أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماجد الحيدر - هشم يدي أرجوك - قصة قصيرة















المزيد.....

هشم يدي أرجوك - قصة قصيرة


ماجد الحيدر
شاعر وقاص ومترجم

(Majid Alhydar)


الحوار المتمدن-العدد: 7147 - 2022 / 1 / 27 - 20:45
المحور: الادب والفن
    


هشِّم يدي أرجوك
قصة قصيرة

- جئت في إجازة قصيرة حصلت عليها بمعجزة. ضاع نصف يوم في الذهاب وسوف يضيع نصف آخر في الإياب، وهكذا لم يبق لي أكثر من أربع وعشرين ساعة.
وعب كأسا ثالثة من عرقه الرخيص دون ماء أو ثلج. . قبل الحرب كان يشرب كل يوم تقريباً، لكن بطريقة أخرى، كان الشرب عنده احتفالا صغيرا وطقساً حالما، سواء أذهب الى احد النوادي مع أصدقائه أو لجأ الى الغرفة الخلفية من ورشته أو اكتفى بالبقاء في البيت وإرسالي لجلب بعض قناني البيرة من واحد من البارات الكثيرة المنتشرة على طول حدائق القناة:
- من الشباك الخارجي، من الشباك، قل للبائع عمي أريد أربعة فريدة سفري(1). هل فهمت؟ أربعة سفري. وخذ معك أربع قنان فارغة كي لا يطالبك بتأمينات على القناني. هل فهمت؟
ويروح ينهمك بإعداد أطباق شهية من المقبلات لا يمانع في اشراكي معه في تناولها على أنغام جهاز الراديو-المسجل الكبير وأغنيات فيروز وفؤاد سالم وديمس روسس.
لكنني لم أره أبدا يشرب بهذه العجالة والمرارة.
- هاك. خذ لك كأساً. لا تستحِ. من المؤكد أنك تعلمت أن تشرب العرق.
- العرق؟ لا، رائحته تقززني. أشرب البيرة أحيانا.
- بعدك غشيم. عندما تدخل الجيش مثلي ستتعلم الكثير من الأشياء. افتح لنا هذا الراديو الخرا.
كانت أغنية سبعينية عذبة لكن سرعان ما قطعها صوت المذيع الهادر وهو يقرأ بيانا عسكريا جديدا عن "تصدي قواتنا الباسلة لهجوم العدو الحاقد وكيف الحقت به الهزيمة وتناثرت جثث جنوده على أرض المعركة". ثم تلته المغنية الشابة وهي تنشد:
- على خط النار يا ابن أمي
متطوعة ورشاشي بإيدي..
تانيني (انتظرني) يا خويه
تانيني يا بوية
فإذا به ينخرط في بكاء مرير ويصيح:
- أين ينتظرك أيتها الخائبة؟ أخوكِ الآن جثة باردة في مركز تسليم الشهداء!
حاولت أن أهدئ من روعه:
- ما بك يا أخي؟ أنت حزين جدا هذه الليلة.
- حزين؟ بل أنا محطم تماما.
- لماذا؟
- تسألني لماذا؟ اسمع: هل رأيت شخصاً ميتاً من قبل؟ أعني إنساناً قتيلا؟ هل تفهم؟
- إ.. إ.. إ.
- أما أنا فرأيت مئات القتلى، قتلى دون أرجل، قتلى دون أذرع، دون رؤوس، مفتوحي الصدور، مندلقي الأمعاء، محترقين، متناثرين، لا تعرف فيهم العدو من الصديق، ولكن..
ثم خنقته العبرة، فلم أتمالك نفسي وقمت واحتضنت رأسه. أما هو فواصل حديثه وهو ينشج كالطفل:
- صديقي، صديقي الجميل. لقد رأيته وهو يركض وقد تدلى رأسه الى الوراء والدم يفور من رقبته مثل النافورة. كان جرحه ساخنا. لم يدرك ما جرى له. ركض بضعة أمتار ثم هوى وهو يرفس الأرض بقدميه..
- هون عليك يا أخي. هكذا هي الحرب.
- نعم، هكذا هي الحرب. اسمع (قال لي وهو يمسح وجهه بباطن كفه) أريد أن تقدم لأخيك خدمة. خدمة صغيرة. هل قلبك قوي؟
- ربما. الأمر يعتمد على نوع الخدمة.
- كيف هذا؟ ألست طالبا في كلية الطب؟
- وما علاقة الطب بالخدمة التي تريدها؟
- سأقول لك.
ومد يده تحت الأريكة الخشبية المتداعية وأخرج قضيبا حديديا سميكا لا أعرف متى أخفاه هناك.
- هل تعرف أن الشخص المعاق يمكن أن يعفى من التجنيد أو ينقل الى الخطوط الخلفية؟
- نعم أعرف هذا.
ومد يده هذه المرة الى جيب معطفه وأخرج منه محقنة طبية وأمبولة دواء:
- هاك خذ هذه. نعم نعم إنها بيثيدين(1). لا تسألني من أين اتيت بها. كل ما عليك فعله هو أن تحقنني بها وتنتظر عشر دقائق ثم تضع ذراعي بين مقعد الأريكة وزاويتها وتهشمها بهذا القضيب الحديدي. لا تخف، لن أشعر بشيء. هل فهمت؟ انزل عليها ضربا حتى يتهشم العظم تماما وتتدلى ذراعي من كتفي كالخرقة. هل ستفعل هذا من أجل أخيك؟ أرجوك، ستنقذ حياتي.
- مستحيل.
- لكنني أخوك. ألا تحبني؟
- نعم أحبك ولكن ما تطلبه مستحيل تماما.
- أهذا آخر كلام عندك؟
- نعم.
- لم يبق إذن غير النفط؟ (قال وكأنه يحدث نفسه)
- ماذا تعني؟ عن أي نفط تتحدث؟
- لا شيء. إنس الأمر. هيا. أغرب عن وجهي. اذهب لتنم.
لكنه ناداني قبل أن أغادر الغرفة وقبلني من خدي وقال في هدوء عجيب:
- انتبه لأمي وأبي. قد تكون هذه إجازتي الأخيرة.
عندما استيقظت في الصباح رأيت القضيب الحديدي وابرة البيثيدين وبضعة دنانير تركها لي كما يفعل في كل مرة. لكن السرنجة اختفت.
...
في مكان ما في أقصى الجنوب كان قائد الفيلق يزور المستشفى العسكري كما يفعل كل شهر ليلمع اسنانه. كان خمسينيا أنيقا، أحمر الوجه، حليقا على الدوام، يجيد اختيار أحذيته وعطوره، لكنه مخيف، مخيف الى درجة أن اسمه وحده كان يثير الهلع في نفوس الجنود والضباط على طول تلك الجبهة وعرضها.. مر من أمام إحدى الردهات فشم رائحة عفنة. التفت الى آمر المستشفى الذي يكاد يهرول بين يديه وسأله:
-ما هذه الرائحة؟
التفت الآمر الى الجراح الخافر وسأله:
-ما هذه الرائحة؟
-نعم سيدي، إنها رائحة المريض الذي أدخلناه منذ شهر. مريض الغانغرينا الذي يوشك أن..
-ماذا؟ عن أي غانغرينا تتحدث (قاطعه القائد) هذا مستشفى عسكري وليس منتجعا لكل من هب ودب.
ادى الجراح الاستعداد العسكري وقال وهو يرتجف من الخوف:
-نعم يا سيدي. إنه جندي مصاب بالغانغرينا. ذراعه متعفنة. لا أمل في انقاذه حتى لو بترناها له.
-وهل أصيب بها من جراء إطلاقة، شظية، حروق؟
-كلا يا سيدي إنها ابره النفط.
وشرح له بعبارات مفككة انها عاشر حالة لجنود يحقنون اذرعهم بالنفط لكي تتعفن وتبتر ويسرحون من الجيش.
-هكذا إذن.. أهي تقليعة جديدة للهروب من المعركة؟ يا لهم من خونة أنذال حليبهم نجس. اسمع يا.. ما اسمك؟
-النقيب الطبيب محمد علي.
-اسمع يا نقيب محمد أريد أن تحافظ على حياته بكل طريقة حتى صباح الجمعة. لكنني أمنعك من قطع يده. مفهوم؟
-أمرك سيدي.
بعد يومين تجمع المئات من الجنود في الملعب الرياضي، ثلاثة جنود من كل وحدة في القاطع ليسمعوا خطاب القائد ويشهدوا إنزال العقوبة المقررة بحق عدد من الهاربين أو المتخاذلين: الإعدام رميا بالرصاص! كانوا يربطونهم سبعة سبعة الى الأوتاد المزروعة في الأرض لتجهز عليهم مفرزة التنفيذ حتى لم يبق أحد من المحكومين الذين امتلأت بهم شاحنة النقل. ثم وضعوا في يد الطبيب مجموعة من شهادات الوفاة الجاهزة التي تنتظر توقيعه والتي تنتهي بجملة واحدة: سبب الوفاة. الاعدام رميا بالرصاص لخيانته مبادئ الشرف والعز!
وعندما أوشك الحفل على الانتهاء وتصاعدت أصوات الأناشيد الحماسية من مكبرات الصوت أنزلوه من عربة الاسعاف. كان عاري الجذع وذراعه اليمنى سوداء متضخمة تلمع كالشمع. جرجروه وهو يترنح وينظر الى من حوله ذاهلا وشدوه الى العمود. وتقدم القائد بعد أن وضعوا له كمامة طبية على وجهه ومد يده جانبا دون أن يدير رأسه ففهم المرافق على الفور وناوله رشاشة جاهزة للإطلاق فتلقفها وهي طائرة بيد واحدة. كانت تلك حركة أثيرة تعلمها من رئيسه. دنا أكثر وأكثر وداس على الزناد وأفرغ مخزن الرصاص في الذراع. ثم رماها في الهواء فتلقفها مرافق ثان وناوله ثالث رشاشة أخرى. وعندما انجلى الغبار كان جسده كله ينتفض وقد اختفت ذراعه ولم يبق منها غير خيوط من الجلد النازف المتدلي من كتفه. وأومأ القائد الى ضابط التوجيه السياسي فتقدم ووضع بضعة إطلاقات في رأسه.
...
وقفت السيارة العسكرية أمام الباب وأنزلوا منها التابوت وألقوه على الرصيف كيفما اتفق.
-خذ (قال آمر المفرزة لأبي الذي ركض اليهم حافيا) وقع على هذا الوصل باستلام الجثة والتعهد بتسديد ثمن الاطلاقات وعدم اقامة العزاء.
-لماذا يا سيدي، اليس ابني شهيدا مثل كل الشهداء؟
فالتفت الضابط الى من معه ضاحكا بسخرية وبادله الجنود الابتسام:
- انظروا الى هذا القشمر. يعتقد بأن ابنه، ذلك الخائن النذل الجبان.. شهيد.. لا بد انه ينتظر السيارة وقطعة الأرض. هئ هئ هئ.
- نعم يا سيدي (علق أحد الجنود الذي يسمونه مهرج الوحدة) ولا تنسَ خط التلفون الذي ينتظر سماعه في خرابته الحقيرة: ترنن ترنن! (2)
- هئ هئ هئ.. من ... أمك وأمه!
- هئ هئ هئ (ردد الجنود)
وانطلقت السيارة مسرعة وهي تثير الغبار في الحي الفقير.

(1) فريدة: نوع من البيرة المحلية الشهيرة في السبعينات والثمانينات.
(2) دواء مخدر قوي.
(3) في السنوات الأولى للحرب العراقية الايرانية كان ذوي الضحايا يحصلون على عدد من الامتيازات منها سيارة حديثة وقطعة أرض وخط هاتفي!



#ماجد_الحيدر (هاشتاغ)       Majid_Alhydar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكايات من الفولكلور الكردي-الشام سكر لكن الوطن أحلى
- حكايات من الفولكلور الكردي-تحل بالصبر تكن أمير مصر
- ثرثرات ميت وقح-شعر
- حكايات من الفولكلور الكردي-حتى عرف العقل أودى بالمال
- حكايات من الفولكلور الكردي-حكاية الثعلب والسلحفاة
- حكايات من الفولكلور الكردي-حكاية الشيخ سليمان أبو رجل الجرس
- حكايات من الفولكلور الكردي-حكاية شاقولي الأخرق العاثر الحظ
- حكايات من الفولكلور الكردي-حلم الحاكم
- حكايات من الفولكلور الكردي - سري سينكشف ولو بحباب المطر
- صبية النرجس
- حكايات من الفولكلور الكردي-قد يفلت المجرم ويبتلى البريء
- حكايات من الفولكلور الكردي-لا تأمن لامرأة ولا لرجل حكومة
- حكايات من الفولكلور الكردي-ما تفعله بيمناك تتلقاه بيسراك
- حكايات من الفولكلور الكردي-من مكر النساء
- حكايات من الفولكلور الكردي. ومن أحمق من المختار؟
- حكايات من الفولكلور الكردي-حكاية قاطع الطريق رزكين والشاب ال ...
- صفقة في صالة قسطرة-قصة قصيرة
- تقرير صحفي عن السيد امرئ القيس - قصة قصيرة
- اللص الذكي - حكاية من التراث الصيني
- ترنيمة آنا دستوفسكايا


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماجد الحيدر - هشم يدي أرجوك - قصة قصيرة