|
قراءة تفكيكية في رواية - ورقات من دفاتر ناظم العربي - لبشير الحامدي.
رياض الشرايطي
الحوار المتمدن-العدد: 8370 - 2025 / 6 / 11 - 12:31
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
في وطن عربي يموج بالتمزقات والانهيارات، حيث تصبح اللغة مرآة لعطب الذاكرة، والرغبة علامة على فشل التاريخ، تأتي رواية "ورقات من دفاتر ناظم العربي" كصرخة فردية حادة، لكنها في جوهرها تعبير عن وعي جمعي مكسور، يكتب لا ليحكي، بل ليفضح، لا ليطمئن، بل ليثير الذعر في حقل المعنى. إنها ليست رواية، بل سجل ألم ومرآة انهيار وأجندة بوح ما بعد الخسارة، حيث تتشابك الذوات، وتتهشّم الانتماءات، وتنهار الحدود بين الخاص والعام، الذاتي والوطني، الشعري والسياسي. الرواية، في نسيجها، تشتغل على حافة الأجناس، متحررة من السرد الخطي، ومن الوحدات الكلاسيكية للحدث، ومن منطق الحكاية. إننا أمام كتابة تقاوم التنميط، تكتب من الحافة لا من المركز، وتصرّ على تفكيك كل ما يُؤمن به القارئ المطمئن: الوطن، الثورة، الحب، اللغة، الذاكرة. إنها كتابة لا تُخاطب القارئ، بل تعرّيه. وكما قال إيتالو كالفينو: "الرواية الجيدة تطرح علينا من الأسئلة أكثر مما تعطينا من الأجوبة." وهنا، في هذه الورقات، ليس هناك وعد بالحقيقة، بل غوص في متاهتها، كما لو أن الكاتب – تمامًا كما عبّر إميل سيوران – "يريد أن يفكر كما يُصاب أحدهم بالحمى". ورغم أن الرواية تبدو، في ظاهرها، شذرات من ورقات شخصية، إلا أنها في حقيقتها تحقيق فلسفي شعري سياسي في معنى أن تكون تونسيا بعد الثورة، أن تكون رجلا محبا بعد الخيانة، أن تكون كاتبا بعد فشل الأيديولوجيات، أن تكون ابنا لأب استرجع أرضه ليحولها إلى مقبرة، أن تكون ذاتا تتكلم بلغة خانتك. هكذا، يتقدّم النصّ كاعتراف طويل لذات لا تريد أن تتطهر، بل فقط أن تشهد، كما لو أن الكاتب يحملنا إلى غرفة الإنعاش لا ليعالجنا، بل ليقول لنا: أنتم مرضى مثلي... فلنكتب معا جنوننا. وفي هذا السياق، تستحضر الرواية مقولات ومرجعيات كبرى، من هوميروس إلى كافكا، من سيزيف إلى درويش، من نيرودا إلى أمل دنقل، لا كزينة ثقافية، بل كخرائط سردية تؤكد تقاطع الشخصي بالجَمعي، والأسطوري بالواقعي، والروحي باليومي. هي رواية لا تُكتب لتُروى، بل لتُفكَّك. رواية، كما أراد جورج لوكاش للرواية الحديثة، أن تكون "شكلا أدبيا يعكس أزمة الإنسان الحديث"، وتضيف عليها "شكلا يعبّر عن تشظي الذات العربية في مواجهة ذاتها قبل واقعها". ●المقطع التمهيدي ما قبل فصول الرّواية: في ما قبل الفصل الأول من رواية "ورقات من دفاتر ناظم العربي"، نقف أمام كتابة ليست تمهيدا تقليديا للأحداث، بل هي عتبة وجودية شديدة التكثيف، تُمثل خلاصات شعورية وفكرية تتجاوز مجرد افتتاح السرد. الكاتب هنا لا يبدأ من الحكاية بل من عجز الحكاية عن أن تكون، من انهيار مفهوم "البداية" نفسه. فالسؤال المحوري الذي يطرحه السارد: "هل سأقدر حقّا على التقدم وأنا أبدأ من حيث توقّف كل شيء وصار أشبه بالمتاهة؟" لا يعكس حيرة تقنية حول ترتيب السرد، بل يعرّي أزمة جيلية ـ وطنية ـ فكرية ممتدة. إن ما قبل الفصل الأول هو زمن ما بعد الانكسار، هو كتابة تنطلق من نقطة تعذّر البداية، من هشاشة الذات، ومن الشك حتى في مشروعية الحكي ذاته. إننا أمام شخصية ترى أن الكتابة ليست تجميلا ولا ترصيفا لغويا، بل هي مواجهة حقيقية مع ركام الذاكرة والتاريخ، مع الصمت، مع الحقيقة المدفونة في غبار التناسي. هذه البداية تُنبئنا بأننا سندخل إلى حقلٍ لا يستقبل القارئ بل ينسفه، لأن الكاتب يرى في ذاته لا راوٍ للحكاية، بل كائنا يعيش على تخوم الانفجار، تمامًا كما يصف فعل الكتابة بقوله: "الكتابة حقل ألغام تسير إليه بنفسك وما أن تطأه حتى تصبح الاستراحة حلما من أحلامك." وما يجعل هذا المقطع التمهيدي بالغ الأهمية، هو إدراجه لبعد طبقي/سياسي حميمي جدا عبر استدعاء شخصية الأب الذي كان يطفئ الراديو كي لا يسمع أخبار "التعاضد" و"الاشتراكية الدستورية"، إذ تتسلل إلينا من خلال هذه الصورة خيبة جيل بكامله، جيل الفلاحين الذين خُدعوا بشعارات الثورة الاجتماعية، ثم نُزعت منهم أراضيهم، وأُعيدت إليهم لاحقًا في صورة خراب ومقابر. هنا نلمس كيف أن الرواية تُؤسّس منذ بدايتها لجدلية الزمن والخذلان، السياسة والذاكرة، الذات والعائلة. في الحقيقة، ما قبل الفصل الأول ليس فقط تمهيدا لرحلة السرد، بل هو موقف من العالم. إنه إعلان عن كتابة تنبع من الخسارة لا من الامتلاك، من الجرح لا من الصياغة، من الرغبة في أن يُعاد تسمية الأشياء لا وفق ما تقوله المؤسسات بل ما تقوله التجربة الفردية. وكأن هذا التمهيد يصرخ كما صرخ غاستون باشلار: "لا يمكننا أن نبدأ من الصفر، بل علينا دائما أن نبدأ من الجرح." وهكذا، يرسم ناظم العربي في هذا المطلع معالم عالم مهدوم، لا يملك من أدواته سوى الكتابة كأمل أخير في إيقاف التصدع، حتى وإن كانت الكتابة نفسها "فخّا"، أو كما يقول: "من يكتب هو كمن يفجر الألغام". لذا فهذه العتبة ليست مدخلا فقط، بل هي عتبة النار الأولى التي تعلّمنا أن هذه الرواية ليست ملاذا، بل طريق ألم نحو شيء يشبه الحقيقة. 01: اللغة والأسلوب — شعرية التفكك وبلاغة الخراب. إن اللغة في رواية "ورقات من دفاتر ناظم العربي" ليست مجرد أداة للتعبير أو وسيلة لنقل الحكاية، بل هي كيان حيّ، يتنفس ويتألم ويصرخ. إنها لغة مُشرّبة بالدم والرماد، تسكنها الشكوك وتُحركها الهزائم، وتنبثق من فوهات ذاكرة جماعية مكسورة. الأسلوب الذي ينتهجه بشير الحامدي هنا ليس أسلوبًا تقليديًا يؤمن بوظيفة اللغة كوسيط، بل هو أسلوب يعيد تشكيل اللغة نفسها لتغدو معولا يحفر في الذاكرة. منذ افتتاح الرواية نقرأ: "الكتابة ليست جملا متراصة... هي تفجير ألغام..." . هذه العبارة ليست مجازا بل إعلان حرب: الكتابة ليست أداة جمالية بل ممارسة مقاومة. ليست تقنية بل فلسفة. هي، كما وصفها أدورنو، "محاولة مستحيلة للتعبير عن الألم بلغة لا تحتمله". وهنا، تقف اللغة على حافة الجنون، كأنها تسعى لتفكيك ذاتها بنفسها. العبارات التي يختارها ناظم تشبه النبض المتقطع لقلب لا يريد أن يموت رغم نزيفه: "العدم فينا، وليس في ما حولنا... نحن فقط متوقفون عن الحياة". تحتشد الرواية بأفعال لغوية تنزف. الكلمات ليست رموزا للمعنى، بل جراحًا تتكلم. الاستعارات حادة كالشفرات: "المحاضر تنزف"، "الدفتر يختنق"، "الورقة تصرخ"... كل شيء يئن. اللغة تصوغ عالما مريضا، لا لتمجّده، بل لتكشف علّته وتفضحه. يميل الأسلوب إلى التقطيع. الجمل قصيرة، تنهش، تتردد. لا نثر سلس بل نثر مفكك. يشبه الشذرات. كما لو كنا أمام كتابة نيتشوية أو كافكوية، حيث لا انسجام بل تعارض. وكما قال نيتشه: "أنا لا أكتب، بل أهاجم". هنا أيضا، ناظم لا يكتب ليسرد بل ليقاوم. التوتر الأسلوبي يعكس حالة الداخل المنهك. إنه أسلوب اللاطمأنينة. لا يمنحك سياقا مريحا، بل يدفعك إلى التوتر، كما لو أن الكاتب يريد من القارئ أن يتعذّب معه. وهذا ما أشار إليه فالتر بنيامين عندما وصف الكتابة الثورية بأنها: "استدعاء قسري للقلق الجماعي". تُستخدم اللغة هنا بوصفها ساحة اشتباك لا فقط بين الشخصيات، بل بين الكاتب ونفسه، بين الثورة وخيبتها، بين الجسد والرمز. النص يتحرك بين لغتين: لغة قاتمة تحلل وتتفلسف، ولغة شعرية شبقية تتسلل في لحظات حب أو ذكرى، مثل: "أيّتها المرأة، أشتهي أن أصنع من ثياب نومك شراعًا لزورق آخر الليل...". إنها كتابة مشبعة بتلك الطاقة التي تحدّث عنها سارتر حين قال: "الكاتب يلتزم حين تصبح اللغة فعلا". واللغة في هذه الرواية لا تنقل الواقع، بل تشارك في صنعه، أو بالأحرى في تفجيره وإدانته. في الوقت نفسه، اللغة تنزاح عن وظيفتها المعجمية نحو بناء مشهدي داخلي: الجمل ليست فقط ما يُقال، بل ما يُشعَر به. حين يقول ناظم: "أشعر أن جسدي صار دفترا مهترئا"، فهو لا يستخدم المجاز كزينة بل كإدانة للواقع. إن الجسد هنا ليس حاملا للمعنى بل وثيقة إدانة ضد التاريخ. نلمس أيضا ما يشبه السخرية السوداء، التي تحوّل الحزن إلى احتقار ضمني لما يحدث. وكأن اللغة تحاول أن تُحطّم السلطة لا فقط بالمعنى، بل بالسخرية منها: "حين يدخل المحقق، تموت البلاغة وتبدأ البصقة". وهذه السخرية لا تنبع من خفة، بل من عجز طويل. هي ما وصفه ماركوز بـ"الغضب المقنّع". لغة تُضحكنا لأنها لا تملك أن تبكينا أكثر مما فعلت. كما تتكرر مفردات تُحيل إلى بنية سردية ذات علاقة بموت المعنى: مثل "محضر، قبو، أرشيف، لغم، شهادة، نسيان، دفتر، صمت، رطوبة"... مفردات ترتبط بنظام معرفي قاتم، تنتج إحساسا بالتآكل لا بالحكي. اللغة في الرواية أيضا تتقاطع مع مفاهيم ميشال فوكو حول "اللغة والسلطة"، فهي لا تكتفي بالكشف عن العنف، بل تنقله داخل بنية الجملة. اللغة ذاتها تحمل البنية القمعية التي تسعى الرواية إلى فضحها. الجمل مشحونة بطبقات السلطة. وفي هذا السياق، فإن كتابة ناظم ليست تأريخا ذاتيا، بل مقاومة سردية. إن ما يفعله ناظم هو ما وصفه بول ريكور بـ"كتابة الذاكرة المعارضة"، حيث يصبح السرد ساحة للصراع بين الذاكرة الفردية والرواية الرسمية. بذلك، فإن الأسلوب في "ورقات من دفاتر ناظم العربي" لا يمكن اختزاله في فصاحة أو بلاغة، بل هو شكل من أشكال النضال. إنه أسلوب غاضب، محموم، غير مستقر، لأنه يكتب من منطقة الزلزال لا من مقاعد النقد الأكاديمي. إنه أسلوب من لا يملك ترف الحياد. كما قال إيميه سيزار: "حين يتكلم المستعمَر، فإن لغته تصرخ أولا ثم تفكّر لاحقا". وفي هذه الرواية، فإن اللغة تصرخ كثيرا، وتفكّر دوما، ولا تتوقف. 02: البناء — ضد الحبكة الكلاسيكية، مع هندسة الذاكرة والتشظي. رواية "ورقات من دفاتر ناظم العربي" لا تخضع للتراتبية التقليدية في السرد. لا بداية واضحة، ولا وسط، ولا نهاية. لا تصاعد درامي نحو ذروة، ولا خاتمة حاسمة. نحن أمام بنية سردية متشظية، تتقصّد أن تبدو وكأنها محطّمة، لأن الوعي نفسه محطّم، والذات التي تكتب لا تملك إلا الحطام لبناء نصها. "هل سأبدأ حكايتي بأحداث ربما لا تصلح أن تكون بدايات؟". هذا التساؤل يفضح بنية الارتباك البنيوي في الرواية، ويضع القارئ مباشرة في مأزق: هل نحن إزاء سيرة؟ رواية؟ دفاتر؟ أم مجرد شظايا؟ في الواقع، الشكل المتشظي هو في ذاته موقف أيديولوجي وجمالي. لأنه يرفض فكرة التسلسل الذي يوهم بأن هناك معنى جاهزا أو نهاية مرتقبة. الرواية تشتغل كما لو أنها تنقّب في ركام الذاكرة، لا ترتبه. هذا البناء يذكّر بما أسماه فالتر بنيامين "التاريخ كأنقاض متراكمة"، لا كزمن خطي. كل "ورقة" في الرواية هي أثر، بقايا، شظية، لا يمكن فهمها إلا عبر علاقتها ببقية الشظايا. لا توجد مركزية حكائية. بل يوجد مركز شعوري/أخلاقي هو ناظم، الذي لا يقدّم لنا الحكاية، بل يقدّم "الحطام الداخلي للحكاية". يشبه هذا البناء أيضا ما سماه رولان بارت بـ"النص المتشظي"، حيث تتجاور أشكال سردية مختلفة: تقرير، شعر، حوار، مونولوج، ذكريات، إدانة، رسالة، محضر تحقيق... كل هذه الأشكال موجودة داخل الرواية، ويتحول تنقلها من واحد إلى آخر إلى فعل تمرد ضد الحبكة المستقرة. نحن أمام رواية تفتك من القارئ أفق التوقع، وتدخله في منطقة ارتياب. فكما قال جورج طرابيشي عن أدب ما بعد النكسة: "إن الرواية تفقد تماسكها حين يفقد الواقع معناه". وهذا بالضبط ما يحصل هنا. فالثورة، الحزب، الرفاق، الحبيبة، الوطن، الذاكرة... كل شيء قد تصدّع. لذلك، البناء لا يمكن إلا أن يكون متصدّعا. إن الانتقال بين الورقات يُشبه حركة المونتاج في السينما الطليعية: القطع المفاجئ، التنقل بين أزمنة وأمزجة، كأن الرواية لا تُقرأ بل تُشاهد كمقاطع مصورة داخل دماغ محترق. وهذا الشكل يدفع القارئ لا للمتابعة فقط، بل لإعادة بناء المعنى بنفسه. إنه كما قال ساراماغو: "على القارئ أن يعيد تأليف الرواية داخل نفسه". أخيرا، لا يمكن اعتبار هذا البناء مجرد ترف جمالي أو تلاعب بنيوي. بل هو ضرورة سردية نابعة من طبيعة التجربة المعيشة: تجربة المناضل الذي يعيش بعد الثورة، لا خلالها. من يكتب لا يصوغ بطولات، بل يرثي أطلالها، يفتش بين أوراق المحاضر، وحفنة دفاتر متعفنة في قبو حياته الشخصية والسياسية. الرواية في بنيتها تعلن أن الزمن غير كافٍ، وأن الحكي التقليدي لا يمكنه أن يلمّ شتات الروح. ولذلك، فإن "الورقات" هي محاولات فاشلة للكتابة الكاملة. لكنها، رغم فشلها، تصير أكثر صدقًا، لأنها لا تتخفّى خلف شكل محكم، بل تكشف جراحها. كما قال خورخي لويس بورخيس: "الكتاب الحقيقي هو الذي لا ينتهي، لأنه لا يستطيع أن يقول الحقيقة كاملة". ورواية ناظم العربي هي هذا الكتاب غير المكتمل، المتشظي، المنكفئ على نفسه، لأنه يكتب من داخل الرماد. 03: الشخصيات — تشريح الذات المهزومة والمجتمع المختل. تنهض رواية "ورقات من دفاتر ناظم العربي" على منظومة شخصيات معقّدة، لا تُبنى ككائنات درامية جامدة، بل ككائنات مفككة تعيش ارتجاجات التاريخ والجسد والهوية. لا توجد شخصية واحدة مكتملة، بل كل الشخصيات تحمل انكسارًا داخليًا يجعلها أكثر صدقا وأقرب إلى الحقيقة الإنسانية. وكما يقول دوستويفسكي: "الشخصيات الحقيقية هي التي تعاني التمزق". ▪︎.ناظم العربي: المثقف المهزوم الذي لم يسكت: ناظم هو محور الرواية وأساس بنائها الأخلاقي، لا بوصفه بطلا تقليديا، بل بوصفه شاهدا على الهزيمة. هو امتداد لخيبة اليسار العربي بعد موجات السجن والمنفى والنكوص، لكنه لا يسقط في الصمت، بل يكتب. وكما قال إدوارد سعيد: "المثقف الحقيقي هو من يُقلق لا من يُرضي". ناظم يقلق الجميع: السلطة، الرفاق، الذات، الحب، الثورة. هو شخصية كتبت نفسها من الرماد. لم ينتصر، لكنه لم يخن. لم يتكلم، لكنه دوّن. يمثل نموذجًا للمناضل الذي لم يتكيّف مع الواقع الجديد، فاختار الهامش والدفتر والمقهى مكانًا لمواصلة معركته الصامتة. يعيش مأساة المثقف الذي لم يُهزم بالسجن بل بما بعد السجن. "أنا الذي فشلت في كل شيء، إلا في أن أكون شاهدا". هذه العبارة تلخص فلسفة ناظم: أن تكتب يعني أنك لم تمت بعد. أن تكون شاهدا في زمن الإنكار والانبطاح هو فعل نضالي حقيقي. إنه أقرب ما يكون إلى ما وصفه أنطونيو غرامشي بـ"المثقف العضوي في مواجهة الانحلال الجماعي". ناظم لا يمثّل النقاء ولا البطولة، بل التمزق. تاريخه العاطفي والسياسي مليء بالخيبة: حب فاشل، رفاق خانوه، ذاكرة محاكم ومحاضر تحقيق. لكنه يحتفظ بجمر داخلي، لا يزال يحترق على الورق. ▪︎.خنتوش المرعي: الجسد المُعذَّب والذاكرة المغتصبة: خنتوش ليس شخصية ثانوية بل مرآة مشروخة لناظم نفسه. عاشا نفس الزمن، لكن خنتوش استسلم مبكرا، وخضع. هو حارس، عساس، فم مفتوح في حانة، عيون مطفأة في المقاهي. تاريخه العائلي مليء بالقهر: زوجته اغتصبها بوراوي، فماتت، فمات داخله كل شيء. هو ما سمّاه فانون "العبد الذي يرث غضب سيده لكنه لا يعرف أين يوجّهه". خنتوش يعيش تحللا ذاتيا لا يُقاوَمه، يميل إلى الشذوذ الجنسي، لكنه لا يعلن ذلك في فرح، بل في أسى. الجنس لديه هو تعبير عن انهيار لا عن رغبة. خنتوش لا يملك هوية، بل بقاياها. "ضحكته كانت تشبه نباحا متقطعا، كرجل لم يعد يثق حتى في صوته". يمثل خنتوش نموذجا حيّا لما أشار إليه هربرت ماركوز حين تحدث عن "الإنسان أحادي البُعد الذي يسكنه القمع ولا يدرك حتى حاجته للتحرر". إنه صورة منسية للمواطن التونسي المُعذّب، الذي استبطن القهر وتحول إلى توافه، لكنه في أعماقه لم ينسَ الجرح الأول. ▪︎.بوراوي: الشبح الذي لا يُرى ويُخيف الجميع: سي بوراوي، وكيل الأمن، هو التجسيد الفجّ للدولة العميقة. لا يظهر كثيرا، لكنه حاضر في كل سطر، في كل كابوس. بوراوي لا يتحدث كثيرا، لكنه يُراقب. لا يفعل، بل يُلوّح. يمثل البنية القمعية التي لا تسقط بسقوط الحكومات. "بوراوي لا يُقال له لا. حتى حين يطلب قتلك، يُفترض أنك موافق ضمنا". هذا التوصيف يجعله أشبه بما وصفه ميشال فوكو عن السلطة الحديثة: "السلطة التي لا تحتاج إلى ممارسة العنف لأنها تزرعه داخل الأجساد". بوراوي لا يمارس القمع الجسدي فقط، بل القمع الرمزي. إنه جزء من الذاكرة الوطنية المسمومة. هو المسؤول عن محضر دلال، عن اغتصابها، عن موتها، عن تحويل خنتوش إلى مسخ. وهو سبب سكوت ناظم، لأن كل ثورة تمر من أمام هذا الاسم دون أن تلمسه. إنه "الدولة التي لا تُحاسَب". ▪︎.شخصيات أخرى: أطياف الوجع الثانوي: •.الأناركي: المثقف الذي اختار الانسحاب. يطرح أفكارا جذرية، لكنه لا يشارك. يمثل ما وصفه سارتر بـ"الواعي العاجز". •.المرأة الغجرية: صورة الحب الضائع الذي لا يكتمل. جسد حاضر في الذاكرة، غائب في الواقع. •.الصحفية: تمثل الحنين للحقيقة، لكنها مشلولة في مكاتب التحرير. كل هذه الشخصيات ليست تكميلية، بل تمثل خطوطا متقاطعة من وجع واحد: وجع الخيانة، النكوص، العجز، الصمت. ولذلك فإن الرواية لا تحتفل بالشخصيات بل تُعريها. كما قال برتولد بريشت: "ليست الشخصيات من يصنع الحبكة، بل التناقضات داخلهم". وفي هذه الرواية، كل شخصية هي مساحة توتر، وكل شخصية تنهار ببطء، وكل واحدة تفضح جزءًا من المأساة التونسية والعربية بعد الثورة. 04: الأحداث — تشريح الذاكرة بين القمع والوهم والمحو. أحداث رواية "ورقات من دفاتر ناظم العربي" لا تتطور في منحنى كرونولوجي تقليدي، بل تتداعى مثل شظايا ذاكرة مفخخة. لا توجد عقدة درامية واحدة، بل شبكة من المحطات المتقطعة، التي تتناوب فيها السجون، المحاكم، الهزائم الشخصية، علاقات الحب المعطوبة، الخيانة، والخذلان الجماعي. الحدث المحوري ليس الاعتقال ولا الثورة، بل الذاكرة ذاتها. الذاكرة كمعركة يخوضها ناظم ضد النسيان، ضد الصمت الجماعي، ضد الحذف المتعمد. وكما كتب فالتر بنيامين: "كل وثيقة حضارة، هي أيضًا وثيقة همجية"، فإن أحداث هذه الرواية توثّق للهمجية التي مورست ضد الجسد والوعي معا. "حين اعتقلوني لم أفهم ما يحدث. لكن الورقة كانت تفهم. كانت ترتجف قبلي". هذه الجملة تلخص تماما كيف تصبح اللغة، والورقة، والكتابة، حاملة للصدمة. فالفعل البوليسي لا يُقرأ فقط كواقعة بل كحدث رمزي. الاعتقال يُفتح في الرواية على جميع أشكال الانتهاك: الجسدي، الرمزي، الجنسي، النفسي، الثوري. تبدأ الأحداث من لحظة اعتقال ناظم، ولكنها لا تسير قدما، بل تعود باستمرار إلى لحظات ماضية: -السجن الأول. -دلال التي تم اغتصابها. -اللقاءات المهزوزة مع الصحفية. -انهيار علاقة الحب الغجري. -انتحار الرغبة في الفعل. كل هذه الأحداث لا تُقدَّم بوصفها وقائع بل كاستعادات مشوشة. وكما قال بول ريكور: "الحدث في الذاكرة ليس إعادة لما جرى، بل بناء سردي لما كان يجب أن يُروى". والرواية هنا تشتغل في هذا الهامش: لا تروي الماضي، بل تعيد كتابته كتهمة. إن تسلسل الأحداث يُكسر باستمرار، لصالح تموّجات شعورية متوترة. هناك مشهد لاستدعاء في مركز الأمن، يتلوه مباشرة مشهد غرامي، ثم مشهد لاحتجاج عمالي، ثم ذكرى لمحضر تعذيب... كل ذلك يتم بلا تمهيد. وهذا ما يجعل من الرواية قطعة فسيفساء لا يمكن قراءتها إلا دفعة واحدة أو عبر إعادة التركيب الذاتي. "الثورات تأكل مفجّريها إذا ما توقفوا...". هذه الجملة ليست فقط تأريخًا للخيانة، بل صياغة فلسفية لزمن ما بعد الثورة. فالثورة لم تكن لحظة خلاص، بل لحظة عُري. وسرعان ما عادت أدوات القمع القديمة، ولكن بأقنعة جديدة. من الأحداث المفصلية أيضًا، قصة دلال، التي تُغتصب على يد وكيل الأمن، ثم تُحذف من الرواية مثلما حُذفت من الواقع. لا أحد يدافع عنها، ولا أحد يتذكرها، إلا ناظم وخنتوش. كأن جسدها الممزق أصبح شاهدًا على جريمة دولة بأكملها. وكما قالت سيمون دي بوفوار: "جسد المرأة هو أول أرض تحتلها السلطة". أما حدث كتابة المحاضر، فهو يتكرّر كأنما هو الطقس المقدّس للنظام. تملأ الدولة الفراغات، تفرض على الكلمات أن تكتب اعترافات لم تقع، وتُجبر الجسد أن يعترف بما لم يفكر فيه حتى. وفي كل مرة يُعتقل ناظم، لا يبحث عن الحرية، بل عن خلاص داخلي عبر الكتابة. مشهد المقاهي هو أيضا حدث سياسي بامتياز. المقهى ليس مجرد فضاء عام، بل فضاء محايد يتم فيه تدجين النقاش، ترويض الوعي. حتى حين يتحدث الرفاق، فإن كلامهم مشوّه، محاط بالشبهات، مراقب من كاميرا خفية تُدعى "العسس". وهكذا تتشكّل أحداث الرواية عبر ما يمكن تسميته بـ"المنعطفات الصامتة": حدث لا يُعلن عنه، لكنه يُخيف (كالتهديد، كالغريزة، كالموت النفسي). حدث تافه في الظاهر، لكنه يُفجّر شعورا كامنا (ككوب قهوة مسمومة بذكرى). حدث لم يقع، لكن الرواية تكتبه بوصفه يجب أن يقع (كثأر دلال، كاعتراف بوراوي، كنجاة ناظم). الرواية لا تبني الأحداث لتمنحنا متعة الاكتشاف، بل لتضعنا في مواجهة مع عجز الحكاية ذاتها. فكل حدث هو صدمة غير مكتملة. وكما قال روبيرتو بولانيو: "الروايات العظيمة هي التي تترك حدثها معلّقا في الهواء، لأن الواقع لا يهبط أبدا إلى الأرض". نحن لا نعرف مثلا إن كان ناظم اعتُقل حقا، أو أنه يستعيد اعتقاله داخل رأسه. لا نعرف إن كانت دلال شخصية حقيقية أم رمزًا لنساء الثورة المجهولة. حتى خنتوش، قد لا يكون إلا مرآة لناظم المنهار. وهذا الغموض المقصود يجعل من الحدث نفسه سؤالا لا جوابا. هكذا تتحول أحداث الرواية من مجرد وقائع إلى بنية فلسفية حول الزمن والتجربة. وكأن الرواية تقول: لا يوجد حدث حاسم، بل توجد ذاكرة تنزف على شكل أحداث لا يُعترف بها. وهنا تصبح الرواية نصا ضد التاريخ الرسمي. تكتب الهامش. تكتب ما لم يُكتب. كل حدث فيها هو وثيقة مقاومة، وإن جاءت على هيئة ورقة مهترئة، أو حلم مبتور، أو اعتراف غير موقّع. 05: الفكر والموقف السياسي — يسارية نقدية ضد الوثن الأيديولوجي. الطرح السياسي في رواية "ورقات من دفاتر ناظم العربي" لا ينتمي إلى خطاب شعاراتي مكرور، بل إلى نسيج من الشك، التأمل، النقد الداخلي، والانقلاب على الأطر الجاهزة. إنها رواية يسارية في جوهرها، ولكنها يسارية مطعّمة بالحيرة، بالمراجعة، وبالرفض الصريح للوثن الحزبي. اليسارية هنا ليست موقفًا من نظام فقط، بل موقف من الذات التي كانت تعتقد أنها تملك الحقيقة. وكما كتب جورج أورويل: "أكبر خطر على الحقيقة، ليس الكذب، بل وهم امتلاك الحقيقة". وناظم – الكاتب المفترض داخل النص – لا يدّعي امتلاك هذه الحقيقة، بل يقدّم نفسه ككائن شائك، تعرّض للهزيمة من خصومه، ومن رفاقه، ومن نفسه. الرواية تفتح أسئلة فكرية مركزية: ما الذي تبقى من اليسار؟ هل يمكن للمثقف أن يبقى خارج السوق؟ هل الثورة مشروع أم وهم؟ هل الشعب جدير بحريته؟ هل يمكن تبرير القمع في سبيل المثال؟ "ما أبشع اليمين... ما أبشع اليسار... ما أبشع حتى يسار اليسار". هذه الجملة تحمل شحنة يأس لكنها ليست انتحارية. إنها أشبه بصيحة الوعي المتأخّر. لم تعد الرواية تُصدّق أي حزب، ولا أي مشروع مكتمل، بل تفضّل الوقوف على حافة الانكسار الأخلاقي والسياسي. وهذا ما يجعلها تنتمي – بعمق – إلى ما يُعرف بتيار اليسار النقدي أو ما بعد اليسار. اليسار في هذه الرواية ليس بطلًا، بل متهمًا أيضًا. تم انتقاد البيروقراطيات النقابية، تم فضح التكالب على المناصب، تم تفكيك خطاب المظلومية الذي يبرر الفشل بحجة المؤامرة. ناظم لا يتحدث عن نظام قمعي فقط، بل عن مجتمع انخرط في صناعته. وكما قال أنطونيو نغري: "لا يمكن للثورة أن تتحقق في مجتمعات تعيش في وعي استهلاكي مزيف". حتى الحركات الاحتجاجية لم تنجُ من سخرية الرواية. ففي أحد المقاطع نقرأ: "هم يهتفون ونحن ندفن دلال. الثورة ضاجّة، والموتى صامتون. من نصدّق؟". هذا التوتر بين الثورة المسموعة والضحايا المنسيين هو جوهر الأزمة السياسية التي تتناولها الرواية: كيف يمكن لثورة أن تُنسى ضحاياها بهذه السرعة؟ وكيف يتحوّل المناضل إلى تاجر شعارات؟ وكيف يتحوّل الأمني القديم إلى مدير مؤسسة إعلامية؟. الطرح السياسي للرواية مشبع بثنائيات ماركسية معقّدة، لكنها لا تُصرّح بها مباشرة، بل تمررها عبر مشاهد وتفاصيل: -الصراع بين التمثيل والخيانة. -التوتر بين المركز والهامش. -ثنائية المثقف الثوري مقابل المثقف المروّض. -التواطؤ الشعبي مع القمع مقابل المقاومة الفردية الصامتة. وتبقى الدولة هي الطرف الأكثر إدانة. لكنها ليست دولة بوليسية فحسب، بل دولة هجينة، تعرف كيف تعيد إنتاج أجهزتها عبر تحالفات جديدة، وزيّ جديد، وخطاب جديد. إنها ما وصفه ألتوسير بـ"الجهاز الإيديولوجي للدولة المتجدد، الذي يظل يراقب ويُعيد التكوين بأقنعة متجددة". ووسط هذا الخراب السياسي، تأتي الكتابة بوصفها الفعل المضاد الوحيد. الكتابة هي شكل من أشكال رفض الاندماج. ولذلك فإن ناظم لا ينتمي إلى أي تنظيم، لكنه لا ينتمي أيضًا إلى الصمت. "لم أعد أريد شيئا... فقط أريد ألا أموت بلا دفتر". هذه الرغبة في الكتابة هي آخر أشكال الانتماء النقي. وكما يقول محمود درويش: "نحن نكتب كي لا يقتلنا المعنى الواحد". وناظم يكتب كي لا تقتله الدولة، ولا الحزب، ولا الجماعة، ولا النسيان. إن الرواية، في بعدها السياسي، لا تطرح بديلا مباشرا، لكنها تفتح فضاء للتساؤل الأخلاقي: من نكون بعد أن فقدنا الحلم؟ هل من حقنا أن ننسى؟ هل من الشجاعة أن نشك؟ هل يمكن أن نكون يساريين دون أن نقدّس التاريخ؟ بهذا المعنى، فإن "ورقات من دفاتر ناظم العربي" تنتمي إلى تقليد أدبي وفكري بدأ مع نصوص أنطونيو غرامشي في السجن، مرورًا بـ جورج طرابيشي، وإدوارد سعيد، وصولا إلى طلال أسد وهمّت أخيرا. نصوص لا تنتمي إلى اليسار الكلاسيكي، بل إلى يسار "ما بعد الهزيمة"، أو ما بعد الأوهام. وكما قال جان جينيه: "أكتب لأن لا أحد يمثلني. أكتب لأكسر تمثيليتي"، فإن هذه الرواية تكتب ذاتها من خارج التمثيل، من خارج العقيدة، من خارج البطولات، من موقع الوعي الذي يعرف أنه خاسر، لكنه لا يخون. 06 : تفكيك ورقات ناظم. ☆الورقة الأولى – "هل سأبدأ حكايتي بأحداث ربّما لا تصلح أن تكون هي البدايات؟". 🟥 تمهيد: الكتابة بوصفها مأزقًا لا مشروعا: يفتتح ناظم العربي الرواية بأكثر الأفعال ارتباكا: تأجيل الحكي. لا شيء يبدأ من بدايته، لأنه لا وجود لبدايات حقيقية في عالم مفكك ومشروخ. "هل سأقدر حقا على التقدم وأنا أبدأ من حيث توقّف كل شيء وصار أشبه بالمتاهة؟" هنا نُستقبل على عتبة رواية لا تريد أن تكون رواية، تمامًا كما تدخل إلى مدينة مهدمة بلا خارطة. ❖ كما كتب بلامنش: "أهم ما في الكتابة أنها ليست رغبة في الكلام، بل رغبة في أن تصمت بشكلٍ فصيح." هكذا تبدأ هذه الورقة: بصمتٍ يريد أن يُكتب. بوعيٍ قاتلٍ أن الحكاية ولدت في خراب. 📌 الكتابة كحقل ألغام "الكتابة مكابدة وغوص في المعنى لاستخلاص الحقيقة..." "فمن يكتب هو كمن يفجر الألغام، لا ينتظر من يشير عليه كيف يتقدّم أو يتأخر." الكاتب هنا لا يتعامل مع الكتابة كحرفة، بل كخطر وجودي. إنها ليست إعادة تمثيل للعالم، بل اقتحام للعالم تحت القصف. في هذه الرؤية، تخرج الكتابة من جلباب النرجسية وتدخل مجال الموت: فإما أن تكتب لتغيّر، أو تصمت لتعيش. ❖ قول سارتر هنا مرجعي: "الكاتب مسؤول عن كل كلمة، لأنها قد تُقتل أو تحيي." في سياق دولة بوليسية، كما توحي لاحقًا الورقة، يتحوّل القلم إلى بندقية غير مرئية. فكل سطر يُمكن أن يُفجّر الواقع أو يُفجّر الكاتب ذاته. 🟨 التأسيس الفلسفي: من الميتافيزيقا إلى العبث: الكاتب لا يحتمي بالشكل ولا بالجمال، بل يتبرّأ منهما: "الكتابة ليست جمالًا متراصة وعلامات ونقاطا نحب أن نملأ بها بياض الورقة." هنا يحسم موقفه ضد أي كتابة شكلية أو تجميلية. فالمعنى لا يُبتغى في النحو أو البلاغة، بل في اختراق العالم المقموع للوصول إلى الحقيقة المدفونة تحت "غبار التناسي". إنه منطق الحفر، لا البناء. ❖ تذكّر هنا قول هايدغر: "الحقيقة تُستخرج من الحجاب. هي ما يجب أن يُكشف، لا ما يُصاغ." 🟥 حضور الأب: حكاية الريف وصدمة الاشتراكية: "كان والدي يقفل الراديو حين تبدأ نشرة الأخبار..." "كان يكره أن يسمع قارئ الأخبار يتحدث عن التعاضد والاشتراكية...". هنا ننتقل من التنظير إلى الاستذكار. يحضر الأب كرمز للفلاح المهزوم، الذي يكره الخطاب الرسمي لأنه كان ضحيته. الاشتراكية الرسمية ـ كما مثّلها "الدستوريون" ـ لم تُعد الأرض لأصحابها بل جعلت منهم أجراء في أراضيهم. نحن أمام سردية معكوسة للعدل: الأرض عادت بالقانون ولكنها لم تعُد بالحياة. فحين استُرجعت الأرض، ماتت. لم تنبت. لم تُثمر. أصبحت مقبرة. "لقد تحولت مساحة جدباء لا تصلح لشيء، لم يعمّرها سوى الأموات." هذه استعارة مجلجلة لـ فشل الدولة في إنتاج حياة. الأرض التي تساوي كرامة في المنظور الفلاحي، أصبحت مساحة عزاء في المشروع السلطوي. ❖ هذا يعيدنا إلى تحذير إميل سيزار: "حين تدخل الدولة إلى الحقل، يخرج الفلاح منه ميتًا." 🟥 من الفلاح إلى حفّار القبور: "أنهى حياته فيها لا مالكا ولا أجيرا، بل مجرد حارس قبور." ذروة المأساة تتجسد هنا: الأب لم يُسترجع كفاعل اجتماعي، بل كظلّ لحياةٍ منفية. ما ظنه انتصارا، كان خدعة. لقد احتفظ بالأرض، لكن بعد أن أصبحت ترابا لغيره. "كأنك تسترجع جسدا بلا روح لتدفنه أنت بنفسك." هذه نهاية لا توثّق فقط خيبة الأب، بل انقطاع حلم جيل كامل، كان يؤمن بالتحرير الوطني والعدل الاجتماعي، فإذا به يتحول إلى خازنٍ للموت. 🟥 اللغة والأسلوب لغة الورقة الأولى تأملية، حزينة، تقطع الجمل لتخلق التردد والشرخ: تعتمد البناء الشعري الحرّ في سطرية الأفكار وتكثيفها. اللغة توحي بألم داخلي لا يُقال، بل يُشهق. الورقة الأولى ليست مدخلا للرواية، بل بيانا فلسفيا وسياسيا للكتابة. تكسر شكل السرد التقليدي لتعلن عن زمن مكسور وكتابة ملغومة. تحكي انكسار جيل من الفلاحين في تونس، ضحايا "الاشتراكية الرسمية". تصوغ كل ذلك بلغة شعرية حزينة، كثيفة، وعميقة. ☆الورقة الثانية — "نصّي هذا هو زفرة الروح الأخيرة". 🟥 التكوين: كتابة النهاية كفعل تعميد رمزي: يستهل السارد هذه الورقة باعتبارها نهاية معلنة: "هو ما بقي لي من حبر"، وهو تعبير رمزي عن استنزاف الطاقة واللغة والوجود. النص يتحوّل إلى زفرة، إلى نفس أخير، إلى صرخة ما قبل الصمت. وهذه الكتابة في حد ذاتها ليست تذكّرًا للماضي بقدر ما هي وداع رمزي للزمن والوجود واللغة: "سيلفّني النسيان... لم يبق مني غير بعض حروف بلا معنى". هنا تتحوّل الذات إلى كائن لغوي مشظّى، ممزّق، بلا دلالة، كـ "حجر أسود بلا معنى"، في استعارة قوية لـ حالة الاغتراب الوجودي القصوى. وكأننا بإزاء شخصية مهزومة ليست بفعل الهزيمة فقط، بل بسبب الوعي الحاد بالهزيمة. 📌 المعنى الوجودي: بين صهيل الجواد وظله. "يقول: مات الجواد. بقي صهيل الجواد. يحيا الصدى، يحيا رجع الصدى.". الجملة تأسس لبنية دلالية مشحونة بالتناقض. فـ "موت الجواد" (ربما الذات، الحلم، الثورة، المعنى) لا يلغي "الصدى"، أي الأثر. ولعلّها تكرّر صورة الإنسان الراحل الذي تبقى كلماته/كتاباته حيّة رغم اندثاره. ❖ كما قال أنطونيو غرامشي: "يموت الإنسان حين تنطفئ الأفكار التي آمن بها في ذاكرة الناس، لا حين يدفن جسده في التراب." وهنا نرى أن الجسد انتهى، لكن الصدى باق. الصدى كفكرة، كرجع، كذكرى، كوجع. 🔻الرمز والمجاز: وداع الوجود بعبارات نفي "وداع القمر، النجوم، الشمس، الغيمة، الطيور، الوردة، المعاني، الأسماء...": بهذا التعداد الشعري، يحاكي السارد طقس دفن رمزي للكون. ليست فقط شخصيات الرواية من تغيب، بل تغيب اللغة نفسها والمعنى والرموز. كأننا نعيش لحظة أفول كوني شعري/أنطولوجي، يذكرنا بما قاله فرويد حين اعتبر أن: "المرء يموت مرتين: حين يفقد المعنى، وحين يُنسى." فهو الآن في لحظة ما بعد الفقد، يتخلى عن الرموز الكبرى (الشمس، الوردة، الأسماء)، لأن كل شيء فقد دلالته. 🟥 اللغة: نثر شعري مفعم بالحداد الوجودي: اللغة في الورقة الثانية لغة موت هادئ، حزينة ومقطّعة. الجمل قصيرة، نثرية مشحونة بالتأمل، تتقاطع فيها نبرة الانكسار مع جماليات شعرية رفيعة: "ما أوحشني، وما أوحش الأسماء." "نصي الأخير، بعده سيلفني النسيان." كل هذه العبارات تقودنا إلى فضاء وجودي تتداخل فيه اللغة والموت والنسيان والذات في شبكة واحدة، تُعبّر عن اغتراب وجودي متمزق. 🟥 البعد السياسي الضمني: هوية مفقودة، واغتراب جماعي: مع أن الورقة تشتغل على المعنى الفردي للفقد والانهيار، إلا أنها تُلمّح إلى خسارة جماعية، إلى مجتمع كامل يُكتب وداعه بنفس الصياغة: وطن/لغة/ثورة تموت، ولكن أثرها يبقى. الصدى لا يُسمع بوضوح، لكنه لا يختفي. ❖ وهذا ما أشار إليه لويس ألتوسير عندما كتب: "الانهيار ليس لحظة واحدة، بل عملية طويلة تُبقي على الأطلال دون البناء." الورقة الثانية نصّ تأبيني للذات، وللغة، وللأثر. الكتابة تتحوّل إلى زفرة، أي أن كل كلمة هي نفس أخير. النسيان ليس خطرا، بل مصير، لكن الصدى يبقى. كأننا أمام شخصٍ يكتب مرثية لكل شيء وهو لا يزال حيا. جمال اللغة لا يخفي أن المعنى مدفون تحت الرماد ☆.الورقة الثالثة — "أزدحم بأشواقي وبالغياب". 🟥 المدخل: ذات تتشظّى بالزحام الداخلي يفتتح السارد هذه الورقة بجملة مشحونة: "أزدحم بأشواقي وبالغياب." الزحام هنا ليس في الخارج، بل في الذات. هي ذاتٌ لا تتسع لنفسها، مُثقلة بما فقدت، و"الغياب" لا يعني فقط غياب الآخر، بل أيضا غياب الوطن، الأمل، المعنى. ❖ يذكّر هذا بقول إرنست بلوخ: "الإنسان هو كائن يفتقد ذاته، يبحث عنها في الغياب." في هذا السياق، تصبح الذات منفى ذاتها. المنفى لم يعد جغرافيا، بل أصبح بنية شعورية كاملة. 🟥 تكرار "أزدحم": لغة الانفجار الداخلي: النص يكرر عبارة "أزدحم" ثماني مرات تقريبا: أزدحم بالمنفى. أزدحم بالوطن. أزدحم بالليل، بالشجن، بنظرات العساكر، بهلوسات وقف التنفيذ، بالثوار العاطلين عن الأمل... هذا التكرار ليس أسلوبا شعريا فحسب، بل هو تجسيد لغوي لحالة التكدّس الداخلي، حيث تصبح اللغة نفسها غير قادرة على التنفّس. كأن السارد يكتب من داخل سجن داخلي. ❖ يقول فرانز فانون: "يعيش المستعمَر زحامًا لا تُخلّصه منه اللغة، بل تكثّفه." وهكذا نجد الذات هنا حبيسة تراكمات تاريخية ووجودية: استعمار، قمع، قهر، ضياع هوية، قمع سياسي وديني. 🟥 المنفى: مفهوم مركزي وجودي-سياسي "أزدحم بالمنفى... بالوطن.": هذا التلازم بين المنفى والوطن يُعري المفارقة المأساوية: الوطن لم يعد حضنًا، بل تحول إلى منفًى آخر. المنفى ليس خارجيا دائما، بل يبدأ حين يفقد الوطن دفئه. ❖ هنا نستحضر مقولة إدوارد سعيد: "المنفى ليس فقط الابتعاد عن الوطن، بل هو الإقامة فيه بلا اعتراف." وفي نص ناظم العربي، هذا المعنى يتجسد في شخصيات "الثوار العاطلين عن الأمل"، و"نظرات العساكر وجباههم المعفرة بالذل". المنفى هنا أيضا سياسي وديني: أزدحم بـ"الله والشرائع" → نقد ضمني لمؤسسات الدين الرسمية التي تحوّلت إلى أدوات قمع. أزدحم بـ"القوافي وأغاني الرعاة والحفاة والعراة" → رموز الهامش، الفقر، التهميش، والوجود المقاوم. 🟥 تكسير الزمن والمكان: الجنوب، الشمال، قرطاج، المسيح: الورقة تمتد سرديا لتدمج الزمن الميثولوجي بالمكان الواقعي: "المعابد في قرطاج" ← إشارة للتراث الفينيقي والوثني. "لوح صلب المسيح" ← استحضار للصليب، كرمز للموت الثوري. "صخرتي أساف ونائلة" ← أسطورة عربية قبل الإسلام، ترمز للعقاب الديني واللعنة. "التوبوماروس، كافكا، بابلو نيرودا، درويش، هوميروس..." ← شخصيات ثورية وشعراء ومفكرون ومنفيون. ❖ النص يتحوّل إلى جغرافيا سردية للمنفى والمعنى. كل اسم يستدعى ليحمل شحنة دلالية: هوميروس = المنفى والرحلة الأبدية. بابلو نيرودا = المقاومة بالشعر. كافكا = البيروقراطية واللاجدوى. درويش = الحنين، الوطن، المنافي. التوبوماروس = الثورات المسلحة اللاتينية. ❖ يقول غاليانو: "نحن شعوب منفى، لا نملك أوطانًا بل قصائد تذكرنا بها." 🟨 نداءات الهوميروس: العودة المستحيلة "هوميروس يا سيد الغائبين... عجّل بعودتك قبل أن تلتهمني النار... قبل أن أتحوّل إلى منفي آخر." الهوميروس، كرمز أسمى للغائب العائد، يُستدعى كنداء استغاثة. لكنّ العودة مستحيلة، لأن ما يُطلب منه أن يعود ليس شخصا، بل زمن المعنى المفقود. ❖ كما كتب فاسكو بوبا: "العودة ليست ممكنة لأن الطريق الذي غادرناه اختفى." 🟥 تفكيك "وصيّتك": الكتابة كخلاص فردي وجماعي: "اكتبي وصيتك للعاشقين، للحالمين، للمنفيين... يمكنها أن تسوّي الوطن بالمنفى وتخلّد..." هنا تصبح الكتابة وصية، كأنها النشيد الأخير للأمل. لكنها وصية تُكتب في زمن لا رجاء فيه. ❖ يقول ماركوزه: "حين لا تعود السياسة ممكنة، يبقى الشعر الملاذ الأخير للحرية." الوصيّة تحاول أن تعيد صياغة الوطن لا من خلال التراب أو الجغرافيا، بل من خلال الحب، الحلم، واللغة. الورقة الثالثة تبني من الداخل صرخة اغتراب جماعي وفردي. "الزحام" يعكس تراكمات الانكسار والخذلان في الذاكرة والمخيال. الشخصيات المستحضرة (هوميروس، نيرودا، كافكا...) ليست رموزا ثقافية فقط، بل أدوات لإعادة كتابة المعنى. الوطن غائب، اللغة معطوبة، الذات مشظّاة، والمنفى هو الشرط الوجودي الجديد. الكتابة في النهاية، وصية تتشبّث بالأمل رغم اللاجدوى، وكأنها تصرخ كما قال بريخت: "في زمن القهر، حتى الصمت خيانة." ☆.الورقة الرابعة — "المرأة، الإيروس، وإعادة هندسة العلاقة باللذة". 🟥 المدخل: كتابة الجسد... بين الإيروس والتمرد. يفتتح الكاتب هذه الورقة القصيرة بحمولة رمزية عالية: "أيّتها المرأة، أشتهي أن أصنع من ثياب نومك شراعًا لزورق آخر الليل." لسنا أمام خطابٍ غزليٍّ تقليدي، بل أمام محاولة لإعادة تعريف الجسد بوصفه وسيلة للتحرر، لا وعاءً للشهوة الذكورية فقط. فالمجاز هنا ثوري: تحويل ثوب النوم إلى "شراع" هو فعل رمزي لتحرير اللذة من وظيفتها الضيقة. ما يُفكَّك في هذا المشهد ليس جسد المرأة، بل المفهوم السائد للرغبة. ❖ يذكّرنا هذا بمقولة هربرت ماركوزه في "إيروس والحضارة": "في الثقافة القمعية، تُفصل اللذة عن الحرية. وفي مجتمع القمع، تُحوّل الإيروس إلى وظيفة، لا إلى احتفال." وهذا ما يقاومه ناظم العربي هنا: لا يُمارس الإيروس بوصفه استهلاكا بل بوصفه "إبحارا"، "نحتا"، "شراعا". 🟥 تحويل الرغبة إلى تجربة جمالية: "أشتهي أن أرسم بسحر صمتي الصارخ على ظلال وجهك وصدرك لوحة عشقي وكل شهواتي." هنا يتحول الجسد الأنثوي إلى لوحة شعرية، إلى كيان يُرسم لا يُمتلك، يُصغى إليه لا يُخضع. هذه الجملة تختزن نقدا للمخيال الذكوري الموروث، الذي يختزل المرأة إلى موضوع استهلاكي بصري، لا إلى شريك في الجمال والمعنى. ❖ نُذكّر بما قاله جورج باتاي: "الإيروسية هي تقاطع بين الموت واللذة، حيث تتلاشى الهوية في التجربة القصوى." وفي الورقة الرابعة، لا تُمحى المرأة في الإيروس، بل تُستعاد. هي ليست فقط المحبوبة، بل "السيدة"، "الوجه"، "اللوحة"، و"الليل". 🟥 القلب الثوري في العبارة الأخيرة: "أنا سيدتي، أشتهيك.": هذه الجملة القصيرة هي ذروة قلب المفاهيم في النص. تقلب ثنائية السيطرة والامتلاك، وتُعيد ترتيب الأدوار بشكل جمالي وجودي: الرجل يعترف بأن المرأة هي سيدته في اللحظة الإيروسية، وأنه لا يحتل موقع الهيمنة بل موقع التماهي. "أنا سيدتي" → تمرد لغوي على أبجديات الفحولة الشرقية. "أشتهيك" → لا تعني تملّكك، بل الاعتراف بشهوتي كموقف اعترافي لا عدواني. ❖ هذا يذكّرنا بمقولة رولان بارت: "اللذة ليست امتلاكا للآخر، بل تفتّت للذات داخله." وهكذا، تتحوّل الورقة إلى أدب إيروسي تحرري، لا يفرّق بين الحب والجمال، ولا بين الجسد والمعنى. 🟩 البعد السياسي المُضمَر: الإيروس كمقاومة للرقابة: على الرغم من أن الورقة تبدو غرامية، إلا أن توظيف الإيروس فيها هو أداة ضد الصمت الاجتماعي، ضد الكبت. ففي مجتمع يُنظّم الرغبة ويقمعها عبر مؤسسات الدولة والدين، تصبح هذه اللغة البسيطة تمردا. ❖ كما يقول ميشيل فوكو: "لا يوجد شيء أكثر مراقبةً من الجسد، ولا شيء أكثر ثورية من إعادة كتابته." هذه الورقة تكتب الجسد الأنثوي بلغة شاعرية، لا أداة للذّة الذكورية، بل كيانًا مستقلا، يُبحر ويبحر فيه، ويتحوّل إلى وسيلة هروب نحو "زورق الليل". احتفاء باللحظة الإيروسية لا بوصفها جنسية، بل جمالية ليس هناك أي "وصف جسدي" في الورقة، رغم أنها مشبعة بالحسّ الجسدي. وهذه مفارقة: الكاتب لا يصف، بل يستدعي، لا يكشف بل يهمس، وهذا ما يجعل النص أكثر تحررا وجمالا من أي أدب إيروسي مبتذل. ❖ يقول جورج لوكاتش: "كل فن عظيم يعيد ترتيب الواقع على نحو يُحررنا من قبضة الضرورة." وهذا بالضبط ما تفعله. ☆.الورقة الرابعة: ترسم جسدا لا يُباع ولا يُشترى، بل يُعاش، يُرسم، ويُحتفى به بوصفه كيانًا ذا سيادة. الورقة القصيرة هي احتجاج رمزي على تقليدية العلاقة بين الذكر والأنثى. الإيروس فيها هو تجربة تحرر، لا عملية استهلاك. ثنائية "السيد والسيدة" تُقلب بطريقة شعرية تُحرّر كلًا من الطرفين. الجسد الأنثوي هو لغة ومرآة ومعنى، لا موضوع رغبة فحسب. الورقة تثبّت الأدب كفضاء للمقاومة الناعمة ضد القمع الجنسي واللغوي. ☆.الورقة الخامسة — "الموت كعتبة للمعنى: بين أخيل وسيزيف". 🟥 المدخل: التأمل في الموت كوظيفة وجودية يبدأ الكاتب هذه الورقة بعبارة متهادية في بساطتها، لكنها تنطوي على عمق ميتافيزيقي: "شيء من الموت أو قليل منه لا مفرّ. بل قل ربّما الموت كلّه." هذه الجملة تتجاوز وظيفتها السردية لتتحوّل إلى بيان وجودي. إنها لا تكتفي بإقرار حقيقة الموت، بل تقدّمه كـ"احتمال قائم دائما"، كظلّ يرافق كل تجربة. هنا لا يُقابل الموت بالحياة، بل يُرادفها، يتخلّلها، كأنما لا معنى للحياة دون موت يُنهيها، أو يُعريها. ❖ كما قال ألبير كامو في "أسطورة سيزيف": "الموت هو المشكلة الفلسفية الوحيدة الجديرة بالاهتمام." وبالفعل، هذه الورقة لا تناقش الموت بوصفه نهاية، بل بوصفه موضوعا وجوديا، مفكَّرا فيه، ومعاشا من الداخل، كما لو أن الحكاية كلها لا تبدأ إلا حين تنتهي. 🟥 أخيل: من الميثولوجيا إلى الحاضر: يستدعي الكاتب في ثنايا الورقة شخصية أخيل، بطل الإلياذة الأسطوري، لكنه لا يستحضره كمجرد محارب، بل ككائن هشّ يوجعه "الغياب"، ويقول: "لا شيء يمكن أن يحتويني حتى الفراغ، فأنا أتماهى... يوجعني الغياب." الفراغ هنا ليس فناءً فحسب، بل هو حالة شعورية كثيفة: الفراغ الذي يتسرّب إلى الداخل، ليس كعدم، بل كموقع للغربة. كأنما أخيل هنا ليس بطلًا يونانيًا، بل هو أنا الشاعر، أنا الإنسان المقتلع من المعنى، الذي لم يعُد يُمسك بشيء، لا بحبيب، ولا بوطن، ولا بقيمة، ولا حتى بذاته. ❖ وهنا تتقاطع الورقة مع رؤية جان بول سارتر: "الإنسان مشروع مؤجل، إنه فراغ يبحث عن امتلاء." ولأن الامتلاء مستحيل، يتحوّل أخيل إلى مرآة وجودية لذات الشاعر. هذا الامتزاج بين الذات والمتخيل يُنتج مساحة سردية كثيفة لا زمن فيها، ولا مكان، بل مجرد شعور مستمر بالغياب. 🟥 سيزيف: صورة البطل الملعون والوعي المتألم: ثم تأتي إشارة أكثر جرأة إلى سيزيف، أشهر رموز العدمية المتمردة: "أنا... وقد وصلت النهاية... ما عاد لي حاجة لإشعال الحرائق. تكفيني نار الحقيقة." هذه العبارة تكثيف لما سماه كامو "التمرد العبثي". فسيزيف لا يتمرّد ضد قدره بل يعيه، يواصل دحرجة الصخرة، لكنه لا يتخلّى عن وعيه. وهنا نجد أن الشاعر لم يعد يريد إشعال "حرائق المعنى"، بل اكتفى بـ"نار الحقيقة"—حقيقة أنه في قلب الفقد، وأن لا شيء يبقى. ❖ يقول كامو: "علينا أن نتخيل سيزيف سعيدا." لكن ناظم العربي لا يذهب إلى تلك السعادة، بل يظل واقفا عند الجرح، عند الوعي باللاجدوى. 🟥 من النهايات إلى الكتابة: أين تبدأ الحكاية؟ "كثير من الحكايا تولد ميتة.": هذه العبارة المحورية تعيد توجيه السرد برمته. ليست هناك بداية بريئة، فكل "بداية" هي نتاج موت سابق. هذا المقطع يعيدنا إلى قولة فوكو: "كل كتابة تبدأ بعد الموت، بعد الفقد." ففي هذه الورقة، لا يكتب ناظم العربي ليحكي، بل ليتطهر، ليُنهي حكاية لا يمكن أن تُقال في الماضي، بل فقط بعد أن "تموت" وتصبح صالحة للنبش. ولذلك فإن الحكاية ليست "تسلسل أحداث"، بل فعل مقاومة ضد الصمت. 🟥 اختفاء الحكاية، وبقاء البطل الشاهد: "لم يكن يحدث أن كان أخيل وحده مشبعًا بالألم." الجملة هنا تُسقط فكرة البطل المفرد، وتعيد إنتاجه في شكل جماعي: الألم ليس بطوليا، بل جماعي، مشترك، تاريخي. يتماهى أخيل مع سيزيف، ومع الذات الساردة، ومعنا نحن القرّاء. فالجميع يُستنزف في لحظة الألم الكبرى، حيث لا يبقى شيء سوى الجملة الأخيرة: "وفي الجانب الآخر من الوقت، كانت تحتويه النهايات." الزمن نفسه هنا يُعاد صياغته: "الجانب الآخر" ليس بعد الموت، بل هو الموت الحي، هو لحظة الوعي العاري التي يُدرك فيها الإنسان أن كل شيء يتجه إلى نهايته، وأن هذا الإدراك هو شرط وجوده. ☆.الورقة الخامسة هي تأمل في ثنائية الحياة/الموت، لا بصفتها ضدّين، بل بوصفها بنية شعرية واحدة. استدعاء "أخيل" و"سيزيف" يربط الخاص بالكوني، ويحوّل تجربة الغياب إلى نص فلسفي. الكاتب لا ينعى الموت، بل يكتبه، يحوله إلى مادة للتأمل، وربما إلى شكل من أشكال المقاومة الرمزية. الحكاية في النص لا تُروى، بل تُدفن وتُنبش. الكتابة ليست "سردا" بل "حفرا في الغياب". الورقة تؤسس لصوتٍ شعريّ متشائم، لكنه مقاوم، مسكون بالأسئلة لا باليقين. ☆.الورقة السادسة — "أخيل المنسيّ: عن الهشاشة، الخيانة، والموت المؤجل". 🟥 المدخل: ضد كل ذاكرة رسمية : "كان يكره الأسماء… أسماء الأيام، الأشهر، الشعراء، الأنبياء، الآلهة، التجار. كان يكره عدّ السنوات. كان يكره ما فات." هذه الجملة تمثل بيانا شعريا ضدّ التأريخ السلطوي وضد الرموز التي تختزل الإنسان في تقاويم وأسماء وأساطير. فاللغة التي تحتفي بالأبطال والأيام، بالشهداء والأنبياء، تصبح عند ناظم العربي لغة قهر رمزي، تُراكم أسماءً فوق الألم، وتمنح المأساة "معنى رسميا" يطمس حقيقتها. ❖ نستدعي هنا قول بيير بورديو: "الأسماء ليست بريئة، إنها بنى سلطة تنظم ما يُقال وما يُنسى." في هذا السياق، يصبح أخيل – لا كرمز يوناني – بل كذات متمردة على "الاسم"، على التاريخ، على الخلود المزيّف. إنه لا يريد أن يُخلَّد، بل يريد فقط أن "يموت حقيقيا". 🟥 أخيل كصورة للشاعر الهارب من الأسطورة : "قال أخيل وهو في قمة حبه لأمه: هل عندك منديل أبيض أغطي به علامة على كعبي حتى لا أموت؟" في هذا المقطع، تُنزَع البطولة عن أخيل. لا يعود مُحصنًا ولا "شبه خالد"، بل طفل هش، يعترف بالخوف من الموت. الجملة تحفر داخل الأسطورة لتفضح هشاشتها: كل بطل لديه "كعب" مكشوف. المنديل الأبيض هو رمز براءة/استغاثة، لكنه في النهاية ما يقود إلى موته. ❖ نُذكّر هنا بمقولة سيغموند فرويد: "كل دفاع نفسي هو في الحقيقة اعتراف." وهذا ما يحصل هنا: أخيل لا يدافع، بل ينهار. يخونُه الخلود لأنه كذبة. المنديل الأبيض الذي تمنحه الأم له كحماية، يتحول إلى "مؤشر ضعف"، ويقود في النهاية إلى موته، بفعل رمح أصغر من أن يُحتسب بطوليًا. 🟥 الشعر المضاد للأسطورة: “وظلت زهرة تنبت في ذلك المكان كل ربيع” : يقول النص: "وتقول الأشعار المنسيّة، إنّه استمر ينزف حتى مات. وإن زهرة ظلت تنبت في ذلك المكان عند حلول كل ربيع." اللغة هنا ترفض أن تمجّد الموت، لكنها لا تُسقطه من المعنى. إنها تنقله من مستوى "الأسطورة البطولية" إلى "علامة شعرية" تُولد من الألم. هذه الزهرة ليست تخليدا، بل أثرا هشا، مقاوما بصمته. ❖ هنا يحضر أنطونيو غرامشي ضمنيا حين قال: "إن كل أثر ثقافي شعبي هو شكل من أشكال المقاومة، لا مجرد بقايا." الزهرة إذن ليست تذكّرا لأخيل، بل علامة على أن الجرح لم يُشفَ، وأن كل ربيع هو عودة للنزيف لا للبعث. 🟥 الثالوث العنيف: الماء، النار، الحياة : يقول النص: "أخيل كان يحب الماء… أخيل كان يحب النار… أخيل كان الحد الفاصل بين الموت والحياة." هذه الجملة تتجاوز الشعر لتصبح ميتافيزيقيا شعرية. فالحب هنا مزدوج الاتجاه: الماء كرمز للطهارة والخلود (نهر ستيكس)، والنار كرمز للمعاناة والتحوّل. وأخيل، كذات، لا يقف في أحدهما، بل في "الحد الفاصل"، في العتبة الوجودية التي لا تقبل التحديد. ❖ تذكّرنا هذه العبارة بكلمات هيغل: "الروح لا تنضج إلا بمرورها عبر نار التناقض." وأخيل هو روح هذا التناقض، يُحب النار والماء، يعرف أنه سيموت رغم أنه مغسول في النهر، ويقف على حافة بين الحي والميت. 🟥 نهر ستيكس: رمز الخلود الزائف : "أخيل لم ينس نهر ستيكس." نهر ستيكس هنا ليس مجرد مرجع أسطوري، بل يتحول إلى رمز فلسفي للخلود المبتور، ذلك الذي لا يكتمل. الأم تُغرق ابنها في النهر لحمايته، لكنها تُمسكه من "الكعب"، وتُخفيه عن الماء. الكعب، هنا، هو بؤرة "النسيان"، هو العلامة التي لا تطالها الأسطورة، وتُخفي الحقيقة: حتى أعظم الأبطال يموتون من ثغرة صغيرة. ❖ هذه المفارقة يُجسّدها فالتر بنيامين حين يقول: "كل تاريخ للنصر هو تاريخ خيانة لأثر المهزوم." وأخيل هنا هو "أثر مهزوم"، ينهار في خيانة أسطورته ذاتها. 🟩 ضد اللغة الخالدة، مع المعنى الهش : تنتهي الورقة بنغمة حادة: "ومات أخيل… وكان فناء. أخيل كان يريد العبارة كاملة." "العبارة الكاملة" لا تعني المجد، بل الاعتراف بالهشاشة. إنها تذكير بأن ما يُقال عن البطل هو دائمًا ناقص، مُجتزأ، وأن "تمام العبارة" يستلزم قول كل شيء، حتى الخوف، والندم، والنزيف. ❖ نُذكّر بما قاله رولان بارت: "اللغة الرسمية تريدنا أبطالًا، لكن الكتابة الحقيقية تُعيدنا إلى الندبة." وهذا ما تفعله الورقة: تكتب الندبة، لا الأسطورة. تنسج من الخوف صوتا. وتحمل الموت لا كاختتام، بل كمعبر نحو الإدراك العميق بأن "الفناء" هو الشكل الوحيد للخلود. الورقة تُعيد كتابة أخيل بعيدًا عن صورة البطل، نحو صورة الكائن المهدور. الشعر يصبح وسيلة لتفكيك الأسطورة، لا لتجميلها. تتداخل الرمزية (النهر، المنديل، الكعب، الزهرة) لتُنتج شبكة من المعاني حول الموت كحقيقة لا تُقاوم. اللغة في النص ليست أداة تخليد، بل أداة فضح. الموت ليس هزيمة، بل شرط للصدق في السرد. ☆.الورقة السابعة — "حين يصير الوطن أمًّا... ثم يفترسك" 🟥 المدخل: الوطن كهوية مهددة بالخيانة: "قالت: يحدث أن يصبح الوطن أمًّا...". واااو ضرب بشير احلام مستغانمي في عمق ، تقول هي في ذاكرة جسد : " يحدث أن يصبح الوطن امّيا ..." ، و بجرّة حذف لحرف قلب المعنى له وحده.. هكذا يبدأ النص، من جملة مشروخة، جملة تبدو للوهلة الأولى حنونة لكنها سرعان ما تُستكمل بـ"وكان أجدر بها أن تقول..."، مما يفتح بابا تأويليا مفجعا. الكاتب ينسف المجاز، يشكك فيه، يعيده إلى أصله العنيف: الوطن قد يُشبه الأم، لكنه لا يتصرّف كأمّ. حين تنغلق كل المسالك، ويصير الوطن محطّة للنزول، يصبح شبيهًا بالهاوية، لا بالرحم. ❖ نتذكر هنا عبارة أدورنو: "من الصعب أن تكتب شعرا بعد أوشفيتز، لكن من المستحيل أن لا تكتب." فالوطن، كفضاء للحياة، قد يتحول إلى معتقل، إلى آلة نفي... أو أم تأكل أبناءها. 🟥 الهوية المتصدعة: من المعبود إلى الطريدة: "في يوم، تكون معبودا. وفي يوم آخر، تكون منبوذا. في يوم، أنت الصياد... وفي آخر، الطريدة." هذه الجملة تفكك ثنائيات السلطة والقداسة. لا استقرار للهوية. كل موقع رمزي هو مؤقت، قابل للانهيار. ليس هناك بطل إلا وسينقلب عليه الجمهور. ليس هناك طهر إلا وسينتهي في العار. ❖ يستدعي النص هنا ظلال ياسمينة خضرا وكتاباته عن الطريدة: "الناس لا يحبون من يحمل لهم الحقيقة... بل من يبيع لهم وهما مريحا." وهكذا، يصبح الفرد في هذا النص — سواء كان شاعرا، مناضلا، أو عاشقا — مهددًا بالسقوط من المعبود إلى المنبوذ، من الصياد إلى الفريسة، بسبب مواقف لا تطابق انتظارات الجماهير أو موازين القمع. 🟥 أمل دنقل و"لا تصالح": القصيدة كبيان مقاومة: "وقال أمل دنقل: لا تصالح ولو توجّوك بتاج الإمارة..." الاقتباس من قصيدة أمل دنقل الشهيرة "لا تصالح" ليس تزيينيا. إنه جوهر هذه الورقة. القصيدة تُستدعى لتُعلن موقفا: الحق لا يُقايض. والكرامة لا تُساوَم. الوطن ليس صفقة. التاريخ ليس تجميلا للهزيمة. ❖ قال دنقل في القصيدة نفسها: "كيف تنظر في يد من صافحوك... فلا تبصر الدم في كل كفّ؟". هنا يستدعي ناظم العربي هذه القصيدة بوصفها مرآة لعالمه، عالم الخيانة والخذلان، حيث المثقف الثائر يتحول إلى ذكرى، حيث الشهداء يُستبدلون بالعملاء. 🟥 أسطورة الثورات التي تأكل أبناءها: "أصل الحكاية أن الثورات تأكل مفجّريها إذا توقفوا." النص يعلن بصراحة: لا وجود لثورة مؤبّدة. فبمجرد ما تتوقف، تبدأ "الديدان" في التكاثر، وتخرج "الغربان" من أوكارها لتزيف المشهد. حين يتوقف المفجّر، يظهر الطفيلي. هذا قول موجّه للمناضلين، وللشعراء، وللمثقفين الثوريين الذين يظنون أن الثورة "حدث"، بينما هي في الحقيقة مسار، أو لا تكون. ❖ هنا يمكن تذكر تحذير تروتسكي: "الثورة لا تُؤمّن على نفسها. إذا توقفت عن الحراسة تموت." وهي ذات الفكرة التي تتردد في الورقة: لحظة السكون هي لحظة الهزيمة. 🟥 رمزية الحمام والكواسر: البريء الذي يخسر ريشه: "ويحدث أن يسرق الحمام الغر النار فتحترق به وتحرق من معه..." الكاتب يوظف هنا مجازا فذا: الحمام، رمز البراءة والسلام، يقلّد الكواسر (النسور، الصقور، الطغاة)، فيحترق. إنه تأمّل في أولئك الأبرياء الذين يُحاولون دخول لعبة السلطة بأخلاقهم الطفولية، فيُسحقون. ومن يتستر بريش غيره، يضيع. من يسرق النار دون إدراك لطبيعتها، يحترق. ❖ قال فرانز فانون: "لا يمكن لمستعمَر أن يصبح مستعمِرًا دون أن يُدمّر نفسه." الحمام الذي يقلّد الكواسر يخسر ريشه، يخسر ذاته، ويبقى في "المنزلتين": لا هو صعد، ولا هو بقي. إنه المثقف الرمادي. المناضل الذي خان الحلم. اليساري الذي انتقل إلى البلاط. 🟥 تشريح للكواسر: لا تتغيّر: "الكواسر لا تغيّر طباعها. تصنع أوكارها من الجماجم." السلطة، عند ناظم العربي، ليست حالة مدنية، بل وحشية متأصلة. لا يُدجن الوحش. لا يتحوّل المجرم إلى منقذ. من يؤمن بغير ذلك، يسقط، ويصبح طريدة. الكواسر قد تغيّر ريشها، لكنها لا تغيّر طباعها. وما يُروّج حول تحولها هو وهم الليبراليين والانتهازيين. ❖ هذه فكرة مطابقة لتحليل أنطونيو نيغري: "الرأسمالية لا تصلح نفسها، بل تتجدد لتُعمّق قمعها." وبذلك، فإن السذاجة الثورية تصبح خيانة. والسكوت يصبح تواطؤًا. الورقة السابعة تفكك بنية الوطن كأمّ وهمية، وتعيده إلى موقع القسوة. "لا تصالح" ليست قصيدة بل موقف وجودي سياسي. الثورة كمسار، لا كحدث، تتطلب يقظة دائمة وإلا انقلبت على نفسها. المجازات الشعرية (الحمام، النار، الكواسر) تخدم وظيفة نقدية شرسة: لا تقليد، لا مساومة، لا اعتدال رمادي. الذات الساردة هنا هي شاهد يتّهم، لكنها أيضًا مهدّدة بأن تصير طريدة إن لم تواصل الوعي والنقد. ☆.الورقة الثامنة — "موتنا بالمجّان: تراجيديا العجز المعمّم وانهيار الإحساس الجماعي". 🟥 أولاً: افتضاح التفاهة… حين صار كل شيء قابلاً للنسيان: "مازال اللصوص هنا بيننا ينظّمون عملية موتنا بالمجّان. فكل الأحداث أصبحت بصورة ما عابرة ومؤقتة ولا قيمة لها." الجملة الافتتاحية للورقة ليست اتهاما، بل إدانة وجودية في صيغة تأبينية للأمل الجمعي. نحن لا نموت فقط، بل نموت بـ"تنظيم"، وكأن هناك بيروقراطية دقيقة تسهر على أن يتم موتنا بهدوء، دون شوشرة، ودون مقاومة، ودون جثث ملقاة في الشوارع. هذه لحظة انكشاف عنف الدولة الرمزي، حيث السلطة لم تعد تطلق الرصاص، بل تقتل بالضجر، بالإهمال، بالاستسلام. ❖ نستحضر هنا مقولة زيغمونت باومان: "الحداثة خلقت نوعا جديدا من القتل: القتل الإداري، بلا دماء، بلا ضجيج، وبلا شعور بالذنب." ناظم العربي في هذه الجملة يدشّن الدخول إلى زمن "ما بعد المعنى"؛ حيث لا جريمة كاملة، بل موت متكامل بلا احتجاج. 🟥 ثانيًا: ثقافة العبور العقيم… المرور كفعل نكران جماعي: "لقد صرنا نمرّ على كل شيء مرور الكرام وكأنّنا لسنا هنا أو كأن الأمور لا تعنينا." هذه الجملة تكتب سوسيولوجيا العجز. الشعب يمرّ على الأحداث كما لو أنه يشاهد فيلمًا لا يعنيه. الثورة لم تعد لحظة خلاص، بل صارت موجة على شاطئ النسيان. ما يفضحه النص هنا هو ظاهرة تفكّك الحسّ الجمعي، وتحوّل "الجماهير" إلى مجرد أفراد مُنهكين، بلا قدرة على الانفعال أو حتى على الألم. ❖ قال هربرت ماركوز: "الجماهير الخاضعة لا تدرك خضوعها، لأنها تظن أنها تختار." في هذا المقطع، ناظم العربي لا يرثي بلداً فقط، بل يرثي قدرة الناس على الشعور بالخسارة. لم نعد نتفاعل مع الموت، لأننا ميتون من الداخل. 🟥 ثالثًا: التطبيع مع الخراب… ذاكرة بلا ذاكرة: "نمرّ على مآسينا كأنها لم تقع... نمرّ على جراحنا ونشيح النظر عنها... وكأنها ليست حاضرنا..." تفكيك الجملة هنا يقود إلى قراءة سيكولوجية للمجتمع: نحن نمارس الإنكار الجمعي. هذه "المَرورِيّة" (passivité traversante) هي أخطر من القمع المباشر، لأنها لا تحتاج لسجون أو سياط؛ القمع صار داخلنا، بفعل التراكم، بفعل الإنهاك، بفعل تحويل الأحداث إلى "اعتياد". ❖ هنا تنسجم الورقة مع قول سلافوي جيجك: "نحن نعيش في نظام يجعل الكارثة خبرا روتينيا، واللاعدالة جزء من الطقس." فالألم فقد صلاحيته كأداة للوعي. صرنا نمرّ على رائحة الدم كما نمرّ على نشرة الطقس. 🟥 رابعًا: الطبيعة في حركتها، ونحن في موتنا المتكرر: "كل شيء من حولنا يتحرّك... السماء تمطر، الأرض تغيّر فصولها... ونحن فقط متوقفون عن الحياة، مستسلمون." الكاتب هنا يُقارن بين الطبيعة والكائن الاجتماعي. الطبيعة لا تكفّ عن التجدد: تمطر، تثمر، تهاجر... بينما نحن، البشر، عالقون في صقيع نفسي. لا نسعى، لا نحلم، لا نتحرك. إننا في وضعية موت "بيولوجي مؤجّل". ❖ هذه الفكرة تقاطع تحذير جورج أورويل: "أسوأ ما في الرق أن المرء ينسى أنه عبد." نحن الآن نعيش في واقع يذكرنا بأننا لسنا أحياء، ولسنا حتى أمواتا… بل "واقفون في أحذيتنا" — كما يقول النص — في تكرار رهيب لوضعية الجثة التي لم تُدفن بعد. 🟥 خامسا: أشباح في عالم ميت… "نحن العدم" "العدم فينا، وليس فيما حولنا.": هذه الجملة هي قمة التفكيك الوجودي في الورقة. الكاتب لا يُلقي باللوم على الدولة أو النظام أو العالم فقط، بل يُسائل ذواتنا المهترئة، ضمائرنا المعطوبة، ووجداننا الذي تآكل بفعل التكرار والتناسي. ❖ قال جان بول سارتر: "الجحيم ليس الآخرون… الجحيم هو ما فعلناه بأنفسنا دون مقاومة." العدمية هنا ليست فلسفة، بل حالة مجتمعية كاملة. نعيش في عزاء ممتد، وكلنا جثث تمشي، تتحدث، تستهلك… لكن بلا توق للتغيير. الورقة الثامنة تسجّل تآكل الحس الجماعي، وتحول الإنسان إلى كائن لا يستحق أن يُفجع. تُفكك مفهوم "الحدث" السياسي ليُصبح مجرد ومضة تمر بلا أثر، وتُدين الخطاب الرسمي الذي يقنّن الخراب. تنتقل من إدانة النظام إلى إدانة الذات الخاملة، وتكتب العجز بوصفه موتا وجوديا قبل أن يكون اجتماعيا. الحركات الطبيعية (مطر، طيور، فصول) تُقابل الجمود البشري، في مفارقة تفضح القطيعة مع الحياة. تُقدّم صورة رمزية قاتمة: الكل يتحرك إلا الإنسان، كأن الحياة قررت أن تواصل دونه. ❖ يمكن أن نلخص الورقة بقول فردريك جيمسون: "صار من الأسهل تخيّل نهاية العالم من تخيّل نهاية الرأسمالية." وناظم العربي، في هذه الورقة، لا يتخيل النهاية… بل يرصد كيف تجري الآن، بصمت، وبأقدامنا نحن. ☆.الورقة التاسعة — "حين يكون الحبر رجلا... وتغدو الكلمات مصيدة شغف". 🟥 أولاً: اقتحام العزلة... ولادة "الكتابة العاشقة": "اقتحم عليها وحدتها وهمس لها ببعض الكلمات، ثم كتب لها على هامش الصفحة الأولى من رواية..." هذه ليست حكاية حب تقليدية. هذه ورقة عن الكتابة حين تصير غزلاً حادًا، فوريًا، كأنها طلقة. الاقتحام ليس عنفا ماديا بل اقتحام وجداني. في لحظة واحدة، يتحوّل "الكاتب" إلى "حبر متجسد"، إلى شبح ناعم ينفذ من بين سطور رواية كانت تقرأها البطلة، ويكتب لها في الهامش — لا في القلب، بل على الهامش، كمن يريد أن يقول: "أنا منسيّ... لكنني هنا." ❖ نتذكر هنا ما قاله بريخت: "الكاتب الحقيقي لا يكتب في المتن... بل في هوامش الصمت." الكتابة هنا ليست تواصلا، بل تجليا سريا للرغبة المؤجلة. 🟥 ثانيًا: الكتابة كأثر... والقراءة كحبّ مضاد للمنطق: "أنا سيدتي أحد شخصيات الرواية التي تقرئين، انجذبتِ إليه في غمرة القراءة، فعشقك." هنا يبلغ النص لحظة ذروته الرمزية: شخصية وهمية تنشقّ عن الورق وتعترف بالحب. هل الكاتب موجود؟ هل هو حيّ؟ أم أن الحبر صار كائنًا؟ هذه استعارة جمالية قاتلة: الكاتب لا يترك أثره فقط، بل يَصير هو الأثر. وكأنّ الحبر ليس حبرا، بل روح تتجول في النصوص، تنتظر قارئا مؤهّلا ليحررها. ❖ قال رولان بارت: "القارئ هو من يحيي المؤلف الذي مات." لكن ناظم العربي يعكس المعادلة: المؤلف لم يمت، بل يعيش بين السطور... عاشقًا. 🟥 ثالثا: الفجوة بين اللقاء والفقد... الشعر يلد الحيرة: "وقع المفاجأة جعلها تستسلم لمشاعر لذيذة... لكنها بقيت مترددة، وجلة، لخوف مترسب فيها من المغامرة." النص هنا يعري هشاشة الحب المعاصر: حتى حين يوقظنا نداءٌ ناعم من قلب الورق، نخاف. الحب هنا ليس حدثًا، بل تهديدًا لهندسة الحياة العادية. الكاتب رجل من حبر، والبطلة تقرأه، تشعر به، تشتاق إليه... لكنها تتراجع. ❖ هنا نستحضر قول بول إيلوار: "أجمل ما في الحب أنه يرتجف مثلنا... أنه لا يثق في نفسه." الخوف لا من الكاتب، بل من ما يُمثّله: اقتحام اللغة لحياتنا، استبدال الواقع بالفانتازيا، استدعاء الممكن من اللاواقع. 🟥 رابعا: الرجل الذي لا يُلْحق... جسد الكتابة لا يُمسَك: "بحثت عنه في الشارع، في كل مكان، ولم تعثر عليه... لقد كان رجلاً من حبر." هنا لحظة كشف: الكاتب/الحبيب ليس إنسانا من لحم، بل كائن نصّي، غير قابل للقبض، غير خاضع للجغرافيا. إنه الغياب نفسه وقد تجسّد. النص يُنهي الورقة بـ"خسارة جميلة"، بل "حزن مُشرق" يجعل من اللقاء لحظة أبدية غير قابلة للتكرار. ❖ وهنا نتذكر عبارة سارة كين: "في النهاية، نحن لا نحب الأشخاص، بل الأثر الذي يتركونه فينا." الكاتب لم يكن حاضرا جسدا، لكنه ملأ كيان البطلة... لذلك لم تكن بحاجة لرؤيته، بل للبحث عنه، ليبقى حيًّا في الحركة، في السؤال، لا في الجواب. الورقة التاسعة: ترسم لحظة حب لا تحدث في الحياة بل داخل الأدب — في الهامش، لا في المتن، تفكك علاقة القارئ بالنص، وتعيد الاعتبار للكاتب كمخلوق من أثر، من ذاكرة، من رغبة لا تُمسَك. تسائل قدرة المرأة المعاصرة على الانخراط في المغامرة، حتى حين تكون رغبة جارفة. تعلن أن الكلمات ليست زينة أو وسيلة، بل كائنات حية تشتهي وتُشتهى. "الرجل من حبر" هو استعارة للكاتب المتواري، الذي يبعث نفسه في النصوص ولا يُراد له أن يُقبض عليه. ❖ باختصار: إنها ورقة عن العشق المكتوب، عن رغبة لا تريد اكتمالا، بل أن تبقى أبدا في فعل "البحث". الورقة العاشرة — "إفريقيا الحطام… حين تتحوّل الثورة إلى نشيد غربان". 🟥 أولا: دخول إفريقية... بين "المفارقة" و"الفضيحة": "إذا دخلت إفريقية، فوافق أو نافق أو غادر البلاد."(ابن خلدون) الجملة المفتاحية في هذه الورقة تصلح أن تكون عنوانًا لنهاية الطور الأول من "الحلم التحرّري" في العالم العربي والإفريقي. وهي عبارة تتكثف فيها ثلاث إمكانيات وجودية للإنسان ما بعد الاستعمار: الموافقة = الخضوع للنظام. النفاق = تمثيل دور المعارض. الرحيل = الهروب. هذه ليست دعوة للاختيار، بل وصف لأفق منعدم البدائل. ليس هناك خيار للكرامة أو النضال أو التغيير. فقط ثلاث منافذ مغلقة: التواطؤ، الزيف، المنفى. ❖ نستحضر هنا عبارة فرانز فانون: "إما أن تكون خائنا لأمّك إفريقيا، أو شهيدا في صمتها الأبدي." لكن الورقة تضيف طبقة سخرية قاتمة تجعل فانون يبدو متفائلًا بالمقارنة. 🟥 ثانيا: "الوجوه المتبدلة الرثّة"... الانهيار الجمالي للبشر: "يا لهذه الوجوه المتبدلة الرثة المتبلدة..." يتحدث الكاتب عن الجماهير التي لم تعد تحمل قسمات الثورة، بل صار وجهها قناعا باهتا. إنهم يمشون في مظاهرات، يرفعون شعارات، لكن: لا شغف، لا تمرد، لا مشروع. الناس صاروا أشباحا تتحرك على ركام مراكبهم المحروقة، وتحاول إقناع نفسها بأن الرماد الذي تمشي عليه... شيء مقدس! ❖ قال أنطونيو نِغري: "التمرد دون أفق يصبح تمرينًا على الموت البطيء." وهكذا، الجماهير التي كان يُفترض أن تكون "قوة التغيير"، تحوّلت إلى صدى لعنف مضى، بلا روح. 🟥 ثالثا: رمزية البغال والحمير... من "حيوانات الثورة" إلى "بهائم الردة": "...ليتشاهد الحشد وهو يعبر على البغال والحمير باتجاه مزرعة الحيوان..." الإحالة إلى رواية "مزرعة الحيوان" لـ جورج أورويل ليست عبثية. هناك تواطؤ بين الكاتب والقارئ في إدراك أن كل الحركات الثورية العربية، حين لم تمس جذور السلطة الاقتصادية، انقلبت إلى استبداد باسم الشعب. فمزرعة الحيوان لم تسقط الطغيان، بل فقط غيرت وجوهه. ❖ تقول قاعدة أورويل: "كل الحيوانات متساوية، لكن بعضها أكثر مساواة من البعض الآخر." ومشهد البغال والحمير هنا يُعبر عن التحوّل المهين للثائر إلى عبد، يتقدّم رافعا لافتة النصر، وهو في الواقع يعود القهقرى إلى حظيرة الطاعة. 🟥 رابعا: انفجار اللغة الشعرية... الرماد المبارك والعفن المقدّس: "...وتتجمع حول رمادها، تباركه وتنتشي بعفونته..." الصورة هنا شعرية في مظهرها، لكنها تفكيكية في جوهرها. لم يعد الحطام يُرفض، بل صار يُعبد. العفن يُشمّ، ويُعلن عن وجوده كنشيد انتصار. الرماد، الذي كان يُفترض أن يكون مرحلة ما بعد الاحتراق، أصبح بذاته هوية جماعية. ❖ قال غي ديبور: "الاستعراض (Spectacle) يخلق واقعًا يفرض عليك أن تُعجب بما يجب أن تحتقره." ناظم العربي يقول:" لقد تكيّفنا مع الخسارة حتى صارت دينًا." 🟥 خامسا: حضور "هوراس"... صوت الغائب الذي لا يُنقذ: "أينك يا هوراس؟" هوراس، الشاعر الروماني في زمن أغسطس، يستدعى لا كمرجع ثقافي بل كمثال على المفارقة بين "الخطاب الجميل" و"الواقع المنهار". من يملك قدرة الإنشاد وسط الخراب؟ من يكتب شعرا وسط مستنقع القذارة؟ من يصدّق أن هوراس قد يعود في عالم مات فيه المعنى؟ ❖ يُذكرنا هذا بما قاله تي إس إليوت: "هل يمكن للمرء أن يعيد ترتيب القطع المكسورة بعد الطوفان؟" إنه استحضار عبثي لشاعر لا ينتمي للعصر، لكنه يُدعى ليكون شاهدا أخيرا على سقوط كل شيء. الورقة العاشرة تكتب شهادة وفاة الوعي الثوري في العالم الثالث، لا بوصفه مشروعًا فاشلاً، بل بوصفه تمثيلية انتهت فصولها وتحولت إلى سيرك جماهيري. تفكك صورة الجماهير المتمردة وتحيلها إلى قطعان مأخوذة بنشوة السير على الرماد. تعري الكاريكاتير الثوري: حيث لا يوجد أمل، بل مجرد أقنعة تتبدل في مسرحية مكتوبة سلفا. تحوّل "مزابل التاريخ" إلى قبور مقدسة، والرماد إلى طقس شعائري. تُظهر كيف تتحوّل الهزيمة إلى طقس وطني، وتُدجّن الشعارات لتصير أسوأ من صمتها السابق. ❖ باختصار، يمكن القول مع مارك فيشر: "نحن لا نعيش نهاية التاريخ... بل نعيش عجزا جماعيا عن تخيله بشكل مختلف." ☆.الورقة الحادية عشرة : "موت الرفيق في صمت: مديح النفاق الثوري". 🟥 أولاً: الجار كنموذج : حين يصير الرفيق "بائع شعارات". "جاري في الشقة المقابلة يدافع عن التأميم، وكثيرا ما يستوقفني ليحدثني عن غرامشي..." منذ السطور الأولى، نعرف أننا أمام شخصية تحمل كل شارات اليسار: التأميم، الثورة، الكتلة التاريخية، غرامشي، العمال. ولكن... شيئا فشيئا يتبين أنها نسخة رديئة من المثقف اليساري، لا يؤمن إلا بالخطابة، ولا يشتبك مع الواقع، بل يُفرغه من معناه ويحشوه بالاستعراض. ❖ قال أنطونيو غرامشي: "كل إنسان مثقف... لكن ليس كل مثقف جدير بقيادة وعي الآخرين." الجار هنا ليس غرامشي، بل كاريكاتور لغرامشي... مجرد ناقل أصوات، يجيد الاستشهاد لكنه لا يحمل قضيّة، يستعرض أفكاره كأثاث سياسي. 🟥 ثانيا: الجنازة — حين يموت الرفيق مرتين: "توفي اليوم إثر سكتة قلبية، ولم أحضر جنازته..." هذا المشهد البسيط في الظاهر يُخفي واحدة من أكثر اللحظات شعرية ومرارة في الورقة: المثقف الذي صرخ، نادى، خطب، ومات... ولم يفتقده أحد حقًا. الراوي يعترف دون تردد أنه لم يذهب للجنازة، لا لأنه بلا إحساس، بل لأن الجار نفسه كان قد مات رمزيًا منذ زمن. لقد "تشيّأ"، تحوّل إلى أسطوانة محفوظة، وصار ممجوجا. ❖ نستحضر هنا ما قاله كافكا: "يموت الناس حقا عندما لا يعود لهم أثر في مشاعرنا." الموت الحقيقي هو موت الأثر، موت الصدق، موت الحضور الوجداني. اليساري الذي لم يعد أحد يصدقه... هو ميت، ولو كان حيّا جسدا. 🟥 ثالثا: "البونابرتي الشيوعي" — رطانة الأدلجة : "...كان يخطب عن جيفارا، وعن بونابرت، وعمر بن الخطاب، وديغول، وحسن نصر الله..." ما هذه التوليفة؟ إنها كوكتيل من التناقضات الإيديولوجية، خليط من القومجية، الدينية، الإمبراطورية، الثورية، الشعبوية، في قالب واحد. الجار لا ينتصر لفكرة، بل ينتصر للشعارات في ذاتها. إنه يمجّد الجميع، كما لو أن الثورة هي خطاب إجماع لا خطاب صراع طبقي. يختزل النضال في رفع أعلام لا تحمل مضمونا. ❖ قال لويس ألتوسير: "الأيديولوجيا هي العلاقة المتخيلة بين الأفراد والواقع الحقيقي." والجار يعيش في "ألبوم صور" لا في واقع، يعرض تاريخه في سطور منمقة، لا يزعجه التناقض بل يطربه. 🟥 رابعا: "لم يمت مرة بل مرتين" — موت المشروع مع موت الشخص: "بل من أمر آخر، وهو كيف للإنسان أن يموت مرتين؟" العبارة هنا تكشف الفكرة الجوهرية: إن مثقف الشعارات لا يموت جسديا فقط، بل يموت عندما يفقد قدرته على تحريك المعنى. الجار كان جثة منذ صمته الطويل عن الواقع. الموت الثاني كان تأكيدا لما حدث منذ زمن: وفاته كفاعل تاريخي. ❖ قال هربرت ماركوز: "حين يفقد الثوري قدرته على الحلم، يتحول إلى بيروقراطي." والجار تحول إلى بيروقراطي المشاعر الثورية. يوزّع المنشورات ولا يقرأها. يرفع الرايات ولا يحمل الفكرة. فمات، ولم يكن لموته وزن. الورقة تسخر من اليسار الانتهازي، الذي فقد الصدق والتحم بالحشود دون مشروع حقيقي. تفكك صورة المثقف التونسي والعربي ما بعد 2011، الذي يجمع بين الخطاب الثوري والممارسة البورجوازية الصغيرة. تظهر مأساة من ظلّ يرفع راية الثورة في مسيرات استعراضية دون ارتباط عضوي بالطبقات المسحوقة. تتأسف على مشروع تحرّري مات دون أن يحضر جنازته أحد. تؤكد أن أسوأ أنواع الموت، هو موت القيم حين يتحدث باسمها رموز بلا معنى. ❖ ويمكن أن نختم بمقولة بيار بورديو: "الثوري الحقيقي ليس من يصرخ في الميكروفون، بل من يكسر صمت البؤساء ويعيده لغة." ☆.الورقة الثانية عشرة — "حين تعثر على فكرتك ذبيحةً على قارعة الطريق". 🟥 أولا: الصدمة الأولى — "الفكرة المذبوحة": "كثيرا ما تعثر على فكرتك ملقاة على قارعة الطريق..." هنا، يُفتَتَح النص بشبه اعتراف وجودي ـ مرّ، أشبه بندبة فكرية لا تندمل، حيث لا تُولد الفكرة من التأمل الهادئ أو من "قاعات المحاضرات"، بل تُكتشف كما تُكتشف جثة مجهولة. إن ما أراده الراوي واضح: لم تعد الأفكار "ناتجة" عن العمل النظري أو التجريب الثوري، بل صارت "مخلوقات مشوهة"، تُباع وتُشترى في سوق الخطابات المهترئة. ❖ يقول جان بول سارتر: "ليس المهم أن يكون للفكرة أجنحة... المهم أن لا تُنتزع منها روحها." الفكرة التي يراها الراوي ليست فكرتَه كما تخيّلها، بل هي نسخة محطمة عنها، مفرغة من جوهرها، مشوهة، معلّقة كجثة مكشوفة في مزاد الثرثرة العامة. 🟥 ثانيا: من الفكرة إلى البضاعة — "سلخ المعنى": "...لأنه تم ذبحها وسلخها وتشويه ملامحها وتعليقها بضاعة فاسدة." هذه الجملة تمثل أقسى درجات القسوة الرمزية على "الوعي التقدمي". ليست الفكرة هنا ضحية عرضية، بل ضحية لاغتصاب متعمد من طرف الخطابات الرسمية والانتهازية والثورجية. لقد تمّ قتل الفكرة اليسارية نفسها، وتحويرها إلى مادة قابلة للتسويق الإعلامي أو التوظيف السياسي. ❖ يُحيلنا هذا إلى ما قاله مارك فيشر في "رأسمالية الواقعية": "حتى التمرد أصبح منتجا ثقافيا. لا شيء ينجو من التدوير في آلة السوق." وهكذا لم تعد الأفكار تُعبّر عن "جوهر التناقض الطبقي"، بل عن تمثيل مزيّف للانحياز، يسهل تحويله إلى أغلفة مجلات وخطابات رسميّة، بلا أثر. 🟥 ثالثا: الجملة الفاصلة — "أكثر المشاعر حزنا وإيلاما...": "...أن تعثر على فكرتك وقد تحولت إلى جثة هامدة." هذه الجملة تمثّل نداء وجوديًا يتجاوز الحدث. الراوي هنا لا يشتكي من سرقة فكرته فحسب، بل من تفريغ المعنى الذي من أجله عاش أو كافح. لقد تحوّل ما كان حلما مشتركا إلى شعار فاسد، إلى جثة لا يُعرف من قتلها، بل الكلّ شارك في جريمتها بالصمت أو التكرار أو الاستهلاك. ❖ قال رولان بارت: "حين تموت الفكرة، يتحوّل الخطاب إلى طقس جنائزي لا أحد يبكي فيه." وهكذا، تقف الورقة الثانية عشرة عند مفترق رهيب: الفكرة حين تُفقد ملامحها، لا تُنسى فقط، بل تُستبدل بنقيضها. الورقة تُعد من أقصر الأوراق من حيث الشكل، لكنها من أكثرها شحنة رمزية، وتصلح كمرثية لليسار حين يُصبح "ملكية عامة"، تتنازعه الأطراف. تُسجّل الوعي بالاغتراب، ليس كحالة شعورية، بل كحالة فكرية: أن تعود لفكرتك ذات يوم، وتجد أنها لم تعد لك. تُعيد طرح سؤال "الصدق الثوري": هل يمكن لفكرة يسارية أن تبقى حيّة إذا استُعملت لخدمة البرجوازية أو الشعوبية أو الاستبداد؟ تحذّر من التفاهة التي تُحيل الأفكار الكبرى إلى "لافتات استهلاكية"، وتجعل من المثقف ذاته شاهدا على جنازته. ❖ نختم بكلمات هربرت ماركوز: "حين تتحول الفكرة إلى أداة، تفقد قدرتها على التغيير." ☆.الورقة الثالثة عشرة — "الاحتراق كصرخة ضد اللامعنى: استشهاد الفكرة في الجسد". 🟥 أولا: افتتاحية الورقة — "جثة تحترق وسط العاصمة": "ساحة كبيرة تقع في قلب العاصمة... سكب أحد المارة البنزين على جسده وأشعل النار فيه..." لسنا أمام مشهد صحفي، ولا حادثة طارئة. نحن أمام فعلٍ رمزيّ عنيف يكشف الباطن الاجتماعي المكبوت. الجسد الذي يحترق ليس جسد إنسان فقط، بل هو جسد النظام، وجسد الدولة، وجسد الوطن الفارغ. إننا هنا أمام أقصى درجات الاحتجاج: حين يُستبدل القول بالفعل، وحين يصبح الجسد هو النص، والاحتراق هو الفكرة. ❖ يقول أنطونيو نيغري: "حين لا تجد الجماهير ما تقوله، فإن أجسادها تتكلم نيابة عنها." وفي هذه الورقة، الجسد يتكلم. ليس لأنه يريد الموت، بل لأنه عاجز عن الحياة. 🟥 ثانيا: المرأة المندهشة — "سؤال البراءة": "يا لهول ما أقدم عليه! لماذا ترى يفعل كل ذلك؟ بلدنا بلد عجيب!" هنا تظهر شخصية المرأة التي ترافق الحدث، وهي تمثل اللاوعي الشعبي، الذي يُصدم من الحرق لكنه لا يفهمه. المرأة تسأل بأسى، ولكن دون فهم عميق. إنها ترى في الفعل نوعًا من الجنون، أو انتقاما من الذات. وتلك هي المعضلة: أن لا نعرف من يحترق فينا... ولا لماذا يحترق. ❖ قال جورج باتاي: "لا يوجد فعل أكثر عقلانية من فعل يبدو جنونيا وسط الجنون العام." فالعنف الذاتي في مجتمع مضطرب ليس دليلا على الجنون، بل على إدراك مأساوي يفوق طاقة التحمل. 🟥 ثالثا: تدخل الراوي — "تحليل دون عاطفة، بتوكس يساري": "ربما هو يثأر من نفسه... أو من أمرٍ ما... أو مريض بالسكيزوفرينيا..." الراوي هنا لا يقدّم إجابة، بل يتهرب منها. يظهر وعيه السياسي في الخلفية، لكنه يخاف أن يُدينه. فيتأرجح بين التحليل الطبي والتحليل الاجتماعي. وهنا نرى مأساة الوعي اليساري المعاصر: أنه يعرف الجواب لكنه لا يجرؤ على المجاهرة به. يعرف أن هذا الفعل ليس مرضا، بل صرخة طبقية، لكنه يتهرب منها باسم الحذر. ❖ قال فرانز فانون: "الاستعمار يولّد العنف، لأنه لا يفهم إلا لغة العنف." والنظام ما بعد الاستعمار يولّد الانتحار، لأنه لا يترك إلا باب الاحتراق. 🟥 رابعا: "الطفلان" — وجود الجيل القادم في مسرح الجريمة: وجود الطفلين في المشهد ليس عبثا. إنهما يمثلان الأمل الذي يتهدد أمام العجز العام. الحرق ليس فعلا من الماضي، بل رسالة للأجيال القادمة: هذا العالم الذي سيستقبلكم، هو نفس العالم الذي دفعني إلى الانتحار. وجود الطفلين يُحوّل الحرق إلى صورة مستقبلية مشوهة، تنذر بأن العطب ليس شخصيا، بل مجتمعي وجيلي. ❖ قال تودوروف: "الرمز الأقوى في الانهيار ليس الجثة، بل الطفل الذي يراها ولا يفهم." 🟥 خامسا: النهاية المفتوحة — "الراوي يغرق في نفسه": "واصلت طريقي... تخترقني أفكار وأفكار..." هنا لا توجد خاتمة. الراوي لا يتخذ موقفا نهائيا. إنه يتركنا وسط عاصفة الأسئلة، كمن يرى العالم ينهار ولا يملك سوى الغرق فيه. من هنا تتجلّى قوة الورقة: ليست في ما قيل، بل في ما كُتم، وفي ما ترك من غموض. القارئ يُجبر على أن يتّخذ موقفًا، أو أن يصمت كما صمت الراوي... وهذا هو التفكيك الحقيقي. ❖ نختم بما قاله سلافوي جيجيك: "أن تكون عاجزا عن الفعل، لا يعني أنك لا تعرف ما يجب فعله. بل يعني أنك لا تستطيع دفع الثمن." الورقة تُفكك تواطؤ المجتمع مع الفعل الانتحاري من خلال الصمت، التحليل البارد، والاستهجان الأخلاقي السطحي. تبرز كيف تحوّل الجسد في النظام النيوليبرالي إلى "رسالة سياسية" حين تفشل الكلمات. تُدين قدرة المجتمعات على التعايش مع الفجيعة اليومية، وتكيّفها مع اللامعنى. تتساءل عن موقع اليسار المعاصر بين التحليل والموقف، بين الإدراك والتخاذل. تستدعي وعينا كي لا نصبح شهود زور، ولا نتعوّد على الاحتراق كأنه حدث عرضي. ❖ أخيرا، قال جاك دريدا: "أسوأ العنف هو حين تمرّ الكارثة بجانبك وتكتفي بمراقبتها." ☆.الورقة الرابعة عشرة — "الشذرة المقطوعة: حين تتعطّل اللغة عن أداء الندبة". 🟥 أولا: جسد الورقة كدليل ماديّ على انهيار المعنى: "ورقة مشظّاة أقرب للتلف... حبرها لا يكاد يُرى... كلماتها القصيرة لا تكاد تُقرأ..." بنية الورقة نفسها تشبه الجثة النصيّة: شبه محذوفة، مشوشة، غامضة، لا تقبل التأويل التقليدي. هذا الأسلوب ليس مجرّد تقنية أدبية، بل هو انعكاس لنمط تفكك الوعي ذاته، والذي لم يعد قادرًا حتى على قول جملٍ متكاملة. ❖ قال فردريك جيمسون في حديثه عن سرديات ما بعد الحداثة: "حين ينفجر الزمن وتنهار البنى السردية، يتحوّل النص إلى شذرات باردة تنبض بما فقده من حياة." وهكذا تُجسّد الورقة الرابعة عشرة هذا الانفجار: انفجار النص، والذاكرة، والهوية، وحتى المعجم. 🟥 ثانيا: لطخة الحبر — "رمز التعتيم والقمع": "لطخة حبر كبيرة غطّت على الكتابة فلم تعد تظهر غير حروف قليلة مشوهة..." اللطخة ليست عنصرا شكليا، بل هي علامة على فعل التمويه السلطوي أو الذاتي، على القمع الذي يحدث داخل النص كما يحدث خارجه. هي محاولة لطمس ما لا يجب قوله، لما يتجاوز القدرة على النُطق. إننا لا نعرف ما كُتب، لكننا نعرف أن هناك شيئًا تم طمسه عمداً. ❖ كما قال ميشال فوكو: "ما لا يُقال هو أيضا جزء من الخطاب. الصمت هو قناع السلطة." وفي هذا السياق، فإن لطخة الحبر هي السلطة التي تُخفي، ولكنها في إخفائها تفضح، وتكشف عن جريمة حدثت ولا تريد لها الكلمات أن تشهد. 🟥 ثالثا: اسم عبد الرحمان الكافي — "بقايا الشاهد": "...ولكن اسم عبد الرحمان الكافي يمكن تبينه بوضوح." بين كل الشظايا واللطخات، ينجو الاسم: عبد الرحمان الكافي. وهو شاعر تونسي شعبي كتب باسم المقهورين، واستخدم العامية لتفجير المظالم. ❖ الكافي هو، بهذا السياق، بقايا الذاكرة المتمردة، الصوت الوحيد الذي لم يُمحَ رغم لطخات الحبر. هو الذكرى التي لا تموت. وربما لهذا السبب بالذات تم التعتيم عليها — لأنها حقيقية، لأنها ثورية، لأنها فضيحة للخرس العام. ❖ قال برتولت بريشت: "في زمن الخيانة، يصبح قول الحقيقة فعلاً ثوريًا." والكافي كان يقول الحقيقة بلسان الشعب. إنه مَن لم تتحوّل كلماته إلى "جثة هامدة"، بل إلى "أثر مقاوم". 🟩 تحليل تأويلي ممتد: بنية الورقة المبعثرة ليست نقصًا، بل إدانة: الشكل المتشظي للورقة يعكس تشظّي الوعي القومي والشعبي والطبقي، حيث حتى الورقة — باعتبارها أداة قول — لم تعد تحتمل ثقل القول. اللطخة كإعدام رمزي: هي أقرب إلى الرصاص الثقافي — حيث يتم طمس الشهادة بالرمز، تمامًا كما يُقتل المعارض بالرصاص، لا ليُنسى، بل ليُمنع من البوح. بقاء الاسم الوحيد: الكافي: وكأنّ المؤلف يريد أن يقول: كل شيء يُمحى، إلا أصوات من قالوا الحقيقة. الورقة تعبير عن عجز الكتابة: في زمن السقوط، لا تستطيع الكتابة حتى أن تحكي، بل تتلعثم، وتُحذف، وتُلطّخ. 🟥 في قلب هذه الورقة، نستحضر كلمات إدوارد سعيد: "المنفى الحقيقي ليس أن تكون خارج المكان... بل أن لا يكون لك صوت يُسمع." وهذا بالضبط ما تقوله هذه الورقة: لقد تم تمزيق الصوت، محو العبارة، وتمت الإبقاء فقط على اسمٍ يتيمٍ، كأنه شاهد قبر على كل من سبقوه ولم يُذكروا. الورقة الرابعة عشرة هي أكثر الورقات "بصريّة" في عنفها الرمزي: ليست نصا لتُقرأ، بل لتُحس كصوت مبحوح، وكصفحة مخنوقة. تؤكد على أن الصمت جزء من الخطاب، وأن اللامكتوب أحيانا هو الأكثر فضحا. تبعث برسالة حزينة: "حتى الكلمات لم تعد لنا". وتدعونا — نحن القرّاء والمثقفين — لأن نكون أصوات من تم محوهم بالحبر الأسود. ❖ غرامشي يقول : "التاريخ ليس فقط ما كُتب، بل ما لم يُكتب ولم يُسمح له أن يُكتب." ☆.الورقة الخامسة عشرة — "حين تموت الآلهة وتموت الأوثان: تأملات يسارية في نهاية الأنساق الكبرى". 🟥 أولًا: "ليس الله فقط من مات" : بداية نيتشوية "ليس الله فقط هو الذي مات. الإيديولوجيات أيضا ماتت." هذه الجملة تفتتح الورقة بصيغة نقض مزدوج: الله مات (نيتشه)، ولكن ليس وحده، بل ماتت أيضًا الإيديولوجيات، وكأننا في عصر ما بعد الإيمان وما بعد الثورة معا. وهنا، لا يتحدث الكاتب من منطلق استهزاء أو تحرر فردي، بل من ألمٍ جمعيّ يساريّ، يرى أن حتى أحلام التغيير تحللت، وأنّ الإنسان المعاصر وُلد في رماد الأفكار، لا في ألقها. ❖ كما قال هربرت ماركوزه: "نهاية الإيديولوجيا ليست انتصار العقل، بل استقالته." 🟥 ثانيا: "دور الفروع بعد موت الجذر" — نقد لحظة ما بعد الحداثة: "مات الجذر والدور اليوم على الفروع." يمرّ الكاتب إلى صورة مجازية عميقة: الجذر، أي الفكرة المركزية، الإيمان الثوري، انتهى. وبقيت الفروع، أي الشظايا، الأجزاء، التفصيلات التافهة. ❖ هنا نرى صدى تحليل بودريار عن محاكاة الواقع بدل الواقع: "في غياب الأصل، تصبح النسخة هي المعبد." ولذلك فالعالم الآن يلوك خطابات عن الديمقراطية، المساواة، الحريات، لكنه لا يعيشها. لقد أُكل الجذر، وبقي اللغو المطبوع على اللافتات. 🟥 ثالثا: "أوهام الليبرالية والاشتراكية والدين" — تفكيك الثلاثي المؤسس للقرن العشرين: "الليبرالية تحترق... الاشتراكية كليانية فاسدة... الدين تنهيدة مسحوق..." في هذه الجملة يتجلى التمرد الكامل: لا قداسة لليمين أو اليسار أو المقدس. الكاتب هنا لا يُدافع عن نسخته من الإيديولوجيا، بل يُنقّب عنها من داخل القاع، من تجربة الفشل لا من منصة الشعارات. الليبرالية: نظام يتحلل، يُنتج الهامش والفقر والإقصاء. الاشتراكية: في صيغتها التاريخية الأولى، مسخ تقنيّ سلطويّ. الدين: لم يعد خلاصا، بل صار وسادة وهم، أو كما يقول: "تنهيدة مضطهد... تأوهات مسحوق... حلم سماوي يغرقه في المتخيّل." ❖ نذكّر هنا بـكارل ماركس الذي قال: "الدين هو تنهيدة المخلوق المضطهد، قلب عالم لا قلب له، روح أوضاع بلا روح. هو أفيون الشعوب." ولكن الورقة لا تكرر الماركسية، بل تُعمّقها، تُأدلج ما بعد الماركسية، فتشير إلى أن حتى البدائل فقدت بديلها. 🟥 رابعا: الكليانيات وانتحار الإنسان: "الإنسان يولد على نقيض كل الكليانيات." هذا الإقرار بنهاية الحلم الكبير لا يُفضي إلى التشاؤم، بل إلى إعلان ميلاد إنسان متمرّد على كل الكليانيات، منفتِح على الشكّ والرفض، لا يعيش داخل الأنساق، بل على حوافّها. ❖ قال سارتر: "الإنسان مشروع ينقض ذاته باستمرار." وهنا نصل إلى ما يمكن أن نسميه اليسار الوجوديّ في تفكير هذه الورقة: التمرّد المستمر، الغضب النبيل، ورفض المقدس، حتى وإن كان يساريًا. 🟥 خامسا: "تاريخ السعادة شبه منعدم": "تاريخ السعادة يكاد لا يوجد. مفهوم السعادة مورّس عليه حيف لا نظير له." كم هو عنيف هذا القول. الكاتب لا يحتجّ ضد الفقر أو الاستبداد، بل يضع إصبعه على العمق الأبدي للتعاسة البشرية. السعادة لم تكن قط ميراث الشعوب، بل كانت ميراث النخب، والزعماء، والجنرالات. ❖ قال فرويد: "السعادة ليست حالة دائمة، بل انفلات نادر من قبضة الواقع." والكاتب يقول: حتى هذا الانفلات لم يكن من نصيبنا. 🟥 سادسا: الختام بشعار: "لنخلّص الحيّ من الميّت" "لنخلّص الحي من الميت.": شعار أشبه بوصية يسارية جذرية: لا يكفي أن نحلم. لا يكفي أن نحمل شعارات الموتى. بل علينا أن نحفر قبورا للأفكار التي انتهت، لكي نُنقذ من تبقى حيا داخلنا. ❖ هذا الصدى تجده عند والتر بنيامين حين كتب: "الثورة ليست قطارا يتقدم، بل هي شدّ طوارئ لإيقاف القطار." الورقة تعلن موت المعتقدات الكبرى، لكنها لا تُبشّر بالعدم، بل ببديل أكثر تواضعًا: العمل الشاق، والتفكير النقدي، والبحث عن المعنى في اللامعنى. تُدين الإيديولوجيا، لا من موقع العدمية، بل من موقع التجاوز الموجّه. تُشير إلى أن الإنسان الجديد هو من يرفض كل أوثان الألفية السابقة: الليبرالية، الستالينية، والسلفية. تُعلن في النهاية أن المهم اليوم ليس أن تكون ثوريا، بل أن تكون واعيا بتعقيد الثورة، ومتخليا عن فخ الأجوبة الجاهزة. ❖ أختم بكلمة إرنستو ساباتو: "المؤمنون المطلقون خطيرون كالقتلة. وحده من يشكّ هو من لا يطلق الرصاص." ☆.الورقة السادسة عشرة — "حين تتواطأ اللغة: عن خيانة المعجم وسلطة الكلام". 🟥 أولا: افتتاح بقلق وجودي لغوي: "لماذا لا نكبر في الذاكرة بل نكبر في النسيان؟" الورقة تنطلق من سؤال وجودي مكثف، يكشف تناقضًا مرًّا: نحن لا نُخلّد في الذاكرة، بل في النسيان. وكأنّ كل ما نفعله، نقوله، نكتبه... يتبخر قبل أن يُصبح أثراً. هذا السؤال يختصر أزمة الذات المفكرة والناطقة في زمن تتآكل فيه كل ضمانات التخليد: لا تاريخ، لا بطولة، لا أثر. نحن مجرّد فواصل منسية في كتب غير مقروءة. ❖ كما قال هايدغر: "اللغة بيت الوجود، ولكنها أيضًا قبره." 🟥 ثانيا: تشخيص مرض اللغة — "اللغة لعينة، خائنة، تتآمر": "اللغة... كم هي لعينة... كم هي خائنة، متآمرة معهم..." الكاتب لا يتحدث عن اللغة كشكل بل عن البنية السلطوية التي تسكن اللغة. فاللغة التي تُفترض وسيلة للتحرر والتعبير، تتحول إلى جهاز قمع رمزي، وتُسخّر لخدمة السلطة، ولقتل الحيّ باسم الكلمات. ❖ هذه الرؤية تتماشى مع ما قاله رولان بارت: "اللغة فاشية. ليست لأنها تقول، بل لأنها تُجبر على القول." وبذلك، تتحول اللغة إلى مؤسسة قمعية، تُصادر الإمكان الثوري، وتحاصر المعنى في قوالب جاهزة، وتجعل الثورة مجرد شعار، والأمل مجرد إشهار. 🟥 ثالثًا: انفجار في قاموس اليومي — تفكيك شعري لمعجم ميت: "لغة الصرف... لغة العلة... لغة القانون والدستور... لغة الخمور والمحظور... لغة الديكور..." يمضي النص في تعداد شعري نقدي ساخر لعشرات أنماط اللغة المهترئة التي نتداولها. إنها قائمة طويلة من اللغات اليومية الزائفة التي تُستخدم لتزييف الواقع، للضحك على العقول، لتجميل البشاعة، لترويج الرداءة. لغة "سيدي حسين" و"الملاسين" لغة "الديكور" و"الخمر" و"الدستور" لغة المعارضة والمعاضدة، واليسار والانحدار لغة الحملات الانتخابية، والملصقات، والمخدرات... كل هذه اللغات، رغم تعددها الظاهري، تنبع من مصدر واحد: سوق الاستهلاك الرمزي. فاللغة لم تعد تصنع المعنى، بل تشتري المعنى وتبيعه وتسوقه كسلعة فاسدة. ❖ قال غي ديبور في "مجتمع الاستعراض": "اللغة لم تعد تُستخدم للتعبير عن الحقيقة، بل لترويج تمثيلات وهمية تُخفي فراغ الواقع." 🟥 رابعا: حين يُصبح المعجم القوميّ مقبرة من خلال هذا الانفجار القاموسي، نكتشف أن الكاتب يحاول أن يقول: "كل كلمة أصبحت حاملة للموت، لا للحياة. كل تعبير سياسي أو ديني أو ثقافي صار جزءًا من التمويه الشامل." حتى المعجم الوطني تحوّل إلى ملهاة، والوعي الجماعي بات مشبعا بـ"لغة من تحت لحزام"، كما يسخر النص، في إشارة إلى ابتذال الخطاب العام، وابتلاع الثقافة الشعبية من قبل الرداءة. 🟥 خامسا: الختام بلغة القهر — "لغة المخابرات والمخدرات": "لغة المخدرات والمخابرات... لغة الأموات..." الختام مأساوي. في النهاية، تتحول اللغة نفسها إلى جهاز بوليسي رمزي، حيث الكلمات تُراقَب، والمعاني تُزَوَّر، والأفكار تُحقن كالمخدر في الوعي. وهذا يُحيلنا إلى ما قاله نعوم تشومسكي: "أخطر سلاح للسلطة ليس الشرطة، بل اللغة." فاللغة المراقبة تُنتج شعبا مراقبا، عاجزا عن الصراخ، مكتفيا بالهذيان على الشاشات. 🟨 تحليل سياسي ثقافي موسّع: الورقة تشخّص موت الخطاب الثوري الأصيل، وابتذاله إلى مجرد شعارات ترويجية. تكشف أن اللغة المهيمنة اليوم هي لغة إشهار سياسي وقح، لا لغة تحرر فكري. تشير إلى عجز الذات الثورية عن استعادة المعنى في هذا التلوث اللغوي المعمّم. تعلن أن الثورة الثقافية الحقيقية، تبدأ بتحرير اللغة نفسها. الورقة السادسة عشرة ليست فقط إدانة سياسية، بل صرخة معرفية في وجه اللغة ذاتها. اللغة أصبحت سجناً. بلغة سارتر: "الكلمات مساجين المعنى، ولكن في هذا الزمن، صارت السجّان." ❖ لعلّ أكثر عبارة تختصر هذه الورقة هي: "اللغة اليوم لا تصف الواقع، بل تصفف الواقع." إنها لغة تصفيف التناقضات، لغة لَمْلَمَة النفايات، لغة التجميل الرخيص لجثة وطن تُرك في البرد والعفن. ☆.الورقة السابعة عشرة — "في زمن الاستحالة: حين تعجز البشرية عن أن تحلم". 🟥 أولا: خطاب الحيرة لا الخطاب: "هل تكون القدرة على استنباط الحلول قد صارت أبعد وأعسر من قدرة محتاجيها؟" هنا لا يسأل الكاتب عن حل، بل عن إمكان طرح السؤال أصلا. فالخطورة ليست في الأزمة، بل في أنّ العقل الذي يجب أن يحلّها قد انهار معها. ❖ هذه الورقة تتجاوز اللغة نحو الميتافيزيقا السياسية، وتضعنا في مواجهة مأزق نادر: هل أصبح العالم معقدًا لدرجة أنّ البشر لم يعودوا صالحين لإنقاذ أنفسهم؟ ❖ يذكّرنا هذا الطرح بما قاله سيغموند باومان: "نحن نعيش زمنا لم نعد نعرف فيه من أين يأتي الخطر، ولا كيف نواجهه." 🟥 ثانيا: الاستحالة باعتبارها البديل الواقعي "هل أصبحت كل الحلول مجرد استحالات؟": كلمة "استحالة" هنا لا تعني مجرد الصعوبة، بل إلغاء إمكانية الحلّ نفسه. ليست هناك فقط عقبات، بل لم يعد هناك طريق. ❖ يذكّرنا هذا بتحليل مارك فيشر في كتابه "الواقعية الرأسمالية"، حين قال: "من الأسهل تخيّل نهاية العالم من تخيّل نهاية الرأسمالية." وهكذا صرنا، في عجزنا، ننتج مشاريع خيالية للهروب من الحاضر، لا لتغييره. 🟥 ثالثا: كوكبٌ يُجيد الانقراض، لا الحياة "هل صارت هذه البشرية أكثر قدرة على اليأس من ذي قبل؟": الورقة تُحمّل البشرية عبء فشلها، لا بوصفها ضحية فقط، بل فاعلا يائسا بارعا في استبطان العجز. في هذا السطر، يتكثف التحليل اليساري المعرفي: الرأسمالية لم تسحق الشعوب اقتصاديًا فحسب، بل أقنعتهم أن البدائل مستحيلة، وجعلتهم جزء من آلة الانهيار. ❖ قال والتر بنيامين: "كل وثيقة حضارة هي في الوقت نفسه وثيقة بربرية." الورقة تُظهر أن التقدم الرأسمالي، وما سُمّي "حداثة"، ما هو إلا نظام استحالة ممنهج. 🟥 رابعا: مأساة الوعي المحاصر: "ثم ما ماهية مستقبل تعجز حياله عن تحديد ما تحتاج وما لا تحتاج؟" هذه الجملة تُلخّص مأزق الإنسان المعاصر: لا يعرف من أين يبدأ. لا يعرف ما هو ضروري وما هو فائض. لا يملك أدوات التمييز، لأن التسليع طمس الفوارق. ❖ كما قال غي ديبور: "في مجتمع الاستعراض، يُصبح كل شيء قابلا للعرض، وكل شيء يفقد ضرورته." 🟥 خامسا: نقد حاد لـ"الواقعية" المزعومة "الانخراط في ما هو سائد بحجة أنه أخفّ الأضرار.": هنا نصل إلى ما يشبه كفرا صريحا بـ"الواقعية السياسية" التي تبرّر الانبطاح تحت ذريعة المصلحة، أو باسم "موازين القوى". ❖ يردّد هذا المقطع مقولة روزا لوكسمبورغ: "الذين يسمّون أنفسهم واقعيين، هم غالبا من يخونون التاريخ." فالواقعية في سياق القهر، هي وجه آخر للاستسلام. والكاتب يدعو، ضمنيا، لا إلى رفض الحاضر فقط، بل إلى التمرّد على منطقه. الورقة تكرّس ما يمكن تسميته بـأدب ما بعد المشروع السياسي، حيث تسقط الأسس الكبرى، ويبقى الإنسان عاريًا أمام رعب الفراغ. تشكك في جدوى الديمقراطية الليبرالية، الاشتراكية الكليانية، والإله السماوي، في آن. تطرح ضرورة التفكير فيما بعد الإيديولوجيا، لا بمعنى العدمية، بل بمعنى ما بعد الموت الأيديولوجي. تدعو إلى يقظة جديدة، شرطها الأول: الاعتراف بأن كل الإجابات الحالية فاسدة، مهما بدت واقعية. الورقة السابعة عشرة تُشكّل قطيعة. إنها ليست مجرد ورقة يأس، بل بداية صفحة جديدة في التفكير اليساري الراديكالي، الذي لا يهادن حتى نفسه، ولا يقبل بالبكائيات، بل يدعو إلى هدم الجدار الأخير: وهم الإمكان. ❖ كما قال زيجمونت باومان: "إن لم نعرف إلى أين نسير، فعلينا على الأقل أن نُدرك أننا في الاتجاه الخاطئ." ☆.الورقة الثامنة عشرة — "في ساعة الغرباء: حين يصير الهدوء نذير الزلزال". 🟥 أولا: سؤال الزمن الغريب — "لماذا استيقظت في مثل ذلك الوقت؟": "لماذا استيقظت في مثل ذلك الوقت تحديدا؟ ألا تدري؟" هذه البداية ليست سؤالا روتينيا، بل انفجار شعوري. إنها لحظة من الوعي المضاد، حيث الذات لا تستيقظ لأن "العالم استيقظ"، بل لأن شيئا ما انكسر بداخلها. ❖ هي لحظة زمن خارج الزمن، تسمّيها الورقة "ساعة الغرباء"، وهي تشبه ما سمّاه جورج باتاي: "الزمن المفتوح على اللاشيء، زمن التجاوز والانفلات من كل منطق." 🟥 ثانيا: وصف شعري لصدمة غير مرئية: "كنت تعرف أنك ترتجف... وأن اللوعة كانت بطعم المرارة أو أشد... وأنك انفجرت في لحظة ما." ما الذي انفجر؟ ليس الجسد، ولا البيت، بل الوهم الداخلي بالتماسك. والورقة تصف هذه اللحظة لا كحادث مفاجئ، بل كشيء كنت تعرفه طوال الوقت، لكنك كنت تؤجله. إنه الانهيار الذي لا يُعلن نفسه، بل يتسلّل بين الكلمات، ثم يظهر في: صمتٍ غريب سكونٍ غير مبرّر حنينٍ مشوش إلى المجهول ❖ كما قال جاك دريدا: "اللحظة التي تسقط فيها اللغة عن وصف الذات، هي اللحظة التي تتكلم فيها الذات حقًا." 🟥 ثالثا: الوعي الزائف والنسيان المقنّع: "هل كان نسيانا؟ لا. لقد كان تناسيا." هذا التمييز هو قلب الورقة. ما يحدث للذات ليس فقدانًا للذاكرة، بل قرار داخلي بإخفاء الألم وراء وهم النسيان. ❖ الورقة تُعيد رسم ملامح الإنسان المعاصر: يعرف أنه محطم، لكنه يبتسم. يرى انهياره، لكنه يلبس ثياب القوة. يسمع ضجيج الدمار داخله، لكنه يختار ألا يسمعه. وهنا يعود صدى سيغموند فرويد: "كل ما نكبحه داخلنا، يعود في هيئة أعراض." 🟥 رابعا: إعلان انهيار العالم لا الذات فقط: "ما أشد أن تصاب بأوجاع الأسئلة... ما أبشع الوسط... ما أبشع اليمين... ما أبشع حتى يسار اليسار..." هذا المقطع يحتوي على أكثر المواقف الأيديولوجية راديكالية في النص. الكاتب يعلن خيبته من كل الاتجاهات: من الليبرالية من اليسار من اليسار الراديكالي نفسه نحن لا نقف على جانب الطريق، بل على عتبة لا تؤدي إلى أي مكان. ❖ يتردد هنا صدى هربرت ماركوزه، حين وصف الإنسان الحديث بأنه: "عالق بين خيارات متشابهة في جوهرها، وكلها تؤدي إلى الاغتراب." 🟥 خامسا: الرحيل كخلاص — "بدأ النور يتسلل" : "خرجت من غرفتك... فأنت على سفر..." بعد كل ذلك، لا تقدم الورقة حلا، بل فعلا رمزيا بسيطا: المغادرة. لا تصفية حساب، لا بيان ثوري، فقط: جمع أغراضك، والذهاب. لكن المغادرة ليست هروبا، بل إعادة بناء للذات بعيدا عن زحام الصور المشوهة. تماما كما قال إدوارد سعيد: "المنفى ليس فقدانا، بل فرصة لإعادة تكوين الوعي في مواجهة العالم." 🟥 سادسا: الصور، الرموز، والخلل الدلالي: "لأنه كان يعنيك الرمز أكثر من الصورة... عبرت من منطقة التناسي إلى النسيان." في هذه الجملة، يكتمل التحول: لم تعد الصور مهمة، بل ما تُشير إليه. الكاتب يترك العالم الظاهري ليدخل إلى منطقة الرموز والمعاني العميقة. الصورة مشوهة. الرمز غُيّر. اللغة خانت. ❖ لكن كما قال رولان بارت: "حين تموت الصورة، يُبعث الرمز من جديد." الورقة تصور الانهيار كشرط للتحوّل، لا كفشل. تتعامل مع الصدمة لا كعدو، بل كشرارة للكتابة والرحيل والوعي. تضع الذات في مواجهة ذاتها، وتحرّرها من الأكاذيب السردية. تعلن أن الوقت حان لتفكيك الصور الموروثة، وإعادة رسم الحاضر بأدوات جديدة. الورقة الثامنة عشرة هي خاتمة دورة المعاناة والتمرد والتأمل. ليست وداعًا للكتابة، بل وداعًا للكتابة التي لا تعرف أن تتصدع. هي بيان الختام، لكنها أيضًا بيان البداية. بها يغلق الكاتب الدفتر، لا لأن القصة انتهت، بل لأن القارئ أصبح هو الكاتب الجديد. ❖ كما قال ألبير كامو: "في أعماق الشتاء، اكتشفت أن بداخلي صيفا لا يقهر.". 🟥 أولا: البنية العامة للورقات — من الشظايا إلى الكون الكلي : رغم أن كل ورقة تبدو في ظاهرها منفصلة، فإنها في الحقيقة تُشكّل: خريطة شعورية/فكرية لإنسان معاصر محطم وممتلئ في آن. سجلًا لذاتٍ يسارية حسّاسة، تعيش انكساراتها لا في السياسة فقط، بل في اللغة، الجسد، الذاكرة، والحب. تأريخا من نوع خاص، لا يعترف بالوقائع بل يُعيد كتابتها بوصفها تمثلات شعورية. الورقات، إذًا، ليست فقط "دفاتر"، بل هي حقل من الألغام الجمالية والفكرية. 🟨 ثانيا: الموضوع المركزي — الغربة الوجودية والسياسية : كل ورقة تُعيد صوغ هذه الغربة بأشكال متعددة: غربة في اللغة: كما في الورقة السادسة عشرة، حيث تصبح اللغة أداة قهر لا تواصل. غربة في الزمان: كما في الورقة الثامنة عشرة، حيث لا يليق الزمان بالذات، ولا الذات بالزمان. غربة في الوطن: كما في الورقة السابعة، حين يتحوّل الوطن إلى أم قاتلة أو معبودة منسية. غربة في التاريخ: كما في الورقة الخامسة عشرة، حين تنهار كل الأيديولوجيات ولا يبقى سوى "أنقاض كليانيات محترقة". الغربة هنا ليست حالة مؤقتة، بل هي الهوية الوحيدة الممكنة للكاتب. 🟦 ثالثا: تحوّلات الذات — من الصدمة إلى الوعي فالهروب : يُمكن تقسيم المسار الوجودي للكاتب إلى ثلاث مراحل: 🟧 1. الصدمة (الورقات 1–4): صدمة اللغة، الحكاية، الحب، والكتابة. الذات تمشي في حقول الألغام ولا تملك أي خارطة. 🔸 كما تقول الورقة الأولى: "الكتابة مكابدة، لا تجميل." 🟧 2. التجاوز المؤلم (الورقات 5–13): تبدأ الذات بطرح الأسئلة الكبرى. تستعيد رموزًا كأخيل، سيزيف، درويش، بابلو نيرودا. تبدأ عملية تأريخ للخراب لا من موقع الحياد بل من داخل الحطام. 🔸 يقول الكاتب: "الواقع هو الحرب التي لم تعلن، والغد هو المنفى الذي لا ينتهي." 🟧 3. الهروب الواعي (الورقات 14–18): لحظة الهدوء ليست راحة، بل مكر وجودي. الرحيل يتم بهدوء، لا استعراض فيه. تبدأ الذات بالكتابة ضد نفسها، وتكسر حتى فكرة الخلاص. 🔸 كما في الورقة الثامنة عشرة: "عبرت من التناسي إلى النسيان." 🟩 رابعا: الرموز الكبرى في الورقات : أخيل (ورقات 5–6): رمز للبطل الجريح، المستبسل والمهزوم. سيزيف: صورة الإنسان العبثي، الذي يواصل رغم لاجدوى التكرار. هوميروس (الورقة 3): رمز الغياب والحكاية الكبرى التي لم تكتب. الغربان، البوم، الذئاب، الكواسر (الورقة 7): استعارة للحكّام والمثقفين الخانعين الذين يتناسلون بعد كل انتكاسة. المنفى: ليس مكانا جغرافيا بل هو الوطن المعنوي للكاتب. 🟦 خامسا: تحليل اللغة والأسلوب : لغة مكثفة، شعرية، متكسرة عمدا. كثرة المقاطع القصيرة تعكس اختناقا داخليا. استخدام رموز كونية (القمر، الليل، النسيان، المرايا...) يعطي الورقات طابعا صوفيا ماديا. هيكلية الكتابة ليست استطرادية بل قائمة على انفجارات حسية متعاقبة. ❖ قال جان جينيه: "اللغة التي لا تنكسر، لا تُبني من جديد." 🟥 سادسا: الموقف السياسي ضمني لكنه جذري : رفض واضح لكل الإيديولوجيات الكليانية. هجاء صريح للمؤسسات، الأحزاب، وحتى اللغة الرسمية. تمجيد للذات المفكرة، المنفية، القادرة على قول "لا" حتى بعد الفقد. ❖ يقترب الكاتب من طروحات أنطونيو غرامشي حين يؤكد أن: "كل فعل ثقافي هو فعل سياسي." لكنّه يُعمّقها ليقول: "كل فعل وجودي هو فعل مقاومة." 🟩 سابعا: شعرية الهدم وإرادة المعنى: كل ورقة تنهار لتنهض أخرى. كل سرد يتشظى ليكشف جرحًا، ثم يسخر منه بسخرية سوداء. ❖ الكاتب لا يبحث عن حل، بل ينفي أن الحلّ ممكن بدون انهيار كامل. ❖ وهذا هو جوهر الموقف اليساري الراديكالي: الهدم شرط التأسيس. كما قال فرانز فانون: "حين يتكلم المستعمَر، عليه أن يصرخ أولًا." ورقات من دفاتر ناظم العربي ليست سردا بل مانيفستو وجودي يساري، وليس بكاء على الماضي، بل حفريّة رمزية في أنقاض الذات الفردية والجمعية. إنها نصٌ يُفكك الواقع لا ليصفه، بل ليطعن فيه. ❖ كما قال إدوارد سعيد: "الكاتب الحقيقي لا يملك وطنًا سوى كتابه." 07.البسيكولوجي و السوسيولوجي و الانثروبواوجي في نسيج الرّواية : في رواية "ورقات من دفاتر ناظم العربي"، يتداخل النفسي بالبُنيوي، والذاتي بالجَمعي، على نحو يجعل البُعد البسيكولوجي، السوسيولوجي، والأنثروبولوجي ليس مجرد خلفية تحليلية بل نسيجًا داخليًا من نسيج الكتابة. النص، وإن كان يبدو كدفاتر منفصلة، يُمارس فعل تفكيك شامل للإنسان والمجتمع والتاريخ، عبر زوايا ثلاث تمثل العمق المركّب للرواية: البسيكولوجي (الذات المجروحة)، السوسيولوجي (الإنسان في عالم منهار)، والأنثروبولوجي (الوعي بالهوية والمقدّس والطقوس واللغة). 🟥 أولا: البُعد البسيكولوجي — الذات في مرآة التصدّع واللاجدوى: تمارس الرواية، منذ سطورها الأولى، حفريّات نفسية عميقة في الذات المهمّشة، المشظّاة، المتأرجحة بين الإنكار والتذكّر. البطل ليس شخصية بالمعنى الكلاسيكي، بل هو وعي مأزوم، يسرد من تحت الأنقاض، من داخله. وكل ورقة تُعبّر عن طبقة من هذا الانهيار البسيكولوجي: الوحدة، الغربة، الحزن غير المُسمى، الخوف من اللغة، من التاريخ، من الأمل نفسه. البطل لا يتكلم عن مرض نفسي بالمعنى المرضي، بل يكشف الهشاشة الوجودية لجيلٍ بأكمله: جيل انكسر داخليا تحت ثقل الخذلان السياسي، الاجتماعي، العاطفي. الانفعالات ليست محكومة بعقلانية الحدث بل بـ"اللاشعور الجمعي" المقموع، فنراه يصرخ مثل كافكا: "أريد أن أكتب مثلما يُحرَق الإنسان، لا لأنني أملك شيئًا لأقوله، بل لأنني لا أستطيع أن أُبقيه داخلي." الرواية تؤسّس لعالم مأساوي ليس نتيجة خيار، بل نتيجة صدمة لا تُشفى. حتى اللغة – وهي وسيلة التحرر – تُصبح في الورقة السادسة عشرة "حقلا من الألغام"، بل أكثر: أداة خيانة. إنها رواية القلق النفسي كمصير، لا كعارض. 🟩 ثانيا: البُعد السوسيولوجي — مجتمع خَرِب بالمؤسسات والأفكار: بين كل ورقة وأخرى، تتسرّب إلينا صورة قاتمة لمجتمع تتفكك فيه كل المرجعيات. إننا لا نرى المجتمع التونسي بعد الثورة فحسب، بل نراه بعد السرد الرسمي للثورات، حين تتحول الشعارات إلى جثث، والمواطنون إلى كائنات فاقدة للذاكرة. كما في الورقة الثامنة، يُصوّر الكاتب مجتمعًا "ينظّم عملية موته بالمجان"، حيث لا شيء يحتفظ بقيمته، ولا أحد يحتفظ بحضوره. الكل يمشي كأشباح. الرواية تنخرط في نقد بنيوي لفساد الذاكرة الجمعية، لخراب الطبقات، لعطب الوعي الشعبي. العساكر، السياسيون، الإعلام، المؤسسات، كلها تظهر في خلفية النص كمكوّنات لأجهزة إعادة إنتاج القمع الناعم. حتى الاحتجاجات يُستهزأ بها، وتُفكك في لغة تسخر من تفاهة الهتاف حين يُختطف من أصحابه الأصليين. ومن جهة أخرى، هناك إشارات واضحة إلى الطبقات الاجتماعية المغتصبة، كالفلاحين في الورقة الأولى، حين تحوّل الاشتراكية الدستورية أراضيهم إلى مقابر، وتعيدها إليهم ملوّثة، خاوية. هنا يتضح الموقف اليساري الراديكالي الذي يرى في ما حدث عملية قلع رمزي للهوية الطبقية باسم مشاريع التحرر الكاذب. 🟦 ثالثا: البُعد الأنثروبولوجي — الطقوس، المقدّس، الموروث، الجسد: يمثل البُعد الأنثروبولوجي في الرواية أحد أقوى مستوياتها الخفية، حيث يُستعاد "الطبيعي" و"المقدّس" لا بوصفه موروثًا متجانسًا بل حقلا للمساءلة. في الورقة الرابعة، يتم تفكيك الجسد الأنثوي لا بوصفه موضوعا للرغبة بل كـ"مسرح للطقس"، إذ يقول: "أشتهي أن أصنع من ثياب نومك شراعا لزورق آخر"، فيستحيل الجسد إلى مساحة عبور، إلى رمز أنثروبولوجي يحمل تقاطع الرغبة والمقدّس والبحر. كما تستحضر الرواية طقوسًا كلاسيكية من الميثولوجيا (أخيل، سيزيف، هوميروس)، ولكن لا لتؤسس عليها سردًا ملحميًا، بل لتقارن بين سحر الطقس وزيف الحداثة. هذه الاستدعاءات تُستخدم لتأثيث هوية محلية ممزقة، عالقة بين ماضٍ أسطوري وحاضر مفرغ من المعنى. وهناك أيضا اهتمام بالتفاصيل اليومية التي تحمل دلالات أنثروبولوجية قوية: أسماء الأحياء، أصوات الغربان، عبارات الشتم العامية، الأزياء العسكرية، المقاهي، الطقوس الاحتجاجية. كلها تُوَظَّف كعناصر تشريح لمجتمع فقد رموزه الكبرى، واستبدلها بديكورات سطحية — لغة، مثلا، صارت مثلما تقول الورقة السادسة عشرة: "لغة الخونة، ولغة الديكور، ولغة الفاشي، والشاشي، والتوابيت." 🟥 تراكب هذه الأبعاد الثلاثة: النفسي، والاجتماعي، والأنثروبولوجي: لا تقدم "ورقات من دفاتر ناظم العربي" رواية بالمعنى التقليدي، بل تقدم تجربة سردية تمارس نقدا جذريا للإنسان في لحظة انكساره الشامل. إنها ليست فقط قصة ذات مأزومة، بل صرخة معرفية ضد السرديات الكبرى الفاشلة: من الدولة إلى الثورة، من الحب إلى اللغة، من الله إلى الأيديولوجيا. ❖ وكما قال تيري إيغلتون في وصف الرواية اليسارية الحقّة: "الرواية الجيدة لا تصف الواقع بل تشكك فيه." أخيرا بعد الخوض في دفاتر ناظم العربي، والخروج من بين سطور فصوله و ورقاته الثمانية عشرة، يتّضح جليًّا أن الرواية لم تُكتب لتؤثّث رفوف المكتبة، بل لتُفجّر وعي القارئ بواقع ميت يعيش فيه دون وعيٍ كافٍ بموتِه. إنها ليست رواية تنتمي إلى تقاليد الحكي بل إلى سلالة التمرّد، رواية ترفض الأجوبة، وتضعنا في مواجهة السؤال الوجودي والسياسي والاجتماعي العاري. لقد قدّمت الرواية تشريحا عميقا لذهنية إنسان ما بعد الثورة – لا بوصفه منتصرا – بل كائنا ضائعا بين أحلامٍ كاذبة، وخيبات متكررة، وجراح غير قابلة للندمل. فالبطل لم يكن فردا فقط، بل تمثيلا لجيل كامل من العرب الذين صدّقوا حلم الحرية، وسرعان ما استفاقوا على جثة الحلم تحت أنقاض الاستبداد القديم/الجديد، والليبرالية الممسوخة، والإسلام السياسي المهزوم أخلاقيا. وقد عبّر عن هذا الشعور هربرت ماركوز حين قال: "كل تحرّر لم يُسبَق بتحرّر العقل، هو تحرّر زائف." وهذا بالضبط ما تكشفه الرواية: تحرر كاذب، وحرية مشوّهة، وثورات مأكولة من داخلها. من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل القوة الشاعرية للنص، لا كترف لغوي، بل كإستراتيجية بوح وتأريخ، إذ أن الشعر هنا يصبح بديلاً عن السياسة، وبديلا عن التاريخ الرسمي، ومرآة لذهنية متأزمة تبحث عن ذاتها في رماد اللغة. وكما قال بول ريكور: "الحكاية وسيلتنا لفهم أنفسنا حين يعجز التاريخ عن قول الحقيقة." لقد خلّفت الرواية إحساسا قويا بأننا، كقراء، جزء من المأساة، لا شهود عليها. أننا نعيش في بلدٍ يتحول فيه الموت إلى عادة، واللغة إلى ركام، والهوية إلى أزياء انتخابية رخيصة. ورغم كل ذلك، لا تفقد الرواية قدرتها على الأمل، لكن أملها يمرّ عبر الحقيقة، حتى وإن كانت مُرّة. وفي هذا السياق، تصبح الرواية يسارية لا بانتمائها لأيديولوجيا محددة، بل بانحيازها للإنسان في هشاشته القصوى، وبنقدها الجذري لكل ما يصادر الذات: الدولة، الدين، اللغة، الذكورة، الاقتصاد، وحتى الحنين. إن "ورقات من دفاتر ناظم العربي" ليست مجرد نص أدبي، بل هي وصية جيلٍ بأكمله لا يطلب العدالة فحسب، بل يطلب من يفهمه أولًا. ومثلما كتب والتر بنيامين: "المهزومون لا يكتبون التاريخ، لكنهم وحدهم من يكتبونه بدمهم." فها هو ناظم العربي يكتبه بحبره، وبدمه، وبأحلامه المتكسّرة.
#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
-
قراءة في قصّة “رحاب” من المجموعة القصصية - بلايك - للشاعر و
...
-
-منتصر السعيد المنسي-: حفر في منطوق شهادة ذاتية ضد نسيان الط
...
-
غزة تحترق: تاريخ حرب إبادة جماعية تقودها الصهيونية العالمية
...
-
قراءة نقدية في المجموعة القصصية -ولع السّباحة في عين الأسد-
...
-
الإمبريالية الأمريكية بنَفَس ترامب: وقاحة القوة ونهاية الأقن
...
-
ورقة من محترف قديم في قطاع السّياحة
-
القصيدة ما بعد الّنثر
-
افكار حول البناء القاعدي والتسيير
-
قراءة في مجموعة -نون أيار- للشاعرة نسرين بدّور.
-
القصيد ما بعد النّثر
-
بيان
-
بكاءُ السُندسِ في المنفى....
-
عيد الشّغل: من نضال طبقي إلى مناسبة رسمية بروتوكولية.
-
الحداثة وما بعد الحداثة بين ديكتاتورية البرجوازية وخيانة الت
...
-
مراجعة مجلّة الشّغل التّونسية: بين تعزيز الاستغلال الرّأسمال
...
-
نساء بلادي أكثر من نساء و نصف
-
النّضال من أجل الدّيمقراطية والحرّيات العامّة والخاصّة
-
الدولة البوليسية المعاصرة
-
إرهابيّ أنا
المزيد.....
-
إسرائيل تعلن عن أول وفاة جراء الهجوم الإيراني
-
إصابة نائب تركي باعتداءات على نشطاء -قافلة الصمود- في مصر
-
وسائل إعلام إيرانية: سماع دوي انفجارات في طهران.. واشتعال ني
...
-
مسؤول إيراني لـCNN: سنستهدف قواعد أي دولة ستدافع عن إسرائيل
...
-
شاهد.. دمار واسع في تل أبيب خلفه الهجوم الإيراني
-
-التايمز-: إسرائيل لم تبلغ بريطانيا بنيتها ضرب إيران لأنها ل
...
-
خبير طاقة مصري يكشف أسوأ سيناريو بعد الضربة الإسرائيلية للمن
...
-
الحرس الثوري الإيراني: الضربات الصاروخية استهدفت 150 موقعا إ
...
-
خبير عسكري مصري يكشف سبب قوة تأثير صواريخ إيران فرط الصوتية
...
-
وزير خارجية الإمارات يجري اتصالات موسعة مع عدة دول لتجنب الت
...
المزيد.....
-
قراءة تفكيكية في رواية - ورقات من دفاتر ناظم العربي - لبشير
...
/ رياض الشرايطي
-
نظرية التطور الاجتماعي نحو الفعل والحرية بين الوعي الحضاري و
...
/ زهير الخويلدي
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|