محمد علي محيي الدين
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8403 - 2025 / 7 / 14 - 18:21
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في كل عام، ومع اقتراب ذكرى الرابع عشر من تموز، يعود السؤال إلى الواجهة: هل كان ما حدث في ذلك اليوم المجيد انقلابًا عسكريًا أم ثورة شعبية؟ سؤال لطالما شغل المهتمين بالشأن العراقي، وتباينت الإجابات عنه تبعًا للمنطلقات الأيديولوجية والانتماءات الفكرية، فجاءت معظم الأحكام مؤطرة بالموقف السياسي لا بالرؤية التحليلية المستقلة.
فالفريق الذي تضرر من التغيير رفض تسميته "ثورة"، معتبرًا أنه لا ينطبق على المعايير الكلاسيكية للثورات، فيما ذهب أنصاره إلى تسميته بثورة مكتملة الأركان، أحدثت تحوّلًا كبيرًا في بنية الحكم العراقي، وغيّرت النظام من ملكي إلى جمهوري. وبين هذين الطرفين، برزت بعض القراءات الوسيطة، ومنها ما كتبه الدكتور عبد الإله الصائغ في طيوره المهاجرة، حيث حاول مقاربة الحدث بروح موضوعية تبتعد عن التهويل والتقليل.
ومن هذا المنطلق الوسيط، يمكن القول إن يوم الرابع عشر من تموز بدأ بوصفه انقلابًا عسكريًا نفذته مجموعة من الضباط الوطنيين، لكنه سرعان ما تحوّل إلى ثورة شعبية عارمة شاركت فيها الجماهير، وأسهمت في حسم الموقف وإفشال محاولات الردّة.
لقد كان للتحرك الشعبي في الديوانية – حيث اجتمع الفلاحون بالضباط الثوريين – دور كبير في شلّ قدرة الفرقة الأولى على التحرك ضد النظام الجديد. كما أن الجماهير التي نزلت إلى الشوارع، واعتقلت رموز الحكم الملكي، أفقدت النظام البائد زمام المبادرة، وفرضت واقعًا ثوريًا لا يمكن إنكاره. كل تلك الأحداث تؤكّد أن الرابع عشر من تموز لم يكن مجرد حركة عسكرية في معسكر الرشيد، بل ثورة شعبية ضد الفساد والاستبداد.
التباسات ما بعد الثورة
لكن، هل استمرّت الثورة في مسارها الثوري؟
هذا ما يستحق النقاش بروح نقدية وموضوعية. فالثورة، منذ لحظاتها الأولى، افتقرت إلى القيادة الموحدة والرؤية السياسية الواضحة.
كان قادتها من كبار الضباط، أبناء طبقة برجوازية، تختلف توجهاتهم السياسية والفكرية بشكل واضح. ولم يكن بينهم اتفاق على شكل النظام الجديد، أو البرنامج السياسي والاقتصادي الذي ينبغي اتباعه. سيطرت عليهم النزعة العسكرية، وشعور بالاستعلاء، وغلبت الأنا على العمل الجماعي، فكلٌّ منهم رأى في نفسه القائد والمنقذ والمخطط.
هذا التفكك في الرؤية أدى إلى تصدعات مبكرة، تجسّدت في الخلاف العلني بين عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف.
عارف، الذي قدّم نفسه كـ"وحدوي"، لم يكن صادقًا في خطابه، وقاسم، من جهته، لم يكن رافضًا للوحدة بقدر ما كان حذرًا من ضمّ العراق إلى مشاريع إقليمية لا تنبع من الإرادة الوطنية. لكن القوى المتضررة من الثورة، وعلى رأسها البعثيون المدعومون من الغرب، استخدموا شعارات الوحدة والقومية سلاحًا سياسيًا لإجهاض الجمهورية، فاختطفوا الشارع بشعارات ثورية جوفاء، لم يؤمنوا بها بقدر ما استخدموها كجسر للسلطة.
ومن هنا بدأ الانحدار. تصاعد الخلاف بين قاسم وعارف، وكان ذلك الشرارة الأولى لمسار دموي أتاح لاحقًا للبعثيين أن يعودوا إلى المسرح السياسي، محمولين على قطار الدعم الأمريكي – البريطاني – الصهيوني، ليمزّقوا وحدة البلاد ويغرقوها في صراعات عبثية دامت لعقود.
بين اليسار واليمين... تخبط قاتل
ولم يكن التهديد داخليًا فحسب. فكما هو الحال اليوم، لعب التآمر الإقليمي والدولي دورًا خطيرًا في زعزعة استقرار الجمهورية الفتية.
انقسم الشارع العراقي بين تيارين: اليسار، بقيادة الحزب الشيوعي والقوى التقدمية، واليمين، المتمثل بالقوميين والرجعيين والظلاميين المدعومين من أنظمة الجوار.
وقاسم، بدلاً من أن يتخذ موقفًا حاسمًا، ظل يتأرجح بين التيارين.
فحين شعر بقوة اليسار، تحالف معه لفترة قصيرة، لكنه سرعان ما انقلب عليه حين شعر بخطره على سلطته. عيّن وزراء ومحافظين وقادة عسكريين من اليمين المغامر، رغم معرفته بارتباطاتهم المشبوهة، وظلّ يراوح بين الضفتين، يسعى للموازنة بينهما، لكنه في النهاية فقد ثقته بالجميع، وتصرف بعقلية ارتيابية دفعت به إلى قرارات متناقضة.
أكبر أخطائه، وربما الأخطر على الإطلاق، كانت ضرب الحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية التي وقفت إلى جانبه، وشاركت في حماية الثورة منذ يومها الأول.
تحت ضغط دعايات وأكاذيب روّجتها المخابرات المصرية، شنّ حملة على حلفائه، وسلّم مفاصل الدولة لعناصر مرتبطة بأجهزة استخباراتية إقليمية، وهو ما عجّل بانهيار النظام الوطني الوليد، وعودة الرجعية إلى الحكم.
الشيوعيون وأخطاؤهم
لم يكن قاسم وحده من ارتكب الأخطاء القاتلة.
الحزب الشيوعي العراقي، رغم قوته الشعبية، وقع في فخ التهاون.
كان يملك من التنظيم والقوة ما يسمح له بحسم الصراع لصالح القوى الوطنية، لكنه ظل أسيرًا لحسابات نظرية، ولم يتخذ موقفًا حاسمًا.
في لحظة كانت تتطلب "قبضة حديدية"، اختاروا سياسة الانتظار، فالتقطت القوى المضادة أنفاسها، وعادت بهجومها الشرس، وكان الثمن غاليًا.
عبد الكريم قاسم... الزعيم النزيه الذي خانته حساباته
رغم كل ما سبق، يبقى عبد الكريم قاسم أحد أنزه الزعماء الذين حكموا العراق.
لم يتورط في فساد مالي أو أخلاقي، ولم يورّث الحكم لأقاربه، ولم يستغل منصبه لمصلحة عشيرته أو مدينته. لكن وطنيته ونزاهته لا تعفيه من المسؤولية التاريخية.
فقد ارتكب خطأ فادحًا حين منح الثقة لأشخاص يعلم أنهم مرتبطون بدول الجوار، وأعطاهم سلطات إدارية وعسكرية مطلقة، من دون رقابة. أمثال حميد الحصونة، الذي كان يتودد للحزب الشيوعي، ويرفع شعاراته، ثم انقلب عليه، وبدأ يلاحق أنصاره في الألوية التي يسيطر عليها، دون أن يتخذ الحزب أو قاسم أي إجراء رادع.
وكان من نتائج هذا التفكك أن تحولت الألوية إلى ما يشبه الدويلات، يُحكم كل منها بشكل ذاتي، مع ضعف التنسيق وتراجع سلطة المركز. وهو ما سهّل الانقلاب، ومهّد لعودة البعثيين بقوة، وإجهاض التجربة الوطنية.
الديمقراطية الغائبة
ما كانت تفتقر إليه "ثورة تموز" – إلى جانب وضوح الرؤية – هو الخيار الديمقراطي.
لو تبنّى قاسم نظامًا تعدديًا حقيقيًا، وفتح الباب أمام الأحزاب السياسية للعمل، وأجرى انتخابات وطنية، لربما تغيّر مسار العراق، وتحول إلى بلد مستقر. لكن الابتعاد عن الديمقراطية، والتنكيل بالقوى الوطنية، والاعتماد على الأجهزة العسكرية، كانت كلها عوامل ساهمت في تسريع الانهيار.
ولم تكن هذه الممارسات نتاج قاسم وحده، بل كانت انعكاسًا لثقافة شعبية ترى في الزعيم شخصية شبه مقدسة، وتمنحه شرعية مطلقة. وقد تجلّت هذه الثقافة في المسيرات والهتافات التي جعلت من قاسم زعيمًا أوحد، حتى أن الناس صدّقوا لاحقًا أنه ما زال حيًا، وأن صورته تظهر في القمر.
إرث تموز... ما له وما عليه
رغم كل ما سبق، فإن من غير المنصف إنكار ما أنجزته ثورة تموز.
لقد سنت تشريعات رائدة أنصفت الفقراء، وقلمت أظفار الرجعية، وأعادت توزيع الثروة بشكل أكثر عدالة.
ويكفي أن نشير إلى قانون الأحوال الشخصية، الذي خلّده الشارع العراقي بأغنية شهيرة غنّتها وحيدة خليل قائلة: "عبد الكريم موصي كلمن ياخذ خطيبه"، وهي تحية عفوية لقانون أعاد الكرامة للمرأة العراقية.
حتى بعد اغتياله، ظل محبوه يؤمنون أنه سيعود ذات يوم، وبقيت مكانته الشعبية محفوظة، لم يبلغها أي زعيم عراقي آخر.
إن الرابع عشر من تموز هو اليوم الوطني الحقيقي للعراقيين، رغم ما شابه من إخفاقات وأخطاء. وهو اليوم الذي خرج فيه الشعب على النظام الإقطاعي والملكي، وحاول بناء جمهورية جديدة قائمة على العدالة والمساواة.
وإن أخفقت التجربة لاحقًا، فإن فجرها سيبقى خالدًا، رمزا للأمل والإرادة، ودرسًا قاسيًا في ضرورة وضوح الرؤية، والتوازن بين النقاء الشخصي والحكمة السياسية. ولا يمكن لأحد أن ينتقص من وطنية عبد الكريم قاسم، ولا من شمس تموز التي أشرقت، وإن غيّبتها الغيوم فيما بعد
.
#محمد_علي_محيي_الدين (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟