أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد مهدي غلام - (نشيد التحوُّل والضوء)(قصيدةٌ نثرية في هيئة نبوءة مُنكسِرة)















المزيد.....

(نشيد التحوُّل والضوء)(قصيدةٌ نثرية في هيئة نبوءة مُنكسِرة)


سعد محمد مهدي غلام

الحوار المتمدن-العدد: 8374 - 2025 / 6 / 15 - 18:11
المحور: الادب والفن
    


تقدمة :
في هذا النصّ المتشظي، المشبع بالرؤى والرموز، يخطّ الشاعر بيانًا لا للذات وحدها، بل للأزمنة المتصدّعة، والمدن التي لم تعد تشبه أرواحَ سكّانها. "نشيد التحوُّل والضوء" ليس قصيدةً تُروى، بل كائنٌ حيّ يتنفس على تخوم اللغة، ويُقاوم السقوط بالتأويل، والتآكل بالإشراق.

ينفتح النص من ساعة المقيل — ذلك الزمن العربي المثقل بالكسل والانتظار — لينقلب على ذاته، متحوّلًا إلى لحظة انخطافٍ شعريّ، تتداخل فيها مدن مثل عدن وصنعاء، كرموزٍ للجذر والجرح، وتتماهى في جسدٍ أنثويّ يُعيد تشكيل اللغة والتاريخ معًا. وتظهر المرأة اليمنية هنا، لا كموضوع جمال، بل ككاهنةٍ تمسح عن وجه الأفق غبار القرون، وتعلّق التاريخ على كتفيها كمناديل المطر.

تمتزج في هذه القصيدة سيرةُ الجغرافيا بحكمة الجسد، وتُطرح الأسئلة الكبرى عبر نبرةٍ رؤيوية: من قال إن العين وحدها تبصر؟ أو أن اليد لا تفكر؟ من قال إن اللغة مجرّد كلام، والتاريخ مجرّد توثيق؟ بهذا التكسير للثوابت، تُصبح الكتابة نفسها طقسًا باطنيًا: تهجينٌ بين الأصالة والانفجار، بين البُكاء والضوء، بين الرمل والقصيدة.

تستعير القصيدة بنية النشيد، لكنها تُعرّي الإنشاد من زيف الانتماء، وتُدخل الشعر في معركةٍ مع النسيان، إذ تكتب للصاعدين في الطين، للمقصيين الذين يصادقون الهواء، وللظلّ الذي يتلمّس خلاصه في حبر الجراح.

هنا، لا تكتفي القصيدة بالتأمل، بل تُمارس مقاومةً جمالية وفكرية، تتقاطع فيها فلسفة الجسد مع كينونة اللغة، ويصبح الإنسان — كما يقول النص — هو النبع والمرآة، لا يُثقل الطريقَ، بل يُضيئه وهو ينكسر.

في هذا النشيد، لا تُطلب الخلاصات، بل تُفكّك:
فالقصيدة لا تبحث عن إجابة، بل عن ضوءٍ يتسرّب من شرخ.
عن بيتٍ في القصيدة، يُقال فيه:
"في ما بين النهار والليل: أنا،
غُمدان، وبلقيس، والهَديل."


<نشيد التحوُّل والضوء>


"إنه زمنُ الليل
لا شمسَ تمسحُ بالضوءِ
عتمة أرواحنا
لا نهارَ يمدُ يديه لصنعاء
يمضى بها خطوة ً خطوة"
:عبد العزيز المقالح "


1
أَغْسِلُ ذَاكِرَتي بِرَذاذِ ضَوءٍ يَتَسلَّلُ مِنْ نَخْرَةِ الجِدار،
وأَرْسُمُ بِأَطْرافِ الوَهْمِ مِقْصلاتِ النُّعاس،
مَاذا؟ صَدايَ يَتَساقطُ عَليَّ
كَنُدْبةٍ تَنْبُتُ في لَوْزةِ الغَيمِ
والعالَمُ يَمْضغُ أَصَابِعَهُ مُقابِلَ صَفْقةِ جُوع،
لا مِسْكٌ، لا مَتاعٌ، سِوى بُكاءٍ يُعلَّبُ في قَنَاني الأَخْبار.

هَلْ أَنا نَبْتةٌ طَفْحيَّةٌ نَمتْ في مَجْرًى مُعْتِم؟
خُيِّلَ إِليَّ أَنَّني أَسْمعُ وَهجَ صَوْتٍ
يَخْرُجُ مِنْ مِرْآةٍ انْكَسرتْ قَدَماها
وَيُحدِّثُني عَنْ نَجْمٍ أَبْكى سَماءَهُ فَانْخلَعَ
مِنْ جَاذِبيَّتِهِ، عَنْ عُرْيِ الزَّهْرِ في غُرْفَةِ مَخْبَر،
عَنْ فَخارٍ يَنْبُتُ في أَحْشَاءِ كَلْبٍ مَلِكيٍّ.

رَأَيْتُ أَشْلاءَ بَشرٍ تَحْتَفي بِأَلمِها
وتَصْفُقُ لِلْجامِعِ والسُّوقِ والمِشْنَقةِ،
وأَنا كَمَنْ يُعانِقُ عَصْفًا يَتنفَّسُ بِالزَّيْتِ والعَرقِ
وَتَمْتمْتُ: الكِتابَةُ هيَ نَجاةُ اللُّغةِ مِنْ فَخِّها.
2
لا تُغْويني أَيَّتُها الطُّيُوبُ،
الزَّمَنُ أَحْذَقُ مِنْ شَيْطانِهِ،
وَعَيْنايَ تَجْريانِ نَحْوَ الغَدِ كَنَجْمَتيْنِ سَكْرَييْنِ،
قَدمايَ إِيقَاعٌ، جَسدِي غَيْمةٌ،
فَلْنرْقُصْ فَوْقَ سَفْحِ الغُبارِ.

هَكذَا انْسَللْتُ مِنْ جِلْدي،
وفَجْأَةً... لَمَعتْ رَائِحةُ الوَجْدِ
كَأَنَّني أُصَافِحُ ذِكْرَى تُقبِّلُ النِّسْيانَ،
وَأُصْغي إِلَى شَيْخٍ يَقُولُ:

(كَلَّا، لَنْ تَنْبُتَ الزُّهُورُ إِلَّا في نُدُبِك،
ولَنْ يُسْتَعادَ التَّاريخُ إِلَّا في زَفْرتِكِ المُقِيمةِ).
3
علَى هَذِهِ الأَرَائِكِ،
نَخِيطُ بِالشِّعْرِ لِتِلْكَ الجِهةِ المُنْسيَّةِ مِنْ قَلْبِ الجَغْرَافيا
نَكْتُبُ لِمَنْ يَشْرَبُونَ القَهْوَةَ بِالصَّبْر،
وَيَخيطُونَ أَمْساءَهُمْ بِإِبْرةِ الرَّجاء.

:(إِنَّهُمُ الأَصْدِقاءُ الَّذينَ يَشْربُونَ الطِّينَ،
وَيُربُّونَ العَاصِفةَ فِي قَلْبِهِم).
4
في شُرُفاتٍ نَسيَها الضَّوْءُ،
نَتَنفَّسُ الغُبارَ كَحِكْمَةٍ قَدِيمةٍ،
نُرتِّقُ جِراحَ المَعْنى بِصبْرِ الوَاقِفينَ عَلى أَسِنَّةِ المَجاز.
أَيَّتُها البِلادُ المُنْسيَّةُ فِي الجُيُوبِ المُمزَّقةِ،
هَلْ تَعْرِفينَ أَنَّ لكَ أَصْدِقاءَ
يَسْكُنُونَ الحُطامَ وَيُغَنُّونَ لِلبُرْعُمِ،
وَيَحْرُسُونَ النَّهْرَ حِينَ يَصيرُ نَدْبةً في الوَجْهِ؟
5
نَكْتُبُ لِمَنْ يَسْقُونَ البُرْكانَ بِالمِلح،
لِمَنْ يَحْفُرُونَ بِنايِ الحُزْنِ نَفقًا نَحْوَ الشَّمْس.
نَكْتُبُ لِكيْ نَعْثُرَ على أَجْنِحتِنا في ضُلُوعِ الماءِ،
وَنَفْتحَ أَبْوابًا في جُدْرانِ الرِّيحِ.
6
وفي حَناجِرِ الوَقْتِ،
كُنَّا نُرتِّلُ لأَيَّامٍ قَادِمةٍ مِنْ صَلْصالٍ وبَهْجةٍ
ونَرْسُمُ خَرائِطَ غَيْرَ مُعْترَفٍ بِها
في دَوَاوينِ السُّلْطانِ.
كُنَّا نَسْتَدْعي أَسْماءَ نُحِبُّها لِكيْ نُبْقي على وَقارِ الأَلمِ،
وَنَفْتحَ نَوافِذَ في جِدارِ الحَاضِرِ،
نَتشَبَّثُ بِها كَأَطْفالٍ يُطَارِدونَ ظِلًّا خَرجَ مِنْ مِرْآةٍ.

قُلْنَا:
(كُلُّ وَطَنٍ يَبْدَأُ مِنْ جُمْلةٍ،
وكُلُّ دَمٍ إِنْ نَطقَ، صَارَ قَصِيدةً).

7
هُنَاكَ، فِي العَالمِ الَّذي لَا تراهُ السُّلُطات،
تُزْهِرُ الشَّمْسُ فِي فَمِ فَقيرٍ يُجيدُ الغِناء،
وَيَتعلَّقُ النَّهْرُ بِضفَّةٍ خَجُولةٍ
لَمْ يَدُسْهَا أَحَدٌ بَعْدُ.
8
هُناكَ، تَمْشي صَبيَّةٌ تُدْعى :الرُّؤْيَا
:-تَغْزِلُ مِنْ أَثَرِ القَدمِ مِعْطفًا لِلذِّكْرى،
-وَتُطْعِمُ العَاصِفةَ قَصِيدةً تَأَخَّرَتْ.
9
أَيُّهَا الزَّمَنُ!،
لَسْنا أَبْناءَكَ لِنُطيعَكَ،
نَحْنُ نَسْتَعيرُكَ لِنَكْتُبكَ
ونُعيدَ تَشْكيلكَ كَأُسْطُورةٍ مِنْ لُعْبةٍ ودمٍ.
10
أَيُّها الجِسْمُ المُتأَخِّرُ في الزَّمانِ،
هَذِهِ العِبارَاتُ خُرُوجٌ مِنْكَ وَرُجُوعٌ إِلَيْكَ.
نَكْتُبُ لِنَسْبِقَ مَلامِحَنا
ونُعلِّقَ على أَشْجارِ البَصيرَةِ ثِيَابنَا القَديمة.
11
كُلَّما مَرَرْتُ بِجِدارٍ،
أَسْنَدْتُ عليْهِ نَفْسي كَمنْ يَحْتضِنُ نُدُبا،
فَتَتسرَّبُ مِنْ أَصَابِعي أَسْماءٌ
نَسِيتُها فِي مَراقِدِ الحَرْفِ.

كُلَّما نَامَ الزَّمانُ على كَتِفِ الغُبار،
أَسْتَيْقِظُ في وَرقَةٍ
نَسِيَها دَفْترُ الشِّتاءِ
فَأَتَخيَّلُ أَنَّني مَطرٌ مُؤجَّل.
12
لي في دُرُوبِ الغُصَّةِ مَكان،
ولي في الوَجْدِ مِرْفقٌ يَتو سَّدُ العَاصِفةَ،
أَجْرُّ خُطايَ كَمنْ يَجُرُّ مَعْنى،
وَأَزْرعُ في بَطْنِ اللُّغةِ زَفْرةً.

لَسْنا نَفْتحُ البَوَاباتِ،
بَلْ نَصيرُ أَسْوَارَها،
نَحْمِلُ المَفَاتيحَ لا لِنَدْخُلَ،
بَلْ لِنَسْتَدْعي مَنْ نُحِبُّهُمْ مِنَ الغِياب.
13
هُناكَ أَصْوَاتٌ تَسْكُنُ فِي الأَرْضِ كَما تَسْكُنُ الجُثث،
وَأَنْفاسٌ تُحاوِلُ تَسلُّقَ صُورتِهَا في السُّرَجِ.
قُلْتُ: أَيَّتُها الرِّيحُ،
إِذَا مَررْتِ بي، فَلا تُسْقِطِي خُصْلةَ الشِّعْرِ،
دَعِيني أَكُونُ قَصِيدةً تَنْقصِفُ مِنْ جُرْحِكِ.
14
في كُلِّ يَوْمٍ أَرْتَدي وَجْهًا آخرَ
وَأَزُجُّ بِنَفْسي في كُتُبٍ لَمْ أَكْتُبْها،
وأُوَشْوِشُ لِلشَّجرِ:
-(كيْفَ تَتَحمَّلُونَ هذِهِ القِيَاماتِ دُونَ نُبُوَّة؟)
15
ويرُدُّ عَليَّ الغُصْنُ المُعْتقِدُ في نَفْسِهِ:
-(لِأَنَّ الماءِ فِي دَمِنا،
والضَّوْءَ خَجلٌ فِي عُيُونِنا.)
16
نَحْنُ الَّذينَ إِذَا كَتبُوا، أَشْعلُوا أَصَابِعهُم،
وإِذَا بَكوْا، غَسلُوا المَدينةَ مِنْ نَكْهةِ العَتْمَةِ.
نَحْنُ الَّذينَ لا نَنْتظِرُ القَصِيدةَ،
بَلْ نَصيرُ نَفْسَهَا،
نُكْتبُ كَما تُكْتَبُ الأَسْوَارُ في الوَقْتِ.
17
في زَوَايا المَدينةِ،
ثَمَّةَ لَغْطٌ يُشْبِهُ نَبْضَ حَجرٍ،
يَصْعدُ في حَلقِ الزَّمانِ كَأنَّهُ أَنْفاسُ غُرْبةٍ
مُعَلَّقةٌ فِي جُفُونِ الغيم.

صَوْتُ الطُّفُولةِ مَقْصُوفٌ،
تَسْكُنُهُ الحيطَانُ،
والمُسمَّوْنَ نَاسًا
يَمْضُونَ نَحْوَ جُبِّهِمْ وَهُمْ يَرْتَدُونَ صِيغَ الأَخْبار.
18
أَيَّتُها المَدينَةُ الَّتي نَنْزِفُ فِيها،
أَنْتِ دَفْتَرٌ نَكْتُبُهُ بِالطُّوفَان،
نَنْقُرُ عَلَى حُطامِكِ كمَنْ يُصْلِحُ نَايًا،
ونُرتِّقُ أَسْقُفَ النَّهَارِ بِرِيشةِ الغَائِبين.
19
أَيَّتُها الوَطْنُ المُسْتعارُ مِنْ شَرَفاتِ الآخَرين،
مَتَى يَنْبُتُ فِيكِ جِيلٌ يَقْرأُ النَّهْرَ،
لَا مَزَاميرَ الغُزاة؟
20
نَكْتُبُ لِأَنَّ كُلَّ جُرْحٍ لَهُ مِزَاجٌ شِعْريّ،
وكُلَّ يَوْمٍ هُوَ تَأْويلٌ جَديدٌ لِلصَّمْتِ،
نَكْتُبُ لِنقْفِزَ فَوْقَ سِياجِ الزَّمنِ،
وَنَزْرعَ كَلِماتٍ في شَرَايينِ الطِّينِ.

نَكْتُبُ كَمَنْ يُصَادِقُ صُورةً لَمْ يُبْصِرْها،
ونُقَبِّلُ أَسْماءً لَا تُوجَدُ في السِّجِلَّات،
ولا في نُقُوشِ السَّجَّانين.
21

مَنْ قَالَ: لا بَحْرَ في القَفْرِ؟
أَلمْ تَصْطَدْنا سَمكًا في قَلْبِ الغُبار؟
أَلَمْ نُعلِّقْ سُرُجًا على جِدارِ القَهْرِ
فَأَضاءَتِ المَجازِرُ وَهْجَ الإِيمان؟

مَنْ قَالَ: الشِّعْرُ زُخْرُفٌ؟
إِذَا نَزَفْناهُ، صَارَ مِرْهاةً
نُري فِيها الأُممَ تَسْقُطُ،
وَالأَيَّامَ تُقَدِّمُ نَفْسَها قُرْبانًا.
22
نَكْتُبُ لِكَيْ نَتذَكَّرَ أَنَّنا لَسْنَا مُجرَّدَ ظِلال،
ولِكَيْ نُطْعِمَ الحُلْمَ أَعْشابَ الحَقيقة،
نَكْتُبُ لِنقُولَ: نَحْنُ هُنا،
في الهَامِشِ الَّذي نُحيلُهُ مَتْنًا.
23
نَكْتُبُ لِأَنَّ في المِحْبرَةِ صَرْخةً أَبَتْ أَنْ تَمُوت،
وفي السُّطُورِ وَجْهًا لِلزَّمنِ،
لَمْ يَكْتشِفْهُ النُّحاةُ ولا العَسْكَرُ.
24
في مَرايا المَصيرِ،
نُرَتِّقُ أَشْباحَنا بِالخَيالِ،
ونَجْلِسُ على طَرَفِ الغَيْبِ نُقلِّبُ الوَقْتَ
كَمَنْ يُقَلِّبُ جِرَاحًا تُفسِّرُهُ.
25
تَأَمَّلْنا جَبينَ النُّجُومِ،
فَسقَطتْ خَرائِطُ الأَيَّامِ،
وأَدْرَكْنا أَنَّ المَوْعِدَ قَدْ يَكُونُ
فِي وَرَقةٍ ضَاعتْ بَيْنَ قَصيدَتيْن.
26
ما أَضْيقَ الدُّرُوبَ الَّتي نَصْنَعُها،
نَمْشي عليْها كَمَنْ يَمْشي في حَديثٍ غَامِض،
نَزْرَعُ أَحْلَامَنا في أَصَابِعِ النَّاسِ
وَنَنْتظِرُ أَنْ يَنْبُتَ فِينا ما لا يُقَال.

في مَكانٍ لا يَصِلُهُ البَريدُ،
نَخُطُّ الرِّسَالةَ:
(إِلَى القَادِمينَ، هَذِهِ نُطْفةُ الوَقْتِ،
احْفَظُوهَا في صَدْرِ الغُرْبةِ).
27
كُلَّما نَسيَ القَدرُ نَفْسَهُ فِينا،
أَعَدْناهُ كَشِبْهِ أُغْنيَةٍ تُسبِّحُ وهْيَ تَنْزِف،
وَكُلَّما نَادَانا الحَرْفُ مِنْ بُعْدٍ،
أَجَبْناهُ بِغِمْضةِ جُرْحٍ لَا يَسْتقِرُّ.

مَنْ نَحْنُ في زَمنٍ تَنْفصِلُ فيهِ الأَيَّامُ
عَنِ التَّقْويمِ،
ويَتَحوَّلُ المَوْتُ إِلى عُطْلَةٍ
فِي نُزُلٍ لِلأَفْكارِ المَنْسيَّة؟
28

هُناكَ،
على أَطْرافِ خَريطَةٍ مَفْقُودة،
نَزْرعُ فَرَاشاتٍ في صُدُورِ الجُدُران،
ونَخْرُجُ مِنَ المَدينَةِ ونَحْمِلُها فِينا.

هُناكَ،
في الزَّمانِ الَّذي سَيَأْتي،
يَقْرأُ الطِّفْلُ وَجْهَ الْغُرْبةِ فِي وَجْهِهِ
ويَكْتُبُ على جَبينِ النِّسْيانِ:
(كُنْتُ هُنا، وَها أَنا أَبْقى).
29
نُعِيدُ تَعْريفَ المَدينةِ:
-هِيَ النَّصُّ الَّذي نَحْلُمُ أَنْ نُكْمِلهُ
وكُلُّ زُقاقٍ هُوَ حَرْفٌ يُقاتِلُ مِنْ أَجْلِ صَوْتِهِ.

نُعيدُ تَعْرِيفَ الحُبِّ:
-هُوَ الرَّغْبةُ في أَنْ تَظلَّ مَفْتُونًا
بِمَنْ يَرْفعُ عَنَّا وَجْهَ الغُبارِ
وَيُهذِّبُ لِلرِّيحِ قَصيدتَها.

نُعيدُ تَعْرِيفَ الكِتابةِ:
-هِيَ نُبُوَّةٌ صَغيرَةٌ تَنْهضُ فِي جَسدٍ مَشْقُوق
تَقُولُ لِلكَوْنِ: (لِي فِي الحُرُوفِ أَهْلٌ،
وفي النَّفسِ طَريقٌ،
وفي القَصيدِ بَيْتٌ،
وأَنا نَازِلٌ عليْهِ.)
30
الأُفُقُ جَائِعٌ،
وأَنا في خَليجِ عَدَنٍ، أَخْبِزُ عَرَقي،
أَشْجارُ المُرَيْمرةِ تَئنُّ،
وَتَكَادُ أَنْ تُجنَّ،
كَيْفَ تَتَجنَّبُ الفُؤُوسَ
الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ نَعيقِ الغِرْبانِ؟

أُسْنِدُ جِسْمي على الغُرُوبِ،
أُوَحِّدُ مَا بَيْنَ لَهْوِ الموْجِ وصَمْتِ المَشاعِر،
أَقُولُ لِلرَّمْلِ الَّذي يَشْربُ المِلْحَ ولا يَرْتوي:
مِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ، أَيُّها الضَّامِرُ، بِهذِا الزِّقّ؟

يَا صَدْري،
اِكْتَنِزْ بِهذَا النَّسيمِ الَّذي يَهُبُّ في أَحْضَانِ الخَليجِ،
لَوِّحْ لِلمراكِبِ الغَائِبة،
وَأَوْسِعْ فِي أَنْحائِكَ المَرَافىءَ.
31

أَصْغِ لِشمْسِ عَدَنٍ،
تُوشْوِشُ الخَليجَ وهيَ تَغْتسِلُ في رُطُوبةِ المَساءِ،
وانْظُرْ لِهذَا النَّوْرسِ،
كَيْفَ يَحْمِلُ على كَتِفيْهِ عِبْءَ الشَّواطِئ.

حَقًّا، لِكَيْ تَدْخُلَ في إِيقاعِ اليَمنِ،
يَنْبغي أَنْ تَفْهمَ
كَيْفَ يُغَنِّي البُكاءُ الضَّحِكَ،
كَيْفَ تَنامُ الشَّمْسُ والقمَرُ على مِخَدَّةٍ وَاحِدةٍ،
وكَيْفَ يَكْسِرُ الحَجرُ نَفْسهُ كَجَوزةٍ تَشْتَهي الغِناء.
32
أَرْضٌ تَكْتُبُ أَعَاجِيبَها بِحِبْرِ المادَّة،
البَحْرُ يَخْرُجُ مِنَ الصُّدُور،
وَالنُّجُومُ تَطْلُعُ مِنَ البُيُوتِ.

سَمْعًا،
مَا الَّذِي يَقُولُهُ هَذَا الحِزامُ الفِضِّي لِخَصْرِ هَذِهِ المَرْأَة؟
مَا هَذِهِ الشَّمْسُ الَّتِي تَنْزلِقُ في مُلاءَةِ جَسدِهَا؟
وَمَا هَذِهِ الأَصْوَاتُ الَّتِي تَتَحوَّلُ إِلى هَالاتٍ
حَوْلَ قُبلٍ لا تُشْبِهُ سِوى النُّور؟

لَمْ يَصِلْ أَحدٌ إِلَى ذَلِكَ النَّهارِ
الَّذِي يَعْرِفُ وَحْدَهُ كَيْفَ يَلْبسُ لَيْلَ المَرْأَة.
33
نَعْرِفُ الآنَ كَيْفَ تَسْتنِدُ امْرَأَةٌ يَمَانِيَّةٌ إِلَى دُمُوعِها،
وَتَمْسحُ الغُبارَ عَنْ وَجْهِ الأُفُق،
وَكَيْفَ تُلْقي التَّاريخَ على كَتِفيْها
كَمِنْديلٍ أَخْضر.

نَعْرِفُ كَيْفَ تُزَفُّ عَرائِسُ البَحْرِ لِلْجِبال،
وَكَيْفَ يَعْملُ الجَبلُ لِيُصْبِحَ سَمَءً،
وَالسَّماءُ لِتُصْبِحَ شَجرَةً.

الخاتمة

نَسْتَطيعُ أَنْ نُسمِّي الذَّاكِرَةَ سَفينَة،
وَأَنْ نَقُولَ:- اللَّيْلُ نَبْعٌ، والنَّهارُ إِبْريق،
وأَنْ نَدَّعي أَنَّ التَّاريخَ كَثيرًا مَا يَتَجلَّى
في هَيْئةِ شَاعِرٍ يَسْتضيفُهُ الغِناءُ اليَمَانيّ.

إِنَّها المادَّةُ نَفْسُها تُطْلِقُ أَفْراسَ الخَيالِ
فِي جِهاتٍ خَفيَّةٍ مِنْ كَوْكبِ الحَياة،
نَسْمعُ أَجْراسًا تَتدَلَّى مِنْ أَعْناقِ الأَشْياء،
وَنَكْتشِفُ الأَسْماءَ فِي كِتابِ المَجرَّة.

لَسْنَا نَتَكلَّمُ عَنِ الغَيْب،
بَلْ عَنِ الإِنْسانِ في نُسْختِهِ المَضيئَة، مِنْ وَضَّاحٍ إِلَى الْبَرْدُوني
فِي شَهْوتِهِ لِكَيْ يَحْتضِنَ اللَّا نِهاية.

إِذَنْ،
مِنْ إِشْعَاعِ البَشَرِ، وَمِنْ مَراكِبِ الظَّنِّ،
نَأْخُذُ هَذِهِ الحِكْمَة:

-لَيْسَ الإِنْسانُ هُوَ مَنْ يَثْقُل،
بَلِ الطَّريق.
وفي خِضمِّ هَذَا الكُسُوفِ العَربِيّ،
سَنُفْتحُ طَريقًا آخَر،
وَنُطْلِعُ شَمْسنا الثَّانيَة.

نَعُودُ، أَيْضًا، لِنُدْرِكَ:
فِي الجَسدِ وسَعةُ السَّماءِ،
في العَيْنِ مَدىً لَا يُقاس،
في الصَّباحِ خُبْزٌ وماء،
في الكَلِمةِ نُبُوَّة،
وفي بَيْنِ النَّهارِ وَاللَّيْلِ، أَنا:
غُمْدانٌ وبَلْقيس، وَالهَديل.



#سعد_محمد_مهدي_غلام (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- (حَلِّي إِزارَكِ- عند الأَصِيلُ المُشْتهى-المَخْدَعُ أَمينٌ)
- (النَّسْغُ الصَّاعِدُ: قَنْدِيلُ الغَوَايَةِ:نِمْرُود)
- (تَكْتُبُنِي... وَتَسِيلُ)
- (تَرجُمان)
- (بُورْتْرِيهٌ شَاقُولِيٌّ بِلَوْنِ الشَّفَقِ لِدَمْعَةٍ مَسَ ...
- ( مَجيءُ: نَشِيدُ الرَّمْلِ والمَاءِ :زَنَابِقُ وَحْشَةٍ فِي ...
- (تَراتِيلُ بُزُقٍ مُفَخَّخٍ) (كابوسٌ أُوركِستراليٌّ فِي خَرَ ...
- (حين يُشنقُ الظلّ)
- (مَسَلَّةُ الشَّوْقِ)
- ( مِرْآةُ الظِّلِّ ، مَقامُ الصَّبْرِ، المَصْلُوبُ ،حالُ الش ...
- (مَرْثِيَةُ العَابِرِ عَلَى قَنْطَرَةِ اللَّا يَقِين- وَاسِن ...
- ( إثمد تجاعيد ألم)
- (رَقِيمُ البَنَاتِ الخَمْسِ)
- (وَرْد :بردُ عَصْفِ حُبِّك )
- ( النَّواصِي )
- (حِكاياتٌ من ذَاكِرَةِ طَبلِ الصَّفِيحِ*١: نَقْراتٌ على ...
- (شيبوب)
- ( وجع)
- (هجرة ...صلاة ...صيف )
- (الوِلادَةُ سِيْزَرِيَّة)


المزيد.....




- تحية لروح الكاتب فؤاد حميرة.. إضاءات عبثية على مفردات الحياة ...
- الكاتب المسرحي الإسرائيلي يهوشع سوبول: التعصب ورم خبيث يهدد ...
- من قال إن الفكر لا يقتل؟ قصة عبد الرحمن الكواكبي صاحب -طبائع ...
- أروى صالح.. صوت انتحر حين صمت الجميع
- السعودية تخطط لشراء 48 فدانا في مصر لإقامة مدينة ترفيهية
- هل يشهد العالم -انحسار القوة الأميركية-؟ تحليل فالرشتاين يكش ...
- التمثيل النقابي والبحث عن دور مفقود
- الفنان التونسي محمد علي بالحارث.. صوت درامي امتد نصف قرن
- تسمية مصارعة جديدة باسم نجمة أفلام إباحية عن طريق الخطأ يثير ...
- سفارة روسيا في باكو تؤكد إجلاء المخرج بوندارتشوك وطاقمه السي ...


المزيد.....

- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد محمد مهدي غلام - (نشيد التحوُّل والضوء)(قصيدةٌ نثرية في هيئة نبوءة مُنكسِرة)