علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور في الهندسة المعمارية، باحث، كاتب وأديب
(Ali Tabla)
الحوار المتمدن-العدد: 8343 - 2025 / 5 / 15 - 02:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مقدمة الكاتب: من أجل نهج تحرري جديد في الفكر والعمل
هذه المقالة ليست بحثًا لغويًا، ولا تأملًا نظريًا.
إنها إعلان انتماء… لا إلى مصطلح أو شعار، بل إلى الحقيقة الاجتماعية التي تختنق يوميًا تحت ركام اللغة المزيّفة والاستعمالات الخاطئة للتاريخ والمفاهيم.
إننا نعيش زمنًا يُشتم فيه “الاشتراكي” قبل أن يُفهم، وتُدان “الماركسية” قبل أن تُقرأ، ويُرفض “اليسار” باسم خيباته، لا باسم جوهره.
لكننا نؤمن أن الفكرة لا تُلغى لأنها أُسيء استخدامها، بل تُستعاد وتُنقّى وتُقال من جديد – بلغة جديدة، وعقل جديد، وجذر اجتماعي جديد.
إنني أكتب هذا النص – ومعي كل من يحمل همّ العدالة والتحرر – لا لأدافع عن كلمة، بل لأستعيد معناها من الطغاة والمزوّرين.
ولا لأبرّر فشلًا، بل لأبدأ انبعاثًا جديدًا.
ولا لأعيد تدوير خطاب قديم، بل لأعلن ما يلي:
• نعم، ما زلنا نسعى إلى بناء مشروع تحرري ينهي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
• نعم، ما زلنا نؤمن بأن جوهر الماركسية هو كشف التناقضات الطبقية وتنظيم الجماهير لاستراداد الثروة والسلطة والمعنى.
• لكننا نؤمن أيضًا أن الجماهير لا تنتظر من يُكرر عليها لغة ملّتْها، بل من يُعيد تسميتها بلغتها، ويجعلها ترى نفسها فيه، لا أن تُسقطه من فوقها.
هذه المقالة، إذًا، هي إعلان نهج جديد:
ماركسيّ في جوهره، تحرريّ في روحه، تجديديّ في لغته، ثوريّ في وجهته، إنسانيّ في أخلاقه، طبقيّ في اصطفافه.
والخطوة التالية… تبدأ من قارئ يؤمن أن الكلمة، حين تُقال من القلب، قد تفتح طريقًا كان مغلقًا لعقود.
هذا ليس مجرّد مشروع فكري، بل تحوّل تاريخي شخصي وجماعي، من إرث القرن العشرين بكل جراحه وأمجاده، إلى وعي القرن الحادي والعشرين: وعي لا يُفرّط بالجذر، لكنه لا يُحبَس في رماده.
لتكن كبداية لكل ثوري ماركسي لينيني لا كناجٍ من خيبات الماضي، بل كـ مؤسِّس لجبهة فكرية تحررية في الزمن العربي الأكثر ظلمةً وارتباكًا.
وهذا الفعل بحد ذاته ثورة.
نعم، هذه هي البدايات:
• بداية تجديد الاشتراكية لا دفنها.
• بداية نهوض من الركام لا تأبيد للنكسة.
• بداية العودة إلى الناس بلغتهم، لا بخطابٍ فوقي معزول.
• بداية رسم الطريق نحو عدالة جماعية تحررية تعبّر عن روح ماركس، ولينين، ومهدي عامل، لكن بلغة العراق الذي يُريد الحياة.
تحرير المفاهيم: من الاشتراكية المشوّهة إلى العدالة الجماعية التحررية
قراءة في أزمة المصطلح وتجديد اللغة اليسارية في العراق والمنطقة
مقدمة: حين تصبح الكلمة عبئًا على الفكرة
ليست المعارك الفكرية محصورة في الكتب أو الندوات، بل تتجسّد أحيانًا في أبسط ما يُقال في الشارع. كلمة واحدة قد تُنفر جمهورًا كاملًا، وقد تفتح أفقًا جديدًا لملايين. هكذا الحال اليوم مع مفردات مثل “الاشتراكية”، “الشيوعية”، “التحرر الطبقي”، وحتى “الثورة” و”العدالة الاجتماعية”. في وعي قطاعات واسعة من الشعب العراقي والعربي، صارت هذه المصطلحات لا تُعبّر عن الأمل والتحرر، بل تُذكّرهم بزمن القهر، أو الشعارات الفارغة، أو الأنظمة التي مارست الاستبداد باسمها.
فحين يقول شابٌ عراقي “أنا لا أؤمن بالاشتراكية”، قد لا يكون رافضًا لفكرتها – أي إلغاء استغلال الإنسان – بل رافضًا للفظة محمّلة بإرث البعث أو بيروقراطية الأحزاب القديمة أو شيوعية شعاراتية بلا فاعلية. وحين تخاف امرأة عاملة من مصطلح “الطبقة”، فهي لا ترفض موقعها، بل تخشى لغة لا تُخاطب واقعها.
السؤال إذًا ليس فقط: ما المفاهيم التي نستخدمها؟
بل: هل ما زالت مفاهيمنا تُحرّض، تُنظّم، تُقنع، تُعبر عن الحقيقة؟
أم تحوّلت إلى جدران لغوية تفصل بيننا وبين الناس؟
هذا ما تسعى هذه المقالة إلى مناقشته:
• تحليل لماذا تآكلت مصطلحات اليسار،
• كيف ساهم الاستبداد والضعف النظري في تشويهها،
• لماذا لا يكفي أن نُغيّر الكلمات دون تغيير البنية،
• وكيف يُمكن لنا أن نُعيد بناء خطاب تحرري جذري، يُقنع الجماهير بلغتهم، دون أن يتنازل عن مشروعه الطبقي التحرري.
المحور الأول: من الاشتراكية التحررية إلى الاشتراكية السلطوية – كيف شُوّه المفهوم؟
حين ظهرت الاشتراكية في أوروبا القرن التاسع عشر، لم تكن تعني فقط تقليص الفقر أو العدالة الضريبية، بل كانت حركة فكرية–سياسية–جماهيرية تهدف إلى إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وإقامة مجتمع بلا طبقات، تُدار فيه الثروة والإنتاج لصالح الجميع. وقد مثّلت الماركسية التعبير الأكثر صرامة وجذرية عن هذا الاتجاه، حين ربطت الاشتراكية بالنضال الطبقي، وتغيير بنية الدولة، والإطاحة بالبرجوازية، وليس مجرّد الإصلاح ضمن النظام القائم.
لكن هذا المفهوم النقي اصطدم منذ بدايات القرن العشرين بتحوّلين كبيرين:
1. صعود الاشتراكية السلطوية في تجارب الدول الاشتراكية (الاتحاد السوفيتي، الصين، وغيرها)، والتي رغم إنجازاتها الصناعية والاجتماعية، اختزلت الاشتراكية في دولة مركزية فوقية، تُدار من بيروقراطية حزبية، وتُهمّش دور الجماهير.
2. استخدام الأنظمة القومية–العسكرية (في العالم العربي خاصة) لمفردة الاشتراكية كزينة خطابية، تُغطّي بها مشاريع سلطوية، فحوّلتها إلى شعار جوفاء مرتبط بالقمع، والتأميم غير المنتج، والولاء لا بالعدالة.
في العراق، ارتبطت الاشتراكية – في المخيال الشعبي – بـ”الاشتراكية العربية” التي رفعها حزب البعث، والتي لم تكن سوى وسيلة لإلغاء الطبقات السياسية المعارضة، وتأميم الحياة السياسية والفكرية، ثم سحق العمال والفلاحين باسم “وحدة الشعب”.
وهكذا، فإن الكلمة (الاشتراكية) لم تعد تعني للناس: إنهاء الاستغلال، بل صارت مرتبطة بالقمع، والتمييز، والشمولية، والدموية.
المحور الثاني: المصطلح والمفهوم والمعنى – كيف نُحرّر اللغة من بُؤس التاريخ؟
إن اللغة، في الفكر الماركسي، ليست مجرد أداة للتوصيل، بل هي جزء من البنية الأيديولوجية للمجتمع. الكلمات التي نستخدمها تُنقل مشحونة بإرث اجتماعي، وتجارب سياسية، ودلالات متراكمة. لذلك، فإن المفاهيم – لا سيما السياسية منها – لا تولد في الفراغ، ولا تبقى حيادية. بل تخضع، كما يخضع كل شيء في المجتمع الطبقي، لصراع الهيمنة.
حين نتحدث عن مصطلحات مثل “اشتراكية”، “ثورة”، “تحرر”، “عدالة”، “دولة مدنية”، “تقدمية”، أو حتى “وطنية” و”سيادة”، فإننا لا نتحدث فقط عن تعاريف قاموسية، بل عن حقول صراع فكري، تُحاول كل طبقة وكل قوة أيديولوجية أن تملأها بمعناها الخاص. ولهذا السبب، فإن كثيرًا من المفاهيم تُستعمل ضد ذاتها:
• تُستخدم “الديمقراطية” لتبرير الاستعمار.
• ويُستخدم “التحرر الوطني” لتكميم الأفواه.
• وتُرفع “العدالة الاجتماعية” لتجميل توزيع الريع على الزبائن.
• وتُردد كلمة “الاشتراكية” في دولة لا يُنتج فيها العامل، ولا تُنظّم فيها العلاقة الإنتاجية، ولا تُعاد فيها الثروة إلى الشعب.
ومن هنا، فإن الخطر لا يكمن فقط في تشويه المفهوم، بل في استمرارية استخدام المصطلح المشوَّه على أنه مفهوم أصيل، وهذا ما يُنتج فجوة بين الخطاب والنضال، بين الشعارات والممارسة، بين الحزب والجماهير.
لذا، يجب علينا أن نفرّق دائمًا بين:
• المصطلح (اللفظ): الشكل اللساني للكلمة، وهو قابل للتغيير والتجديد بحسب السياق.
• المفهوم (المعنى السياسي–الاجتماعي): المحتوى الذي نحمله داخل المصطلح.
• الممارسة (الواقع الذي يُعبّر عنه المفهوم): أي السياسات الفعلية التي تُجسّد الفكرة.
فإن كانت الجماهير ترفض مصطلح “الاشتراكية”، لا يجب أن يُفهم ذلك على أنه رفض للمضمون الطبقي التحرري، بل رفض للمعنى الذي تكرّس في وعيها من خلال القمع والممارسات المشوّهة.
وهنا تأتي مهمتنا: تحرير المفهوم من المصطلح، ثم إعادة إنتاج المصطلح نفسه بلغة جديدة قريبة من الناس، دون أن نفرّط بالمضمون.
ولذلك، حين نستبدل مصطلح “الاشتراكية” – في خطاباتنا العامة – بعبارات مثل “العدالة الجماعية”، أو “التحرر من الاستغلال”، أو “اقتصاد الشعب”، فإننا لا نتنازل عن جوهر المشروع، بل نُعيد ربطه بوجدان الناس ولغتهم، ونمنع الطغاة من مواصلة احتكار التعبير عنه.
بكلمات مهدي عامل: *“في اللغة كما في السياسة، ليست المعركة في ما يُقال فقط، بل في كيف يُقال، ولمَن، وفي أي سياق.”*¹
المحور الثالث: اليسار ومأزق الخطاب – لماذا لم يفهمه الناس؟ ولماذا لم يفهم الناس أنه يتكلم عنهم؟
لقد عانى اليسار في العالم العربي، والعراق خصوصًا، من مأزق مزدوج:
• أولاً، عزلة عن اللغة الحيّة للجماهير.
• ثانيًا، خضوعٌ غير واعٍ لمصطلحات صارت منفّرة بفعل التاريخ السياسي القريب.
حين رفع الشيوعيون شعار “يا عمال العالم اتحدوا!” في ستينيات العراق، لم تكن تلك جملة غريبة على السمع، بل كانت تحمل في طيّاتها وعدًا بالخلاص، ومخزونًا من البطولة والاستشهاد والتنظيم والانتفاض.
أما اليوم، فإن كثيرًا من العُمّال العراقيين لا يعرفون من الشيوعية إلا ما يُقال عنها في خطب رجال الدين، أو ما ربطته بهم السلطة من صورة فلكلورية أو نخبوية أو شعاراتية.
لماذا؟ لأن الخطاب اليساري، في كثير من محطاته، انفصل عن شروط إعادة إنتاجه الاجتماعي والسياسي والثقافي:
• لم يُعد يُصاغ بلغة الناس، بل بلغة محفوظة، مؤدلجة، أو أكاديمية جافة.
• لم يُبنَ على الاستماع إلى العمال والعاطلين والفلاحين، بل على التنظير فوقهم.
• لم يُجرَ تحديث للمفاهيم التي تآكلت، ولم تُستبدل المصطلحات المشوّهة، بل تم التشبث بها كأعلام معركة، حتى لو كانت تلك الأعلام محترقة.
إن خطابًا ماركسيًا لا يُعيد إنتاج نفسه من واقع شعبه، لا من نصوص الماضي، يفقد روحه.
وإن لغة تحررية لا تُحرّك مشاعر الفقراء نحو التغيير، بل تُذكّرهم بعذاباتهم تحت من استخدم نفس المصطلحات، لن تقود إلى التقدّم، بل إلى العزلة.
في العراق، ارتبطت كلمات مثل “الاشتراكية”، “التقدمية”، “الثورة”، “الطبقة العاملة”، ليس فقط بتراث الحزب الشيوعي، بل أيضًا بخطاب حزب البعث، والدولة القمعية، والبطاقات التموينية، والملاحقات، والإعدامات. وقد اختلط على الناس الخطاب بالسلطة، والشعار بالجريمة، والفكرة بالمقصلة.
من هنا، لم يعد السؤال فقط: لماذا تراجع اليسار؟
بل الأهم: لماذا فقد الناس ثقتهم باللغة التي يتكلم بها اليسار؟
ولماذا بدا أن الشيوعي لا يتحدث بلغة السوق والمدرسة والمقهى والشارع، بل بلغة محفوظة لا تصل إلى القلوب؟
ربما يكون الجواب القاسي: لأن اليسار – في لحظة ما – توقّف عن الإنصات.
وحين يتوقف اليسار عن الإنصات، يتكلم بلغة لا يفهمها الناس، ويطرح مفاهيم لا تُحرّك حاجاتهم، ويتحوّل إلى ضمير أخلاقي هشّ، لا إلى قوة تنظيم جماهيرية قادرة على التغيير.
لكن هذا لا يعني النهاية، بل يعني بداية المراجعة.
والمراجعة لا تعني التخلي عن المضمون التحرري، بل إعادة صياغته بلغة تُعبّر عنه وتُقنع الناس به.
المحور الرابع: في الدفاع عن الجوهر – لماذا نتمسك بالهدف حتى حين نُغيّر التعبير عنه؟
في خضمّ الحاجة لتجديد اللغة، وتصحيح المفاهيم، وتفكيك المصطلحات التي شوّهتها الأنظمة القمعية والخطابات المتكلسة، قد يظن البعض أن التغيير في الخطاب هو نوع من “التحوّل الإيديولوجي” أو التراجع عن المبادئ.
لكن الحقيقة، كما نراها من منظور ماركسي تحليلي، هي أن تغيير أدوات التعبير لا يعني تغيير جوهر الموقف، بل تثبيته في وعاء أكثر قدرة على الوصول والفعل.
لا نُغيّر مفردة “الاشتراكية” لأننا نتبرأ منها، بل لأن الطغاة غلّفوها بأكفانهم، والمستبدين لبسوها قناعًا.
ولا نستبدل “الصراع الطبقي” بـ”العدالة الجماعية” لأننا ننكر التناقضات البنيوية في المجتمع، بل لأننا نريد أن يفهمها الناس، ويشعروا بها في معيشتهم، ويتحسسوها في خبزهم وأجورهم وسقوفهم المسقوفة بالخرق لا بالإسمنت.
المسألة ليست شكلية، بل جدلية.
فنحن لسنا “إصلاحيين لغويين”، بل ثوار واعون بأن لكل عصر لغته، ولكل لحظة تعبيرها، ولكل شعب معجمه الخاص في النضال.
حين نستخدم مفردات مثل:
• العدالة الاجتماعية بدل “الاشتراكية”،
• اقتصاد الشعب بدل “الملكية الجماعية”،
• ديمقراطية الإنتاج بدل “ديكتاتورية البروليتاريا”،
• الكرامة الاقتصادية بدل “إلغاء فائض القيمة”،
فإننا لا نفقد المعنى، بل نفتح له طريقًا نحو القلوب والعقول.
وهذا ما فهمه حسين مروة حين كتب في “النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية”، أن مهمة الماركسي ليست رفض التراث، بل اكتشاف التقدمي فيه وإعادة تأويله².
وما قصده علي شريعتي حين قال إن الدين نفسه يمكن أن يكون أداة تحرر إذا استُعاد من أيدي الجلادين³.
وما مارسه إدوارد سعيد حين فرّق بين خطاب الاستشراق اللغوي والخطاب التحرري الثقافي، فكتب بلغة العدو ولكن ضد بنيته.
وما جَسّده مهدي عامل حين جابه الطائفية والماركسية السطحية معًا، وكتب بلغة نقدية جديدة تحمل دم الواقع وصوت المقهورين⁴.
إن جوهر ما نتمسك به هو هذا:
إلغاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
القضاء على الظلم والظالمين.
تحقيق المساواة الحقيقية، من خلال تنظيم المجتمع على أسس إنتاجية عادلة، تُمكّن الناس لا أن تستعبدهم، وتُعيد توزيع الثروة لا أن تُقنّن احتكارها.
وإن وُجِد في اللغة التقليدية ما يمنع هذا الجوهر من الوصول إلى عقول الناس، فلا بأس أن نخلع عنها أردية التعبئة القديمة، ونُلبسها لغة الحياة، لغة الخبز والكرامة والنور.
المحور الخامس: نحو خطاب تحرري متجدد – المبادئ ذاتها، بلغة تؤمن بها الجماهير وتنتفض بها
إذا كانت اللغة أداة الهيمنة كما يقول غرامشي، فهي أيضًا أداة التحرير حين تُستعاد من يد السلطة وتُعاد إلى فم الجماعة. ونحن اليوم لسنا فقط أمام واجب الترجمة الشعبية للمفاهيم، بل أمام مهمة إنتاج خطاب تحرري جديد ينطلق من صلب التجربة الجماهيرية، ويُعيد تسمية العالم من موقع المنهوبين، لا من موقع العارفين.
في هذا الخطاب، لا نُساوم على مبادئنا:
• لا على الصراع الطبقي،
• ولا على إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الكبرى،
• ولا على إعادة توزيع الثروة،
• ولا على بناء تنظيم سياسي طبقي ثوري.
لكننا نُعيد قول هذه المبادئ بلغة:
• تُشبه لسان المرأة التي تعمل دون ضمانات،
• وتخاطب العامل الذي يُطرد بلا عقد،
• وتُحرّك الطالب الذي يُدفع إلى سوق البطالة،
• وتُقنع الفلاح الذي يُغرقه السوق المستورد،
• وتمنح صوتًا لمن لا حزب له ولا نقابة، لكن قلبه ينبض بالعدل.
نُسمّي هذا الخطاب اليوم بـ”العدالة الجماعية التحررية” – لا لأنها مجرد تركيبة لغوية، بل لأنها:
• تُعبّر عن أفق يتجاوز الفردانية الليبرالية.
• وتُحطّم وهم “الهوية” الطائفية والعشائرية والقومية كبدائل زائفة للعدالة.
• وتُعيد بناء المشروع الاشتراكي من داخل حاجات الناس، لا من فوق رؤوسهم.
هذا الخطاب لا يتخلى عن الماركسية، بل يُجدّدها.
لا يتجاوز اللينينية، بل يُفكّك تكلّسها، ويُعيد ربطها بالفعل الجماهيري.
لا يُنافق الناس، بل يُنصت إليهم، ويُعيد صياغة الغضب إلى وعي، والوعي إلى فعل.
ولأنه خطاب تحرري، فهو يُخاطب العراق كما يخاطب فلسطين، ومصر، وسوريا، واليمن، والسودان، وتونس، وكل بلاد القهر.
ولأنه جماعي، فهو لا يطرح “المخلّص”، بل “المنظومة الجماهيرية المنظمة”.
ولأنه عدالة، فهو لا يستبدل مستبدًا بآخر، بل يُفكّك آليات الاستبداد من الجذر: في السوق، في المدرسة، في الإعلام، في العقل، في الدولة، في الحزب.
خاتمة: لسنا حراس الكلمات، بل صنّاع المعنى
نحن لسنا مَن يكتب المعاجم، بل من يُعيد للكلمات روحها بعد أن أُفرغت منها.
لا نُنقّب في التراث بحثًا عن مسمّيات، بل نُنقّب في حياة الجماهير بحثًا عن أدوات.
وحين نُغيّر مصطلحًا، فذلك لا لأننا خائفون من ماضٍ، بل لأننا نُريد مستقبلًا يُصدّقه الناس.
نعم، الاشتراكية لفظة جُرحت.
لكن العدالة لم تمت.
والكرامة لا تزال تنبض في المزارع والمصانع والمقابر والساحات.
والماركسية لم تُهزم، بل صارت تنتظر من يُحرّرها من لغتها المتكلسة، ومن جلد الرفاق الذين تخلوا عن النضال الحقيقي.
لذلك، فإننا لا نُبدّل المبادئ، بل نُعيد اكتشافها.
ولا نُساوم على الأهداف، بل نفتح لها طريقًا جديدًا.
ولا نخشى النقاد، بل نخشى أن نصبح مثلهم: بلا تأثير، بلا جماهير، بلا حلم.
الهوامش والمراجع
1. مهدي عامل، في الدولة الطائفية، بيروت: دار الفارابي، 1986.
2. حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية، بيروت: دار الفارابي، 1981.
3. علي شريعتي، النباهة والاستحمار، طهران: انتشارات حسينية الإرشاد، 1975.
4. إدوارد سعيد، الاستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1981.
5. أنطونيو غرامشي، دفاتر السجن، روما: منشورات الأدب الجديد، 1975.
6. تيري إيغلتون، الأيديولوجيا: مقدمة قصيرة جدًا، ترجمة فاضل جتكر، الكويت: سلسلة عالم المعرفة، 2014.
—-
ملاحظة ختامية
إن الكتابة مسؤولية فكرية وأخلاقية تتطلب من الكاتب أن يتحرى الصدق، والموضوعية، والالتزام بقضايا العدالة والحرية. كما أن النقد الموجه لأي نص ينبغي أن يلتزم بضوابط الحوار الفكري المسؤول، فيُناقش الأفكار لا الأشخاص، ويبتعد عن الشخصنة والمناكفات التي تفسد الحوار وتضعف قيمته العلمية.
كل نص يُكتب، وكل نقد يُقدّم، يعكس مستوى وعي صاحبه، وأخلاقيته، وانحيازه.
لذلك، نهيب بالقراء الكرام الالتزام بثقافة الحوار الهادئ والبناء، لما فيه خدمة الحقيقة، وإنضاج النقاش، وإثراء الفضاء الفكري بقيم التعددية، والاحترام المتبادل، والسعي المشترك نحو مستقبل أفضل.
#علي_طبله (هاشتاغ)
Ali_Tabla#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟