزية، وكحلبة للصراع لا كساحة استعراضية.
4. تهميش قضايا العاملات الفلاحيات والعمال الهشّين.
رغم كثافة الحضور العمّالي النسائي في القطاع الفلاحي، ورغم أن العاملات الفلاحيات يمثلن العمود الفقري للاقتصاد الغذائي الوطني، إلا أن خطابات عيد الشغل نادرًا ما تُدرج قضاياهن ضمن الأولويات. إن التعتيم المتواصل على وضعية هؤلاء النساء ليس مجرد نسيان عابر، بل هو فعل سياسي مقصود يُقصي الهامش من الحلبة النضالية، ويعيد إنتاج منطق الهيمنة الطبقية والذكورية معًا. العاملات الفلاحيات يشتغلن في ظروف لا تتوفر فيها أبسط مقوّمات الكرامة: أجور زهيدة لا تتجاوز في كثير من الأحيان 15 دينارا في اليوم، دون تغطية اجتماعية، دون نقل آمن، دون ضمانات ضد المرض أو الشيخوخة. يكفي أن نتذكّر كيف تحوّلت حوادث النقل الريفي إلى مشاهد مأسوية متكرّرة حيث تفقد العاملات أرواحهن في شاحنات الموت، في صمت مطبق من الدولة واتحاد الشغل. هذه المآسي ليست حوادث عرضية، بل تعبير عن نمط إنتاج بأكمله يقوم على تفكيك القيم الجماعية وتحويل الأجساد الفقيرة إلى أدوات عمل مرمية. وكما تقول أنجيلا ديفيس: "حين تُنتهك كرامة العاملات الفقيرات ولا يُعدّ ذلك خبرا عاجلا، نعلم أن النظام لا يُصلح، بل يُعاد إنتاجه بالعنف." والأدهى من ذلك أن جزء من الخطاب الرسمي يتعامل مع هؤلاء النساء وكأنهن خارج الزمن الاجتماعي: لا يُستدعَين إلى موائد الحوار، ولا يُمثَّلن في اللجان الوطنية، وكأنّ حضورهن الجسدي في الحقول لا يستوجب حضورا سياسيا في القرار. أما العمال الهشّون في القطاعات الأخرى ، من عمّال الحضائر والمعلمين النواب إلى عمّال الاقتصاد الموازي ... الخ ، فهم يُختزلون في الإحصائيات. يتم استدعاؤهم فقط عندما يحتاج المسؤولون إلى تزيين خطاب "العدالة الاجتماعية"، دون أي سياسة فعلية لدمجهم وضمان حقوقهم. إن هشاشة العمل هنا ليست مجرد وضع اجتماعي، بل هي آلية سياسية لضبط الأجساد وضمان خضوعها عبر الابتزاز بلقمة العيش.
5. النقابة: بين التواطؤ والصمت .
إذا كان من المفترض أن تكون النقابات هي صوت العمال، فإن المشهد العام في عيد الشغل يكشف حجم التحوّل الذي أصاب الحركة النقابية، من قوة اقتحامية إلى جهاز بيروقراطي يعيد إنتاج السيطرة بدل مناهضتها. لقد تحوّل الاتحاد العام التونسي للشغل، من أداة نضال إلى مؤسسات متماهية مع منطق الدولة، لا تجرؤ في كثير من الأحيان على تجاوز الخطوط الحمراء التي ترسمها السلطة. فبدل أن يقود الاتحاد معارك من أجل العاملات الفلاحيات أو ضد التشغيل الهش، نراه يوزّع التصريحات ، ويفضّل عدم خوض معارك حقيقية و الوقوف بندية أمام السلطة حين تُستفز كرامة الطبقة العاملة،،، فالتصريحات دبلوماسية لا ترقى إلى مستوى الغضب الطبقي. كما أن البيروقراطية النقابية كثيرا ما تقف حائلا دون بروز المبادرات القاعدية والمستقلة، فتعادي التنسيقيات، وتُهمّش النقابيين الميدانيين، وتُقصي الأصوات الراديكالية التي تنادي بتجديد المشروع النقابي من الداخل. وكما قال كاستورياديس: "عندما تصبح النقابة جزء من آلة السلطة بوعيها أو دون وعيها ، فإنها لم تعد صوتا للعمال، بل صدى للسلطة." العمال يعرفون ذلك جيدا. ولهذا تتراجع الثقة شيئا فشيئا في العمل النقابي التقليدي، ويُطرح أكثر فأكثر سؤال إعادة بناء التنظيم العمالي من القاعدة، بعيدا عن المصالح الحزبية والمناورات الانتخابية. فإمّا أن تستعيد النقابات دورها الطبقي كقوة مواجهة، أو تتحوّل نهائيا إلى هياكل مشلولة يُحتفل بها في عيد الشغل دون أن يكون لها أي تأثير يُذكر.
6. تفريغ عيد الشغل من مضمونه النضالي .
لقد تحوّل عيد الشغل في تونس ، كما في كثير من بلدان العالم ، من مناسبة نضالية تُستعرض فيها مكاسب الطبقة العاملة وتُصعّد فيها مطالبها، إلى احتفال شكلي فاقد للمعنى، يُشبه في طقوسه "عيد الأم" أو "عيد الحب": خطب جوفاء، أناشيد وطنية، نشرات إخبارية تُمجّد "المكاسب"، ولا شيء يتغيّر في اليوم الموالي. إنّ ما يجري هو تفريغ مُمنهج لهذا العيد من مضمونه الطبقي. فالدولة البرجوازية لا تخشى العطلات، بل تخشى الذاكرة الحيّة التي تربط الحاضر بجذور الصراع الاجتماعي. ولذلك، يتمّ طمس جذور عيد الشغل، الذي وُلد من رحم الدم والنار في شيكاغو 1886، حين واجه العمّال الرصاص في سبيل يوم عمل من 8 ساعات. بدل استحضار ذلك التاريخ، يتمّ إغراقنا في خطب عن "الحوار الاجتماعي" و"مناخ الاستثمار"، وكأنّنا في مهرجان اقتصادي لا في ساحة نضال. وكما تقول روزا لوكسمبورغ: "كلّ عيد عمّالي يُفرّغ من معناه الثوري، يتحوّل إلى احتفال برجوازي لا يزعج أحدًا." وتكمن الخطورة في أنّ هذا التفريغ لا يتم فقط عبر الإعلام الرسمي، بل يسهم فيه أيضا اتحاد الشغل الذي يقبل بأن يكون يوم الشغل مجرّد منصّة للخطابات، بدل أن يكون لحظة تعبئة وطنية وتحريض طبقي. ففي حين يتعرّض العمّال للطرد، والاستغلال، وحوادث الشغل، والفقر الممنهج، تُرفع اللافتات المزركشة وتُوزّع الورود، في مفارقة سوريالية لا تقلّ عبثية عن الاحتفال بالحرية في سجن مفتوح. هكذا يتمّ استبدال النضال بالاحتفال، والتمرّد بالتوافق، والصراع الطبقي بمصافحات البروتوكول. وهو ما يجعل من عيد الشغل، في صيغته الحالية، شكلا من أشكال الاستلاب الجماعي، لا فرصة للتحرّر الجماعي.
7. تغييب الوعي الطبقي في خطاب الإعلام والتعليم .
من أكبر مظاهر التواطؤ مع قوى الهيمنة هو تغييب الصراع الطبقي من الخطاب العام، سواء في الإعلام أو في المدرسة أو في الجامعة. إنّ خطاب عيد الشغل كما يُروّج له في الصحف والقنوات والإذاعات هو خطاب مفرغ من كل إشارة إلى التناقضات البنيوية في المجتمع: لا ذكر للاستغلال، لا تحليل للفوارق الطبقية، لا استدعاء لتجارب الشعوب في النضال العمالي، بل فقط تكرار ممجوج لشعارات جوفاء من قبيل "المصلحة الوطنية"، "التضامن"، "التشاركية"، وكأنّ الصراع الطبقي وهم لا وجود له. يتمّ تقديم الفقر كقدر، والهشاشة كظرف، والبطالة كعطب فردي في السيرة الذاتية. يتمّ تحميل العامل مسؤولية استغلاله، والمهمّش مسؤولية تهميشه، والفقير مسؤولية فقره. وبهذا المعنى، يُستخدم الإعلام كأداة لـ"تربية طبقية بالمقلوب"، تجعل من الضحية جلادا لنفسه، ومن المستغَلّ شريكا في لعبة لم يضع قواعدها. أما في التعليم، فالصورة أكثر خطورة. لا يُدرّس التاريخ العمالي، ولا يُطرح ماركس أو إنجلز أو غرامشي أو لوكسمبورغ أو تروتسكي في مقررات الفلسفة أو الاجتماع، بل يُختزل الفكر السياسي في ليبرالية هشة تُعلّم الطلبة كيف يبرّرون النظام القائم، لا كيف يفككونه. المدرسة التونسية اليوم تُعدّ التلميذ ليكون موظفا خاضعا أو مستهلكا مُطيعا، لا فاعلا تاريخيا يُعيد التفكير في شروط وجوده. وكما قال أنطونيو غرامشي: "المدرسة ليست بريئة. إنها الجهاز الأيديولوجي الذي تُصاغ فيه الطبقات المقبلة." غياب الوعي الطبقي هو إذا شرط لاستمرار هذا النظام الطبقي. ولهذا، فإنّ أولى مهام القوى التقدمية هي إعادة الاعتبار للتحليل الطبقي، لا فقط في الخطاب السياسي، بل في كل الفضاءات: في الإعلام، في التعليم، في الثقافة، في الشارع. لأنّ ما لا يُقال، لا يُفكّر فيه. وما لا يُفكّر فيه، لا يُقاوم.
8. خيانة النخب النقابية للعمل القاعدي .
أحد أبرز الأسباب التي أفقدت عيد الشغل وهجه النضالي هو تواطؤ جزء من القيادة النقابية مع النظام السياسي والمالي. لم تعد بعض القيادات ترى في النقابة أداة صراع بل أداة تفاوض؛ ولم تعد تعبّر عن القواعد بل تتحدث باسمها في كواليس لا تعرفها القواعد. إنّ النقابة التي كانت تُبنى على الاجتماعات القاعدية، واللجان العمالية، والانتخابات الدورية، تحوّلت إلى بيروقراطية عليا تعيش في برجها العاجي، وتوقّع اتفاقيات لا تمرّ حتى على التصويت. وما يزيد الطين بلّة، أنّ بعض هذه القيادات تجد في كلّ أوّل ماي فرصة للظهور الإعلامي، ولتصوير أنفسهم كـ"وسطاء اجتماعيين"، في حين أنّ وظيفتهم الحقيقية، كما علّمنا تاريخ الحركة العمالية، هي تنظيم الصراع لا إدارته. فالمفاوض لا يُساوي القامع والمقموع، والمُحاور لا يمكن أن يكون محايدا بين من يملك وسائل الإنتاج ومن يبيع قوّته العاملة بأبخس الأثمان. يقول تروتسكي: "في كلّ لحظة لا تتحرك فيها النقابة ضدّ الدولة، تتحوّل إلى ذيل لها." هذه الخيانة لا تحدث فجأة، بل هي نتيجة لتراكم سنوات من التدرّج في التنازل، إلى أن أصبحت النقابات ، في نظر الكثير من العمّال، أقرب إلى جهاز إداري منها إلى حركة احتجاجية. وهذا ما يفسّر عزوف بعض الفئات العمالية عن المشاركة في الأول من ماي، لأنّها لم تعد ترى في هذا العيد صوتها، بل ترى فيه صدى لبيروقراطيات فقدت الصلة بالواقع.
9. انسحاب المثقف العضوي من ساحة الشغل.
إلى جانب تراجع النقابات، يشكّل غياب "المثقف العضوي" عن ساحات النضال العمالي مأساة أخرى. فالمثقف الذي كانت مهمّته أن يُترجم المعاناة اليومية إلى وعي تاريخي، وأن يُعيد ربط التجارب النضالية المحلّية بالعالمية، قد انسحب اليوم إلى دوائر النشر والمؤتمرات أو ذاب في وحل المؤسسات الليبرالية. لم يعد يرى في عيد الشغل مناسبة للاحتكاك بالمهمّشين، بل يوما للتغريدات أو المقالات التي لا تُقرأ إلّا بين النخب. وهكذا، انقطع الخيط بين النظرية والممارسة، بين التحليل الماركسي وحياة العامل اليومية. إنّ الابتعاد عن القاعدة العمالية لا يعني فقط العزلة الأكاديمية، بل يعني أيضا ترك المجال مفتوحا أمام الخطابات الشعبوية أو الرجعية لتملأ الفراغ. وعندما يغيب المثقف التقدمي، يحتلّ مكانه وعّاظ السوق، وأنبياء التنمية البشرية، ومنظّرو "روح المؤسسة". يقول غرامشي: "كلّ إنسان مثقف، لكنّ المهم أن يكون مثقفا عضويا، مرتبطا بكتلة اجتماعية، لا منفصلا عنها." المثقف الحقيقي ليس من يتكلّم باسم العمّال، بل من يُعيد إليهم لغتهم. ليس من يكتب عنهم فقط، بل من يكتب معهم وضدّ من يستغلّهم. وما لم تعد العلاقة بين الفكر والعمل، بين النظرية والشارع، فإنّ الطبقة العاملة ستُترك عارية أمام الآلة الأيديولوجية للسلطة.
10. غياب الوعي الطبقي ونتائجه المدمرة .
إنّ غياب الوعي الطبقي لدى العديد من القطاعات العمالية كان له دور أساسي في انحسار الطابع الثوري لعيد الشغل. ففي عالم تتسارع فيه وتيرة العولمة النيوليبرالية، يتمّ تشتيت الفئات العاملة عبر سياسات التفتيت الطبقي، وتفكيك الهوية المشتركة للطبقة العاملة، مما يسهّل على رأس المال أن يروّج لرؤيته الاقتصادية الاجتماعية التي تهمّش قضايا العمال وحقوقهم. الوعي الطبقي ليس مجرد معرفة نظرية، بل هو ممارسة عملية تقوم على فهم مصالح الطبقة العاملة ككل، وتحديد مكانها في هيكل النظام الرأسمالي. ولكن هذا الوعي لا يزال في كثير من الأحيان غائبا، سواء بسبب القيادات النقابية التي لم تعد تمثل العمال بل أصبحت جزء من جهاز الدولة، أو بسبب التراجع المستمر للطبقة العاملة في مجال التعليم والتكوين السياسي. بغياب هذا الوعي، أضحى عيد الشغل مناسبة للاحتفال بهيمنة القوى المالية والاقتصادية بدلا من أن يكون يوما للتمرد، للتحرك من أجل حقوقنا. أصبح العمال يتجهون نحو الحلول الفردية، مما يُفضي إلى تفتيت الحركة العمالية، ويتعذّر تكوين جبهة واحدة لمقاومة الاستغلال. والنتيجة هي أن جزءا كبيرا من الطبقة العاملة يظل في دوامة من القهر، وتستمر حالة التفكك التي يسعى النظام الرأسمالي إلى تعميقها. يقول لينين: "من دون وعي طبقي، لا توجد قوة دافعة حقيقية للثورة، فالعمال الذين لا يعرفون مكانهم في النظام الرأسمالي سيكونون أدواته بيدهم دون وعي." ولذلك، فإنّ إعادة بناء الوعي الطبقي في صفوف العمال ليس ترفا فكريا، بل هو ضرورة استراتيجية لاستعادة دور هذا العيد الثوري. لا بد من التذكير بأنّ الوعي هو الذي يعطي التحركات العماليه الزخم، وهو الذي يجعل من يوم الأول من ماي يوما للثوار، لا لموظفي الدولة.
11. العوامل الاقتصادية المؤثرة في تدهور عيد الشغل .
لا يمكننا أن نتجاهل التأثيرات الاقتصادية الكبرى التي أدّت إلى تدهور عيد الشغل، وذلك في سياق التراجع الحادّ في الأوضاع المعيشية للعمال. فقد شهدت تونس، كما العديد من البلدان النامية، تدني مدقع للأجور ، وزيادة مطردة في معدلات البطالة، وتدهورا في القطاعات الإنتاجية الأساسية، مما جعل الطبقات الشعبية تتحمّل العبء الأكبر من الأزمة الاقتصادية التي فرضتها السياسات النيوليبرالية. أدت هذه السياسات إلى خلق فوارق طبقية عميقة، وزيّنت الرفاهية للأغنياء بينما زادت فقر الفقراء، وأصبحت الطبقات الشعبية تكافح من أجل الحد الأدنى من الحياة. أصبح عيد الشغل بالنسبة للكثيرين مجرد ذكرى للماضي الثوري الذي أصبح بدوره غير ذي جدوى في ظل هذا الوضع الاقتصادي المزري. إن الأوضاع الاقتصادية لم تؤثّر فقط على قدرة العمال على الاحتشاد في المسيرات والمظاهرات، بل أنها أدّت أيضا إلى تعميق الشعور بالانكسار لدى العامل العادي الذي فقد الثقة في إمكانية تغيير الأوضاع. يصبح المطلب العمالي في مثل هذه الأوقات محصورا في مجرد تحسين الأجور أو تقليص ساعات العمل، وهو ما يُنظر إليه على أنّه انتصار ضئيل مقارنة بالقضايا الأكثر شمولية وتحررا. ولكن الواقع يفرض اليوم على الطبقة العاملة التعلّم من تجارب الماضي. في عصر تراجع الإنتاجية العمالية، حيث لا يُقدّر العمل على حقيقته، يجب أن يُستعاد التحليل الاقتصادي العميق الذي يربط بين الاستغلال الرأسمالي والفقر المستمر. إن عيد الشغل يجب أن يُغذى بحركة اقتصادية مناهضة، تدعو إلى إعادة توزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية. يقول روزاليو كاسترو: "يجب أن نتحد معا، لا لتحقيق حقوقنا الجزئية، ولكن لخلق مجتمع جديد تُقدّر فيه كرامة الإنسان أكثر من أرباح رأس المال."
إنّ عيد الشغل لم يُخلق ليكون يوما للزينة الطبقية، ولا مناسبة لتعليق أعلام الدولة على أبواب المعامل المغلقة. لقد وُلد من رحم الصراع، من فم الرصاص، من أنين السواعد التي سُحقت على آلات الإنتاج. وُلد لأنّ النظام الرأسمالي لم يكن يوما سخيا، بل كان دائما يقدّم الفتات مقابل الطاعة، ويُسلّم الحقوق مُجزّأة، فقط حين يُجبر على ذلك. و اليوم، حين نُقارن ما كان عليه الأول من ماي زمن الحراك النقابي العارم، بما هو عليه في راهننا، نجد أنفسنا أمام صورة شبحية لعيد كان يوما جمرا في يد الجماهير، فصار وردة ذابلة على مكاتب البيروقراطيات. إنّ الاستلاب الذي تعرّض له هذا العيد هو جزء من الاستلاب العام الذي تعيشه الطبقة العاملة، حيث تمّ تفكيك ذاكرتها، وتعليب غضبها، وتدجين نخبها. ولذلك، فإنّ مهمة اليسار الحقيقي اليوم لا تكمن فقط في "إحياء" عيد الشغل، بل في تفجيره رمزيا من داخله: أي استعادة معناه الثوري، إعادة ربطه بالتاريخ العمالي العالمي، تحويله إلى يوم غضب واحتجاج، لا مهرجان إعلامي. لا بدّ من مساءلة النقابات، ومن فضح انتهازية بعض قياداتها، ومن دفع القواعد إلى استرجاع المبادرة. كما لا يمكن لهذا العمل أن ينجح دون إعادة المثقّف التقدّمي إلى موقعه الطبيعي: إلى الصفوف الأمامية، حيث الصراع حيّ، والوعي يتشكّل من حرارة الميدان، لا من برودة التنظير الأكاديمي. المثقف الذي لا يُخاطب العامل، ولا يحاور الحركات الاجتماعية، هو صوت بلا صدى، وفكر بلا طائل. إنّ الحلم بعيد الشغل لا يزال ممكنا، لا كذكرى بل كحدث متجدّد، لا كتمرين شكلي بل كمعركة وعي. فلا حرية بدون عدالة اجتماعية، ولا عدالة دون صراع، ولا صراع دون وعي طبقي مُسلّح بالتاريخ، بالنظرية، وبجرأة الحلم. يقول إرنستو تشي غيفارا: "الثورة ليست تفاحة تسقط حين تنضج، بل عليك أن تجعلها تسقط." فلنجعل من عيد الشغل تفاحة غضب تُسقط هذا النظام الطبقي، لا بطاقة تهنئة تُزخرف وجهه. يقول تروتسكي: "الثورة ليست هدفا بل عملية مستمرة، وكلّ يوم هو فرصة جديدة لإحياء الشعلة.".
فلنجعل من عيد الشغل، إذن، شعلة للثوار، لا مجرد مناسبة للتذكّر.
#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحداثة وما بعد الحداثة بين ديكتاتورية البرجوازية وخيانة الت
...
-
مراجعة مجلّة الشّغل التّونسية: بين تعزيز الاستغلال الرّأسمال
...
-
نساء بلادي أكثر من نساء و نصف
-
النّضال من أجل الدّيمقراطية والحرّيات العامّة والخاصّة
-
الدولة البوليسية المعاصرة
-
إرهابيّ أنا
-
حاسي الفريد / ما يشبه القصّة
-
المركزية الديمقراطية
-
عالم يُنتج وآخر يستهلك: الثورات الصناعية الاربعة
-
الصهيونية العربية: خيانة الداخل وخنجر في خاصرة الأمة
-
ملمّ بي
-
اسم الهزيمة
المزيد.....
-
استعلم عن راتبك الآن.. الاستعلام عن رواتب المتقاعدين شهر ماي
...
-
تأخير الصرف..طريقة الاستعلام عن رواتب المتقاعدين مايو 2025 ف
...
-
النسخة الألكترونية من العدد 1847 من جريدة الشعب ليوم الخميس
...
-
الصندوق الوطني المغربي يكشف عن موعد زيادات معاشات المتقاعدين
...
-
عيد العمال في فلسطين.. بطالة متفاقمة واقتصاد منهك ومطالب بعد
...
-
المرصد العمالي الأردني: استمرار السياسات الاقتصادية الراهنة
...
-
المرصد العمالي الأردني: استمرار السياسات الاقتصادية الراهنة
...
-
المبادرة تصدر ورقة موقف عن قانون العمل الجديد: ندعو رئيس الج
...
-
تقرير يكشف الفجوات الحرجة بين الجنسين في سوق العمل والدخل با
...
-
-الإحصاء-: معدلات البطالة في غزة 68% وفي الضفة 31%
المزيد.....
-
الفصل السادس: من عالم لآخر - من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الفصل الرابع: الفانوس السحري - من كتاب “الذاكرة المصادرة، مح
...
/ ماري سيغارا
-
التجربة السياسية للجان العمالية في المناطق الصناعية ببيروت (
...
/ روسانا توفارو
-
تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات
/ جيلاني الهمامي
-
دليل العمل النقابي
/ مارية شرف
-
الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا
...
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
مجلة التحالف - العدد الثالث- عدد تذكاري بمناسبة عيد العمال
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
نقابات تحمي عمالها ونقابات تحتمي بحكوماتها
/ جهاد عقل
-
نظرية الطبقة في عصرنا
/ دلير زنكنة
-
ماذا يختار العمال وباقي الأجراء وسائر الكادحين؟
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|