أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - محمود عباس - الكورد السريان هوية تتجذر لا تذوب - الجزء الأول














المزيد.....

الكورد السريان هوية تتجذر لا تذوب - الجزء الأول


محمود عباس

الحوار المتمدن-العدد: 8395 - 2025 / 7 / 6 - 23:08
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


في مدن ميزوبوتاميا العليا، من أورفه ونصيبين إلى آمد وماردين والحسكة وسنجار، تتشابك جذور الشعوب القديمة واللغات المقدسة، لتروي حكاية انتماء وهوية تتجاوز التقسيمات العرقية المعاصرة، وبين الكورد الذين اعتنقوا المسيحية في عصور مبكرة، والسريان الذين ارتبط اسمهم بالكنيسة والطقس الآرامي، نشأت علاقة لغوية وثقافية عميقة، جعلت من اللغة الآرامية، لا كلغة قومية وحسب، بل كلغة ليتورجية، لسانًا روحيًا مشتركًا.
لكن هذا الانتماء اللغوي لم يكن دليلًا قاطعًا على وحدة الأصل، بل تأثرًا حضاريًا ناتجًا عن الدور الكبير الذي لعبته الكنيسة السريانية في المناطق الكوردية، فالكثير من الكورد، بعد انخراطهم في الإيمان المسيحي، تبنّوا الآرامية لغة للصلاة والتعليم، شأنها شأن اللغة العربية التي غزت لاحقًا وجدان الكورد المسلمين من خلال قدسية القرآن، دون أن تمسّ بجوهر هويتهم القومية.
ومن هنا، فإن الخلاف لا يكمن في التاريخ، بل في التأويل السياسي للهويات، فبينما يرى بعض الآراميين أنفسهم شعبًا مستقلًا، يسعى آخرون لدمج السريان بالكورد على خلفية الجغرافيا والانتماء القومي المشترك، خاصة في المناطق التي لم تعرف الفتح العربي إلا متأخرة، وكان حضور العرب بعد الغزواة مباشرة أو في عصر الخلافة الأموية والعباسية، فيها استيطانيًا طارئًا، لا أصيلًا.
لقد ساهم هذا التداخل الحضاري في بلورة هوية ثقافية ثنائية، يتقاسمها الكورد والسريان، دون أن يُلغي أحدهما الآخر، فاللغة الآرامية ليست دليلًا على انتماء عرقي موحّد، بل مرآة تعكس تاريخًا مشتركًا وحالة دينية–ثقافية عبرت حدود القوميات، والكورد السريان، سواء احتفظوا بلغتهم الأصلية أو تبنوا الآرامية، ظلّوا جزءًا من النسيج القومي الكوردي، مثلما ظلّ الكورد المسلمون جزءًا من هذا النسيج رغم تعريب بعضهم.
إن محاولة عزل الكورد المسيحيين - السريان عن جغرافية كوردستان والانتماء الكوردستاني، أو تقديمهم كامتداد للقبائل العربية كما تفعل بعض السرديات الحديثة، ليست سوى محاولات خبيثة لضرب التنوع داخل المجتمع الكوردي، وإعادة إنتاج مفهوم "الأقليات" بما يخدم مشاريع الهيمنة الثقافية والدينية للسلطة المركزية.
في قلب الجزيرة الكوردستانية، حيث تلتقي الجغرافيا العتيقة بالأسئلة الوجودية للأقليات القومية والدينية، تخوض اللغة السريانية معركة بقاء ليست لغوية فقط، بل وجودية وثقافية وسياسية، هذه اللغة التي حملت يوماً ترجمات أفلاطون وأرسطو إلى الشرق، ودوّنت أناجيل المسيحيين الأولى، وعلّمت الشرق فقهَ البلاغة، تُواجه اليوم موجات صهر قومية ناعمة تتسلل عبر بوابات "التكافل الاجتماعي" و"أحلاف الدم" المزعومة، لتذيب هوية شعب كامل في جغرافيا لم تكن يومًا عربية.
إنها ليست المرة الأولى التي تُستهدف فيها السريانية كمجرد "لهجة دينية" أو "تراث ثقافي" قابل للذوبان ضمن هوية أكبر. لطالما سعت الأنظمة القومية الشوفينية، من البعث إلى بعض النخب العشائرية، إلى تحويل هذه اللغة إلى طقس كنسي، مسلوب من دلالاته القومية، لكن الأخطر في المرحلة الراهنة ليس القمع المباشر، بل التواطؤ الناعم الذي يُروّج لفكرة أن مسيحيي الجزيرة الكوردستانية هم امتداد للقبائل العربية القادمة من حائل وتَـيْـماء وطيء، ممن تهجّروا ذات يوم من أطراف الدولة البيزنطية، خلال مراحل النفوذ الإسلامي الأولى تحت الخلافة الأموية ثم العباسية، أو أولئك الذين جاءت موجاتهم لاحقًا إثر خسارتهم في صراع قبائل حائل ضد عنزة بقيادة آل سعود، ما بين أعوام 1880 و1910م، فاستقروا في مناطق الجزيرة الكوردستانية، وأقام بعضهم بمحاذاة الأبرشيات السريانية، ليُدمجوا لاحقًا، وبشكل مقصود، في سردية الهوية السريانية - العربية، دون أن تكون لهم جذور حضارية فعلية في المكان.
هذا التداخل الجغرافي، وإن أنتج عبر القرون نماذج من التلاقي الاجتماعي أو اللغوي، لا يمكن القبول به كذريعة لتذويب الهوية السريانية أو إدماجها قسرًا في قوميات أخرى. فالسريان، سواء الكورد منهم أو الآراميون، ليسوا أبناء عمومة لقبائل عربية طارئة، ولا ملحقًا تاريخيًا لهجرات دينية جاءت لاحقًا. إنهم شعب أصيل، متجذر في الأرض واللغة، سبق في وجوده ظهور القبائل العربية فيما يُسمى اليوم بالشمال السوري، وامتد حضوره من نصيبين إلى طور عابدين، ومن ماردين إلى الرها (أورفه)، وارتبط اسمه بجذر اسم سوريا ذاته، الذي اشتُق في بعض الروايات من السريانية، وشمل جغرافيًا كلاً من سوريا القديمة، ولبنان، وفلسطين، والأردن.
إن محاولة إذابتهم في سرديات "الدم المشترك" أو "القرابة القبلية" ليست سوى شكل ناعم من أشكال الإنكار التاريخي، تمامًا كما تمّ التعامل مع الكورد، حين حُرموا من تسميتهم القومية واعتُبروا عربًا بالأصل أو أتراكًا بالتأقلم، وهو ما لن ينطلي على ذاكرة شعوب عرفت جيدًا كيف تحمي هويتها من التزوير الناعم كما من المجازر الصريحة.
واللغة، كما التاريخ، تشهد على ذلك، فالسريانية ليست بقايا لهجة طقسية، بل لغة أدب وفلسفة ولاهوت، تكتب بها اليوم القصص والمسرحيات، وتُدرَّس في المدارس التي ترعاها الإدارة الذاتية الكوردية، في تجربة نادرة في الشرق الأوسط، فبينما تحصر الدولة المركزية اللغة السريانية في ساعتين أسبوعيتين ضمن المدارس الكنسية، فتحت الإدارة الذاتية مجالًا لتعليمها رسميًا في المؤسسات التعليمية، واعتبرتها لغة وطنية، إلى جانب الكوردية والعربية.
هذا الاعتراف لم يكن قرارًا تقنيًا، بل موقفًا حضاريًا، فالإدارة الذاتية، التي تديرها غالبية كوردية، لم تتعامل مع السريان كـ "مكون ديني"، بل كقومية شريكة، لها لغتها ومؤسساتها، ولها ممثلون سياسيون في الإدارة وقوات الأمن، لم تسعَ إلى إدماجهم تحت عباءة القومية الكوردية، بل عملت على تمكينهم في لغتهم ومؤسساتهم الثقافية، كما في مؤسسة "أولف تاو"، و"بيت كانو"، وغيرها من المبادرات التي تتبنى لغة السريان كهوية لا كزينة تراثية.
يتبع...
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
4/7/2025م



#محمود_عباس (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تغيير الشعار لا يغيّر القبح بل يعمّق جذور الإقصاء
- يالچين كوچوك مفكر النظام التركي العميق في ثوب ماركسي ممزّق
- سطوة التاريخ وازدواج الهيمنة في قلب الشرق
- منابر العار تهاجم مظلوم عبدي، حين يرتجف الحقد أمام الشرف
- لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء وال ...
- تضخيم قصف إيران يكشف صراع الاستراتيجيات بين ترامب والدولة ال ...
- تضخيم قصف إيران يكشف صراع الاستراتيجيات بين ترامب والدولة ال ...
- تضخيم قصف إيران صراع الاستراتيجيات بين ترامب والدولة العميقة ...
- بين خناجر البعث وأوتار الأمل ملحمة التآلف السوري الذي لن يُد ...
- بين خناجر البعث وأوتار الأمل ملحمة التآلف السوري الذي لن يُد ...
- بين خناجر البعث وأوتار الأمل ملحمة التآلف السوري الذي لن يُد ...
- بين خناجر البعث وأوتار الأمل ملحمة التآلف السوري الذي لن يُد ...
- أمريكا تُنعش سردية العداء مع النظام الإيراني تمهيدًا لمواجهة ...
- إسرائيل وغايتيها في قصف إيران إزالة النظام وتثبيت الذات في خ ...
- ميزان الخسارة إسرائيل كدولة وإيران كسلطة
- حكومة الجولاني من برلمان بلحى إلى مقبرة مشروع الدولة
- هل بدأت نهاية إيران في ظل الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة؟
- الشراكة اللامركزية السياسية هي الطريق لإنقاذ سوريا
- هل يستفيد الشعب الكوردي من تصعيد الصراع في الشرق الأوسط؟
- الفرق بين اللامركزية السياسية والإدارية من تفويض الوظيفة إلى ...


المزيد.....




- أمطار غزيرة في كوريا الجنوبية تخلف 17 قتيلاً على الأقل و11 م ...
- رئيس أركان الجيش الإسرائيلي: تزايد فرص اتفاق بشأن الرهائن
- ترامب يهدد بوتين.. ماذا حدث بينهما؟
- 92 شهيدا من طالبي المساعدات معظمهم عند معبر زيكيم شمالي قطاع ...
- نذر تغير في ثوابت التعاطف والانسجام بين أميركا وإسرائيل
- إيران: استئناف المفاوضات النووية مع الترويكا الأوروبية الأسب ...
- أوسيك يستعيد لقب الوزن الثقيل بفوز ساحق على دوبوا في ويمبلي ...
- ألمانيا تحيي الذكرى الـ81 لمحاولة اغتيال هتلر والانقلاب الفا ...
- الصين.. إجلاء مئات الأشخاص في هونغ كونغ إثر إعصار -ويفا- وسط ...
- مطالبة بتحقيق كامل.. ألمانيا تنتقد توزيع المساعدات في غزة


المزيد.....

- اشتراكيون ديموقراطيون ام ماركسيون / سعيد العليمى
- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - محمود عباس - الكورد السريان هوية تتجذر لا تذوب - الجزء الأول