علي فضيل العربي
الحوار المتمدن-العدد: 7857 - 2024 / 1 / 15 - 22:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ما قامت به حكومة جنوب إفريقيا في رفعها دعوة ضد الكيان الاسرائيلي في محكمة العدل الدوليّة بـ ( لاهاي ) سابقة تاريخية و إنسانيّة تُحسب لبلاد الزعيم الثوري الخالد نلسون مانديلا . و هي عدوة عجزت عن القيام بها حكومات أمّة إقرأ ن التي يزيد عدد (غاشيها ) عن المليار و النصف . و هو دليل – رغم وجود علاقات دبلوماسية بينها و بين تل أبيب . لقد استطاعت جنوب إفريقيا أن تتجاوز المصالح الاقتصادية و تضرب بها عرض الحائط ، و انتصرت للقيّم الإنسانيّة النبيلة ، و على رأسها نصرة المظلوم مهما كانت جنسيته و موقعه و لونه و لغته و هويته ، و الوقوف في وجه الظالم مهما كانت قوته و هويّته . لقد عانت جنوب إفريقيا من الميز العنصري ( الأبارتايد ) عقودا من الزمن ، منذ الغزو الاحتلال الهولندي و الاستيطان الغربي . و ذاق أهلها مرارة التعذيب و التقتيل و التطهير العرقي و الإبادة الجماعيّة ، و خبروا قساوة الظلم و العبوديّة . فلا غرو أن تُقدم حكومة جنوب إفريقيا ، و تكون السبّاقة في المطالبة بمحاسبة مجرمي الحرب الصهيونيّة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة و الضفّة الغربيّة .
و ما يثلج الجوانح حقا ، تلك المرافعة التي أدّها المحاميّة الجنوب إفريقيّة ، عديلة هاشم ، بكل اقتدار و مهنيّة و موضوعيّة و روح إنسنيّة شفّافة ، مقرونة بأدّلة دامغة و وقائع ثابتة ، نقلتها كاميرات العالم ، و شاهدتها عيون الأحرار عبر كوكبنا الأرضي إلاّ تلك العيون العمياء او الحولاء ، و تفاعلت معها الضمائر الإنسانيّة الحرّة ، الحيّة إلاّ تلك الضمائر التي رانت الله عليها أكاذيب الصهاينة وأوهامهم و أنبائهم المزيّفة .
و ممّا جاء في مرافعة المحامية الجنوب إفريقية عديلة هاشم ، عضو الفريق الجنوب الإفريقي في محكمة العدل : " غزّة التي تُعدّ واحدة من أكبر الأماكن كثافة سكانية في العالم ، هي موطن حوالي 2.3 مليون فلسطيني نصفهم تقريبا أطفال . خلال 96 يوما الماضيّة خضعت غزّة لما وُصف بأنّه واحدة من أشدّ حملات القصف في تاريخ الحرب الحديثة . الفلسطينيّون في غزّة يُقتلون بأسلحة و قنابل إسرائيليّة من الجوّ و البرّ و البحر ، كما أنّهم معرّضون لخطر الموت الفوري ، بسبب الجوع و العطش و الأمراض ، نتيجة للحصار المستمّر من قبل إسرائيل ، و تدمير المدن الفلسطينيّة و عدم كفاية المساعدات المسموح بها للوصول إلى السكان الفلسطينيين ، و استحالة توزيع هذه المساعدات المحدودة أثناء سقوط القنابل "
لعلّ العالم الغربي المؤيّد للصهاينة تأييدا مطلقا ، و على رأسه الولايات المتّحدة الأمريكيّة و انجلترا ، يستفيق من رعونته ، و يستعيد وعيه ، و يثوب إلى رشده ، و يضع الحقيقة في موضعها . و إنّه لمن مصلحة العالم الغربي أن يدرك – قبل فوات الأوان – الخطر الذي تمثّله الإيديولوجيّة الصهيونيّة على شعوب العالم جمعاء . و يعي العقلاء أنّ الفكر الصهيوني لا علاقة له بالملّة اليهوديّة – الموسويّة ، و لا بالإبراهميّة التي تروّج لها بعض الأقلام لثقافيّة الغربيّة و المنابر السياسيّة ، بهدف ترسيخ فكرة التعايش السلمي في الشرق الأوسط ، و ترجمة فكرة حلّ الدولتين على مبدإ الأرض مقابل السلام . و هي أفكار يوتوبيّة و مساع فاشلة سلفا ، لأنّ قائمة في نيّتها و غايتها على تصفيّة القضيّة الفلسطينيّة ، و على رأسها إخماد روح المقاومة في نفوس الأجيال الفلسطينيّة ، إضافة إلى زرع ثقافة النسيان و إعدام الذاكرة و الاستسلام للأمر الواقع .
لقد عرّت الهجمة الشرسة على أهل غزّة الوجه الحقيقي البشع للصهيونيّة العالميّة - التي يريد الغرب و أذنابه من المطبّعين العرب و المطبّلين - و هو وجه عمل الغرب و سعى بكل الوسائل الماديّة و المعنويّة و الأخلاقيّة إلى تجميله في غرف الزيف و الخداع ، و تقديمه للعالم في صورة أفلاطونيّة مثاليّة . و إنّه لمن المؤسف حقّا أن يصدّق العقل الغربي الأوهام و الأساطير و التقاريرالزائفة و يتغاضى ، بل يتعامى عن تصديق صور المجازر المروّعة و الإبادة الجماعيّة في غزّة الأبيّة . إنّ صهاينة القرن الواحد و العشرين قد أطهروا للعالم - بقصد أو بدونه – أنّهم على استعداد تام لتدمير البشريّة و تعجيل يوم القيامة بحجّة حقّ الدفاع عن النفس . فقد ألقت طائراتهم الحربيّة المصنّعة في الولايات المتصنّعة الأمريكية و دول الغرب ، آلاف الأطنان على رؤوس السكان الأبرياء ؛ من الأطفال و الرضع و النساء و الشيوخ ، ثم يأتي قادة الصهيونيّة إلى وصف جيشهم بأنّه أكثر أخلاقيّة في العالم . فكيف كان سيفعل بأهل غزّة لم يكن كذلك ، كما زعم قادة الكذب و التزييف ؟ إنّه ، فعلا ، كما قالت العرب قديما ( شرّ البليّة ما يضحك ) ، و إنّه لضحك مؤلم لوطأة المأساة الفظيعة . إنّهم يكذبون كيّ يصدّقهم الغافلون ، عملا بمقولة غوبلز ( اكذب ، اكذب حتى يصدّقك الآخرون ) .
لقد أفحم فريق الدفاع الجنوب إفريقي بالدلائل الدامغة و الحقائق الثابتة المدعمة بالصور و المشاهد ، الفريق الصهيوني ، الذي ظهر مرتبكا ، قلقا ، ضائعا كجرذ في بالوعات لندن العتيقة . أمام هيئة المحكمة الدوليّة ، لكونه لا يملك ، في ملّفه ، ما يمكن أن يغطّي شمس الحقيقة ، و ينفي جناية الإبادة لجماعيّة و التطهير العرقي في غزة . و هو الذي أضاع محاميّه البريطاني بعض أوراقه و هو في الطريق إلى المحكمة للمرافعة ، و اختلطت عليه العبارات و الجمل و الكلمات . إنّه لمنظر يترجم ما وصلت إليه الفلسفة الغربيّة المتطرّفة والمتعجرفة .
إذا لم تسمّ الهجمة الصهيونيّة على الفلسطينيين في غزّة من جيش الهجوم الصهيوني - و ليس جيش الدفاع كما يزعمون – إبادة جماعيّة ، فما هي الوصفة المناسبة و التسميّة العادلة لها ؟ إذا لم يكن الحصار العسكري و المادي على غزّة ؛ قطع مواد الماء و الكهرباء و الدواء و الغذاء ، و منع دخولها من المعابر المعلومة ، كمعبر رفح ، إذا لم نسمّه هذا كلّه إبادة جماعيّة ، فما هي التسميّة اللائقة به ؟ فإذا لم نسمّها كذلك ، نكون قد ارتكبنا جناية لغويّة ، مصطلحيّة . مفهوميّة . لقد تعوّد الفكر الغربي المتطرّف على تزييف هويّة الآخر ، و سلب حقوقه اللغويّة ، و محو حسناته ، و إلصاق السيّئات به . إنّ الشرق - في نظر الغرب – هو منبع التطرّف و الإرهاب و الكراهيّة ، و هو مصدر الشرّ و التهديد . بينا الحقيقة أنّ الغرب هو المعتدي الحقيقي على الشرق . و هو الذي قام بتهجيرالصهاينة و بعض اليهود المغرّر بهم إلى فلسطين ، و بثّ فيهم روح العداوة للعرب و المسلمين و النصارى الفلسطينيين . و صوّر لهم فلسطين أرضا للميعاد ، و جنّتهم الموعودة .
و الحقيقة ، أنّ غباء الصهاينة و طمعهم و خبث سرائرهم ، أعمتهم عن إدراك المغزى من وعد بلفور ، و هو تهجير اليهود من أوربا و التخلّص منهم ، بعدما أثخنوهم تعذيبا و قتلا و إبادة . و ها هم الصهاينة يرتكبون ، بكل عنجهيّة و رعونة ، الإبادة التي تعرّض له أسلافهم بعد سقوط الأندلس و أثناء الحرب العالميّة الثانيّة على أيدي الصليبيين المدعومين بالفكر الكنسي المتطرّف .
حسنا ، لنفترض أنّ حماس منظّمة إرهابيّة و دمويّة ، و أن الفلسطينيين القاطنين بقطاع غزّة كلّهم إرهابيّون ، هل هذا يبيح لقادة الجيش الصهيوني " الذي يوصف بأنّه جيش دفاعيّ أكثر أخلاقيّة في العالم " أن يمارس الإبادة الجماعيّة و يحوّل غزّة إلى محرقة أشدّ اضطراما من المحرقة النازيّة .
و لنفترض أنّ أهل غزّة وحوش حيوانيّة - كما نعتهم أحد أعضاء مجلس الحرب الصهيوني – و قطعان من الذئاب و الثعالب ، هل يبيح ذلك قتلهم و إبادتهم بالشكل الوحشي . إنّه لمن العجب العجاب أن يرتكب الصهاينة جرائمهم الفظيعة على مرأى من العالم ، الذي يتشدّق بالحريّة و حقوق الإنسان و الحيوان .
إنّ منطق القوّة الضاربة و العنجهيّة و الساديّة و الاستعلاء ، هو الذي يزجي أساطيل الولايات المتحدة و غلمانها الغربيين في خوض غمار البحار و المحيطات البعيدة عن مياهها الإقليميّة و أراضيها ، و كأنّها تمتلك تفويضا من شعوب الأرض كلّها . و لا أدري كيف يسير هذا التناغم بانسجام بين الجمهوريّة الديمقراطيّة الأمريكيّة من جهة و الصهيونيّة من جهة أخرى ، بين الحريّة و الاستبداد ، بين حقوق الإنسان و الإبادة الجماعيّة . هل أصيب الغرب بالعمى أمام هذا الجنون الصهيوني ؟ أم أذهب عقله سحرة فرعون ؟
إنّ ادّعاء الصهاينة بأنّهم ساميّون ، لا أساس له من الصحّة ، و لا تؤيّده سلوكاتهم و أخلاقهم و جرائمهم في حق الشعب الفلسطيني منذ أكثر من سبعة عقود . إنّ الساميّة براء من الصهاينة ، بل ما أبعد هذا الكيان الصهيوني عن الملّة اليهوديّة ، الموسويّة ، و العرق السامي . هل من شيّم السامييّن إبادة الأطفال و النساء و الرضع الحدّج و الشيوخ و المرضى و الأسرى ؟ هل من أخلاقهم قنبلة البيوت و العمارات الآهلة بالسكان ليلا و نهارا ، و دون أدنى تمييز ، بحجة محاربة الإرهاب ؟ إنّ مناظر الضحايا المقطّعة أجسادهم ، تهت الركام ، و المبعثرة أشلاؤهم يمينا و شمالا ، ليدمي القلوب ، و لو كانت من حجر . إنّه دليل دامغ على مقدار الحقد و البغضاء و الكراهيّة التي يكنّها الصهاينة للجنس البشري . لقد فاقت درجة الجنون . و أذهلت أحرار العالم شرقا و غربا جنوبا و شمالا . و السؤال الذي سيبقى عالقا ، إلى أن يثبت العكس : هل يمكن أن يعيش الشرق الأوسط و العالم في سلام و طمأنينة و تعاون في ظلّ فلسفة دمويّة رعناء ؟ إنّ للحروب أخلاق ، مهما كانت دوافعها و غاياتها ، إلاّ هذه الحرب على غزّة ، فقد تجرّدت من كلّ خلق إنساني ، و بدت و كأنّ مضرمي نيرانها ، من الصهاينة صمٌّ ، بكمٌ ، عميٌ ، قد فقدوا عقولهم و عواطفهم و بصائرهم .
و أخيرا أجدّد التحية لدولة جنوب إفريقيا ، و لفريقها القانوني الذي أبدع في مرافعته ، و أظهر للعالم صورة ناصعة للإنسانيّة الحقّة ، التي لا يقف في وجهها البعد الجغرافي و لا الاختلاف الإثني و الإيديولوجي و الديني . إنّها آية من آيات التراحم و التكافل و المواساة .
#علي_فضيل_العربي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟