للاإيمان الشباني
الحوار المتمدن-العدد: 8374 - 2025 / 6 / 15 - 08:57
المحور:
الادب والفن
وُلد الشاعر رشيد أيلال في شهر رمضان من سنة 1974، في حي سيدي يوسف بن علي بمدينة مراكش، وسط أسرة متوسطة الحال، ترعرع في كنف أبٍ خياطٍ عُرف باهتمامه بالشعر والعمل النقابي، وحرصه البالغ على تربية أبنائه على العلم والأدب.
منذ نعومة أظافره، أبدى رشيد نبوغًا مبكرًا؛ فبينما كان والده يلقن إخوته دروسًا في الفقه واللغة، كان الابن الأصغر يجلس صامتًا يستوعب كل ما يقال. يقول: "أتذكر أول حرف تعلمته هو حرف النون وأنا لا يزيد عمري عن ثلاث سنوات." وكان ذلك إيذانًا ببداية علاقة حميمة مع الحرف والمعنى.
دخل الكُتّاب في سن الخامسة لحفظ القرآن الكريم، لكنه لم يمكث فيه سوى ثلاثة أشهر، هربًا من شدة المعلم وسوء معاملته. ومنذ ذلك الحين، أخذ رشيد يبني علاقته بالعلم بطريقته الخاصة، إذ بدأ في كتابة الرسائل الأدبية لأفراد عائلته وهو لم يتجاوز بعد سن السادسة، ليُعرف بين أقرانه بأسلوبه الكتابي المتميز وتفوقه الدراسي، مما خوله لنيل الجائزة الأولى في المرحلة الابتدائية.
ورغم عدم إتمامه للدراسة الثانوية والجامعية – وهو أمر يقرّ بأنه كان خطأً في تخطيطه الشخصي – إلا أن رشيد لم يتوقف عن طلب المعرفة. كان ينهل من مكتبة والده كتبًا في الفقه، والأدب، والتاريخ، والفلسفة، يقرأها سرًا، سواء فَهِم ما فيها أم لا، فشكلت لديه لاحقًا زادًا معرفيًا متينًا، ساعده على صقل موهبته الأدبية.
في سن الخامسة عشر، بدأ نقد الشعر، وفي سن السادسة عشر، كتب واحدة من أوائل قصائده، وهي قصيدة "من أنا يا عِبَر؟"، التي يقول في مطلعها:
> لك أنت يا نغما همى بِكَ قلبهـــا
بِكَ أنت من سَلَبَ الفؤاد أَنَجمهـا
أمع الهوى سكر الهوى بحبيبكم
قمرٌ سما نُجُمٌ على رمشاتها
وقد انخرط في الحياة الثقافية مبكرًا، من خلال العمل الجمعوي والنشاط الفني، وكان من أبرز أعضاء نادي الكروان للشعر بمراكش، وفاعلًا في المنظمة المغربية للكشافة والمرشدات، حيث وجد منبرًا لتفجير طاقاته الشعرية والأدبية، وكتب في الشعر، والقصة، والرواية، والمقالة، والمسرح، مستندًا إلى مرجعية لغوية قوية، وذوق فني ناضج.
رشيد أيلال ليس فقط شاعرًا بالفطرة، بل مثقف عصامي، اختار أن يبني ذاته من أعماق التجربة، وأن يجعل من الكتاب صديقه الأول، ومن الحرف رفيق دربه، فصار من الذين يجمعون بين الوهج الإبداعي، والوعي النقدي، والتمكن اللغوي.
بعض ابياته
سكبت على معنى السؤال توهجي
وبنت على قمم الخيال تدرجي
ورقت على مرقى البديع قصائدي
وتجاوزت صرح البيان الأبلج
يا نعمة الله العظيم بوحيها
يا منة العقل السليم ومنهجي
يا وردة الحب المثير على دمي
يا صرخة الحق المنير توهجي
يا نبضة الالهام ، لا تتمنعي
يا بسمة الأحلام ، لا تتغنجي
يا وثبة الأسد الهصور وغضبتي
يا ركبة الفرس السني وهودجي
يا مجمع الأحباب أين لقاؤها؟
بإمارة الشعر الأصيل تتوجي
شعر-رشيد أيلال
.....
قف بالرموش الكحيلات مدى الالق
وارشف معين الجوى من نهره الغدق
واسكب بجفن الغروب شمس عاطفة
لتولد في غد الاصباح بالعبق
شذرة شعرية لرشيد ايلال صيف سنة 2013 بمراكش
القصيدة التي نظمها الشاعر رشيد أيلال تنتمي إلى فضاء شعري مفعم بالوجد والتوهج، حيث تتداخل الذات الشعرية مع معاني الوحي والإلهام والبيان، لتبني عالماً مشحوناً برمزية كثيفة، تستقي من المخيال العربي والبلاغة الكلاسيكية صورها، وتعيد تشكيلها بروح وجدانية تنزع إلى التفوق والتسامي.
في البيت الأول، تتبدى صورة الشاعر وهو يسكب توهجه على "معنى السؤال"، وهي استعارة بارعة تجعل من السؤال كائناً مادياً يُسكب عليه الضوء والحرارة. التوهج هنا ليس مجرد حالة نفسية، بل قوة خلاقة توجه المعنى وتفجره. وفي البيت نفسه، نلحظ كيف أن "قمم الخيال" تتحول إلى مدارج يتدرج فيها الشاعر، وكأن الخيال جبل صاعد، وهذه استعارة بنائية تجمع بين التصعيد في الرؤية والتدرج في التجربة الشعرية.
في البيت الثالث، يقول: ورقت على مرقى البديع قصائدي، وهي صورة شاعرية حسية تجعل من القصائد كائناً حيًا يمشي برفق على سُلّم البديع، و"مرقى البديع" كناية عن فنون البلاغة والجمال التي يستند إليها البناء الشعري. أما "صرح البيان الأبلج"، فهو استعارة أخرى تبرز المعنى في هيبة معمارية شاهقة، تجعل من البيان كياناً قائماً بذاته، أبيضاً، ناصعاً.
في البيت الرابع، نجد تمجيداً للبوح الشعري بوصفه نعمة إلهية وعقلاً سليماً، مما يوحي بأن الشعر عند أيلال ليس مجرد إنتاج لغوي، بل هو منحة إلهية وعقلانية متزنة، مما يعكس رؤية فلسفية عميقة للشعر كنهج للمعرفة.
البيت الخامس يمزج بين الحسية والرمزية، حيث تتحول "وردة الحب" إلى كيان حي يسري في الدم، و"صرخة الحق" إلى توهج. الدم يوحي بالحياة والنبض، بينما الصرخة تنقل مشهدية صوتية توحي بالثورة والصدق، مما يعزز من حدة التوتر الشعري.
أما في البيت السادس، فنجد خطاباً للإلهام والأحلام، حيث يتجسد الإلهام في صورة "نبضة"، والحلم في "بسمة"، وهما استعارتان جسّدتا المجرد في صور حية أنثوية تحاكي الحضور والغياب، الاندفاع والتمنّع، مما يضفي على القصيدة طابعاً غنائياً شفيفاً.
البيت السابع يطرح ازدواجية القوة والليونة، بين "وثبة الأسد" و"ركبة الفرس"، في استعارة مركبة تُحيل إلى مشهد نبيل ومقدام يجمع بين الهجوم والامتطاء، بين الشجاعة والترويض. أما "هودجي"، فتوحي بالسفر الملكي، مما يعكس أن القصيدة نفسها رحلة نخبوية لا يركبها إلا من توفرت فيه شروط الفروسية الفكرية.
البيت الختامي يُعيدنا إلى مشهد اللقاء المنتظر في "مجمع الأحباب"، حيث تُتوج القصيدة في "إمارة الشعر الأصيل"، وهي استعارة تجعل من الشعر مملكة، ومن القصيدة عروسًا أو سلطانة تلبس تاج البيان، في تتويج احتفالي يحمل بعدًا فنيًا وشعوريًا.
أما الشذرة الشعرية في ختام النص، فهي لوحة وجدانية قصيرة مكثفة، تمتاز بكثافة الصور وتوهج العاطفة. "الرموش الكحيلات" في "مدى الألق" ليست مجرد وصف أنثوي، بل استعارة تضفي على العين حضوراً ضوئياً، مشعاً، يؤطر لحظة تأملية حميمة. "معين الجوى" يوحي بماء الحنين، و"نهره الغدق" يدل على فيض شعوري لا ينضب. أما "شمس عاطفة" تسكب في "جفن الغروب"، فهي استعارة زاهية ترسم الغروب عاطفة، لا زمنًا، والغد لحظة ولادة بالعطر والأمل.
كل هذا يجعل من نص رشيد أيلال نصًا شاعريًا مملوءًا بالرموز والرؤى، يقوم على استعارات مركبة وكنايات دقيقة، ويعكس تجربة شعورية ناضجة تراهن على البلاغة الروحية والجمالية أكثر من رهانات الحداثة الشكلية.
#للاإيمان_الشباني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟