أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سلسلة قصص الجنون 5- شهاب















المزيد.....

سلسلة قصص الجنون 5- شهاب


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6549 - 2020 / 4 / 28 - 02:54
المحور: الادب والفن
    


كتب الصحفي المبتدئ سعيد سوادي في صحيفة محلية قبل مدة تحقيقا عن شهاب المجنون جاء فيه ما يلي:
يعرفه كل سكنة قرية أم مسجد. ويكرهونه أيضا. فمنظره مقزز. دشداشته لا يعلم أحد ما كان لونها بالاساس. فهي قذرة بلون السخام. شعر رأسه اختلط مع شعر وجهه، حافي القدمين، يضايق المارّة طالبا منهم سيجارة ( گاره ! گاره!) بعضهم يعطيه سيجارة، وبعضهم يهرب منه. وبعضهم يعطيه علبة سجائر. وأحيانا يهاجم المارة! باستخدام ما تقع عليه يده من حجارة أو كسر طابوق. وجوده أصبح لايطاق. فالأطفال يخافونه، ويتعذر على النساء المرور بهذا الجزء من الشارع دون مرافق. حين يكون لديه سجائر يجلس هادئا في الشارع يدخّن. فهو يدخّن باستمرار دون توقف. يناشد سكان القرية الحكومة المحلية لايجاد حل لهذه المشكلة، أو تخصيص راتب له.
أثار هذا التقرير فضولي لذلك اتصلت بأحد معارفي في القرية للاستفسار عن حالة هذا الرجل فأجابني:
شهيِّب المجنون. لا أحد يعلم ما الذي يجب عمله معه لتتخلص أم مسجد من ازعاجه . ولكن الجميع يقرّ أن الأيام وحدها كفيلة بذلك. يقول كبار السن أنه لم يكن كذلك قبل أن تموت أمه. هو الآن ليس له عائلة، يعيش تقريبا في الشارع، حتى ان البيت الذي تركه والداه لم يعد له وجود. يأكل مما يتصدق به عليه الناس.
ذهبت بنفسي للاطلاع على وضعه، والتقيت بالحاج خلف في داره. كان جوابه مقتضبا جدا اذ قال: شهاب وعائلته حديثوا العهد بقريتنا فقد كانوا يسكنون قديما في الزريجي قبل أن ينتقلوا للعيش في أم مسجد. ولم يزد على ذلك شيئا. أحسست أنه لا يريد الخوض في هذا الموضوع، فودّعته وخرجت بعد أن شربت عنده الشاي.
توجهت بعد ذلك الى بيت الاستاذ علاء مدرس اللغة العربية. فهو شاعر، ومهتم بتاريخ المنطقة، فضلا عن أنه يسكن القرية أيضا. قلت في نفسي لن يطفئ ظمأي سواه. وجدته غارقا بين كتبه، الا انه تفرغ لاسئلتي واسترسل قائلا:
تقع قرية الزريجي على الجهة الشرقية من شط العرب شمال البصرة. قرية وادعة وخصبة وغنية ومسالمة. يخترقها نهر دمعان فيسقي بساتينها، وهي تحتوي على شاطيء عريض يقع ضمن حوض الشط، شاطيء يُغمر بالمياه أيام الفيضان، ولكن أهل الزريجي يزرعونه بالخضروات. والى الشرق يمتد الحماد حتى الحدود الأيرانية. حيث يمكن للناس جني الفطر البري والكمأ ورشاد البر، ويمكنهم رعي مواشيهم، فضلا عن زراعة الحنطة والشعير. الهدوء والسكينة هنا في أبهى صورهما، والسلام سيّد، والبيئة بأنقى حالاتها.
في تلك القرية كان أبو شهاب الفلّاح البسيط يعيش مع زوجته وهي بنت عمه، وابنه الوحيد شهاب. يزرع في الشاطي الكرفس والريحان والبربين والباميا والبطيخ والرقّي ويزرع البادنجان والطماطة، وكل تلك الخضروات تنبت وتنتج بأفضل ما يكون عليه الانتاج. فليس هناك أكثر خصوبة من تربة شواطئ الزريجي التي تتجدد تربتها بالغرين الأحمر كل عام، وليس هناك أفضل من ماء شط العرب، وليس هناك أفضل من هواء الزريجي وشمسها. وليس هناك أفضل من رعاية أبي شهاب لمزروعاته. فهو يعاملها كما يعامل الفنان لوحته، وكما يعامل النحات قطعته. لم يكتف أبو شهاب بذلك، بل أنه استطاع أن ينقل ذلك الشغف العجيب بالأرض الى ابنه المعاق ذهنيا، أو كما يقولون المتخلف عقليا، شهاب. فبشكل عجيب انتقلت رهافة التعامل مع الأرض من الأب الى أبنه الضعيف. شهاب لا يستطيع النطق السليم، بل بالكاد يمكنه أن يقول مقطعا مشابها لصوت الكلمة، وأبوه وأمه يفهمانه.
عشق شهاب الطين بشكل غريب. وتعلم كيف يسيطر على حركة ماء السقي في المشاريب والمشارات، وهي سواقي ومساحات صغيرة ضحلة للزراعة. فيغلق التي امتلأت بالماء بكتلة من الطين، ويفتح الأخرى فينساب الما ء بالاتجاه الذي يريد، ثم ما يلبث أن يوجّه الماء الى اتجاه آخر. يعزف شهاب مقطوعة موسيقية لا يسمعها أحدٌ غيره باستخدام الماء والطين. ويستمتع بذلك أيما استمتاع. والفضل يعود لأبيه الذي علّمه كل ذلك، والذي زرع بقلبه حب الأرض :الماء والطين والزرع. ومن ذا الذي لا يقع بحب الزريجي وخضرتها، جنة الله في أرضه.
تعلم شهاب كيف يصنع من الطين طيورا وغزلانا وخرافا وثيرانا فيجفّفها تحت أشعة الشمس، ليلهو بها في الغد. يعجب الجميع من دقة أشكال تلك الحيوانات الطينية الصغيرة، ويعجب الجميع من قدرة هذا الولد على صنع مثل تلك التماثيل الصغيرة وهو الذي لايستطيع النطق بكلمة! لم يكتفِ شهاب بعمل الحيوانات بل أنه وبشكل عجيب تعلم كيف يعمل من الطين صفّارات، فيجففها، وينفخ فيها بعد أن تجف فتصدر صفيرأ. وتعلم كيف يصنع الماصول أو الناي أيضا من الطين، وحين يجربّه الآخرون يجدون أنه يصدر أنغاما جميلة. من علمه ذلك؟ لا أحد يعلم. ولكنه الشغف بجماليات المادة، والاندماج بها من جهة، وقدرات الانسان الخلّاقة التي لاحد لها من جهة أخرى، سيما اذا توفر لها المناخ اللازم من الحب والسلام. نعم ، الحب والسلام. فليس النطق وحده دليل على قدرة الانسان.
وتعلم شهاب كيف يعمل لنفسه لفافة تبغ، فصار لديه صرّة صغيرة يضعها في جيبه، تحتوي على تتن ، ودفتر أوراق السجائر الصغير، وشخاطة. يجلس شهاب في ظل نخلة في أوقات الاستراحة، وبعد أن يأكل مع أبيه الخبز واللبن والتمر، فيلف لنفسه سيجارة، ويجلس ليدخن بشغف ومتعة. ليس هذا فحسب ، بل صار لشهاب اهتماما بالأغاني، كان يحب الاستماع اليها. وصار عنده راديو صغير ، يسميه (دقدوق) ، ويعني صندوق. وتعلم بالفطرة كيف يفتحه ويصلحه اذا ما تعطل. متعته في الدنيا صرّة التتن وصندوق الأغاني خاصته، فضلا عن العزف على الماء والطين.
لام أبو شهاب نفسه كثيرا لأنه لم يعلّم شهاب صنعة آباءه وأجداده القديمة، الحياكة. ولكنه كان يؤجل ذلك يوما بعد آخر. كان كل يوم ينظر الى نول الحياكة الذي تركه هو الآخر منذ زمن بعيد، اذ لم تعد مهنة الحياكة تدرّ ما يكفي من المال للمعيشة، ويهمّ باعطاء شهاب الدرس الأول، ولكنه يؤجل ذلك.
بيد أن للزريجي حظ عاثر أيضا مثلما كان لها حظٌ حسن. فها هي التحولات المتسارعة تدنو منها، وتسلب منها هدوءها وسلامها الى الأبد. فقد أنشئ قبالتها على الجانب الغربي للشط في بداية السبعينات وحشٌ هائل من الحديد، وحشٌ ينفث دخانا وسموما في الهواء والماء ليل نهار. كان ذلك معمل الورق. ثم أصبحت موقعا مهما أبان الحرب العراقية الأيرانية. فكثرت فيها معسكرات الجيش، وأشتعل أفقها بالانفجارات، وخيَّم على سمائها غبارُ المعارك التي استمرت سنينا. واضطرب حالها كما اضطرب حال البلاد كلها، الا أن للقرب من الجبهة شأن آخر لا يعرفه الا من عاشه.
أقترب دويُّ المدافع يوما بعد يوم. وبدأ الخوف يستوطن القرية شيئا فشيئا، وغادر السلام الى غير رجعة. صار حصادُ الخضروات أمرا صعبا، وتسويقها أكثرَ صعوبة. فالتغيرات كانت تحصل بالساعات، وساد شعورٌ بعدم اليقين. واضطربت أحوال شهاب الذي صار يضع رأسه بين يديه ويبكي.
قررأبو شهاب مغادرة القرية الى الجانب الغربي من الشط ، ذلك الجانب الأكثر أمنا والأبعد عن ساحات المعارك ، حيث يسكن أخوته. حمَّل أثاثه البسيط ، ونول الحياكة ببلم ، وعبر الشط. سكن بغرفة بسيطة، ومن اليوم الآول أجلس شهاب أمام النول، وبدأ اعطاءه الدرس الأول، آملا أن شهابا سيتعلم فهو ولد شاطر.
لم يستطع شهاب تعلم الحياكة، ولم يتذوق حركة هذه الآلة الغبية الرتيبة. هي ليست كتدفق المياه في المسارب، وليست كليونة الطين في الأصابع. رفض شهاب الجلوس أمام النول. واشتاقت روحه لرؤية الحقول الخضراء الهادئة على ضفاف الشط . رفض شهاب رفضا قاطعا استبدال الماء والطين بالخيوط وتوتر واضطرب، وفضّل الخروج الى الشارع. يستمتع بتدخين سجائره، ذلك الشيء الوحيد الذي بقيَّ له من جنته القديمة تلك. البعض يقول أن الوقت قد فات على شهاب لتعلم شيء جديد. كان لايستطيع الكلام بسهولة، ولكنه أصبح كما ترى مجنونا بعد وفاة أمه، وازدادت حالته بعد وفاة أبيه. فقد شهاب عالمه الجميل الى الأبد. وتحول الى ما هو عليه الأن. كان يمكن أن يكون أنسانا آخر لولا تلك القسوة وذلك العنف.
عندما خرجت من بيت الاستاذ علاء حزينا، رأيته خلفي وهو يردد گاره! گاره! رجلٌ يناهز السبعين من العمر، بقلب طفل.



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سلسلة قصص الجنون 4- حمادووه
- سلسلة قصص الجنون 3- عبود المجنون
- سلسلة قصص الجنون 2- غنوم المجنونة
- سلسلة قصص الجنون 1- قاسم المجنون
- رفعة الجادرجي
- مستقبل الفضاء الحضري بعد كورونا
- كورونا والفضاء الخاص: مقالة في الوباء والعمارة
- الحمام ..مشاغلة في التراث والكلمات
- غسل الرأس
- أم جابر
- حكاية من محلة الباشا
- في ساعة فجر
- غضب
- للحكاية أكثر من وجه
- آخر ليلة في حياة كبش
- آباء وأمهات
- عيدية العيد
- عصابة الكف الأسود
- غطاء الرأس .. وظيفته ورمزيته
- الحرب على الأرهاب: الدروس المستفادة من منظور حضري


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سلسلة قصص الجنون 5- شهاب