أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - مسرح العبث: الوعي في حضرة اللاجدوى















المزيد.....

مسرح العبث: الوعي في حضرة اللاجدوى


محيي الدين ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 8365 - 2025 / 6 / 6 - 01:27
المحور: الادب والفن
    


في خضمّ الانهيارات الكبرى التي هزّت العالم في النصف الأول من القرن العشرين، وتحت وطأة الحروب العالمية، وأزمات الإيمان والعقل، وغياب اليقين الفلسفي، بزغ ما عرف لاحقًا بـ"مسرح العبث" كاتجاه فني يرفض الانسجام، ويحتفي باللا معنى، ويعيد تشكيل المسرح من خلال تفكيك قواعده ذاتها.
مسرح العبث ليس تيارًا فنّيًا بالمعنى التقليدي، بل هو تجربة فكرية وجمالية تُجسّد القلق الوجودي للإنسان الحديث، وتفكّكه الداخلي، وتيهه الزمني. لا يقدّم هذا المسرح عوالم متكاملة أو شخصيات نامية أو حبكات منضبطة، بل يُظهر الإنسان في لحظته العارية، حيث لا هدف، ولا خلاص، ولا تفسير.
بين الانفصال والانتظار: الذات في مرآة العدم:
في واحدة من أكثر اللحظات دلالة على استقبال مسرح العبث، عُرضت مسرحية "في انتظار غودو" لصموئيل بيكيت عام 1957 أمام 1400 سجين في سجن سان كوينتين. وقد فاجأ التفاعل العميق لهذا الجمهور المخرج هربرت بلاو، الذي شبّه المسرحية بمقطوعة جازية على المتلقّي أن يصغي لها "لأي شيء قد يجده فيها"1. وقال أحد السجناء بعد العرض: "غودو هو المجتمع"، في حين قال آخر: "إنه الخارج". لم يروا في المسرحية غموضًا، بل مرايا لذواتهم، في الانتظار، في العجز، في الإقامة داخل المجهول2.
مسرحية "في انتظار غودو" لا تُحكى، بل تُعايَش. "لا شيء يحدث، لا أحد يأتي، لا أحد يذهب"، يقول أحد الشخصيات، وهذه هي جوهر المسرحية: الزمن معلق، الذات تذوب في تكرار لحظة بلا هدف. موضوع المسرحية ليس "غودو"، بل "فعل الانتظار" ذاته، كحالة وجودية تمزج الألم بالفراغ، والزمن بالتحلل3.
العبث كتجربة ميتافيزيقية: ما بعد الحقيقة:
إن العبث، كما يوضّحه ألبير كامو، ليس إنكارًا للوجود، بل إدراك الانفصال المروّع بين الإنسان والعالم. فحين يُسلب العالم أوهامه ونوره، يشعر الإنسان بالغرابة، وكأنه في منفى داخلي لا رجعة منه4. هذا الانفصال يولّد إحساسًا بالعبثية، حيث لا معنى مطلق، ولا غاية عليا، ولا انسجام داخلي بين الفعل ومآله.
يعيدنا هذا إلى تعريف يوجين يونسكو لمفهوم العبث: "العبث هو ما يخلو من هدف... بانقطاعه عن جذوره الدينية والميتافيزيقية والمتعالية، يضيع الإنسان؛ وتصبح جميع أفعاله عبثية، لا معنى لها، ولا جدوى منها"5. لذلك، فإن مسرح العبث لا يدّعي تفسيرًا، بل يُقدّم صورًا حسية للانفصال والتصدّع، عبر التناقض، والانقطاع، والفراغ، كبدائل للفهم الخطي والمنطقي.
مفارقة اللغة: بين طنين الوجود وصمت المعنى:
يتعامل صموئيل بيكيت مع اللغة كمعضلة. إنها الوسيلة الوحيدة للتواصل، لكنها في ذات الوقت غير صالحة للتعبير عن الحقيقة العميقة. في عالم بلا يقين، تصبح الكلمات مجرد ألعاب صوتية، لا تؤدي إلى معنى، بل تكشف عن هشاشته. "لا شيء أكثر واقعية من العدم"، يقول بيكيت، وهو ما يعكس موقفه من اللغة كأداةٍ لفشل الوعي6.
اللغة في "في انتظار غودو" ليست حوارًا بالمعنى الدرامي، بل محاولة دائمة للفشل في التواصل: تكرار، ترادف، صمت، وتحوّلات بلا جدوى. إنّ الشخصيات لا تتفاهم، بل تتكلم لأن الصمت أشدّ إيلامًا. فالكلمات لا تُجلي المعنى، بل تحجبه. والأسئلة لا تحتاج إلى إجابة، بل تفضح غيابها7.
الشكل والمضمون: وحدة التمزّق:
يتميّز مسرح العبث بقدرته على دمج الشكل بالمضمون في وحدةٍ عضوية تعبيرية. فليس هناك انفصال بين الموضوع المطروح، والطريقة التي يُقدَّم بها. فغياب الحبكة، وتكرار المشاهد، وتحوّل الحوار إلى دائرة مغلقة، جميعها ليست انحرافًا عن القواعد، بل هي جوهر الرؤية العبثية التي تنكر الغائية، وتُظهر الزمن كتيه لا ينتهي8.
لهذا، يُعدّ العبث أقرب إلى الشعر والحدس منه إلى المنطق والعقل، فهو يتجاوز الواقعية والوجودية إلى تخوم الميتافيزيقا السلبية، حيث يكون السؤال أقوى من الجواب، والفراغ أصدق من الكلمة.
العبث والتحرر: نحو أفق ما بعد استعمار المعنى:
يذهب بعض النقّاد إلى أن مسرح العبث يُشكّل نوعًا من تحرير الذات من استعمار اللغة والثقافة، حيث يصبح التجريد والانقطاع و"اللاوعي" أدوات للوعي العميق بالوجود. وكما تقول الدكتورة ديشا مادان، فإن إدراك العدم لا يؤدي إلى اليأس، بل يُمكن أن يصبح لحظة تحوّل للذات نحو وعي جديد، يتحرّر من الحلول الجاهزة والمفاهيم الاستعمارية المغلقة9.
في هذا السياق، يتقاطع العبث مع طقوس التطهير النفسي، في التحليل الفرويدي، حيث مواجهة اللاوعي تُصبح لحظة تحرر من الخوف، من التكرار، من الزمن، ومن الوهم. ولذلك، فإن تأثير العبث لا يقف عند عتبة المسرح، بل يمتد إلى الذات، ويغيّر نظرتها إلى الحياة، والمعنى، والوجود.
نحو مسرح ما بعد المعنى:
إنّ مسرح العبث ليس عبثًا، بل حفرٌ في طبقات المعنى الغائب. هو محاولة فنية لتمثيل العالم كما هو: مُشوّه، متكرر، صامت، عاجز عن احتواء الإنسان. وهو في ذلك لا ينكر المعنى، بل يُعلن موته، ويقدّم العدم كاحتمال فلسفي، لا كحكم نهائي.
وفي مواجهة هذه الصياغة المأساوية، لا يبقى للإنسان سوى أن ينتظر، أن يتكلّم بلا جدوى، أن يُعيد الخطوات ذاتها، وأن يدرك، في لحظة ما، أنّه ليس وحده من ينتظر.

المراجع:
1. Esalen, Martin. Theatre of the Absurd. Bloomsbury, 2014, p. 1. ↩
2. عسالين ، مارتن. مسرح العبث . بلومزبري ، 2014 ، ص.
3. San Francisco Chronicle, July 1958, coverage of the San Quentin performance of Waiting for Godot. ↩
4. San Francisco Chronicle ، يوليو 1958 ، تغطية أداء San Quentin لـ في انتظار Godot
5. Beckett, Samuel. Waiting for Godot. London: Faber & Faber, 1959, p. 41.
6. بيكيت ، صموئيل. في انتظار Godot . لندن: فابر وفابر ، 1959 ، ص. 41. ↩
7. Camus, Albert. Le Mythe de Sisyphe. Gallimard, 1942, p. 18.
8. كاموس ، ألبرت. le mythe de sisype . جاليمارد ، 1942 ، ص. 18. ↩
9. Ionesco, Eugene. "Armes de la ville," Cahiers de la Compagnie Madeleine Renaud – Jean-Louis Barrault, Paris, No. 20, Oct. 1957.
10. Ionesco ، يوجين. "Armes de la Ville ،" cahiers de la compagnie Madeleine Renaud-Jean-Louis Barrault ، Paris ، No. 20 ، Oct. 1957.
11. Beckett, Samuel. Malone Dies, in Molloy/Malone Dies/The Unnamable. London: John Calder, 1959, p. 193. ↩
12. بيكيت ، صموئيل. Malone يموت ، في Molloy/Malone يموت/لا يمكن تسليمه . لندن: جون كالدر ، 1959 ، ص. 193
13. Beckett, quoted in Harold Hobson & Alan Schneider, ibid. ↩
14. Beckett ، مقتبس في Harold Hobson & Alan Schneider ، المرجع نفسه .
15. Schneider, Alan. “Waiting for Beckett.” Chelsea Review, New York, Fall 1958. ↩
16. شنايدر ، آلان. "في انتظار بيكيت." مراجعة تشيلسي ، نيويورك ، خريف 1958
17. Disha Madan. Absurdity of the Absurd: The Metaphysical Narrative of Nothingness, IJSELL, Vol. 4, Issue 3, March 2016, pp. 18–21
18. ديشا مادان. العبث من العبث: السرد الميتافيزيقي للعدم ، ijsell ، المجلد. 4 ، العدد 3 ، مارس 2016 ، الصفحات 18-21



#محيي_الدين_ابراهيم (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسرحية حكايات الشتا رائعة المخرج محمد العشري على مسرح الغد
- السعادة بين الفلسفة والعرفان: دراسة مقارنة في تصور ابن سينا ...
- مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء التاسع - الحلقة السابعة ...
- مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء الثامن - الحلقة السادسة ...
- مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء السابع - الحلقة الخامسة ...
- أثر الفكر الشيوعي على هندسة الواقع السياسي المعاصر ( الجزء ا ...
- مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء السادس - الحلقة الرابعة ...
- حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء السادس )
- أثر الفكر الشيوعي على هندسة الواقع السياسي المعاصر ( الجزء ا ...
- أثر الفكر الشيوعي على هندسة الواقع السياسي المعاصر ( الجزء ا ...
- أثر الفكر الشيوعي على هندسة الواقع السياسي المعاصر ( الجزء ا ...
- حامد عويس شيخ التشكيليين العرب ( الجزء الخامس )
- مذكرات تحية جمال عبد الناصر ( الجزء الخامس - الحلقة الثالثة ...
- العالم الحتمي والإرادة الحرة ( الجزء الثالث والأخير )
- العالم الحتمي والإرادة الحرة ( الجزء الثاني )
- العالم الحتمي والإرادة الحرة ( الجزء الأول )
- بين أختراع الحقيقة وإكتشافها ( الجزء الثاني والأخير )
- بين اختراع الحقيقة وأكتشافها ( الجزء الأول )
- فم الذئب
- الفنان حسن فايق أيقونة الكوميديا


المزيد.....




- مقدم كوميدي أمريكي شهير يعلّق على خلاف ترامب وماسك ويثير ضحك ...
- فنانة أمريكية مثيرة تطلق صابونا من ماء الاستحمام الخاص بها.. ...
- فيلم -فلو- يتجاوز 57 مليون دولار في إنجاز غير مسبوق للرسوم ا ...
- -سوذبيز- تطرح سترة سينمائية شهيرة من الثمانينيات بمزاد علني. ...
- رحيل الفنانة العراقية غزوة الخالدي بعد مسيرة حافلة على خشبة ...
- هيئة محلفين أمريكية تفشل في إصدار حكم ضد المنتج السينمائي ها ...
- صيف 2025 السينمائي.. منافسة محتدمة وأفلام تسرق الأضواء
- آدم نجل الفنان تامر حسني يدخل العناية المركزة إثر أزمة صحية ...
- فضيحة جديدة تهز الوسط الفني في مصر (فيديو)
- مخرج أفلام إباحية كان من بين أكثر المطلوبين لـ FBI يقر بالذن ...


المزيد.....

- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محيي الدين ابراهيم - مسرح العبث: الوعي في حضرة اللاجدوى