للاإيمان الشباني
الحوار المتمدن-العدد: 8373 - 2025 / 6 / 14 - 10:57
المحور:
الادب والفن
أحمد حيدة من مواليد سنة 1973 بمدينة قلعة السراغنة، نشأ في فضاء يزاوج بين الأصالة والتحولات الثقافية والاجتماعية التي عرفها المغرب في العقود الأخيرة، وهو ما ساهم في صقل تجربته الإبداعية وتوسيع رؤيته للحياة والفكر واللغة. اختار الجمع بين مهنة المحاماة والعمل الأدبي، فكان محاميًا محلفًا بهيئة المحامين بمراكش، وفي الوقت ذاته، صوتًا شعريًا وسرديًا له حضوره في الساحة الثقافية المغربية. هذا التوازن بين القانون والإبداع منحه قدرة استثنائية على مساءلة الواقع ومقاربته من زوايا مختلفة، حيث تلتقي الكلمة بالشهادة، والقصيدة بالحقيقة.
انخرط أحمد حيدة في العمل الثقافي والجمعوي منذ بداياته، فكان عضوًا سابقًا في جمعية الرصد العربية، التي كانت من أبرز المنابر الحاضنة للأقلام الشعرية والفكرية الحرة، كما ساهم في تأسيس الرابطة الوطنية لشعراء المغرب، التي تسعى إلى لمّ شتات الشعراء المغاربة وتوفير فضاء للحوار والتلاقي والتبادل الثقافي. وكان من بين المؤسسين أيضًا لجمعية أدباء النهضة، وهي مبادرة تهدف إلى إعادة الاعتبار للأدب كقوة فاعلة في بناء الوعي الجماعي، وترسيخ قيم الجمال والفكر والانتماء.
شارك أحمد حيدة في العديد من الملتقيات الأدبية والفكرية، سواء داخل المغرب أو خارجه، حيث كان حضوره دائمًا محط تقدير، لما تحمله كلمته من صدق وعفوية ورؤية، تنهل من عمق التجربة الإنسانية وتترجم انشغالات المثقف في عالم يموج بالأسئلة والتحديات. وهو من الأصوات التي تراهن على الإبداع كمسار للحرية، وسند للكينونة، ومعبر عن الذات في علاقتها بالوجود والتاريخ والهوية.
أما على مستوى إصداراته، فقد أغنى المكتبة المغربية بعدد من الأعمال الشعرية والسردية المتميزة، إذ أصدر ديوانه الأول "ولادة" سنة 2013، وهو عمل يزخر بصور شعرية نابضة، ويعكس ولادة صوت شعري خاص يحمل هموم الإنسان وأسئلته الكبرى. تبعه ديوانه الثاني "صلوات ووساوس" سنة 2016، الذي بدا أكثر نضجًا وتوهجًا، حيث تتقاطع فيه التجربة الروحية مع قلق الفكر، ويعكس الصراع الدائم بين النور والظلال. ثم جاءت روايته "هبل" سنة 2019، لتؤكد انفتاحه على الأجناس الأدبية الأخرى، وقدرته على نسج سرد عميق ينقب في طبقات النفس والمجتمع. بالإضافة إلى ذلك، له ثلاثة دواوين شعرية أخرى وعمل روائي جديد في طور النشر، يعكف على إعداده بروح الباحث عن المعنى في زمن الكتابة.
في مسيرة أحمد حيدة تتجاور التجربة الحياتية بالكتابة، ويتقاطع الشعري بالحقوقي، ليقدم نموذجًا للمثقف الذي لا ينعزل في برجه العاجي، بل يعيش تفاصيل الواقع، ويترجمها بلغة فنية صادقة، تجعل من الإبداع رسالة ومن الكلمة التزامًا
القصيدة الأولى: من قصيدة "صلاة للرحيل الأكبر" – الصفحة 56
> "تصفيت لم يبق شيء معي
تساقط بعضي على أجمعي"
يفتتح الشاعر المشهد بفعل "تصفيت"، وهي كلمة محملة بدلالات التطهير والاختزال، كأن الذات تتجرد من كل قشورها، فلا يبقى لها سوى لبّ الوجع. يأتي الفعل في زمن الماضي ليشير إلى اكتمال مرحلة التفكك الذاتي. أما البيت الثاني، "تساقط بعضي على أجمعي"، فهو صورة شعرية كثيفة تُجسد انكسارًا داخليًا؛ حيث يتحول الجسد إلى مادة منهارة، ويتماهى الجزء مع الكل في سقوطٍ رمزي يشي بذوبان الكيان الإنساني أمام ضغط العاطفة أو التجربة.
> "رضيت رقاع الهوى مجسدي
وصرت الفتى عاشق المرقع"
هنا تنتقل الذات إلى طور القبول والتسليم، إذ يصبح الهوى نسيجًا للجسد نفسه، ويتحول العاشق إلى صورة صوفية "الفتى المرقّع"، إشارةً إلى الزهد والانكسار. الرقاع تحمل دلالة الفقر الروحي من جهة، والثراء العشقي من جهة أخرى، فالعاشق هنا فقير مما سوى الحبيب، لكنه ممتلئ بحضوره.
> "أداري بقلبي بديع الدنى
وداري بأكوانه موضعي"
"أداري" فعل يتصل بالمعاناة وكتمان المشاعر، لكنّ الشاعر يربطه بـ"قلبه" و"بديع الدنى"، مما يفتح البعد الكوني داخل الذات، ويخلق حالة من الانصهار بين العاشق والكون، ليصبح "الموضع" في قلب الأكوان، لا في المكان الجغرافي.
> "وعيني وسمعي وبطشي به
ودمعي هواه غزا مدمعي"
هذا البيت يعلن حالة الحلول التام، فكل الحواس والأعضاء تعمل من خلال الحبيب، و"دمعي هواه" تعني أن حتى البكاء صار انعكاسًا لعشقه، مما يُظهر وحدة تامة بين الذات والموضوع.
> "وما بت ليلي وحيدا بها
وما بات بالليل إلا معي"
في هذا البيت تتجلى المفارقة العميقة، فالعاشق وحيد ظاهريًا، لكنه ممتلئ بالحضور العشقي. "الليل" ذاته يتحول إلى كائن مرافق، مما يرمز إلى علاقة وجودية بين الشاعر والزمن، حيث تتحول العزلة إلى رفقة، والحزن إلى شعور بالاكتمال العاطفي.
مقطع من قصيدة: "عطش" – الصفحة 64
> "كفكف دموع الروح ، يكفي كافيا
أحيى إذا ما الفقد ذل نواصيا"
الطلب في "كفكف دموع الروح" ليس أمرًا بالتوقف عن البكاء فحسب، بل هو سيميائيًا نداء لإنقاذ الذات من الانهيار، والدموع هنا ليست مادية، بل روحية، مما يجعل الفقد حالة وجودية تذلّ حتى "النواصي" – وهي مركز القوة والكرامة. "أحيى" فعل يأتي مشروطًا بـ"الذل"، ما يؤكد البعد التراجيدي للتجربة.
> "أمشي على درب يدور دوائرا
كل الدروب تؤول بدءا ثانيا"
هنا يرسم الشاعر بنية دائرية للزمن، حيث لا خطية في المسير، بل تكرار دائري لا يحمل نهاية. "الدروب" لا توصل إلى غايات، بل تعيدك إلى نقطة الانطلاق، وهي علامة على التيه الوجودي، والحياة التي لا تُفضي إلى اكتمال.
> "ما الموت ما سر القنوت مؤبدا
هبْ للمنايا موتها المتناهيا"
أسئلة وجودية تسكن النص، فـ"ما الموت؟" يتجاوز المعرفة البسيطة إلى التفلسف في الغاية والعدم. "القنوت المؤبد" يحيل إلى استسلام روحي مستمر. أما قوله "هب للمنايا موتها المتناهيا"، فهو عبارة متفجرة دلاليًا: يدعو الشاعر إلى جعل الموت ذاته ميتًا، أي أن يُفرغ الموت من سلطته، ما يمثل ذروة التمرد السيميائي على المصير.
مقطع من قصيدة "عطش"
> "صاد والماء بجوف فمي
والصدر يئن من الألم"
حرف "صاد" في بدايته هو مفتاح دلالي، يذكّر بأحرف القرآن، ويستدعي الغموض المقدّس. الجمع بين الماء و"جوف الفم" يشير إلى قرب النجاة، لكن "الصدر يئن" يكشف أن الاقتراب لا يعني الخلاص، وهو عطش لا يُروى.
> "عطش يزداد بشربته
عطشًا والسقيا كالحلم"
تناقض شعري وسيميائي قوي، فالفعل الذي من المفترض أن يشبع الحاجة (الشرب) يزيد العطش. وهذا ما يجعل السقيا مجرد حلم، حلم بعيد يتلاشى كلما اقترب.
> "والحلوى ماء أطلبها
وفؤادي بالتشراب دمي"
هنا تتحول "الحلوى" إلى ماء، أي أن كل جميل يتحول إلى وسيلة للبقاء، بينما القلب يروى لا بالماء بل بـ"الدم"، أي أن الحياة تُدفع مقابل الألم
> "وجفون الليل تغمدها
نوم، وجفوني لم تنم"
يتجلى هنا التباين بين الكون والشاعر: الكون ينام، أما العاشق فيسهر، مما يخلق عزلة سيميائية بين الذات والعالم.
> "والشوق يقطعني إربًا
وأعض الكف من الندم"
"الشوق" يصبح سكينًا يفتت الجسد، و"عض الكف" هو رمز كلاسيكي في الأدب العربي للندم العميق، لكنه هنا محمّل بطاقة تدميرية
> "ريم لعبت بالعقل كما
لعبت خمر بحجة الشبم"
الريم معشوقة تخلخل التوازن العقلي، كما تفعل الخمر، والحجة الواهية هنا هي "الشبم" (البرد)، مما يُضفي بعدًا عبثيًا على التجربة العاطفية، وكأن العقل يُفقد من أجل مبررات لا تبرر.
> "رسخت في خلدي تقتلني
تختلف كنجم في الظلم"
الرمز يتحول هنا إلى علامة قاتلة، "الريم" لم تعد مجرد امرأة، بل كائن نجمي/قاتل، يتوهج في الظلمة، لكنه لا يمنح ضوءًا بل موتًا ناعمًا.
> "بنت الشيطان تراودني
كي أفرغ أرضًا ملء دمي"
تصل الرمزية هنا إلى أقصاها، فـ"بنت الشيطان" تُمثل الغواية المطلقة، والغرض منها تفريغ الأرض من دم الشاعر – وهي صورة مرعبة تمثل الرغبة في الفناء أو الاستسلام لفتنة مدمرة.
إنها نصوص تنتمي إلى حقل شعري مشبع بالرمزية الوجودية، والمجاز العشقي الصوفي، والمفارقة الموجعة. الأبيات تتحرك داخل فضاء دلالي مفتوح، تُفكك فيه الثنائيات: الحياة والموت، العطش والري، الحب والندم، الحضور والغياب. وقد أحكم الشاعر توظيف الرموز والعلامات لتعميق تجربته الإنسانية، فكل صورة تحمل بُعدًا رمزيًا يفيض عن معناه الظاهري، مما يجعل من شعره نصًا مفتوحًا للتأويل، ذا طاقة دلالية متعددة المستويات.
#للاإيمان_الشباني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟