فنجان قهوة

ماجد صفوت استمالك

الحوار المتمدن-العدد: 7374 - 2022 / 9 / 17 - 23:48
المحور: الادب والفن
    

هذه قصة عن فنجان صغير من الخزف مستقر في هدوء خلف اكوام من الاطباق و الاكواب المغلفة بورق جرائد اصفر لونها بفعل الزمن ، يرقد هكذا منذ سنوات ظن فيها ان تلك هي نهاية الامر و هكذا يتقاعد في سلام ويترك مهمة تقديم القهوة لغيره ، يكفيه في هذا انه لم يتحطم مثل باقي اقرانه وسقط من يد العم سيد خلف الاكوام المكدسة علي رف الكراكيب داخل الدولاب الخشبي المتهالك الواقف خلف باب البوفيه في الدور الثاني من مبني الشركة العامة للمقاولات

تذكر الفنجان لقائه الاول بالعم سيد عندما إنتقاه بيده من علي رف الادوات المنزلية بأحد فروع عمر أفندي ، فنجان أخضر صغير مكتوب عليه بخط مزخرف "صباح الخيرات" ، ضمه العم سيد الي مجموعة من الفناجين و الاطباق المماثلة ليكتمل بذلك طقم استقبال جديد يليق بضيوف المدير الجديد عادل بيك ، كانت تلك هي أول مرة يخرج فيها العم سيد في مهمة رسمية بصفته العضو الفني بلجنة الشراء فوضع كل خبرته و تركيزه في اختيار الطقم و أصر بشدة علي ان يكتمل عدد الفناجين الي دستة ، فبحث كثيرا عن الفنجان الاخير حتي وجده واطمئن الي انتهاء دوره و ترك مهمة الفصال لمسئول الشراء و انتهي العضو المالي من الدفع و استخراج قسيمة الشراء و تمت المهمة و عادت اللجنة للشركة وكانت تلك هي مظاهر التجديد الوحيدة اللي تزامنت مع وفود المدير الجديد

مدح عادل بيك في قهوة العم سيد أمام الضيوف و شكر ذوقه و تفائل بعبارة " صباح الخيرات" فكانت تلك هي شهادة نجاح العم سيد في مهمته الرسمية الاولي و كان ذلك ايضا تكليفاً للفنجان الاخضر بمهمة القهوة الصباحية لسعادة المدير العام ، و استمر الحال و توالت الايام و السنون ويتقاعد عادل بيك ليحل محله الباشمنهدس منير الذي رفض تماما كل القاب البكوية و الباشاوية مشيراً إلي شهادته في الهندسة وفضل ان يُنادي بـ مهندس منير فتطوع الحاضرون بإضافة الـ باش الي اللقب و أصبح الباشمهندس منير هو المدير العام وبدأت مظاهر التجديد المصاحبة لكل حركة تغيير في الإدارة

توسعت مظاهر التجديد هذه المرة لتشمل طفايات الحريق و اجهزة الكمبيوتر وملابس الأمن ، و تم شراء دولاب زجاجي جديد لمدير الحسابات بدل من الخشبي القديم فطلب العم سيد الدولاب الخشبي ووضعه فى البوفيه وأزال عنه الملصقات فظهرت عبارة الماشاءالله المحفورة علي ضلفتيه وفرح بها العم سيد خاصة بعد ان تقلص دوره حيث ان المدير الجديد لا يشرب القهوة ولا يمكث في مكتبه كثيرا و نتيجة لذلك تضاءلت مهمة تقديم القهوة لضيوف الإدارة و توزعت علي ما تبقي من الطقم الاخضر فكان من النادر أن يخرج صديقنا الفنجان الصغير ليقدم القهوة و يهدي الخيرات

أراد العم سيد أن يحفظ لطقم التوزيع مكانته الخاصة حتي إذا حدث تغيير إداري مستقبلا فيعيد استخدامه و يستعيد معه دوره المنقوص فجمع الطقم و غلفه بورق جرائد و صعد الي الرف العلوي من الدولاب الجديد وبدأ العم سيد في حفظ الاطباق و الفناجين بعناية وهدوء واحد تلو الآخر - وعن غير قصد - سقط الفنجان الصغير من يده العم سيد و استقر خلف كومة من الاطباق و بقي هكذا لسنوات انفصل فيها عن اقرانه

انقطعت الاخبار تماما عن الفنجان الخزفي الاخضر فظن ان العم سيد قد نسيه فقنع بمصيره و اكتفي بما قدم و رضي بحياة التقاعد و استسلم للامر الي ان جاء يوم شعر فيه بحركة تنتشر في الدولاب و رأي يدا غريبة تتناول محتوياته في نشاط و مهارة فوجد نفسه يخرج من ازدحام و سكون الرف العلوي الي فضاء البوفية الواسع ، نظر حوله للحظات ليدرك ما فاته فرأي العم سيد في جالسا وقد انهكه الزمن ورأي أيضا عصام ، شاب صغير السن خفيف الحركة و عرف فيما بعد انه هو الذي أخرجه للحياة العملية مرة أخرى لمهمة جديدة هذه المرة

جمع عصام اربعة فناجين خضراء متماثلة كانت هي كل ما تبقي من الطقم البائد و خصصهم لمكتب الارشيف بموظفيه الاربعة ايمن و باسم و مراد و مينا ، و حل بذلك مشكلة تزاحم طلبات البوفية اليومية فكانت عادة عصام ان يبدأ يومه بـ إعداد اربعة فناجين قهوة قبل مجيء الموظفين بدقائق و وضعها علي مكاتبهم في بقايا طقم الاستقبال الاخضر ، ووجد بذلك كل من موظفين مكتب الارشيف راحته ، فكان فنجان القهوة علي مكتب أولهم بمثابة تقدير لأهمية دوره في الشركة و إعلان لوجوده و كان للآخر مهدئ لأعصابه التي لا تهديء إلا مع جرعات الكافيين المستمرة ، بينما للثالث كان فنجان القهوة علي المكتب هو علامة حضوره في الشركة حتي لا يلحظ تأخره أحد و للرابع كان الفنجان هو العادة الروتينية التي لا يحيد عنها أبدا

وهكذا كان شارك الفنجان الصغير مع أقرانه في صنع السعادة الجزئية لموظفي مكتب الارشيف فكانت القهوة لكل منهم بمثابة انتصاراً يومياً كل صباح

#عصر_ما_قبل_الحضارة

#ماجد_صفوت_استمالك (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات