|
( مَجيءُ: نَشِيدُ الرَّمْلِ والمَاءِ :زَنَابِقُ وَحْشَةٍ فِي قَلْبِ الظِّلِّ)
سعد محمد مهدي غلام
الحوار المتمدن-العدد: 8354 - 2025 / 5 / 26 - 14:12
المحور:
الادب والفن
إهداء
إِلَى الَّتِي مَرَّتْ كَمَا تَمُرُّ النَّجْمَةُ فِي شُبَّاكِ سِرِّ السَّحَرِ، وَانْطَفَأَتْ، كَيْ يَضِيءَ الْمَعْنَى بِهَا. إِلَى الَّتِي لَمْ تُسَمَّ، وَلَكِنَّ الْقَصَائِدَ تَعْرِفُ ظِلَّهَا وَعَبِيرَهَا.
إِلَى الْمَاءِ، حِينَ صَارَ غِيَابًا، وَالرُّؤْيَا، لَمَّا انْكَمَشَتْ عَلَى صَوْتٍ لَمْ يُقَلْ، لَكِنَّ أَرْوَاحَ الْقَصِيدَةِ أَوْحَتْ بِهِ. إِلَى رَحِيقٍ تَسَرَّبَ فِي مَفَاصِلِ اللُّغَةِ، فَارْتَحَلَ كَضَوْءٍ فِي جَفْنِ سَرَابٍ.
هذِهِ الْقَصِيدَةُ: مَقَامُ تَجَلٍّ لَمْ يَكْتَمِلْ في خَيال مُحال،
وَصَدًى لِغِيَابٍ صَارَ هُوَ الْحُضُورُ. فَإِذَا جَاءَتْ... يَكُونُ "المَجِيءُ".
كَحُلٍ تَنْثُهُ أَجْنِحَةُ فَرَاشَاتِ الْخَوَاطِرِ، نَشِيدُ رَمْلٍ وَمَاءٍ،
زَنَابِقُ وَحْشَةٍ فِي قَلْبِ الظِّلِّ، تُرَقِّشُ قِرْطَاسَ رَمَادِ عَيْنَيْهِ، بِقَصِيدَةٍ مِنْ مِلْحٍ وَبَرَدٍ: سَاعَةُ المَجِيءِ
1 الدَرْفَةُ الاولى: قَالُوا: سَتَمْضِي كَسَحَابَةٍ، سَتَغِيبِينَ مَعَ النَّشِيدْ، لَكِنَّكِ وَهَجُ السِّرِّ فِي هَزَّةِ وَتَرٍ لَا يَنْكَسِرْ...
(النَّوَارِسُ الَّتِي حَلَّقَتْ بِجَنَاحِ فَرَاشَةٍ أَسْقَطَتْ فِي النَّهْرِ القَمَرْ)
جِئْتُكِ نَجْمًا أَخْفَاهُ سَرَابُ المَدى، كَيْ أَفْقِدَ ظِلِّي فِي عَتَمَةِ أَنْفَاسِكِ، كُنْتِ الغِيَابَ، كُنْتِ الحُضُورَ الَّذِي لا يُطَالْ...
قُلتُ: دَعيني، لا الطّريقُ طريقي لا المدى بي، ولا الندى في عروقي منذُ رحيلِكِ، والمياهُ غريبةٌ في شفَتيَّ، وفي يديَّ عروقي
اِفْرِدِي قُلُوعَ شِرَاعِ الصَّدَى، دَعِيهِ يَبُوحْ.
كُلُّ تَرْنِيمَةٍ كَانَتْ تُرِيدُكِ، كُلُّ حَرْفٍ فَارَ مِنِّي لِيَسْكُنَ شَفَتَيْكِ... 2 هل تَذكرين ارتجافَ صوتِ المساءِ؟ حينَ السنابلُ همسَتْ في الجَبيني هل تَذكرين انكسارَ كأسِ النداءِ لمّا انْحَنَيْتِ، وصُرْتِ بعضَ حنيني؟
نَامَ المِرْآةُ فِي حِضْنِ قِميصِكِ، فَرَأَيْتُني أَتَشقَّقُ في وجْهِكِ كَما يَتشقَّقُ المَاءُ فِي كَفِّ الواحَةْ... فأَنْسِني فِيكِ، نَسِيتُكِ في مَنْ سِنينْ...
الدَرْفَةُ الثانية: ما هناكَ؟ لِلنَّهْرِ لِسانٌ لكِنَّهُ فَاقِدُ الذَّاكِرة، لِلجِدارِ آذَانٌ لكِنَّهُ مَفْقُوءُ العُيُونْ. 3 ما عُدتُ إلا نوافذاً خائباتٍ خانتْ غُيومي، وأطفأتْني ظنوني عودي، ولو همسةً تمرينَ فيها كالحلمِ... ينسابُ بينَ السكونِ 4 عودي، فإنّي ما كتبتُكِ وهمًا كنتِ نارَ المياهِ، ضوءَ العُيُونِ ويديْكِ... آهٍ، يداكِ — ضياعي الجميلِ، لم يُصبْهُ جنوني 5 خُطى في زُقاق النسيان كنتُ أمشي، والنهارُ يُطفئني في ممرٍّ يشربُ الشكَّ ارتواءْ كلُّ ظلٍّ فوقَ حائطِ غربتي ينحني... ثمَّ يُغنّي الانطفاءْ 6 كانَ وجهي مِئذنًا مكسورةً، في دُجى المنفى، وفي الضوءِ ارتباكْ كلّما صلّيتُ في أبوابِهم أوصدوا، وانفجرَ البابُ الهلاكْ 7 مِلْحُ الغياب ها أنا أقتاتُ من وهمِ الرؤى، من بكاءِ الماءِ في فمِّ الصدى خلفَ نافذتي تموءُ نَعْسةٌ من حنينٍ شاحبٍ، يَبكي المدى 8 وجهُكِ الماضي على دفترِ دمي رشفةٌ من زمهريرِ الأمنياتْ هل يعودُ اللحنُ من قمحِ الدُجى؟ أم سيبقى في شفاهي أغنياتْ؟
تَقدَّمي، هَذا جُرْحي، مِفْتاحُهُ ضِياءُ سُرَّتِكِ، في نَبْضِكِ يَتأَرَّجُ كُلُّ تَاريخي. 9 مناديلُ الضوء في الزوايا ظلُّ عينيكِ التي نامَ فيها الحزنُ، واستلقى السكونْ كلُّ شيءٍ في المرايا غيمةٌ تُشعلُ الضوءَ... وتُطفِيهِ العيونْ 10 مرافئ الطين لم أعدْ أملكُ غيرَ المقبراتِ موطناً للشمسِ في هذا المسيرْ كلُّ أبوابي طيورٌ من شتاتٍ كلُّ أحبابي ركامٌ من عبيرْ 11 نشيدُ الخرائب ها هنا كفّي، تعفَّنَ جُرحُها من مسيرِ الطينِ في دربِ الجراحْ كلّما ألقيتُ صدري في نداكِ، عادَ لي بالموتِ من خلفِ الوشاحْ
زَنابِقُ الوَحْشةِ في قَلْبِ الظِّلِّ تُطَارِدنِي الوَحْشةُ: زَنابِقُ بَرْدِ الوَادي تَنْبُتُ في القَلْبِ الخَفيِّ، حَيْثُ الأَغَاني غَائِباتٌ، وصدَى الرِّياحِ يُسافِرُ المَجْهولَ في كُوَّاتِ نَفْسي.
نَدْيًا تَتسلَّلُ، المَساءُ يُرتِّبُ التَّفْصيلَ في جِلْدِ الحَنينِ، وتُربِّتُ الذِّكْرى عَلى جَبهاتِ أَشْلاءِ المَسافاتِ القَديمةْ.
في الزَّاويةِ المُنْسيَّةِ انْتَبهَتْ طِفْلةٌ، تَحْمِلُ اسْمي، تَقْطِفُ الزَّهْرَ الَّذي نَسِيتْهُ شَفتايَ، وتَضعُ الْأَيَّامَ في كَفِّ الشَّمْسِ...
فَتنْبُتُ فِي القَلْبِ الزَّنابِقُ، لا تَعْرِفُ النَّارَ الَّتي في الوصْلِ، لا تُؤْمِنُ بالصُّدْفةِ...
وتَمُرُّ غَمَاماتٌ على أَسْئِلتي، تَلْهُو بِقَارُوراتِ نُورٍ، ثُمَّ تَنْكسِرُ المَرَايا في جُيُوبِ الرُّوحِ.
أَيْنَ الصَّدَى؟ كُنْتُ أُرَتِّقُ مَا تَهدَّمَ فِي السُّكُونِ، وأَصُوغُ مِنْ نَبْرِ النَّوَافِذِ قِصَّةً، لَمْ تَسْتَطِعْهَا أَنْجُمُ اللَّيْلِ البَعِيدِ.
مَنْ ذَا يُرتِّبُ فَوْضَةَ الإِيماءِ في عَيْنِ انْكِساري؟ مَنْ يُقْنِعُ المَوْتى بِأَنَّ الحُلْمَ يُحْيي الضَّوْءَ فِي نَفقِ السَّنا؟
قَلْبي نُقَيْطاتٌ مِنَ الثَّلْجِ الَّذي نَسيَ التَّجلِّي، زَجَّجْتُهُ بِالبُعْدِ حَتَّى صَارَ قَيْنُونةَ السُّهُوِ، وَأَطْفأَتْهُ كفِّي...
وفي آخِرِ الرُّؤْيا، تَسْتَيْقِظُ الْعَيْنُ الَّتِي لَمْ تَسْكُنِ الْأَجْفانَ، تَسْبحُ في أُفُقٍ مِنَ الأَشْواقِ، تَلْمَسُ طَيْفًا كَانَ فِي كَفِّ الضِّياءِ، وَتُفتِّشُ عَنْ غُصْنٍ نَجَا... مِنْ بَرْدِ وَادٍ، مِنْ ضِيَاءِ نِدَاءٍ، مِنْ سُهُوِ الأَلْفِ الأُولَى... إِلى الْآن 12 وردةٌ من رماد كم تبقّى من فمي؟ من صمتيَ الـ يشتكي من شُرفةِ الوقتِ الخواءْ كلُّ شيءٍ في رؤايَ انحدرَ الـ صوتُ فيهِ... وتلاشى في الهواءْ 13 خرابُ البصيرة في يدي نارٌ، وفي عيني نَدى كيفَ تجمعنا المرايا والشتاتْ؟ كلّما حاولتُ أن أُصغي إليَّ، عادَ صوتي، وانطفى في الظلماتْ
الشرفةُ لم تَعُد شُرفة، صارتْ مسرحًا صغيرًا لحوارٍ بينَ كأسٍ فارغٍ وحبّةِ مشمشٍ هربَ طعمُها. نبتةُ الصبّارِ تُمِلُّ الانتظار، لكنّها تواصلُ دورَها، مثلَ عاشقٍ يَنسى السببَ، ويظلُّ يذكُرُ اليدَ.
وأنتِ؟ هل كنتِ هناكَ فعلًا؟ أم كنتِ فكرةً اختبأتْ في سِياقِ المطرِ لتنجو من النسيان؟
الساعةُ تُخطئُ للمرةِ الرابعة، الليلُ لا ينتهي، والموسيقى تأخذني بعيدًا عن جسدي.
أغلقُ الستارة، وأتركُ النافذةَ مواربةً، لعلّ صوتَ المطرِ يعرفُ كيفَ يُعيدكِ.
ففي مثلِ هذا المساءِ، تُعادُ اللمسةُ إلى معناها، وتُصبحُ الوحدةُ نصًا يحتملُ التأويل.
الآنَ، أعرفُ أنَّ المطرَ ليسَ إلّا صوتَنا حينَ ضاع، حينَ تبادلناهُ فوقَ الأرصفةِ ثم لم ننتبهْ أنهُ غابَ من بيننا. 14 أصداءُ حجر صوتُكِ العالقُ في جرحي بَكى، ثمّ نامَ — الطينُ أقسى من دمي كلّما مِلتُ إلى ظلكِ، بدا وطني المنفيّ في وهجِ العَدمِ 15 منفى الحنين ليلُنا ممتدُّ حزنًا، كلّما أومضَتْ نافذةٌ، انطفأ الطريقْ والتياهي خيمةٌ مرّتْ على ضوءِ قنديلٍ غفا فيه الغريقْ 16 الحُبُّ حينَ يُنسى كنتِ لي ماءً يُطهِّرُ وحشتي، ثمّ صِرنا نصفَ ذكرى في الغيابْ أينَ كفّاكِ؟ أما زالَ الدُجى يحضنُ المنفى؟ ويُمليهِ العذابْ؟
الريحِ العاشقةِ سري "تعالي في الظَّلَامْ، نَسْتَبْدِلُ الجِدَارَ نَهْرًا، لِنَرَى الإِبْحَارَ دُونَ قَارِبٍ كَيْفَ يَكُونْ؟
نَسْرِقُ أَحْلَامَ العَصَافِيرِ، نَسْتَرِدُّ القَمَرْ، نَسْأَلُهُ: الصَّوْتُ، كَيْفَ كَانْ؟ 17 سِفْرُ النهاية حينَ أسلَمتُ النوافذَ للضُبابْ واستراحَ الوجعُ في كفِّ القصيدْ قلتُ: هل في جرحِنا معنىً يُرى؟ أم سنبقى لِلرؤى صمتًا مديدْ؟
أبحثُ عن مطرٍ لا ينزلُ من السماءِ بل من أصابعكِ.
المطرُ في هذا النهارِ كانَ يشبهُ نغمةً تُعزَفُ ولا تُسمَعُ إلّا حينَ نغيبُ.
مطرٌ لا يُبلِّلُ الطرقاتِ بل يُبلِّلُ الأماكنَ التي كُنّا نُحبُّ فيها.
كانَ عليكِ أن تكوني هنا، في هذه اللّحظةِ المعلَّقةِ بينَ شهيقينِ وبينَ "نعمْ" لم تُقالْ.
ها أنا أمدُّ يدِي في الغيابِ، أُرتّبُ على الطاولةِ فوضى الذكرياتِ، أزرعُ في الزاويةِ نبتةَ صبّارٍ كما في قصائدنا، وأنتظرُ أن تلتفتي.
ما زالَ المطرُ يسّاقطُ في داخلي مثلَ جُملةٍ ناقصة، ومثلَ حبٍّ لم نَعرفْ كيفَ نختِمُهُ.
المطرُ لا يسقطُ... إنهُ يصعدُ من تحتِ الجلدِ، قطرةً قطرة، كأنّه يكتبُني لكِ من جديد.
أنا الآنَ كلمةٌ تجرحُها المَحبرة، وموسيقى تنكسرُ على أولِ وترٍ في صمتكِ.
هل تتذكّرينَ تلكَ اللمسةَ التي عرَفتْ طريقها إلى كتفِكِ؟ لم تكنْ مصادفة، كانَ المطرُ شاهدًا، وكانَ الوقتُ عتبةً بين اثنينِ أَخفَيَا الزمانَ في نبضتينِ. 18 على عتبة الغياب في وداعِ الماءِ، في نَشْجِ المدى، توقّفَتْ بينَ ضُلوعي أغنيَهْ كانَ قلبي مرآةً، وانكسرْتِ، فرأيتُ العمرَ فيها منتهيَهْ 19 مسك الختام فاغفري ما لم يَكُنْ، أو قد يكونْ من حروفي، من بكائي، من صدايْ إنْ مضيتِ الآنَ، فامضِي مطمئنّةً: كلّ هذا الحُزنِ من ماءي أنايْ 20 ملامح الفرَح الضائع كانَ ظلّي، إذا تكسّرَ ضوءٌ من خيالي، يعيدُني للندى فرَحي مِئذنةٌ بلا صوتِها، موحشٌ في مآذني، مُرتدى 21 كنتُ أغفو، وفي يديّ شُعاعٌ من بكاءِ الطفولةِ المحترقهْ كلّما صافحتُ ربيعاً مضى، عادَ صيفي نخلةً مشنوقهْ 22 في فؤادي ريشةٌ من غبارٍ ترسمُ النومَ فوقَ جفنِ الكلامْ أينَ ذاكَ الفرحُ الصغيرُ؟ أما زالَ يلعبْ؟ أما رأيتَ الملامْ؟ 23 أناشيد العطش كانَ قلبي جَبلاً من الماءِ، لا يَظمأُ الحبُّ فيه، لا ينحني ثمّ لما أتى الغيابُ جفافاً عادَ قلبي من الطفولةِ فَني
فِي المَاءِ كُنتِ، خُصْلَةَ يَاسَمِينٍ ضَيَّعَتْهَا أَصَابِعُ الضَّوْءِ، كَيْفَ لِلرِّيحِ أَنْ تُفَسِّرَ مَاهيَّتَها؟ كَيْفَ أَسْأَلُ عَنْكِ وَفِي صَمْتِكِ يَتَفَجَّرُ نَبْض طَيْف؟ 24 مرّتِ الأمسُ من يديّ، ولم تترُكِ الصيفَ في يديَّ شعاعْ إنني الآنَ وردةٌ تذبلتْ، لم يَزُرها سوى الرمادِ البِداعْ 25 صيفٌ من التراب كلُّ بيتٍ — سَقفُهُ من حنينٍ، وأساسٌ من الطفولةِ ماتْ كلُّ ظلٍّ على الجدارِ طيوفٌ من عباءاتِ الأمسِ، والذكرَياتْ 26 المدى الساقط من عيني أينَ ضحكتُنا الأخيرةُ؟ أينَ ذلكَ الوهجُ في العيونِ الغريبْ؟ هل نسيناهُ في زوايا المساءِ، أم دفنّاهُ في قواريرِ طينٍ صليبْ؟
زَنَابِقُ الْوَحْشَةِ فِي قَلْبِ الظِّلِّ الوَحْشَةُ: زَنَابِقُ بَرْدِ الْوَادِي تَنْبُتُ فِي الْقَلْبِ الْخَفِيِّ، حَيْثُ الأَغَانِي غَائِبَاتٌ، وَصَدَى الرِّيَاحِ يُسَافِرُ الْمَجْهُولَ فِي كُوَّاتِ نَفْسِي.
نَدْيًا تَتَسَلَّلُ، الْمَسَاءُ يُرَتِّبُ التَّفْصِيلَ فِي جِلْدِ الْحَنِينِ، وَتُرَبِّتُ الذِّكْرَى عَلَى جَبَهَاتِ أَشْلَاءِ الْمَسَافَاتِ الْقَدِيمَةْ.
فِي الزَّاوِيَةِ الْمُنْسِيَّةِ انْتَبَهَتْ طِفْلَةٌ، تَحْمِلُ اسْمِي، تَقْطِفُ الزَّهْرَ الَّذِي نَسِيَتْهُ شَفَتَايَ، وَتَضَعُ الْأَيَّامَ فِي كَفِّ الشَّمْسِ...
فَتَنْبُتُ فِي الْقَلْبِ الزَّنَابِقُ، لَا تَعْرِفُ النَّارَ الَّتِي فِي الْوَصْلِ، لَا تُؤْمِنُ بِالصُّدْفَةِ...
وَتَمُرُّ غَمَامَاتٌ عَلَى أَسْئِلَتِي، تَلْهُو بِقَارُورَاتِ نُورٍ، ثُمَّ تَنْكَسِرُ الْمَرَايَا فِي جُيُوبِ الرُّوحِ.
أَيْنَ الصَّدَى؟ كُنْتُ أُرَتِّقُ مَا تَهَدَّمَ فِي السُّكُونِ، وَأَصُوغُ مِنْ نَبْرِ النَّوَافِذِ قِصَّةً، لَمْ تَسْتَطِعْهَا أَنْجُمُ اللَّيْلِ البَعِيدِ.
مَنْ ذَا يُرَتِّبُ فَوْضَةَ الإِيمَاءِ فِي عَيْنِ انْكِسَارِي؟ مَنْ يُقْنِعُ الْمَوْتَى بِأَنَّ الحُلْمَ يُحْيِي الضَّوْءَ فِي نَفَقِ السَّنَا؟
قَلْبِي نُقَيْطَاتٌ مِنَ الثَّلْجِ الَّذِي نَسِيَ التَّجَلِّي، زَجَّجْتُهُ بِالْبُعْدِ حَتَّى صَارَ قَيْنُونَةَ السُّهُوِ، وَأَطْفَأَتْهُ كَفِّي...
وَفِي آخِرِ الرُّؤْيَا، تَسْتَيْقِظُ الْعَيْنُ الَّتِي لَمْ تَسْكُنِ الْأَجْفَانَ، تَسْبَحُ فِي أُفُقٍ مِنَ الأَشْوَاقِ، تَلْمَسُ طَيْفًا كَانَ فِي كَفِّ الضِّيَاءِ، وَتُفَتِّشُ عَنْ غُصْنٍ نَجَا... مِنْ بَرْدِ وَادٍ، مِنْ ضِيَاءِ نِدَاءٍ، مِنْ سُهُوِ الْأَلْفِ الأُولَى... إِلَى الْآنِ 27 انكسار الظلال يا عصافيرَ الصيفِ، لا تطرقوا بابَ هذا القلبِ، لا تنشدوا ها هنا لا سماءَ تُشرّعُكمْ، ها هنا صوتُكمْ... يتبدّدُ 28 طفولةٌ في الرفات ها أنا الآنَ — لعبةٌ من سرابٍ، ضاعَ منّي اسمي، وضاعت يدايْ كنتُ في الطينِ — مهرَجانَ مِياهٍ، ثمّ صِرتُ الرمادَ في مقلتيْ 29 ترنيمةُ الرمل أيّها الرملُ، هل نسيتَ خطايَ؟ كنتَ طيني، وصوتُك المبتلُّ كانَ عكّازَ غيمتي، وتهاوى حينَ ذابتْ يدايَ واستحلّوا 30 أرصفة النسيان مرَّ ظلّي، وكانَ وجهي شُباكاً في قطارٍ بلا محطاتِ صدى كلّ شيءٍ مضى، وقلبي وحيدٌ في حقولٍ تَخونُ فيها المدى 31 أعشاشٌ في يديكِ كلَّما جئتِ، كانَ صوتُكِ غيمًا يتدلّى على اللسانِ، ويروي فتنامينَ مثلَ كفِّ نَبيٍّ في الوضوءِ الأخيرِ دونَ ضُحى
صَدًى فِيكِ صَوْتٌ يَصُمُّ، غِيَابٌ، حُضُورٌ، مَا الَّذِي كُنْتُ أَقُولْ؟
لَا تَسْأَلِينِي كَيْفَ غِبْتِ، أَنْتِ كَالطِّيبِ فِي جُبَّةِ العَارِفِينَ، كُلَّمَا ارْتَفَعَتْ صَلَاتِي، انْحَنَيْتُ فِي شَهْقَتِكِ الثَّالِثَةْ... آمين.. 32 ظلُّ الهواء أيّها الصيفُ، كم تركتَ جروحًا في فمي، في جُفونِ ليلٍ يتيمْ أيّها الفرحُ المستحيلُ، تعالَ، واختفِ الآنَ، مثلَ حلمٍ عقيمْ 33 بقايا نشيد كلّما قُلتُ: "هاهُنا الضوءُ"، ذابَ في يديّ الحنينُ، أوّلُ نايْ لم أكن غيرَ نُطفةٍ من بكاءِ الذاكراتِ التي تموتُ ورايْ 34 وصيّة الرمل لا تُراهنْ على النّدى، كلُّ ماءٍ في يديكَ سيغسلُهُ الغيابْ كلُّ هذا الذي تراهُ رجاءً هوَ صمتٌ يُقامُ فيه العذابْ 35 ترنيمة النهاية حينَ تنسى الطريقَ، قُل: ربّما كنتُ ظلًّا تَوهّجَتْهُ الجِراحْ ربّما الصيفُ في دمي ما انقضى، بل أنا من مضيتُ دونَ رماحْ 36 ختم الطين دعْ غبارَ البلادِ فوقَ يديكْ، إنّه ذِكرُ طفلةٍ في القبورْ لا تُطِلْ في السؤالِ عن وجهِها، كلُّ من ماتَ صارَ فيها عبورْ 37 صلاة الماء ربَّ ماءٍ بكيتُهُ لم أذقْهُ، ربَّ جرحٍ شربتُهُ من رؤايْ يا صديقي — وإن مضيتَ حزينًا، أنتَ وحدَك: نايُ هذا الندايْ
مطرٌ لا يبلّلنا ليسَ لأنَّ النافذةَ مغلقةٌ، ولا لأنَّ الصّمتَ يسري في الحيطانِ مثلَ حكايةٍ قديمة، ولا لأنَّ الليلَ ينسى مواعيدهِ في الممرِّ الطويلِ، لكنَّ شيئاً... يشبهُ الحنينَ، يتمدَّدُ بينَ أصابعي كغبارِ الرسائلِ.
أصغي إلى الأشياءِ تتبادلُ أسماءَها في الخفاء، الكوبُ الفارغُ يتهامسُ مع ظلِّه، والستائرُ تُحدّقُ في غيابِ الريحِ، وأنا، لم أعدْ أتذكَّرُ ملامحي حينَ تُلامسني المرايا.
هل كنتُ وحدي؟ أم أنّ صوتَ الموسيقى القديمةِ كانَ يهمسُ من دفترٍ مفتوحٍ على صورةٍ لكِ، حافيةً، تضحكينَ من شيءٍ لم أقلهُ بعد.
الضوءُ الخافتُ لا يفضحُ الشوقَ، لكنَّهُ يُلمّحُ إلى ما تبقّى من القبلةِ فوقَ كأسِ الشاي، وإلى ارتجافةِ يدي حينَ لمستُ كرسيّكِ 38 في موسم اليَباس في اليَباسِ، رأيتُ ريحاً بكتْ عندَ منعطفِ الحريقِ الخفيّْ لوّحتُ للماءِ — دفترُ وجهي، فاستخفّتْ بالشخيرِ النقيّْ 39 أرسلتْ لي علامةَ الانصرافِ، وغفتْ — كراكيَ البحيرةِ إذ ذَوتْ كلُّ شيءٍ على مقلتيّ وسمٌ، ووجوهُ الخيباتِ مُنطفِئَاتْ
أعرفُ أنَّكِ كنتِ مرآتي حينَ نسيتُ وجهي، وأنَّ هذا المطرَ يكتبُ ما لم أقله، يمحو ما ظننتُ أني قلتُهُ.
أشعرُ بالدفءِ يأتي من جهةِ الذكرى، كأنّ أصابعكِ – المُبتعَدة – تُصلِحُ ترتيبَ القلبِ في صدري.
سأفتحُ النافذةَ، لا لأراكِ بل لأراكِ تمرّينَ في هذا الهواء.
المطرُ يتهادى... وأنا لا أبتلُّ بعدُ، لكنّي أبتسم 40 نخلتي — وجعي، وبلحُ دموعي، مُشتَلٌ وسطَ القلبِ، لا ينثني هيَ كلُّ الحمولِ، هي وصْفُ دمي، هيَ جرحي، هويّتي، موطني 41 نافذتي — العرشُ، مشرقُ أيّامِي، شيحُ الغناءِ، وجفني المُبلَّلْ وجهُكِ نجمٌ قطبيٌّ، به أهتدي، والصحارى تهيمُ وتذبلْ
اجْلِدِينِي بالحَنِينْ، ارْتَقِي ثُقُوبَ السِّنِينَ، قَارِعَةُ العُمْرِ بَابٌ وَارَبَتْهُ شُجُونْ، وَرْدَةٌ غَفَتْ بَيْنَ نَهْدَيْكِ حينَ انقطعَ حبلُ السماءِ، هَوَتْ لِقَعرِ عينيكِ، أَخْفَتْهَا الجُفُونْ.
يَا لِسُرَّتِكِ الشَّزْرَةِ تَسْطَعُ كَالْفَنَار، لَا نَرَى مِنْهُ سِوَى النُّور، تَذْرِفُ دَمْعَهَا حُرُوفًا، خلّني أطوفُ ملحَ بحرِكِ، وآكلُ من جرحي الجروفْ. 42 كنتُ أعشو، وما أخطأتُ خطايَ، هو دليلي، هوَ يقظتي، عطشي كلّما ضيّعتني الرؤى، عادَني صوتُهُ — ماءَ عينيّ، في فرَحي
صيفٌ من التراب كلُّ بيتٍ — سَقفُهُ من حنينٍ، وأساسٌ من الطفولةِ ماتْ كلُّ ظلٍّ على الجدارِ طيوفٌ من عباءاتِ الأمسِ، والذكرَياتْ
مِلْحُ الغياب ها أنا أقتاتُ من وهمِ الرؤى، من بكاءِ الماءِ في فمِّ الصدى خلفَ نافذتي تموءُ نَعْسةٌ من حنينٍ شاحبٍ، يَبكي المدى
وجهُكِ الماضي على دفترِ دمي رشفةٌ من زمهريرِ الأمنياتْ هل يعودُ اللحنُ من قمحِ الدُجى؟ أم سيبقى في شفاهي أغنياتْ؟
أم سيبقى في شفاهي أغنياتْ؟ .......
أغنياتْ... أغنياتْ...
*****؟؟
الخاتمة:
كَتبْتُ هذِهِ المَقاطِعَ في تِلْكَ الفَجْوةِ بَيْنَ الحَنينِ ومَا لا يُقالُ، حَيْثُ تَكُونُ الكلِماتُ أَضْعفَ مِنَ البُكاءِ، وأَقْوى مِنَ الصَّمْتِ.
"مَجِيءٌ" لا يَتحَدَّثُ عَنِ الحُضُورِ، بلْ عَنْ كُلِّ غِيابٍ صاخِبٍ تَشبَّثْنا بِهِ حَتَّى صَارَ هُوَ المعْنى. كُلُّ مَقْطعٍ فِي هذِهِ القَصيدةِ وُلِدَ مِنْ جُرْحٍ لَمْ يُشْفَ، ومِنْ ذَاكِرةٍ لَمْ تَغْسِلْها يَدٌ، فَكانَ الرَّمْلُ فيها تُرابَ الرُّوحِ، وكانَ المَاءُ صُورةً نَائِمةً في عَيْنَيْها.
إِلَى مَنْ لَمْ تَكْتمِلْ فِي النَّدى، إِلَى مَنْ كَانَتْ جُرْحي وَشِفَائي، إِلَيْكِ وَإِنْ لَمْ تَعُودي.
فَفي بُرُودةِ الوَادي الَّذي نَسيَ دَفْءَ الخُطى، تَنْمُو زَنابِقُ الوَحْشةِ، مَنْ يَشُمّ إِمْبِرَاطُورِيّ؟ لا عَلى تُرْبةٍ، بَلْ في تَجَاويفِ الرُّوحِ…
هذَا النَّصُّ تَرْنِيمةُ تَكَوُّنٍ صَامِتٍ، مِنْ قَلْبٍ يَنْبُتُ فِيهِ البُعْدُ وَرْدَةً، وَيَذْكُرُ مَا لَمْ يُقَلْ.
جَزَزْتُ عَاقُولَ الوَقْتِ بِأَسْنَانِ، نُوسْتَالِجْيَا جُبِّ الحَنَانِ والسَّيَّارَةِ.
لِأَخُطَّ هذَا النَّصَّ: تَرْنِيمَةَ قَلْب يَنْبُتُ فِيهِ الْبُعْدُ وَرْدَةً، وَيَذْكُرُ مَا لَمْ يُقَلْ في خَيال المُحال .
#سعد_محمد_مهدي_غلام (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
(تَراتِيلُ بُزُقٍ مُفَخَّخٍ) (كابوسٌ أُوركِستراليٌّ فِي خَرَ
...
-
(حين يُشنقُ الظلّ)
-
(مَسَلَّةُ الشَّوْقِ)
-
( مِرْآةُ الظِّلِّ ، مَقامُ الصَّبْرِ، المَصْلُوبُ ،حالُ الش
...
-
(مَرْثِيَةُ العَابِرِ عَلَى قَنْطَرَةِ اللَّا يَقِين- وَاسِن
...
-
( إثمد تجاعيد ألم)
-
(رَقِيمُ البَنَاتِ الخَمْسِ)
-
(وَرْد :بردُ عَصْفِ حُبِّك )
-
( النَّواصِي )
-
(حِكاياتٌ من ذَاكِرَةِ طَبلِ الصَّفِيحِ*١: نَقْراتٌ على
...
-
(شيبوب)
-
( وجع)
-
(هجرة ...صلاة ...صيف )
-
(الوِلادَةُ سِيْزَرِيَّة)
-
(وَكْرُ الوَقْوَاقِ)
-
( مَشْهَد خُشُوع زُقُورَةٍ آيِلَةٍ لِلسُّقُوطِ)
-
(صَوّانُ حَقْلِ زَهْرَةِ الشَّمْسِ)
-
(استعادة القراءةُ لحُبٍّ في مِرآةٍ سوداءَ مُدَلّاةٍ على صَدر
...
-
(العودة الى جدول الأقحوان في دجلة السالكين)
-
(هُذاذِيكِ حِنِّي)
المزيد.....
-
وفاة الفنانة المغربية نعيمة بوحمالة عن 77 عاما بعد صراع مع ا
...
-
فيلم -8 أكتوبر- يهاجم الاحتجاج ضد الإبادة دعما لأجندة يمينية
...
-
هي ثاني أكثر اللغات انتشارا في فرنسا... ما هو واقع تعليم الل
...
-
مصر.. مسؤول يحذر من خطورة -ثقافة التريند- على الأمن القومي
-
راغب علامة يعلّق على زيارته للرئيس اللبناني
-
من المؤثرة البريطانية نيكي ليلي التي استضافها مهرجان كان الس
...
-
أسرار باريس | أشباح كواليس الأوبرا
-
-التربية-: مدارسنا تحصد جوائز ومراكز متقدمة بمهرجان أفلام ال
...
-
الفيلم الهندي -الدبلوماسي-.. دعاية سوداء وإثارة سياسية على ه
...
-
المخرج نيكيتا ميخالكوف يدعو إلى فرض قيود على الأفلام الأمريك
...
المزيد.....
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
المزيد.....
|