أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض الشرايطي - قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.















المزيد.....



قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.


رياض الشرايطي

الحوار المتمدن-العدد: 8365 - 2025 / 6 / 6 - 03:17
المحور: الادب والفن
    


لا يمكن قراءة رواية "أرض النفاق" لبشير الحامدي كعمل سردي صرف، لأنها منذ صفحاتها الأولى تُعلن انتماءها إلى تقليد أدبي مضاد: كتابة لا تُساير، بل تفضح، ولا تُسلّي، بل تُنكّس الأوهام.
هي ليست رواية بالشكل الكلاسيكي، بل نصٌّ يقف عند تقاطع الشهادة، التفكيك، واليأس الملتزم. في عالم يضجّ بالتسويات، ترفض هذه الرواية التوقيع على الصمت، وتقدّم بدله دفتر صراخٍ مكتوم كُتب تحت العدم.

▪︎.من الانهيار النفسي إلى الخيانة الطبقية:
الرواية تُبنى على خط سردي بسيط ظاهريًا: ناظم العربي، مناضل سابق، يُنقل إلى المستشفى في حالة انهيار، ليسترجع هناك، وبين دخان الذكرى وخيبات الواقع، صورة مجتمع انهار تمامًا. لكن تحت هذا البناء البسيط، توجد هندسة سردية شديدة التعقيد، تعتمد على تفكيك البنية الأيديولوجية للمجتمع التونسي المعاصر، كما تشكلت بعد ما يسمى بالثورة.
"كل شيء تغيّر، إلا النظام، فقط غيّر قناعه."
الغرفة رقم 13 ليست مجرد غرفة، بل رمز لحالة ما بعد الانهيار؛ حيث لا بطل، لا خلاص، بل ذاتٌ مشوّشة تبحث عن بقية صدق وسط فوضى المعاني.

▪︎.عن ناظم: الشخصية كمرآة مجروحة للوعي اليساري:
ناظم ليس بطلًا. إنه "رفيقٌ سابق"، لم يُسجن، ولم يُقتل، بل تمت هزيمته ببطء، بتواطؤ الزمن، بانقلاب الحلفاء، وبإعادة إنتاج الرداءة تحت مسمّى الواقعية.
هو مثقف بلا منبر، مناضل بلا حزب، صوت بلا جمهور. ومع ذلك، يصرّ على أن يكتب، لا لأن في الكتابة خلاصًا، بل لأنها الشكل الوحيد للنجاة من التحوّل إلى مُسوّق للنفاق.

▪︎.عن الخصوم: خنتوش المرعي كرمز للمنظومة الجديدة:
كل من مرّوا بحياة ناظم لا يعودون كما كانوا. خنتوش المرعي هو المثال الأوضح: رفيق سابق، أصبح اليوم أداة دعاية للنظام الجديد. لا يُهاجم الناس، بل يطمئنهم. لا يُكذّب، بل يُمرر الأكاذيب كجزء من طبيعة الأشياء. هو المنتَج النهائي لمنظومة تُعيد تشكيل كل من لامسوا الثورة، ليصيروا موظفين لدى الرداءة.
كما كتب فوكو: "لا يحتاج النظام إلى قمعك، بل إلى أن تتكلّم نيابة عنه."

▪︎.عن اللغة: من الشعر إلى الجُرح:
اللغة في الرواية مجروحة، هجينة، حادّة. تتنقّل بين السرد الشاعري والمونولوج الفلسفي، وبين البلاغة المنكسرة والنثر الصادم. هي لغة لا تطلب الإعجاب، بل ترغب في التشويش على قارئ يبحث عن صفاء زائف.
"اللغة نفسها لم تعد آمنة، صارت تُستخدم ضدّنا، في نشرات الأخبار، في البلاغات، في المديح."

▪︎.عن الصدق: هل بقي له مكان؟:
الرواية تطرح سؤالًا فلسفيًا عميقًا: هل بقي معنى للصدق في زمن النفاق الجماعي؟ الجواب، وإن لم يُقال صراحة، يقدّمه ناظم عبر الممارسة: الصدق لا يُنتج أثرًا مباشرًا، لكنه يمنع العفن. لا يربح، لكنه لا يُباع. لا يُحدث ضجيجًا، لكنه يُبقينا أحياء.
كما كتب أدورنو: "لا مفرّ من الكذب، إلا بصدق لا يطمع في أن يُصدَّق."

▪︎.عن الزمن: الحاضر كسجن بلا أفق:
الزمن في الرواية مختلّ. لا ماضٍ مجيد، ولا حاضر مشرق، ولا مستقبل واعد. فقط سلسلة من الخيبات المتواصلة، تُروى لا لتُشهر، بل لكي لا تُنسى.
"الزمن صار أقرب إلى غرفة انتظار بلا باب."

▪︎.عن الغاية: لا تغيير... بل منع المزيد من الانحدار:
في النهاية، لا تطلب الرواية أن تُغيّر العالم، بل تطلب فقط أن نحتفظ بقليل من الغضب، كي لا نستسلم بالكامل. الكتابة هنا ليست وسيلة نضال فوري، بل وسيلة تأخير للاندثار.
هي صرخة حادة في وجه زمن كليل، وإضاءة ضعيفة في طريق مظلم، لكنها إضاءة لا تهدف إلى إرشاد أحد، بل إلى ألا يُنسى الطريق تمامًا.
وكما كتب غرامشي: "علينا أن نعيش وكأننا لا نُخدَع، حتى لو كنا نعرف كل الخدع."
بهذا، تتأسس قراءة "أرض النفاق" ليس كفنّ روائي فقط، بل كنص طبقي، وجداني، مقاوم، لا يقدم أجوبة، بل يحفر في اللحم الحي أسئلته.

●ما قبل الفصل الأول: مدخل إلى الرواية كبيان أخلاقي مضاد لزمن الانهيارالعتبة الأولى: من الإهداء إلى الاعتراف — الكاتب كذات مصدومة لا كبطل روائي.

قبل أن يبدأ الحامدي فصول روايته الخمسة ، يفاجئنا بما يمكن اعتباره بيانًا وجوديًا مكتوبًا بالحبر والوجع، لا يطلب فيه القارئ أن يقرأ، بل يوجّهه لأن يشعر، لأن يفهم دون ضمانات. فبدل أن يفتتح النص بإهداء كلاسيكي، يبدأ بإهداءٍ لصمتٍ أكبر من كل القراء:
"إلى الغائب الذي لن يقرأ هذا الكتاب."
بهذه الجملة يُعلن الحامدي أن الرواية ليست موجهة للقراء، بل لشخص لن يقرأ أبدًا — قد يكون شهيدًا، مغيبًا، مريضًا، أو حتى الكاتب نفسه كما كان ذات زمن. هذه الكتابة ليست خطابًا، بل نداءٌ موجّهٌ من الأعماق، نحو لا أحد. وبهذا، يدخل النص فضاءً رمزيًا نادرًا: أن يكتب المرء ليمنع المحو، لا ليُقنِع أو يُسلي.

▪︎.من البطولة إلى الخيانة الذاتية:
ثم يمر إلى ما يُسمّيه هو نفسه "اعترافًا"، لا يتحدّث فيه عن مجد أدبي أو سرد بديع، بل عن خوف، عن عجز، عن انهيار داخلي لا يُقاوَم. هذا الجزء من النص يُعرّي الذات السياسية للكاتب:
"أكتب لكي لا أختنق... لا لكي أغيّر العالم."
هنا يعترف بأنه فقد الإيمان بأن الكلمة يمكن أن تُغيّر الواقع، لكنه رغم ذلك يكتب، لأنه إن لم يكتب، سينهار كليًا. وهذا جوهر الكتابة الملتزمة كما يراها سارتر وغرامشي: أن تكتب ليس لأنك قادر، بل لأن الصمت خيانة أكبر.

▪︎.الميثاق المضاد للقارئ: لا تبحث عن بطل:
يتوجه الكاتب في هذا المدخل إلى القارئ الحقيقي، فيقول له ضمنيًا: لا تنتظر قصة، لا تنتظر انتصارات، لا تبحث عن بطل، فهذه الرواية ليست رواية بطولات، بل شهادة شخص خاض المعركة ضد نفسه، ضد جماعته، ضد قناعاته أحيانًا، وانكسر مرات.
إنها رواية تبدأ بالخذلان، وتبني من الحطام سردية، لا خلاص فيها، ولكن فيها ما يكفي من الأسى ليمنع النسيان.
كما كتب محمود درويش: "نكتب كي لا نُنسى، لا لنُخلَّد."

▪︎.الخطاب المزدوج: من النثر السياسي إلى الشعر العاري:
هذا المدخل يجمع بين نثر الاعتراف وشعر التهشّم. اللغة هنا غير روائية، بل وجدانية، حادة، أقرب إلى المانيفستو. لكنّها تَعد القارئ منذ البداية بما هو أثمن من الحكاية: بوعد أخلاقي بعدم الخيانة.
وهنا تظهر أول ملامح مشروع الحامدي السردي في هذا العمل:
-لا فصل بين الذاتي والسياسي.
-لا تبرير للتخاذل.
-لا سخرية من الألم.
"الكاتب ليس راويًا، بل مَن كتب ليبقى حيًّا"
بهذا، يضعنا الحامدي أمام ذاتٍ تنزف ولا تزخرف. لا يتقمّص شخصية بطولية، ولا يلبس قناع الحكيم، بل يقدّم نفسه كما هو: شخص لم يجد في الواقع ما يستحق أن يُصمت عنه.
هذا المدخل هو تأسيس لقراءة يسارية ليس فقط للنص، بل لموقع الكاتب داخل شرطه الطبقي والاجتماعي: كمناضل جريح يكتب لأنه يعرف أن الرواية لا تغير العالم، ولكنها تُبقي على جذوة الصراع حيّة.
وكما كتب جان جينيه: "الكتابة ليست فعلًا بريئًا، بل هي مشاركة في الجريمة، أو محاولة اعتراف بها."

1.الفصل الأول: "التيه بوصفه مأزقًا طبقيًا وجوديًا وتاريخيًا".

▪︎.التيه كوعي طبقي مستيقظ وحالة ما بعد-ثورية:
اعتماد التّيه ليس اختيارًا جماليًا أو لغويًا، بل موقفًا أيديولوجيًا وفلسفيًا مكثفًا. "التيه"، في السياق السردي والفكري للرواية، لا يصف ضياع فرد في مجرى حياته، بل يمثل انسداد أفق التاريخ السياسي والثقافي في البلاد، وانفجار وعي طبقي مأزوم يجد نفسه فجأة بلا أدوات، بلا بوصلة، بلا أمل.
ناظم ليس شخصية درامية فحسب، بل هو التمظهر الأكثر راديكالية لمثقف عضوي وجد ذاته مرميًا في ساحة من الرداءة، محاصرًا بكل صنوف النفاق والردّة والانهيار. التيه الذي يعيشه ناظم لا يشبه الحيرة الوجودية الكلاسيكية كما نجدها عند سارتر أو ألبير كامو، بل هو تيهٌ طبقيٌ سياسيٌ، ناتج عن تراكم تاريخ من الخيانات، من عسكرة الأحلام، ومن خصخصة الثورة.
كما يقول غرامشي: "القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد، وفي هذا الفراغ تتكاثر الوحوش". هذه الوحوش التي يتحدث عنها غرامشي هي نفسها التي تسكن الشوارع والمرافق والمؤسسات في سرد الحامدي، وهي الوحوش التي تتغذى على الذاكرة المهزومة والوعي المُختطَف.

▪︎.استعارة كبرى لانهيار الوعي الجماعي وسقوط الذات السياسية:
غيبوبة ناظم ليست مجرد حالة بيولوجية، بل مجاز ثقيل لمرحلة تاريخية انقلب فيها الحلم التحرري إلى كابوس ناعم، حيث لا أحد يعتقلك، لكنك تُدفن حيًا في البيروقراطية، في الخوف، في التسامح مع القبح. ناظم يفقد وعيه لأنه لم يعد قادرًا على الاحتمال، على مسايرة العالم الذي يصيبه بالغثيان الأخلاقي.
الغيبوبة هنا فعل مقاومة لا استسلام، هي لحظة تعطيل الوعي كي لا ينفجر، محاولة من الجسد للهروب من الفصام الجماعي. كما قال إيريك فروم: "الجنون أحيانًا هو الخيار الوحيد أمام العاقل في عالم مجنون".
"لم يعد هناك من فرق بين المناضل والمخبر، بين من يرفع راية العدالة ومن يتاجر بها في المزاد العلني..."
هذه ليست مجرد عبارة، بل صرخة من داخل العقل المسحوق، تُدين حالة استحالة التمييز بين الثوري والانتهازي، بين القناع والوجه.

▪︎.البنية التحتية كمرآة للخراب البنيوي:
المترو في الرواية ليس وسيلة نقل معطلة، بل تجسيد لحالة التخلي المؤسسي عن الحد الأدنى من احترام المواطن. التأخير، الإضرابات، الحشيش في السكك، كلها ليست فوضى، بل نتاج نظام سياسي استبدادي يلبس ثيابًا ديمقراطية، ينهب الدولة باسم الشعب، ويقتل الخدمة العمومية باسم السوق.
هذا الانهيار يوازي تشخيص سمير أمين لدولة المحيط: "ليست دولة فاشلة، بل دولة ناجحة في إعادة إنتاج التبعية والانقسام الطبقي باسم الحداثة المزيّفة."
ناظم حين يركب المترو لا يتحرك في فضاء حضري بل يسافر عبر مقبرة عمومية، حيث كل مرفق يعلن موت فكرة الوطن. وهو لا يُسجّل ملاحظات بل ينحتها بمرارة، بوصفه شاهدًا ومنفيًا في وطنه.

▪︎.ناظم العربي كمثقف منفي داخل ذاته:
ناظم ليس مجرد شخصية سردية، بل هو تمثيل مركّب للمثقف العضوي الذي لم يبع ضميره، لكنه ضل طريقه بعد أن خانته أدواته وحاصرته خيانات رفاقه. يعيش ناظم في الداخل ولكن بذهنية المنفى. منفي داخل ذاكرته، داخل قناعاته، داخل وطنه الذي تحوّل إلى غريب.
ناظم شخصية متشظية بين مرجعيات فكرية عميقة وتجربة يومية مهينة، ولهذا يتردد صوته الداخلي بين الحنين إلى الزمن الثوري، والغضب من الزمن الحاضر. شخصيته مزيج من نبي ساخط ومثقف مشلول.

▪︎.المونولوغ الداخلي: تمزق الذات المفكرة بين الغضب واليأس التاريخي
ناظم لا يحاكم الناس، بل يحاكم التاريخ الذي أنتجهم. سؤاله:
"ما بهم الناس؟ هل جُنّوا؟ لماذا يقولون ما لا يفعلون؟"
هو سؤال ماركسي في جوهره، لأنه لا يعبّر عن فشل فردي بل عن تشويه جذري للبنية التحتية التي تفرز وعيًا زائفًا. ناظم يفضح كيف تُحوّل أدوات التحرر إلى قيود، وكيف يتم تجييش الجماهير لقبول سحقها باسم الأمن أو الهوية أو الدين.
هو يحاكي صرخة ماركوز في "الإنسان ذو البعد الواحد": "حين تُخدر الحاجات الحقيقية، تصبح الحرية مستحيلة حتى في الحلم".
ناظم ليس بطلًا بالمعنى التقليدي، بل مرآة مكسورة لمثقف يساري أحاطت به الخيبات من كل صوب. هو ابن الأحزاب التي خانت قاعدتها، وابن النقابات التي باعت الإضراب لمن يدفع، وابن المدينة التي لم تعد تعرف أسماء الشوارع لأن الشهداء صاروا عملة للمتاجرة.
إنه لا يتكلم بضمير المتكلم لتمجيد الذات، بل للقبض على لحظة الوعي وهو يحتضر.
كما تقول حنا أرندت: "كل فكر عظيم يبدأ حين يضع صاحبه ذاته في قفص الاتهام."

▪︎.الحقيقة تنهار أمام الاستعراض:
المسرح البلدي ليس مكانًا عابرًا، بل رمزًا للدولة-العرض، التي تحوّل السياسة إلى مسرحية، والمواطن إلى متفرج. أن يسقط ناظم أمامه هو فعل رمزي بالغ الدلالة: الوعي يسقط أمام الصورة، الفكر يُقهر أمام الزيف المُجَمَّل، والدم يتحوّل إلى زينة في احتفال سيادي.
"كل شيء مُعدّ للفرجة: حتى الألم، حتى الغضب، حتى الموت..."
هي لحظة ديبوردية بامتياز، حيث الدولة تنتصر لا حين تقتل، بل حين تضحك على جنازاتنا وتعرضها في شاشاتها.

▪︎.المستشفى العسكري: التشييء الكلي للذات:
استفاقة ناظم في غرفة بلا اسم، مقيد اليدين، موضوعًا للمراقبة والفحص، تمثل التجلي الفاضح لأقصى درجات السيطرة السلطوية الحديثة. إنه ليس مريضًا، بل مُعطى إداري، حالة تُعالَج وفق بروتوكول لا يراها إنسانًا بل ملفًا.
"كانوا ينادونني برقم... لم أكن أملك حتى صوتي..."
هنا يستعيد فوكو مجده التحليلي، حيث تتحول أجساد البشر إلى نقاط في نظام السيطرة. ناظم لم يُسجن، بل أُعيد إنتاجه وفق منطق الدولة: مسلوبًا من اسمه، من ذاكرته، من لغته، من حقه في الشكوى.

▪︎.سوء الطالع كمصير جماعي:
رقم الغرفة ليس تفصيلاً بريئًا. الرقم 13 في الثقافة العامة رمز للشؤم، للموت، للقدر الرديء. اختياره هنا يؤشر إلى مصير الطبقة التنويرية التي انتهت إلى العزلة والتهميش، محاصَرة في غرف النظام الأمني والطبي والبيروقراطي. ناظم لم يختر هذا الرقم، بل أُلقي فيه كما أُلقي جيل بأكمله في الزاوية المظلمة للتاريخ.

الغيبوبة ليست موتًا، بل انتظارًا لصيغة وعي جديد،
الغيبوبة التي يختم بها الفصل ليست نهاية، بل كمون جدلي لعودة الوعي من خارج المسار الرسمي، من خارج الأحزاب المهزومة، والنخب المرتدة. إنها اللحظة التي تسبق الانفجار، كما يقول بنيامين: "حتى الموتى لن يكونوا في أمان إذا لم نكمل معركتهم".
ناظم يعود لا ليكتب مذكراته، بل ليحفر في جثة الوطن طريقًا جديدًا للفهم، للمقاومة، للجنون المنتج. لأنه في مجتمع النفاق، يكون الجنون أحيانًا الشكل الأخير للعقل.

2.الفصل الثاني: "الذئب في المرآة" — حين يتحوّل النفاق إلى بُنية نفسية.

▪︎.من الخارج إلى الداخل — انقلاب تموضُع النفاق:
هنا تشكيل حاد الانعطاف في المعالجة السردية. لم يعد النفاق مجرّد ظاهرة اجتماعية تُرصد من الخارج، بل تحوّل إلى كائن باطني يطل من المرآة، يواجه الذات ذاتها، يخترق المسافة بين الوعي والهوية. الذئب لم يعد خصمًا خارجيًا، بل أصبح انعكاسًا داخليًا.
كما قال دوستويفسكي: "الإنسان هو المخلوق الذي اعتاد أن يخجل من وجهه في المرآة."
الحامدي يوظف هذا المعنى ليضع ناظم وجهاً لوجه أمام صورته، لا ليكتشف ذاته، بل ليعاين مدى اختراق النفاق لبنيته الداخلية.

▪︎.ناظم أمام المرآة — انهيار البطل أمام صورته:
حين ينظر ناظم في المرآة بعد الغيبوبة، لا يرى جسده فقط، بل يرى ما تبقى منه. الوجه المتعب، العينان المحفورتان، الجسد الهزيل، كلها ليست مؤشرات بيولوجية، بل علامات على تحلّل الوعي داخل جسدٍ لم يعد يثق بصوته ولا بلغته.
"كأن وجهه لم يعد وجهه، وكأن أحدهم استبدله بهدوء في ليلة مظلمة..."
هذه المرآة ليست أداة للتجميل، بل أداة تشريح نفسي وسياسي. ناظم يرى الذئب — كناية عن الوحش الطبقي — جاثمًا في وجهه، مما يفتح الباب أمام تحليل معقّد للعلاقة بين الضحية والجلاد، بين الذات والمنظومة.

▪︎.ناظم العربي بين جلد الذات ومقاومة الانهيار:
ناظم هنا في طور جديد من التحوّل. لم يعد فقط مفعولاً به، بل صار ذاتًا منقسمة على نفسها، تسائل صدقها، تُراجع تحالفاتها، وتخشى أن تكون قد خضعت دون أن تدري. هو لم يبع، لكنه يشك أنه ساوم. لم يخن، لكنه يخشى أنه صمت. هنا يبرز البعد الأخلاقي في الشخصية، إذ يتحوّل ناظم إلى ذات ثورية تحاكم ذاتها كشرط للنجاة.
"اليساري لا يخون، لكنه أحيانًا يساير كي لا ينعزل، وتلك أولى درجات السقوط."

▪︎.: الخصم والنموذج:
الذئب في الرواية ليس صورةً نمطية للوحش، بل كائن ذكي، مراوغ، منتصر، يتقن لعبة الأقنعة. وهنا تكمن المفارقة: فالذئب هو ما صارت عليه النخبة الجديدة التي تحكم البلاد. رموز ما بعد الثورة التي تبنّت خطاب الحرية والعدالة، ولكنها مارسته كقناع للنهب.
"الذئب الذي في المرآة يبتسم ابتسامة ناعمة... لم يكن قبيحًا، بل كان يشبه بعض وجوه من عرفتهم من الرفاق..."
بهذا المعنى، يصبح الذئب استعارة مزدوجة: هو العدو الطبقي، لكنه أيضًا نسخة من الذات حين تفشل في مقاومة التكيّف مع منظومة النفاق.

▪︎.الطبيب والممرض — الدولة بوصفها تقنية تفتيش أخلاقي:
الطبيب الذي يُحدّق في ناظم، والممرض الذي يُنفّذ الأوامر بصمت، ليسا شخصيتين عارضتين، بل تمثيلات لآلية الدولة الحديثة في إعادة إنتاج الطاعة. ناظم يخضع لأسئلة لا تُطرح عليه، بل تُطرَح عنه. يُفحص لا ليُشفى، بل ليُصنَّف.
"لم يسألني أحد عن رأيي، بل سألوا جسدي، سألوا قلبي، سألوا دمي... أما أنا، فلم يكن لي لسان."
هنا يتقاطع النص مع نقد ميشيل فوكو للسلطة الحيوية، تلك التي لا تقمع، بل تدير الحياة من خلال المراقبة الدقيقة وتحليل الجسد.

▪︎. الممرض كأداة سلطة خاضعة:
الممرض ليس شريرًا، لكنه الوجه البشري للمنظومة. خاضع للتعليمات، لكنه لا يشعر بالذنب، لأنه لا يملك رؤية شاملة. هذه الشخصية تكشف كيف تُبنى السلطة من خلال الفئات الوسطى التي لا تملك القوة لكنها تُمثّلها.
كما قال برتولت بريشت: "أسوأ الجرائم ارتكبها أناسٌ يؤمنون أنهم يؤدّون عملهم."

▪︎.مقاومة الصمت تبدأ من الداخل:
ناظم وهو يحاول أن يُحرّك يده. ليس مشهدًا بيولوجيًا، بل رمز لعودة الإرادة، بداية التمرّد، إعادة خلق الرابط بين الفكر والحركة. اليد التي تتململ ليست عضلة بل فكرة: أن الصمت لم يكن قدريًا، وأن الذئب يمكن أن يُفضَح.
"ربما أستطيع أن أصرخ... ليس اليوم، لكن غدًا."
هذا الغد هو ما تراهن عليه الرواية: أن ناظم، رمز الوعي المأزوم، سيعود، لا ليحكم، بل ليكتب، ليكشف، ليحرض، حتى وإن كتب من غرفة 13، وحتى وإن لم يسمعه أحد بعد.

▪︎."في حضرة خنتوش المرعي" — النفاق كمنظومة ثقافية تنتج ذاتها.
☆من المرايا إلى الأجساد — النفاق كجهاز ثقافي منظَّم:
يُخرج السّارد القارئ من المشهد الذاتي — حيث كانت المواجهة مع الذات — إلى مشهد اجتماعي خارجي، حيث يتجسّد النفاق في شخصية خنتوش المرعي، لا كاستثناء، بل كقاعدة. فخنتوش ليس شخصًا، بل آلية لإعادة إنتاج الرداءة عبر الذكاء النفعي والخطاب الشعبوي.
كما يقول أنطونيو نِغري: "الثقافة حين تفقد أدوات نقدها، تتحوّل إلى تبرير للهيمنة."
وهنا يدخل القارئ منطقة النفاق المُنظَّم، المُتَجذِّر في الأجساد، في اللغة، في الحركات، في النكات.

☆الشخصية بوصفها تمثيلًا للانتهازي النموذجي:
خنتوش هو الرفيق الذي عرف من أين تُؤكل الكتف. لم يكن الأذكى ولا الأصدق، لكنه كان الأكثر قابلية للتكيّف. قرأ اللحظة فاختار الاصطفاف مع من يملكون أدوات النفوذ لا مع من يملكون الحق. ولذا، صار مع الوقت نموذجًا للنخب الثقافية الجديدة التي لا تقول ما تفكر، بل ما يُطلب منها قوله.
"كان خنتوش يملك قدرة عجيبة على إقناعك بأن لا شيء يستحق الغضب، وأن المهم أن نواصل الحياة..."
هذه البلاغة الناعمة هي التي يُخدّر بها الطغاة جماهيرهم، ويُسوّق بها النفاق كفضيلة.

☆خنتوش كآلية لإنتاج الخطاب المهيمن:
خنتوش لا يمثل نفسه، بل هو صوت مرحلة. هو نتاج الانتقال من خطاب الثورة إلى خطاب التعايش مع الرداءة. خنتوش لا يخون أحدًا، لأنه لا ينتمي لأحد. إنما يتحوّل حسب السوق، يُكيّف قناعاته مع المرحلة، ويتكلم بلسان الجميع دون أن يُلزم نفسه بشيء.
كما قال زيغمونت باومان: "الحداثة السائلة تُنتج أفرادًا يبدّلون أقنعتهم كما يبدّلون ملابسهم."
هو رجل المرحلة بكل ما تعنيه الكلمة من فراغ، من انتهازية، من تواطؤ رمادي.

☆جلسة خنتوش — المسخ الجماعي في قالب ضاحك:
جلسة خنتوش مع ناظم تُقدَّم على هيئة لقاء ودي، لكنها مشبعة بالرمزية. خنتوش يضحك، يُمازح، يُعلّق على الأحوال، لكنه في العمق ينشر ثقافة الخنوع. يروي الطرائف عن انكسار الثوار، عن موت المبادئ، عن طرافة الشعارات القديمة.
"أنتم يا ناظم كنتم تحلمون كثيرًا... أما نحن، فنتقن النوم."
هذه الجملة تكثف الفارق: الحالمون انكسروا، والنائمون نجوا. خنتوش يقدّم اليأس كنوع من الحكمة، والتواطؤ كنوع من النجاة.

▪︎.ناظم في حضرة خنتوش — الفقدان الكامل للانتماء:
ناظم لا يواجه خصمًا، بل يُحاصر في عالم لا يفهم لغته. كلما تكلّم بدا أنه ينتمي إلى زمن انقرض. هو في حضرة نظام لغوي جديد، حيث الكلمات لا تعني شيئًا، وحيث الحقيقة تُسخَر.
"كنت أتكلم لغة لم يعد يفهمها أحد."
هذه الجملة تعلن النهاية: لم يعد ناظم فقط منفيًا في وطنه، بل منفيًا في خطابه، في أبجديته. وكأن الثورة لم تفشل فقط، بل نجحت في أن تجعل المقاوم يبدو كائنًا غريبًا.

▪︎.خنتوش كإعلامي، كمدرّس، ككاتب:
خنتوش ليس موظفًا بسيطًا، بل هو المثقف الذي صار يُبرّر، يُغطّي، يُفسّر، يُسخّف، يُجمل القبح. هو الصحفي الذي يلمّع الفساد، هو الكاتب الذي يبيع الضمير تحت عنوان الواقعية، هو المعلّم الذي يزرع في طلابه أخلاق الانحناء.
كما قال إدوارد سعيد: "المثقف هو من يزعج لا من يبرر."
وخنتوش، بكل ثقته، يعلن نهاية الإزعاج وبداية التكيّف.

▪︎. وعي بالعزلة، ولكن بوضوح أكثر:
ناظم لا يُهزم، لكنه يُدرك تمامًا أنه صار وحيدًا. لم يعد له موقع في هذا الزمن، لا في الإعلام، لا في الجامعة، لا في الحزب. لكنه يعرف الآن من هو خنتوش، ومن أين يأتي النفاق، وكيف يُعاد إنتاجه. وهذا الوضوح هو مقدمة للتمرّد.
"كنت وحدي، لكنني كنت أعرف للمرة الأولى من الذي سرق اسمي."

4.الفصل الرابع: "مدينة على شفير الجنون" — حين تصبح الهلوسة أداة إدراك جماعي.

▪︎.من وعي فردي مأزوم إلى جنون جماعي ممأسس:
يعلن صراحة بشير عن تحوّل النفاق من بنية ثقافية إلى منظومة يومية، تُمارس من قبل الجميع، تُدرّس في المدارس، تُغنّى في الأغاني، وتُروى في القصص. نحن الآن أمام مدينة بكاملها تعيش في حالة هذيان منظم، يتداخل فيه الذاتي بالجماعي، ويتحوّل فيه الانفصام إلى شرط للبقاء.
كما كتب رولان بارت: "الهذيان الجماعي لا يحتاج إلى برهان، يكفي أن يُكرَّر."
ما يصفه الحامدي ليس انحراف أفراد، بل بنية مجتمع تعلّم أن يكره الحقيقة لأنها موجعة، وأن يتنفس الكذب لأنه ضروري للبقاء.

▪︎.الشارع بوصفه مسرحًا للتكرار المُفرغ:
الشارع الذي يصفه ناظم لم يعد فضاءً عامًا، بل تحول إلى مختبر للفراغ: ذات الوجوه، ذات العبارات، ذات السلوكيات، ذات ردود الأفعال. الجميع يتحرك وفق برنامج سابق، كما لو كان كل شيء مكتوبًا مسبقًا.
"كأنني كنت أمشي داخل فيلم قديم، وكل الأشخاص ممثلون أعادوا أدوارهم مئات المرات."
هذا المشهد يُذكّر بما قاله غي ديبور عن مجتمع الاستعراض: "الحياة كلها أصبحت عرضًا متكررًا، لا أحد يعيشه، الكل يتفرج عليه."

▪︎.التعايش مع المتناقضات:
في هذه المدينة، يشيع الجنون بوصفه شكلًا جديدًا للعقل. الجميع يتكلم عن العدالة ويأخذ الرشوة، يلعن النظام ويدافع عن رموزه، يحتفل بالحقيقة ويقتل من ينطق بها.
"الكل يضحك، يرقص، يبكي، يشتم، يحتجّ... في اللحظة ذاتها، على الوجه ذاته، بالصوت ذاته."
هذا التوصيف يُحيل إلى تشخيص إريك فروم للمجتمع العصابي، حيث يصبح الفصام وسيلة للبقاء، والتناقض هو القاعدة وليس الاستثناء.

▪︎.ناظم كشاهد مأزوم وسط مدينة لا تُبصر نفسها:
ناظم لا يلعب دور الضحية أو المتكلم، بل يبدو كمنفصل جزئيًا عن العالم. يتابع المشاهد كما لو كانت لا تخصّه، يحاول أن يُعيد الاتصال بما تبقى من حس واقعي، لكنه يُفاجَأ بأن الواقع نفسه قد انقرض، أو تسرّب من بين أصابعه.
"أشعر أحيانًا أنني حلم سيء يراود هذه المدينة، وأنها تريد أن تصحو كي تتخلص مني."
إن ناظم هنا يشبه شخصية في رواية كافكا "القصر": غريب وسط عالم لا يعترف بغربته.

▪︎.الناس كأنهم أقنعة تسير:
أكثر ما يُرعب ناظم ليس القمع، بل التكرار، الاستنساخ، الزيف الجماعي. كل الناس يشبهون بعضهم: ذات اللباس، ذات اللهجة، ذات الشعارات. الجميع يُعيد كلام الإعلام، ويتصرف كما لو أن الحقيقة لم تعد ضرورية.
"حتى الجنون صار له زيّ موحّد."
هذا الانطباع يشي بأن المدينة تحوّلت إلى مصنع لإنتاج الكائنات القابلة للسيطرة. تمامًا كما قال فوكو: "أكثر الأنظمة عنفًا هي تلك التي لا تحتاج إلى عنف مباشر."

▪︎.الجنون لا كمرض، بل كشرط ثقافي:
في عالم "أرض النفاق"، لا يُعاقَب المجنون، بل يُستوعب ضمن المنظومة. الجنون لم يعد انحرافًا، بل تحول إلى طريقة أخرى للانتماء. من لا يُجنّ يُعتبر غريبًا، خطيرًا، مشبوهًا. ولذلك، يتظاهر الناس بالجنون، لا خوفًا، بل رغبة في القبول.
"كان عليّ أن أجنّ قليلاً كي أبدو طبيعيًا."
وهنا يصل الحامدي إلى ذروة نقده: لم يعد النفاق مجرد فعل أخلاقي معيب، بل تحوّل إلى معيار للسلامة الاجتماعية.

▪︎.ناظم كمُراقب هشّ في مشهد مائع:
ناظم لا يستطيع أن يصرخ، لأن لا أحد يسمع. لا يستطيع أن يعترض، لأن الاعتراض لم يعد له معنى. هو الآن في مرحلة الخرس السياسي، لا بسبب القمع، بل لأن اللغة فقدت قدرتها على التعبير. كما يقول بودريار: "في مجتمع ما بعد الحداثة، الكلمات تُستخدم لطمس الحقيقة، لا لكشفها."
ناظم يُراقب، لكنه يدرك أنه لو تكلم، فلن يفهمه أحد. لذلك، يختار الصمت — ليس كاستسلام، بل كتكتيك بطيء.

▪︎.نحو وعي جديد، لا يُبنى على الخطابة بل على المسافة:
صورة ناظم وهو يسير في شوارع المدينة، لا يبحث عن جواب، بل عن مسافة تفصله عن الجنون الجماعي. لم يعد يبحث عن منبر، بل عن رصيف. لم يعد يريد أن يُقنع، بل أن يفهم.
"لا أريد أن أصرخ، أريد فقط أن لا أتحول إلى مرآة للذئب."
وهنا تكمن بذرة التحوّل: حين يدرك الإنسان أن المقاومة قد تبدأ من الرفض الصامت، من الحياد الراديكالي، من الانسحاب التكتيكي.

5.الفصل الخامس: "عواء الداخل" — استعادة الصوت بين حواف الجنون والمقاومة.

▪︎.من الصمت كتأمل إلى العواء كتمرد جريح:
يُخرجنا الحامدي من المشهد الخارجي للمدينة المهلوسة إلى داخل الذات المجروحة. لم يعد ناظم مراقبًا صامتًا فقط، بل بدأ يبحث عن صوته. غير أن هذا الصوت لا يعود عبر الخطابة أو النشيد، بل عبر العواء — تعبير غريزي عن ألم لا يحتمل، عن تمرد لا يمكن تنظيره، عن وعي لا يُقال بل يُفجَّر.
كما كتب أنطونين آرتو: "العواء هو أول أشكال اللغة، وأكثرها صدقًا."
في هذا الفصل، نعيش لحظة الافتكاك من الأسر الداخلي، حين يبدأ الوعي في العودة، لا نقيًا، بل مثقوبًا، معقَّدًا، مُرتجفًا.

▪︎.السرير كمختبر للغضب المكبوت:
ناظم في السرير ليس مريضًا فقط، بل مشروع شهادة يتخمَّر. يحدّق في السقف، في الجدران، في الأنبوب المثبَّت في ذراعه، لكن أكثر ما يراه هو اللغة التي هربت منه، والكلمات التي خانته. هو على حافة الكلام، لكن الفم لا يفتح.
"كنت أملك آلاف الكلمات، لكنها تكدست في حلقي كأحجار قبرية."
هنا تتضح مفارقة المناضل المهزوم: يعرف الحقيقة، لكنه لا يستطيع أن ينطق بها. لا لأنه خائف، بل لأن الزمن لم يعد قابلاً للإصغاء.

▪︎.الاستعصاء على الخطاب، لا على الوعي:
اللغة لم تختفِ من ناظم، لكنها فقدت أدواتها. الجمل لا تُشكّل نفسها، والفكرة لا تجد صيغة. هو الآن في مرحلة ما قبل اللغة، حيث تبدأ البذرة الخام للتمرد.
كما يقول أدونيس: "الصوت الذي لا يُفهم، هو أول صوت يُغيّر."
ناظم لا يحاول الإقناع، بل التحرر من اختناقه. ولذلك، يبدأ ما يشبه الهذيان، لكنه هذيان واعٍ، مليء بالألم لا بالجنون.

▪︎.ناظم بين الهذيان والتحرر التدريجي:
شخصية ناظم تشهد تطورًا فارقًا. لم يعد المُراقِب أو المُنهار، بل بدأ يتحوّل إلى فاعل داخلي، يحاول أن يستعيد سيادته على جسده، على صوته، على وعيه. هذه العودة لا تأخذ شكلًا ملحميًا، بل تتسلل ببطء، بوجع، بعناء.
"كنت أحرّك يدي وكأنني أحرّك شعبًا بأكمله."
كل حركة صغيرة هي معركة. وكل همسة هي بيان. ناظم لا يثور بعد، لكنه يُجهّز عتاده من الداخل.

▪︎.إدارة الصمت بأدوات علمية:
حين يدخل الطبيب، يربّت على كتف ناظم، يتحقق من نبضه، يسأل عن نومه، لكنه لا يسأل أبدًا: ماذا تفكّر؟ ماذا تريد؟ ما الذي يُخيفك؟ لأن هذه الأسئلة تخرج عن وظيفة الطب الحديث الذي لا يهتم بالمعنى، بل بالمؤشّرات.
كما يقول إيفان إيلتش: "الطب المعاصر لا يعالج الإنسان، بل يعالج الكائن القابل للإحصاء."
هذا المشهد يوضّح كيف تتحالف السلطة مع المؤسسات التقنية لتحييد الصوت الفردي وتحويل الذات إلى ملف.

▪︎.الممرضة — تعاطف هش وعاجز:
الممرضة التي تُدير وجهها حين ترى دموع ناظم، ليست خصمًا، بل كائن هشّ تم تدريبه على تنفيذ الأوامر لا على الإصغاء. هي تريد أن تفهم، لكن النظام لا يسمح لها. فتتواطأ بالصمت، بالابتسامة، بالهروب.
"كان في وجهها شيء من الرغبة في الصراخ، لكنّها كبَتته بإبرة مهدّئ."
هذه الشخصية تمثل ما يُسمّيه باولو فريري "المضطهَدين الذين يخافون أن يصبحوا أحرارًا."

▪︎.اللغة الجديدة لوعي مكسور:
لحظة انفجار. ناظم لا ينطق جملة، لا يلقي خطابًا، بل يصرخ — صرخة غامضة، وحيدة، غير مفهومة، لكنها صادقة.
"خرج مني صوت لم أسمعه من قبل، لا هو نداء، لا هو أنين، لا هو رجاء... كان صوتًا بريًا، وكأنه لم يمرّ على لسان بشر من قبل."
هذا الصوت هو لحظة عودة الذات من المنفى. لا لأنها شفيت، بل لأنها لم تعد تطيق الصمت.

▪︎.لا خلاص، بل بداية شق الطريق بالنداء:
هذا العواء لا يُغيّر شيئًا في الخارج. لم يتوقّف الزمن، لم يرتعد النظام، لم تنهار الجدران. لكنّ ناظم أعاد امتلاك أول أدواته: صوته. وهو لا يُطالب بالتصديق، بل يطالب بالاعتراف: أنا ما زلت هنا.
وكما كتب فالتر بنيامين: "كل من يصرخ في الظلام، يمنع الظلام من أن يصير صمتًا كاملاً."

6.الفصل السادس: "صوت يمشي على عكازين" — نحو وعي هشّ لا يتراجع.

▪︎.من الصوت كعواء إلى الصوت كخطى أولى على أرض الخراب:
هناك تحوّل النوعي في مسار الشخصية المحورية، حيث يغادر ناظم موقع الجسد المعطوب إلى موقع الوعي المتألم، الوعي الذي لا يبحث عن نصر، بل عن معنى، عن طريقة للوجود لا تقوم على الانخراط في القطيع، بل على الخروج الصعب من الحظيرة.
كما كتب غي ديبور: "كل محاولة لقول الحقيقة في زمن الكذب الشامل هي فعل ثوري."
العكازان هنا رمزان: ضعف الجسد، ووعي بلا سند. الصوت لا يعود هادرًا، بل مترددًا، يخرج من فم جاف، صدر متعب، وحنجرة مخرّبة. ومع ذلك، فهو صوت لا يعود إلى الوراء.

▪︎.الجسد يتألم ولكن يمشي:
ناظم يتحرّك للمرة الأولى بعد الغيبوبة. لا أحد يشجعه، لا أحد ينتظر منه شيئًا، لكنه ينهض، كما لو أن هناك شيئًا غامضًا يدفعه، أو كما لو أن الوقوف صار شكلاً من أشكال المقاومة.
"أقدامي لم تكن تطيعني، لكنها لم تكن ترفضني أيضًا. كانت تجرّني كما يُجرّ جسد في جنازة."
هذه الصورة الكئيبة تعكس الجو العام للفصل: لا انتصار، لا شجاعة بطولية، بل عزيمة بطيئة تنبت في المستحيل.

▪︎.ناظم يعود دون أن يتطهّر:
ليس هناك طقس تطهيري. لا لحظة خلاص. ناظم لا يخرج متعافيًا، بل يخرج بجراحه، بخيباته، بأوهامه الميتة. لكنه يخرج. وهذا ما يجعل شخصيته أكثر إنسانية، وأكثر ثورية. لأنه لا يبني وهمًا جديدًا، بل يحاول أن يعي الواقع كما هو.
"لم أعد أبحث عن الانتصار، بل عن طريقة ألّا أُهزم تمامًا."
هذا هو صوت من خسر كل شيء، لكنه رفض أن يتحوّل إلى صورة على جدار.

▪︎.العودة إلى الممر: نفس المكان، نظرة مختلفة:
ناظم يعود إلى الممر الذي مرّ به أول مرة حين حملوه إلى المستشفى. لكن هذه المرة، هو الذي يسير، وإن على عكازين. المكان نفسه، لكن الإدراك تغيّر. الممرضات نفسهنّ، الجدران نفسها، حتى الرائحة، لكن شيئًا تغيّر في داخله.
"لم يعد الممر معبرًا نحو العناية، بل ممرًا نحو نوع آخر من الحياة."
التحوّل يبدأ حين يُعاد النظر في المألوف. وهنا تبلغ الرواية ذروتها: النضال لا يبدأ من الخارج، بل من إعادة تعريف الذات.

▪︎.اللقاء بالمريض العجوز: الذاكرة الجماعية كألم متراكم:
في منتصف الممر، يلتقي ناظم بمريض مسنّ، لا يتكلم كثيرًا، لكنه يحدّق طويلًا. يشبه وجوه جيل الثورة، جيل ما قبل الوعود، ما قبل الارتداد. نظراته تقول أكثر مما يمكن للكتب أن تشرح.
"في عينيه كانت تقيم ذكرى من لم يعودوا، أولئك الذين صدّقوا ثم سُحِقوا بصمت."
هذا المشهد يعيد ناظم إلى أصله: ليس هو وحده من خسر، بل جيلٌ كامل خُدع مرتين، مرة باسم الوطن، ومرة باسم التغيير.

▪︎.المريض العجوز كصوت التاريخ غير المكتوب:
هذا العجوز لا يُمثّل الحكمة، بل يمثّل الألم الخام، الألم الذي لم يُدوَّن، ولم يُستثمر، ولم يُنَظَّر. هو شاهد على مأساة من لم يُسمَح لهم أن يتكلموا، فصارت أجسادهم تحفظ اللغة نيابة عنهم.
كما كتب إلياس كانيتي: "الشيخوخة ليست حكمة، بل ذاكرة لم تُستهلك."

▪︎.ناظم يراجع مفردات المقاومة:
يبدأ ناظم عملية شاقة من إعادة تعريف المفاهيم. ما معنى النضال؟ ما معنى الحرية؟ ما معنى الصوت؟ هل الصوت الذي لا يُسمَع يُعدّ صوتًا؟ هل الصمت مقاومة؟ هل العزلة خيانة؟
"ربما لم أكن خائنًا، لكنني كنت أنتمي إلى مشروع لم يكن لي."
بهذه العبارة، يعترف ناظم أن جزءًا من ألمه لا يأتي من الهزيمة، بل من الانخداع بالخطاب، من تصديق سردية لم تكن تحمل أدوات النصر.

▪︎.ناظم يخرج إلى الشارع — الهشاشة كقوة مضادة:
يخرج ناظم من باب المستشفى. لا يرافقه أحد. الشمس لا تشرق عليه بشكل خاص. لا موسيقى. لكنه يخرج. هو الآن كائن هشّ، لكنه لا ينهار. الصوت الذي خرج منه في الفصل السابق صار قادرًا على الهمس.
"كل خطوة كانت ألمًا. لكنني كنت أسمع وقعها في أعماقي. كنت أعود، لا إلى مدينة أعرفها، بل إلى سؤال ما زال يُكتب."
وهكذا يُختَتم هذا الفصل لا على خلاص، بل على بداية جديدة، أكثر تعقيدًا، أكثر صدقًا، وأكثر خطورة.
وكما قال أدورنو: "الضعف ليس نقيض القوة، بل نوع آخر منها، أكثر إنسانية."

7.الفصل السابع: "النطق باسم الأعداء" — تفكيك الخطاب من الداخل لا هدمه من الخارج.

▪︎.من الرفض السلبي إلى الاختراق النقدي — حين يصبح اللسان أداة كشف لا أداة تكرار:
"ينطق ناظم باسم الأعداء" لا يعني أنه صار ناطقًا باسم السلطة، بل إنه بدأ يسترد اللغة من الذين سرقوها، وراح يُقلب شفراتهم ضدهم.
كما كتب جورج أورويل: "السيطرة على اللغة تعني السيطرة على الفكر."
الحامدي يفجّر هذه المعادلة. ناظم لم يعد يصرخ من الخارج، بل دخل إلى مركز اللغة المهيمِنة، وبدأ يُلوّث خطابها بالأسئلة.

▪︎.مقهى النخبة — صراع الرموز داخل حيّز لغوي مغلق:
ناظم يدخل إلى مقهى يرتاده مثقفو المدينة، صحفيون، أكاديميون، بعض اليسار المهذّب، وبعض الوجوه الإعلامية التي تربّت في حضن السلطة. الجوّ حميمي ظاهريًا، لكنّ اللغة المستخدمة محشوّة بالألغام، بالافتراضات، بالتحالفات الخفيّة.
"كل كلمة تقال كانت كأنها تعاويذ لطمأنة الذات، لا لتفسير الواقع."
هنا تتبدّى أكبر أزمة تواجه ناظم: اللغة لم تعد وسيلة تفاهم، بل وسيلة دفاع عن الامتيازات.

▪︎.ناظم يدخل حلبة الصراع اللغوي بلا سلاح، سوى ذاكرة الصدق:
دخول ناظم إلى هذا المقهى ليس محاولة لفرض رأي، بل تجربة جسدية لمعركة رمزية. كل تعبير يلفظه يُقابَل بالدهشة أو السخرية، لأن النبرة التي يتكلم بها ليست مألوفة في سوق التوافق.
"كنت أشبه من يتكلم لغة اندثرت، لكنها ما زالت تُشعر السامعين بالذنب."
هنا لا ينهار ناظم، بل يتّضح له حجم الانفصال بين الخطاب النقدي الحقيقي وخطاب "المعارضة المُرخَّصة".
النخبة كطبقة لغوية لا تُقاتل بل تُراوغ.
الحوار في المقهى يكشف أن النخبة لم تعد تسأل: لماذا؟ بل تسأل: كيف نتكيّف؟ كيف نُقنِع المانحين؟ كيف ننتج خطابًا معارضًا لا يُزعج السلطة؟ المسألة لم تعد تغيير العالم، بل تسويق نسخ معتدلة من النقد.
كما كتب ماركوز: "حين يُصبح العقل أداة تبرير، ينقلب من أداة تحرر إلى سلاح في يد الهيمنة."
هؤلاء لا يكذبون، لكنهم يحجبون النور خلف الستائر الناعمة للمجاملة.

▪︎.المحلل السياسي، الشاعر، الأكاديمي:
كل شخصية في هذا المشهد تمثّل نموذجًا لنمط من مثقفي ما بعد الثورة:
-المحلل السياسي: يبرّر كل تنازل بوصفه ضرورة موازين القوى.
-الشاعر: يسخر من الجدية، ويُفضّل البلاغة على المواجهة.
-الأكاديمي: يُغرق نفسه في المصطلحات، ويعجز عن قول شيء مباشر.
ناظم يُصغي، لا ليُعقّب، بل ليحفظ الخرائط.
"كنت أدوّن الكلمات، لا لأقتبسها، بل لأتعرّف على سمّها."

▪︎.ناظم يتكلم، لا ليقنع، بل ليُشعر الآخرين بأن هناك ما لم يُقل:
حين يتكلّم ناظم، لا يُلقي خطابًا، بل يسأل سؤالًا واحدًا:
"هل تذكرون آخر مرة قلتم فيها شيئًا لم يكن محسوبًا؟"
السؤال يسقط في الفراغ. لا أحد يجيب. الجميع يتحرّك في مقاعدهم. الكلمات ضاق بها المكان، لأن أحدهم كسر النمط.
هنا يدرك ناظم أن النخبة ليست غافلة، بل خائفة من الانكشاف. لقد باعت لغتها، وارتضت الصمت مقابل العضوية في نادي الآمنين.

▪︎.من الصوت الخارج عن السرب إلى الطفيلي داخل اللغة السلطوية:
ناظم هنا لا يصرخ، بل يندسّ. لا يهاجم اللغة السائدة من خارجها، بل يخترقها، يُعرّي نغمتها، يُعطّل إيقاعها. هذا التحوّل هو جوهر العمل الثوري الثقافي كما فهمه غرامشي: "السيطرة لا تُهدم بالضرب، بل تُفكَّك بالمعنى."
"لم أعد أريد قول الحقيقة، بل أردت أن أجعل الأكاذيب تتعثر في طريقها."

▪︎.ناظم يغادر، لا خاسرًا بل ناقلًا للعدوى:
حين يغادر ناظم المقهى، لا يكون قد غيّر أحدًا. لكنّه زرع ما يشبه القلق في وجوه لم تكن تعرف القلق. لقد شوّش على الانسجام. وهذا هو الحد الأدنى من فعل المثقف الحر في زمن التواطؤ العام.
"خرجت، ولم أعد أملك سوى صوتي، لكنه الآن لم يعد يخصّني فقط."

8.الفصل الثامن: "المشي على شظايا الذاكرة" — حين تصبح الذات ميدانًا للمعركة.

▪︎.من الخارج إلى الداخل — الذاكرة بوصفها ساحة صراع طبقي داخلي:
يتّخذ ناظم خطوة حاسمة: لم يعد يكتفي بتفكيك الخارج، بل يلتفت إلى الداخل، حيث تتكدّس الهزائم، وتُخزّن الخيانات، وتتكاثر وجوه لم تعد واضحة الملامح. هو الآن لا يقاتل خصمًا سياسيًا، بل يقف في مواجهة ذاته، ذاكرته، تاريخه، رفاقه، وجراحه.
كما كتب والتر بنيامين: "التاريخ ليس ما حدث، بل ما لا يزال يُخاض فينا."
وهكذا يبدأ ناظم المشي على شظايا نفسه، يحاول أن يعيد ترتيب الزمن من دون أكاذيب.

▪︎.العودة إلى الأرشيف الشخصي:
ناظم يجلس في غرفته، يفتح حقيبة قديمة تحتوي على دفاتر، صور، بيانات، مقالات، وكتابات حزبية. كل ورقة تحمل بصمة من زمن الأمل، لكنّها الآن ترتجف تحت ضوء الوعي المتأخر.
"في كل ورقة كانت هناك صرخة مؤجلة، وفي كل سطر كنتُ أنا، كما تمنيت أن أكون، لا كما صرت."
هنا يبدأ الصراع: بين ناظم الشاب الذي آمن بالتغيير، وناظم المُنهك الذي يعرف الآن كم كانت الصورة ناقصة.

▪︎.ناظم بوصفه أرشيفًا حيًّا للخيبات:
ناظم لا ينقّب في الماضي بدافع النوستالجيا، بل ليُجري محاكمة رمزية لنفسه، لرفاقه، لأحلامه. هو لا يريد جلد الذات، بل يريد استعادة ما يمكن إنقاذه من المعنى وسط الركام.
"كنتُ أكتب وأنا أظن أنني أُغيّر العالم. الآن أقرأ تلك الكلمات كأنها بلاغات من كائن كان يجهل حجم الخيانة."
كل جملة كان يعتقد أنها نور، صارت مرآة للعمى المؤقت.

▪︎.الرفاق: أسماء تتكاثر في الرأس، ووجوه تذوب في الحنين:
يتذكر ناظم الرفاق، بالاسم، بالضحكة، بالموقف، بالخلاف. لكنه يكتشف أن بعضهم لم يكونوا كما ظنّ، وأن الخيانة لم تأتِ فقط من الخصوم، بل من القلب، من الداخل.
"بعضهم اختفى فجأة، وبعضهم تدرّب على النفاق بصمت، وبعضهم أجاد تمثيل دور الضحية حتى أتقن دور الجلاد."
الذاكرة هنا ليست مكانًا للراحة، بل أرض متصدعة، كل خطوة فيها تستدعي انفجارًا.

▪︎.الأمكنة: مناضد الاجتماعات، الزنازين، الساحات:
يمرّ ذهن ناظم على فضاءات مادية تشكّلت فيها الأحلام: قاعات الاجتماع، الزنازين، المقاهي السياسية، المنابر النقابية، ساحات الاعتصام. كلها الآن مواقع مهدومة أو محتلة من قِبل رموز المرحلة الجديدة.
"حتى الطاولة التي خططنا عليها للإضراب، رأيتها لاحقًا تُستخدم لتوقيع اتفاق مع السلطة."
هذا الانقلاب المكاني يُذكّر ناظم بأن الثورة الحقيقية لا تُهزَم فقط حين يُسجن المناضلون، بل حين تُحتلّ ذاكرتهم.

▪︎.اللقاء مع الذات — مساءلة بلا محامٍ:
ناظم يجلس أمام المرآة مجددًا، لا ليبكي، بل ليسأل:
"هل كنتُ أحمقًا؟ أم مغفّلًا؟ هل انخدعت؟ أم خدعت نفسي؟"
هذه الأسئلة لا تحتاج إلى إجابات، بل إلى استقامة داخلية. لأن مواجهة الذات، في منطق الرواية، ليست لحظة تطهير، بل خطوة في طريق مقاومة أعمق.
كما كتب تروتسكي: "الوعي لا يُكتسَب في الساحات فقط، بل في المعركة مع النفس."

▪︎.الرسائل القديمة: خطابات الحلم، والخذلان المؤجل:
بين الأوراق، يجد ناظم رسائل كان قد كتبها ولم يرسلها، أو أرسلها ولم يتلقَّ عليها ردًّا. رسائل تنضح بالأمل، بالثقة، بالحب الثوري، لكنها اليوم تبدو كأنها كُتبت بلغة انقرضت.
"كنتُ أكتب لكِ أنني سأعود منتصرًا، لكنني عدت فقط، بلا راية، بلا لحن، بلا من يستقبلني."
هذه الرسائل توثّق الانكسار العاطفي للمناضل، وتُثبت أن الهزيمة لا تكون سياسية فقط، بل عاطفية، وجدانية، لغوية.

▪︎.ناظم كذاكرة حيّة — من الخطابة إلى الشهادة:
ناظم لا يُقدّم خطابًا، بل يتحوّل إلى وثيقة بشرية للمأساة. لم يعد صوتًا نظريًا، بل صار جسدًا يحمل حروفًا مجروحة. هو الآن شاهد، لا على الآخر، بل على نفسه.
"ما أصعب أن تُقنع ذاتك بأنك لم تكن شريكًا في ما حدث."
وهذه هي أصعب درجات النضج السياسي: حين لا تبرّئ نفسك من التاريخ، بل تُسهم في كشفه.

▪︎.لا خلاص، بل إصرار على التذكّر:
ناظم يطوي الأوراق، لا لأنه نسي، بل لأنه قرّر أن يحمل الذاكرة لا كعبء، بل كسلاح. سيخرج من الغرفة، ليس ليخطب، بل ليبقى شاهدًا. لأن المجتمعات التي تُهزم ولا تحافظ على ذاكراتها، تُبعث فيها نفس الهزيمة في كل جيل.
كما كتب محمود درويش: "من ينسَ لا يستحقّ الحياة، ومن لا ينسى لا يموت."

9.الفصل التاسع: "نبوءة الخراب الجماعي" — من الحلم الشخصي إلى ارتجاج الوعي الجمعي.

▪︎.من الفرد إلى الجماعة — حين تنقلب النبوءة إلى تشخيص طبقي حادّ:
تتحوّل التجربة الذاتية التي خاضها ناظم، من جراحات فردية معزولة، إلى نوع من الوعي الاستشرافي الكلي. لم يعد ناظم يتألم فقط، بل بدأ يرى، ويحس، ويتنبّأ. لكنّ نبوءته لا تأتي من سلطة كهنوتية، بل من معرفة واقعية بالتصدّعات العميقة في نسيج المجتمع.
كما كتب فريدريك جيمسون: "السرد العظيم، وإن بدا شخصيًا، لا يكتمل إلا حين يعيد ربط الذات بالبنية."
ناظم لا يروي قصته، بل يستبصر شبح الانفجار القادم، الموزّع على تفاصيل يومية، سلوك جماعي، لغات متصدّعة، وعلاقات اجتماعية مثقوبة.

▪︎.المدينة في ذروة التناقض — من العمارات إلى المزابل:
ينزل ناظم إلى وسط المدينة، حيث تختلط رموز الرفاه الجديدة مع أكثر مظاهر الانهيار فجاجة. أطفال يبيعون المناديل أمام واجهات الأزياء، متسوّلون بجانب لافتات التضامن، نخب ثقافية تتجادل في المقاهي عن الحداثة بينما الروائح تتسلل من الحفر الصحية غير المغطاة.
"كل شيء يبدو مستقيمًا... لكنه لا يصمد أمام خطوة واحدة خارج الرصيف."
هذه الصورة ليست تشاؤمية، بل تشخيص بنيوي لزيف التعايش بين الحداثة والخراب، بين التلميع والانهيار.

▪︎.من الجغرافيا إلى البنية الطبقية المختلة:
المدينة هنا ليست مكانًا، بل نظامٌ معقّد من الأقنعة، طبقي، عنيف، يُعيد إنتاج التفاوت من خلال التفاصيل الصغيرة. من يملك السيارة يملك الوقت، ومن لا يملكها يخضع لطقس الإذلال في النقل العمومي. من يسكن في الأعلى يرى النهر، ومن في الأسفل يتنفس النفايات.
كما كتب دافيد هارفي: "المدينة لا تُقرأ بالخريطة، بل بالسلّم الاجتماعي الذي يخترقها."
ناظم يسير في مدينة لم يعد يعرفها، لكنّها تعرفه جيدًا: تُعيد فرزه كغريب، كمحذوف، كذِكرى غير مرغوب فيها.

▪︎.اللقاء الصدفة: حوار مع سائق أجرة — النكتة كآلية دفاع جماعية:
يركب ناظم سيارة أجرة. السائق يتحدث باسترسال عن كل شيء: ارتفاع الأسعار، السياسة، رجال الدين، مباريات كرة القدم. لكنه لا يقول شيئًا فعليًا. كل جملة تنتهي بنكتة، كل فضيحة تُختم بضحكة.
"حتى حين تحدث عن موت صديقه، اختتم الحكاية بقفشة: مات وهو يضحك، كأن الدولة لا تستحق دموعه ."
هنا يتجلّى الشكل الأكثر تطورًا من أشكال الدفاع الجماعي: تحويل الألم إلى فكاهة، والذلّ إلى مَزحة، مما يُصعّب أي وعي طبقي حادّ.

▪︎.السّائق، الشعبوي الذي يعرف كل شيء لكنه لا يغيّر شيئًا:
السائق ليس بلا وعي، بل هو الوعي المهزوم الذي اختار السخرية سلاحًا أخيرًا، بعدما خذلته السياسة، وخدعته الشعارات، وسرقت الثورة منه خبزه. هو يعرف، لكنه لا يثق في أحد. يضحك، لكنه لا يسامح.
"نضحك حتى لا نُشنق، ونَسخر حتى لا نَبكي."
ناظم يُدرك أن هذه الشخصيات لا يمكن ازدراؤها، بل يجب قراءتها بوصفها ضحايا التحوّلات النيوليبرالية المقنّعة بالحداثة الزائفة.

▪︎.من الذاتية إلى التحليل التاريخي:
يقف ناظم في أحد الأزقة القديمة. يرى جدارًا كُتب عليه: "عاشت الثورة!" لكنه ممزّق، مرشوش عليه بول، ومغطى بإعلان حفلة خاصة. عندها يقول:
"الثورات لا تموت، بل تُغتصب كل يوم في الأزقة، وتُعلن عن ذلك بملصقات ملوّنة."
هنا يبلغ الخطاب أقصى درجات التشريح الطبقي. لم تعد المشكلة في النفاق، بل في تحويل القيم الثورية إلى واجهات للبيع. لم يعد الخطر في الأعداء، بل في التسلل الثقافي للرداءة.

▪︎.انهيار شامل لا يأتي بالعنف، بل بالاعتياد:
ناظم لا يتوقع نهاية مفاجئة. بل يُحذر من الأشد فتكًا: الاعتياد على الانهيار، والقبول بالصمت، والرضا بالقليل. حين يصبح الفساد مشهدًا اعتياديًا، ويتحوّل السخط إلى مادة تسلية، عندها، كما يقول،
"لن نحتاج إلى سجون، لأن الناس سيُسجنون طواعية في حياتهم اليومية."
النبوءة ليست نهاية، بل تحذير: أن المجتمع الذي يفقد قدرته على الغضب، يفقد قدرته على الوجود.

▪︎.ناظم يكتب — لا كتابًا، بل جملة على الجدار:
يتسلل ناظم إلى حيّ قديم ويكتب على جدار متآكل:
"ما زلت أرى، وسأظلّ أتكلم، حتى لو كان صوتي مجرد خدش في لوحة الديكور."
ثم يغادر، لا أحد يراه، لا أحد يُصفق له لكنه كتب، لا ليُغيّر شيئًا، بل ليقول إنه كان هنا.

10.الفصل العاشر: "الحقيقة كألم لا يُحتمل" — المساءلة الكبرى في قلب الخراب.

▪︎.من المعرفة كقوة إلى الحقيقة كعبء طبقي لا يطاق:
تصل الرواية إلى لحظة الذروة الفكرية والنفسية. ناظم لا يبحث عن أجوبة، بل يطرح السؤال الأثقل في تجربته كلها: هل تستحق الحقيقة كل هذا الألم؟ هل كانت كل الخيبات، كل الخسائر، كل التشوهات التي لحقت به نتيجة الضرورة أم الغفلة؟
كما كتب ميشيل فوكو: "الحقيقة لا تحرر دائمًا، أحيانًا تقتل."
الحامدي يقودنا إلى هذه اللحظة الرهيبة، حين يُطرح السؤال لا على النظام أو المجتمع، بل على الذات التي كانت تؤمن وتقاوم وتكتب.

▪︎.انعزال تام في غرفة لا نوافذ فيها:
ناظم يعود إلى غرفته. هذه المرة ليست عزلة جبرية، بل اختيار وجودي بالمعنى السارتري. لم تعد المدينة تعنيه، ولا المقهى، ولا الإعلام، بل يريد أن يُعيد تعريف موقعه من العالم. يغلق الباب ويجلس قبالة ورقة بيضاء.
"لم أكن أريد أن أكتب، بل أن أصرّح بشيء أخير، ولو كان صمتًا."
في هذه اللحظة، تكون الذات قد بلغت أقصى حدودها. ليس هناك ما يمكن ربحه أو خسارته. فقط الحقيقة، عارية، موجعة، بلا رتوش.

▪︎.الثمن الباهظ للوعي:
يبدأ ناظم بمساءلة نفسه: من خسره؟ من خذله؟ ما الذي أضاعه حين اختار الطريق الأصعب؟ لا يتحدث هنا عن الآخرين، بل عن فقدانه لحياته الخاصة، لعلاقاته، لصوته، لأحلامه.
"لم يبق لي إلا وجع لا يُسمّى، لا يداويه اعتذار، ولا يمحوه انتقام."
هذه ليست مبالغة درامية، بل تشخيص صادق لنتائج السير ضد التيار في زمن النفاق المعمّم.

▪︎.ناظم ككائن صادق في عالم غير قابل للصدق:
ناظم يمثل الضمير الذي لم يساوم، لكن في المقابل، دفع ثمنًا باهظًا، تمثل في عزلة مطبقة وفقدان التواصل مع المحيط. لم ينهزم، لكنه لم ينتصر أيضًا. لقد انتقل من خانة الفاعل إلى خانة الشاهد الصامت.
"أعرف ما يحدث، لكن لا أحد يريد أن يسمع."
هذا الشعور باللاجدوى لا يولّد اللامبالاة، بل يزيد من التزامه الأخلاقي. لأن الحقيقة، حتى حين لا تُسمع، تبقى آخر خطوط الدفاع.

▪︎.ذكريات تُستعاد على شكل كوابيس:
تعود الذكريات لا كحنين، بل ككوابيس متقطعة: رفاق يسقطون في السجون، شعارات تُباع، مظاهرات تُخترق، أمهات تنتظر أبناءً لن يعودوا. كل هذه الصور تمرّ أمام ناظم وهو عاجز عن صدّها.
"كل وجه رأيته كان يعاتبني، وكل شعار هتفنا به صار صفعة."
هذه ليست مشاهد ندم، بل تجلي لمعادلة مؤلمة: أن التورط في الحقيقة قد يحملك وزر كل الخسائر، حتى التي لم تكن مسؤولًا عنها.

▪︎.إعادة طرح السؤال الجوهري: لماذا نكتب؟:
يعود ناظم إلى سؤال البداية: لماذا كتب؟ لماذا لم يصمت؟ لماذا لم يختر أن يكون عاديًا؟ لماذا لم يركب الموجة؟ لكنه لا يجيب. يترك الورقة بيضاء. لأن السؤال لم يكن يحتاج إلى جواب، بل كان اختبارًا.
كما كتب جيل دولوز: "حين تصبح اللغة مشلولة، تبدأ الكتابة."
الكتابة هنا ليست مشروعًا، بل بقايا رغبة في النجاة من التفسخ الداخلي.

▪︎.الصمت ليس انسحابا، بل موقفا نهائيا:
ناظم يطفئ المصباح. لا لأن الليل حلّ، بل لأنه أعلن نهاية الخطاب. ليس لأنه لم يعد يملك ما يقول، بل لأنه قال ما يمكن قوله، ولم يتغيّر شيء. الصمت هنا ليس هزيمة، بل طريقة جديدة للقول.
"سأصمت، لا لأنني خفت، بل لأن صوتي صار مرآة لانكسار العالم."
هذا الفصل لا ينتهي، بل يُعلّق في الهواء، كأن الحامدي يقول: "الآن، جاء دور القارئ ليتكلم."

11.الفصل الحادي عشر: "ولادة الصدق من رحم الاحتراق" — محاولات نهوض في قلب العدم.

▪︎.من الرماد إلى الجمر — حين يصبح الصدق مشروعًا مستحيلًا ومطلوبًا في آن:
استئناف عسير للوعي بعد الانفجار. لا يُعلن عن بعث حقيقي، ولا انتصار، بل يُقدّم صورة نادرة لذات مهشّمة تحاول أن تصنع صدقها الخاص، لا باعتباره فضيلة، بل سلاحًا في معركة اللاجدوى.
كما كتب إرنستو ساباتو: "حين يغرق العالم في القبح، لا يبقى لنا إلا أن نخترع شكلاً آخر من الجمال: الصدق."
ناظم لا يعود ليبشّر، بل ليخوض من جديد معركته، هذه المرّة دون ضجيج، دون جمهور، دون حلم جماعي.

▪︎.المدينة كما تُرى من الهامش:
ناظم يسير في هوامش المدينة. لم يعد يقصد الساحات، بل الأزقة، الحواشي، المناطق الرمادية التي لا تصلها الكاميرات ولا تهتم بها البلاغات الرسمية. هناك، يلتقي أجسادًا منسية، عمال نظافة، مراهقين، بائعي سجائر مفردة، نساء منهكات.
"كل ما كان في هذه الشوارع يهمس بأن الحقيقة ليست في الأخبار، بل في البقع التي تُقطَع من الصورة."
هذا الاكتشاف ليس جديدًا عليه، لكنه هذه المرة يتحوّل إلى مشروع: أن يُصغي للذين لا يُصغى إليهم، أن يُسجّل الأصوات التي لا تُطبع.

▪︎.إعادة تعريف الصدق: ليس هو قول الحقيقة فقط، بل كشف كلفة السكوت عنها:
الصدق هنا لا يُقدَّم كقول مباشر، بل ككشف شاقّ لطبقات الإنكار التي يَنتج عنها الكذب الجماعي. لم يعد الصدق يُقاس بالنبرة أو الشعارات، بل بمدى قدرتك على خيانة السردية الرسمية.
"الصادق ليس من يقول الحقيقة فقط، بل من يدفع ثمنها."
وهنا تتضح مأساة ناظم: ليس لأنه وحده، بل لأنه لا يزال يؤمن أن المعنى يولد رغم كل شيء.

▪︎.ناظم كمشروع صدق غير مكتمل:
ناظم أقرب إلى شبح مقاوم. يتحرك، يلاحظ، يدوّن، لكنه لا يطلب شيئًا، لا ينتمي لأي جهة، ولا يدّعي الطهارة. بل يعترف بأنه أخطأ، بأنه تأخّر، بأنه سكت أحيانًا. لكنه رغم ذلك، يُصرّ على البقاء في موقعه، لا لأنه مريح، بل لأنه صادق.
"أنا لست مثالًا. أنا مجرد إنسان لم يتعلّم الكذب جيدًا."

▪︎.اللقاء بالمعلّمة القديمة: بقايا ذاكرة حقيقية وسط سوق التنميط:
في مشهد صغير لكنه دال، يلتقي ناظم بمعلّمته القديمة. لم تعد تدرّس. تبيع الخبز في زقاق. لكنها ما زالت تقرأ، وتكتب. تُطلعه على دفتر صغير تحشو فيه ملاحظات، مواقف، أفكار.
"الحقيقة يا ناظم ليست نادرة. لكنها جبانة. تنتظر من يعترف بها دون أن يطلب منها شيئًا."
هذه المرأة تمثل صوت الصدق المتروك في هوامش المجتمع، لا في المراكز، لا في الواجهات، بل في دفاتر اليد الملطخة بالعجين.

▪︎.محاولة كتابة نص جديد: من البيان إلى الهامش:
ناظم يفتح دفتره. يكتب. لكنه لا يبدأ بجملة حاسمة. بل يبدأ بسطر متردّد:
"أنا لا أعرف... لكني أرفض أن أستسلم لما أعرف أنه كذب."
بهذا، يتحوّل النص من مشروع بلاغي إلى وثيقة مقاومة أخلاقية. ليست مهمته أن يُقنع، بل أن يُبقي جذوة المعنى حيّة.

▪︎.المدينة لا تتغيّر، لكن الرؤية تختلف:
يعود ناظم إلى نقطة البداية: نفس المقهى، نفس الوجوه، نفس الأحاديث. لكنّه هذه المرة لا ينتظر منهم أن يفهموه، ولا يسعى لأن يُفهمهم. يجلس، يفتح دفتره، ويكتب بينهم، لا من أجلهم.
"ربما لا يسمعني أحد. لكني لم أعد أكتب لهم. أكتب كي لا أموت صامتًا."
هنا، تتحقّق ولادة جديدة، لا للبطولة، بل للصدق كفعل صامت.
وكما كتب إدوارد سعيد: "المثقف ليس من يُغيّر العالم، بل من يرفض أن يصبح جزءًا من كذبة العالم."

12.الفصل الثاني عشر: "امتحان الصدق الوليد" — حين يُقابل الصوت الداخلي جدار السلطة.

▪︎من دفتر المقاومة إلى مواجهة المهيمن — اختبار الصدق في أول احتكاك بالعالم:
يدخل ناظم أول مواجهة خارجية مباشرة منذ أن قرر أن يكتب لا ليسمعه أحد، بل ليبقى حيًّا في وجه الصمت المعمَّم. الصدق الذي خرج من قلب العزلة، من الهامش، من الجرح، يُوضع فجأة أمام جهاز السلطة، لا في شكله البوليسي الصارم، بل في شكله الأخطر: الإداري، البيروقراطي، العادي.
كما كتب هربرت ماركوز: "الخطر الأكبر ليس في القمع الصريح، بل في قدرة النظام على تطبيع القمع ضمن روتين الحياة اليومية."

▪︎.استدعاء إلى مركز الثقافة:
يتلقى ناظم رسالة مختومة من إدارة دار الثقافة بالمنطقة. دعوة للمشاركة في ندوة حول "أخلاقيات الكتابة ومسؤولية المثقف". يبدو الأمر غريبًا: هو لم ينشر مؤخرًا، لم يعد له حضور عام، لكنه مدعو باسم "الرمزية النضالية".
"كأنهم تذكروني فقط حين احتاجوا إلى ديكور نقدي."
الرسالة تحمل رائحة فخ ناعم، لكنها أيضًا تثير فضول ناظم: هل هي محاولة احتواء؟ مصالحة؟ أم اختبار للصمت؟

▪︎.الصدق في مواجهة السلطة الناعمة:
قبل الندوة، يجلس ناظم في المقهى. يُقلب الدفتر. لا يُعدّ مداخلة. لا يكتب بيانًا. فقط يُكرّر في ذهنه: "لا تساوم". هو يعرف جيدًا أن الخطر هنا ليس في الاعتقال، بل في الاستيعاب.
"كان خوفي الوحيد أن أُقنع نفسي أنني قلت شيئًا مهمًا، فقط لأبرر بقاءي على المنصة."

▪︎.كيف تصنع الدولة وجوه المعارضة التي يمكن التحكم فيها:
الندوة تعقد في قاعة صغيرة. الحضور مدجّن. مثقفون، طلاب، بعض الصحفيين. المنصة تضم وجوهًا مألوفة: وجوه انتقلت من النقد إلى الترويض، ومن المواجهة إلى التكيّف. كل شيء مرتب، محسوب، أنيق.
كما كتب بيير بورديو: "تشتغل السلطة الثقافية عبر الاحتفال بالاختلاف الذي لا يُهدد."
الدولة لم تدعُ ناظم لتسجنه، بل لتروضه أمام عدسات إعلامها.

▪︎.حين يصبح الصدق مقاومة صامتة لا تُصفّق لها الجماهير:
حين يُمنح ناظم الكلمة، يقف. لا يقرأ ورقة. لا يصرخ. لا يخطب. يقول ببساطة:
"ليس لديّ ما أضيفه على ما لم تسمحوا لي أن أقوله من قبل. لكنّي ما زلت أكتب. ليس لكي أُستدعى، بل كي لا أموت كاذبًا."
القاعة تصمت. لا تصفيق. لا احتجاج. فقط ارتباك. أحدهم يطلب الانتقال إلى المتدخل التالي.

▪︎.ناظم يثبت أن الصدق لا يحتاج إلى جمهور بل إلى قرار داخلي:
هذه اللحظة تختبر كل ما بناه ناظم في الفصول السابقة. لم يراهن على التأثير. لم يسعَ إلى إعجاب. فقط حافظ على خطه الداخلي. رفض أن يُستعمل كواجهة، وأن يصبح صوتًا مأذونًا له بالتنديد.
"لم يكن ما قلته مهمًا. المهم أنني لم أقل ما يريدونه أن أقول."

▪︎.مآلات الندوة: احتواء فاشل، صوت غير مُستعمل:
بعد خروجه، لم يحدث شيء. لم يُلاحق. لم يُهاجَم. فقط تم تجاهله. نُشر مقال عن الندوة دون ذكر اسمه.
"لقد نجوت من القتل، لكنهم سلبوني الأثر."
وهذه أقسى أنواع الرقابة: ألا تُمنع، بل تُمحى.

▪︎.دفتر جديد، لكن الجرح نفسه:
في آخر الليل، يعود ناظم إلى بيته. يفتح دفترًا جديدًا. لا ليكتب قصة الندوة، بل ليُسجّل فكرة:
"السلطة لا تحتاج إلى أن تكذب، يكفيها أن تُغرق الحقيقة في بحر من اللاشيء."
ثم يغلق الدفتر. يبتسم. لا لأنه ربح، بل لأنه لم يُستعمل.

13.الفصل الثالث عشر: "معنى صغير في خراب كبير" — مقاومة متواضعة كاختيار وجودي.

▪︎.من المعنى الثوري إلى المعنى اليومي — حين يصبح البقاء في الصف الصغير فعلًا طبقيًا:
يتخلى ناظم عن أوهام التغيير الشامل، لكنه لا يستسلم. يبدأ في تأسيس معنى صغير، شخصي، مقاوم، لا يطلب شيئًا من أحد، لكنه يرفض أن يُسحق من الداخل. المعنى هنا لا يأتي من الشعارات، بل من تفاصيل الحياة اليومية، من موقف صغير، من كلمة تُقال رغم اللاجدوى.
كما كتب كامو: "التمرد هو تأكيد الفرد على وجوده حتى عندما لا يعني هذا الوجود شيئًا لأحد."

▪︎.تعليم طفل كيف يكتب اسمه:
ناظم يجلس قرب طفل صغير في حومة شعبية. الطفل لا يعرف القراءة. يطلب منه أن يساعده في واجب مدرسي. ناظم يأخذ القلم، ويبدأ بتعليمه كيف يكتب أول حرف من اسمه.
"شعرتُ لوهلة أنني أُخرج حجرًا من فم الصمت، لا قلمًا من جيب معطفي."
هذه اللحظة البسيطة تفتح أبوابًا جديدة للصدق: ليس الخطابة، بل الفعل الصغير، المُكرّر، غير المرئي.

▪︎.ناظم كمعلّم مؤقت للمعنى المنسي:
هنا يعود ناظم إلى أصوله: لا ككاتب أو ناشط أو شاهد، بل ككائن يُصرّ على أن الحياة تستحقّ أن تُروى وتُستعاد عبر تفاصيلها اليومية. أن تُدرّب طفلًا على كتابة اسمه، هو أن تمنحه شكلاً من أشكال الوجود في مدينة تُحبّ من لا أسماء لهم.
"في كل حرف يكتبه الطفل، كنت أرى نداءً صغيرًا لا يريد أن يغرق."

▪︎.مقهى شعبي، نقاش بلا مراهنات:
يجلس ناظم مع بعض سكان الحي، لا حديث عن السياسات العليا أو الثقافة الكبرى، بل عن الخبز، عن النقل، عن المدارس، عن من سُرق ومن سُجن. هنا، تُروى السياسة بشكلها العاري.
"لم يكونوا يحلّلون، كانوا يشتكون. لكن في كل شكوى كان هناك درس، وفي كل صمت كان هناك قرار."
ناظم لا يُعلّق، بل يستمع، يتعلّم أن المعنى لا يُصاغ في المؤتمرات، بل في الجملة المقطوعة التي يقولها عامل نظافة عن سعر اللتر.

▪︎.لا نفاق، لا أمثولة، فقط بقاء:
يكتشف ناظم أن الناس لا يكذبون، بل يُطوّعون اللغة لتحمل آلامهم دون أن تنفجر. ليست لديهم أدبيات الثورة، لكن لديهم إرادة الحياة رغم كل شيء. وهنا يتحقّق نوع آخر من المقاومة: أن تظلّ حيًّا رغم الانكسار.
كما كتب محمود المسعدي: "إن أكبر نصر للإنسان هو ألا يموت في اللحظة التي يُقتل فيها."

▪︎.دفتر صغير يُوزّع في الخفاء:
يبدأ ناظم في كتابة كراسات صغيرة، بيده، بخط متعب، يُلصقها في زوايا المدينة: محطات الحافلات، أبواب المدارس، جدران المستوصفات. لا شعارات، لا تحريض. فقط جمل صغيرة مثل:
"من لا يطلب شيئًا لا يعني أنه لا يستحق كل شيء."
"حين تسكت الدولة، يجب أن يتكلّم الحائط."
"الحرية لا تحتاج إلى بيان، فقط إلى أن لا تصير عارًا."
هذه العبارات تُصبح، مع الوقت، إشارات صامتة في مدينة تكره الكلام، وتخشاه.

▪︎.ناظم ككاتب هامشي يُصرّ على البقاء دون إذن:
ناظم لا يريد العودة إلى المنابر. لقد اكتشف أن الهامش هو المكان الوحيد الذي يمكن للصدق أن يعيش فيه دون ترخيص. هو ليس شهيدًا ولا بطلًا، بل شاهد يُصرّ على أن الحقيقة لم تمت، فقط اختبأت.
"لم أعد أبحث عن ضوء. صار يكفيني أن لا أكون ظلامًا."

▪︎.المدينة تمر، الكراسات تبقى:
تمرّ الأيام. الناس يعتادون على الجمل المعلقة على الجدران. لا أحد يعرف من كتبها. بعضهم يمزّقها، بعضهم يُعيد لصقها. ناظم يراها من بعيد، لا يتدخل.
"لم أعد أبحث عن أثر لي، صرت أبحث عن أثر لغيري في ما أكتب."
وهنا تتجلّى المقاومة الحقيقية: لا في أن تُرى، بل في أن تُعيد للناس حقّهم في أن يُروا.
كما كتب إيتالو كالفينو: "حتى داخل الجحيم، يمكن بناء شظايا من الفردوس، إذا عرفنا كيف نبحث عنها."

■.حين تُهزم الثورة في الجسد وتُولد في الجملة:
ليست رواية "أرض النفاق" عملاً أدبيًا يسعى إلى الإمتاع، بل هي جرح مفتوح على جسد وطن. ليست رواية بالمعنى التقليدي، بل ملفًا شعريًا ـ سياسيًا عن الكلفة الحقيقية للوعي. وقد نجح بشير الحامدي في خلق سردية طبقية تقوم على مقاومة النسيان، وتفكيك كل أشكال الاحتواء، من النفاق الصاخب إلى السكوت الناعم.
لقد تتبعنا عبر ناظم العربي سيرة تحوّل مناضل إلى شاهِد، من صوته إلى صمت الكتابة، ومن الهامش إلى المعنى. ومع كل خطوة كان الصوت يخفت لكنه يتجذر. لم ينتصر ناظم، لكنه رفض أن يُستعمل. لم يربح، لكنه أفشل اللعبة.
"الصدق لا يُكافأ، بل يُركن جانبًا. لكنّ ركنه ليس هزيمة، بل حماية له من السوق."
وفي زمن صار فيه كل شيء يُباع — من المواقف إلى القصائد — تأتي هذه الرواية لتقول: ما زال في الكتابة ما لا يُباع.
قد نكون نسينا في هذا التفكيك الحديث عن الشخصيات الثانوية، عن أمهات الحي، عن العمّال، عن اللغة اليومية التي كانت تسري في الجمل كملح الأرض، لكن هذا النقص ليس نسيانًا، بل وعدًا بالعودة.
لأن رواية مثل هذه لا تُقرأ مرة واحدة، بل تُستعاد كلما أردنا أن نسأل أنفسنا:
من نحن بعد أن خسرنا كل شيء، إلا وجعنا؟



#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في قصّة “رحاب” من المجموعة القصصية - بلايك - للشاعر و ...
- -منتصر السعيد المنسي-: حفر في منطوق شهادة ذاتية ضد نسيان الط ...
- غزة تحترق: تاريخ حرب إبادة جماعية تقودها الصهيونية العالمية ...
- قراءة نقدية في المجموعة القصصية -ولع السّباحة في عين الأسد- ...
- الإمبريالية الأمريكية بنَفَس ترامب: وقاحة القوة ونهاية الأقن ...
- ورقة من محترف قديم في قطاع السّياحة
- القصيدة ما بعد الّنثر
- افكار حول البناء القاعدي والتسيير
- قراءة في مجموعة -نون أيار- للشاعرة نسرين بدّور.
- القصيد ما بعد النّثر
- بيان
- بكاءُ السُندسِ في المنفى....
- عيد الشّغل: من نضال طبقي إلى مناسبة رسمية بروتوكولية.
- الحداثة وما بعد الحداثة بين ديكتاتورية البرجوازية وخيانة الت ...
- مراجعة مجلّة الشّغل التّونسية: بين تعزيز الاستغلال الرّأسمال ...
- نساء بلادي أكثر من نساء و نصف
- النّضال من أجل الدّيمقراطية والحرّيات العامّة والخاصّة
- الدولة البوليسية المعاصرة
- إرهابيّ أنا
- حاسي الفريد / ما يشبه القصّة


المزيد.....




- ” اضبطها وشوف أفلام العيد” تردد قناة روتانا سينما الجديد 202 ...
- توم كروز يدخل -غينيس- بمشهد مرعب في فيلم -المهمة المستحيلة - ...
- أوبرا دمشق تنتظر تغيير اسمها الرسمي وعودة نشاطاتها الدورية
- أفلام عيد الأضحى في السينما.. منافسة فنية بين كريم عبد العزي ...
- استقبال تردد قناة روتانا سينما على النايل سات وعرب سات وتابع ...
- “الخيال بقى حقيقة”.. Honor 400 Pro بيصور كأنك في فيلم وسعره ...
- هل يعيد الذكاء الاصطناعي صياغة قواعد صناعة الموسيقى؟
- نغوجي واثيونغو حين كتب بلغته كي لا يُمحى شعبه... دروس لكردست ...
- مصر.. منشور منسوب للفنان المصري أحمد آدم يثير ضجة بالبلاد
- سلوتسكي: السلطات في لاتفيا مستعدة لحظر حتى التفكير باللغة ال ...


المزيد.....

- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض الشرايطي - قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.