أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - أم جابر















المزيد.....

أم جابر


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6369 - 2019 / 10 / 4 - 12:46
المحور: الادب والفن
    


مقدمة
سمع فاضل الشاهر عن طريق الصدفة أن جماعة من الناشطين في بغداد ينوون اقامة حفل على قاعة منتدى الثقافة ، لتكريم بعض النساء المتميزات ، ولاستذكار اسهاماتهن الجليلة. كان جالسا مع صديقه سلمان الفرج في زاوية من زوايا مقهى صغير منزوٍ قريب من شارع المتنبي. خطرت على ذهنه بشكل مفاجيء فكرة الاشتراك في ذلك الحفل ، والقاء محاضرة عن امرأة كان يعرفها ، ويكنُّ لها تقديرا خاصا. حالما طرح الفكرة على صديقه ، ليعرف رأيه ، وبصورة غير متوقعة ، بادر سلمان الفرج بالاتصال عن طريق هاتفه النقال بمنظم الحفل ، طالبا منه اضافة محاضرة فاضل على جدول الأعمال ، فتم الأمر على عجل.
بعد يومين ، كان فاضل الشاهر يصعد درجات مسرح قاعة المنتدى الثقافي المتهالك ، ويواجه جمهورا من الرجال والنساء من كبار السن ، كانوا يجلسون على مقاعد الصف الثاني والصفوف التي تليه ، فيما تركت مقاعد الصف الأول خالية تحسبا لحضور أحد من المسئولين.
السلام عليكم ، أنا أسمي فاضل سعود الشاهر، من البصرة ، لست شاعرا ولا كاتبا بالمعنى الحقيقي ، ولكنني هاوٍ، عمري الآن ستون عاما تقريبا . أود اليوم أن أحدثكم عن عمتي أم جابر. تعود أحداث هذه الحكاية الى ستينات القرن الماضي ، عندما كنت طفلا صغيرا. لم يبق أحدٌ من شخوص هذه الحكاية على قيد الحياة سواي، ولم تعد الأماكن والأشجار والأنهار والسفن موجودة ، اللهم الا شط العرب ، ولكنه لم يعد كما كان على أية حال. أرجو أن تعذروني ، كوني لن أعرض عليكم أية صورة للمكان الذي سأتحدث عنه ، ذلك لأن التصوير في تلك الظروف كان أمرا مستحيلا . أما صورة المكان اليوم فهي لا تمتُّ بأية صلةٍ الى ما كان عليه ، ولن يكون عرضها مفيدا. وبتعبير أدق: لم يعد المكانُ موجودا . لذا، أنصحكم بعدم البحث عن موقع الحدث ، لأنكم سوف تتعبون أنفسكم دون جدوى.

الحكاية
كان بيتنا يتوسط بستان نخيل على ضفة نهر فيحان ، الذي يتفرع من شط العرب من جهته الغربية ، يمتد فيحان بين بساتين النخيل الكثيفة ليصل الى ما بعد قرية الفيحانية. بيتنا كبير مبني من الطابوق الأصفر، جدرانه سميكة و تعلو أبوابه وشبابيكه الخشبية عقود دائرية .يمتد حوش البيت بكل الاتجاهات ، وهو فضاء واسع أرضيته مكسوة بالطابوق الفرشي ، خال من أي شيء ، سوى من حبل طويل يمتد من الجدار الى الجدار المقابل، ولأن هذه المسافة طويلة ، ولكي لايتدلى الحبل فيلامس أرضية الحوش ، فقد رفع في منتصف المسافة بمردي طويل كأنه سارية علم.
تحيط بالحوش حُجَر البيت من ثلاث جهات ، وهي ست حُجَر، ومطبخان مهجوران ، وبيت السلم ، وليوانان 1 ، فضلا عن بيت الحِب2 . أما الحمام والمرحاض وبيت الملح وبيت السلاح فقد حشرت جميعها تحت السلم . أما الجهة الرابعة، ففضلا عن المجاز3 ، وهو مدخل البيت الوحيد الذي يحتل الزاوية الشمالية الشرقية ، ثمة حجرة واحدة تشرف على البيت كله ، فهي تشرف على المجاز من جهة ، وتهيمن على الحوش من الجهة الأخرى . تحتل هذه الحجرة مكانة رمزية خاصة كونها تلتصق بجدار أصم خال من الابواب والشبابيك ، يشكل الجدار الخلفي للديوانية 4 التي يُفتح بابها وشبابيكها الى الخارج ، فضلا عن ان أرضية هذه الحجرة ، خلافا لكل الحُجَر الأخرى مرتفعة ذراعا عن مستوى أرضية البيت . بدت هذه الحجرة وكأنها مكانٌ مقدس أو مقرٌ لسلطة عليا. يعيش في هذه الحجرة جدي ، ويزوره فيها أشخاصٌ مهمون دون أن يراهم أحد ، كالملك نفسه ، وبعض وزرائه ، فضلا عن بعض كبار ملاك الأراضي وآخرون.
كان أخي الكبير الشاب العشريني (سعيد) يجلس في حجرته التي لايجرؤ أحد على دخولها ، يتصفح جريدة سرية تنقل أخبار معركة خليج الخنازير بتوتر . كان فضاء الحجرة مشبعا بدخان السجائر التي دخنها طيلة ليلة البارحة. حجرة سعيد هي الأخرى تمتلك رمزية ، فهي تمثل التمرد والثورة ، ويتردد عليه فيها بشكل سري أشخاص مجهولون مثل : لينين ، وجيڤارا ، وعبد الكريم قاسم وآخرون ، حيث علَّقَ كلٌّ منهم صورتَه على أحد جدارانها من الداخل .
أما حجرة أمي فكانت ساحة لعبنا أغلب أوقات النهار عندما لايكون أبي موجودا في البيت ، هي حجرة باردة صيفا ، ودافئة شتاءا ، أليفة وآمنة ، تسكنها أمي التي لا تأبه مطلقا بالأشخاص غريبي الأطوار الذين يترددون على الحُجَر الأخرى ، بل تعتبرهم غير موجودين أصلا. كانت أمي منهمكة دوما باعداد الطعام في الحوش ، أو في الليوان المجاور لحجرتها على موقد الحطب ، الذي بنته بيديها على شكل وجاغ ، يتكون من طابوقات عليها قضيبان حديديان أسودان يرتكيء عليهما القدر. كانت أمي تبدو غير سعيدة أغلب الأوقات. أحيانا كثيرة تتكلم أمي مع العصافير التي كانت تلتقط بقايا الطعام من أرضية الحوش بأعداد كبيرة ، والتي ما تلبث أن تفرَّ الى سطح البيت عندما يجتاز أحدُهم الحوش ، أو عندما تقترب منها القطةُ (شامة) مسافةً خطرة.
نهض منظم الحفل من مقعده مرتبكا ، كان يبدو عليه الغضب ، دنا من سلمان الفرج وسحبه من ذراعه ، وخرجا الى بهو القاعة.
- لقد ورطتني ! ما هذا الذي يقوله صاحبك؟ كل ذلك خارج الموضوع ! هل كنت تعلم ؟ قال منظم الحفل بعصبية.
- تحلّ بالصبر ، سوف نرَ ، لم العجلة؟ رد سلمان الفرج.
- أما تر تململ الحضور ؟ ماذا أعمل الآن برأيك؟ قال منظم الحفل.
- انتظر أرجوك . قال سلمان الفرج، ثم رجعا الى القاعة صامتين.
في القاعة كان السيد فاضل يسترسل : كانت جدتي تعيش في حجرة تتوسط الجانب الغربي. حُجَرتها مشاع لنا جميعا ، اذ ترحب دوما بكل من يدخلها في أي وقت دون استئذان . ليس في حجرة جدتي أثاث سوى سلة صغيرة وسرير حديدي كبير تغطيه كلّة 5. تضع جدتي في السلة أغراضها المهمة ، كسجادة الصلاة ، ومسبحة خشبية تتكون من مائة حبة وحبة ، ومكحلة قديمة ، ومرآة صغيرة ، وملقط تستخدمه لازالة ثلاث شعرات ما انفكت تنبت مرارا وتكرارا على حنكها ، وقنينة عطرٍ زيتي صغيرة، وعلبة صغيرة تضع فيها دائما علكا مرا لا تستغني عنه أبدا ، فضلا عن علبة تحتوي على أبرة خياطة وبكرة خيوط ، رغم أن أحدا لم يشاهدها يوما تخيط شيئا ، ومع هذا تحتفظ بأدوات الخياطة لسبب غير معلوم . تنتقل جدتي مع سلتها لتجلس في موضع محددة اعتمادا على المواسم والأوقات . فهي تجلس في موضع محدد في صباحات الشتاء لتتشمس ساعة من نهار، وتجلس في موضع محدد عصرا لتستمتع في الظل صيفا ، وغالبا ما تكون في حجرتها. يتواجد في حجرة جدتي الأولياء والصالحون دائما ، ولكنني لم أحظ قط بمقابلتهم يوما.
أما الحجرة البعيدة جدا المجاورة لحجرة جدتي من جهة الشمال ، فهي لعمتي أم صبيح التي تعيش معنا ، حجرة تعبق منها رائحة طيبة دوما ، هادئة لا يعيش فيها سوى عمتي والقطة (شامة) الصفراء اللون ، وأحيانا كنت أسمع ناظم الغزالي يغني هناك.
عمي ضيغم لا يسكن معنا في البيت ، لكنه موجود دائما، أحيانا ينام في الديوانية ، وأحيانا في حجرة جدي. وعندما يحضر عمي الى البيت ، يحضر معه شعراء ورجال مقاتلون أشداء وصيادون مسلحون ببنادق طويلة ، وأحيانا يحضر معه المهاتما غاندي وجواهر لال نهرو وآخرون.
كنا أنا وأخواتي اللواتي يكبرنني قليلا نعيش في حجرة واحدة ، صاخبة دائما ، ومظلمة أكثر من غيرها من الحجر ، اذ ان شباكها الوحيد يطل على الليوان المجاور لها فقط ، فيما تطل شبابيك باقي الحجر على الحوش مباشرة. أما أنا فلم أكن أشعر بالانتماء لتلك الحجرة ، اذ ان كل حُجَر البيت والديوانية وبيت البقر هي فضاءاتي المفضلة.
كان أبي دائم الحركة ، فهو أكثر سكان البيت انشغالا بأمور متعددة ، يحضر الطعام للبيت ، ويصلي ، ويشرف على أعمال الزراعة في البساتين، ويحرص على عمل القهوة عصركل يوم في الديوانية بمساعدة أبي خلف ، ويقوم بخدمة جدي وجدتي ، ويحتفظ بسجلات المدخولات والمصروفات ، ويقرأ ، ويهتم ب(الدبسة) و(العوبة) ، وهما بقرتان تعيشان مع عدد كبير من الدجاج في بيت مجاور لبيتنا. (الدبسة) سميت كذلك لأن لونها كلون الدبس ، أما (العوبة) فقد سميت كذلك لأن مشيتها مضحكة . يرافق أبي في أعماله الخارجية الفلاح النشيط متعدد المواهب أبو خلف دائما، ويرافقه عندما يكون مستريحا في حجرته ابن عبد ربه وعباس محمود العقاد وابن الرومي وآخرون. حين يدخل أبي البيتَ ، يعمُّ السكونُ أرجاءَ البيت ، ولا يجرؤ أحد على دخول حجرته.
يسود الخصام بين رجال البيت غالبا ، أو هكذا بدا لي على الأقل ، فهم لا يكلمون بعضهم الا نادرا . وربما كانوا يكرهون بعضهم ، وقد يعود سبب ذلك لكونهم يصادقون أناسا غرباء مختلفين .
في هذه الأثناء كان منظم الحفل يبدو قلقا للغاية ، الا أنه ظل يأمل أن تنتهي هذه الثرثرة قريبا. فيما واصل فاضل الشاهر حديثه :
تأتي عمتي أم جابر لزيارتنا وحيدة من جهة الشرق ، قادمة من المجهول ، سالكة دروبا قديمة لم يعد أحد يسير عليها، تأتي من عمق بساتين النخيل الكثيفة المعتمة الممتدة بعيدا حتى مشرق الشمس. تأتي بقامتها الفارعة كسارية سفينة، وجسدها الناشف كعود جاف تحت شمس تموز، عيناها كعيني صقر، ووجهها الأسمر كوجه طفل رغم تجاعيد العمر. وحدها تتبع نياسما غزتها حشائش المرّان والحلفاء صيفا فأخفت معالمها ، ونبت عليها الحندقوق والحرفش ربيعا ، فاندمجت مع ما يحيط بها ، وغطتها العيدان اليابسة شتاءا ، فغيبت أثرها. تأتي وحيدة تشق طريقها بثقة ، فتدفع برفق سيقان القصب التي تعترض خط سيرها، وتزيح بيدها بلطف السعف الأخضر الذي تمدد فوق دربها ، ممسكة باليد الأخرى زنبيلها6 الذي يتوج رأسها ، زنبيلها الذي رصت بداخله على مدى الأيام السابقة هداياها الينا مع كثير من الحُب ، فصار عزيزا على قلبها . حين تخترق البساتين وحيدة ، لا تفر عشرات السلاحف التي تتشمس عادة على جروف الجداول الى الماء فزعا كما تفعل عندما يقطع مرورُ أحدٍ من البشر خلوَّ البساتين ، بل تظل ترقب مرورها بعيونها الصامتة ، وتتابعها برقابها الطويلة بحركة بطيئة موحدة. حين تمرّ يعم السكونُ بساتينَ النخيل ، ثم ما يلبث أن يعود صخبُ الحياة حالما تختفي قامتُها بين الأشجار بعيدا، متجهةً بثباتٍ نحو بيتنا.
لكنني عرفت ُفيما بعد أن عمتي أم جابر كانت تأتي من قرية أسمها أم االخصّاف ، تقع على الجهة الشرقية من شط العرب.
بدأت علامات الارتياح تبدو على وجه منظم الحفل ، خاصة بعد أن بدأ المحاضر حديثه على امرأة معينة ، وتنفس سلمان الفرج الصعداء ، فيما كان الحضور يصغون باهتمام بالغ للحكاية . واصل فاضل كلامه :
لم تكن عمتي تماما ، بل هي أحدى قريبات جدتي. فمنذ زمن بعيد انتقل جدي وجدتي للسكن في الضفة الغربية من الشط ، بعد أن كانوا يعيشون مع أهل أم جابر في أم الخصّاف ردحا من الزمان. وبمرور السنين صار يفصل العائلتين فضلا عن الشط الذي كانت تمخر عبابه المراكب المنحدرة جنوبا أو المغرّبة صعودا ، مسافاتٌ كبيرة ، اذ يتعين على أم جابر كي تسافر من أم الخصّاف للفيحانية أن تسيرمن بيتها شرقا حتى تصل السدة ، ثم عليها أن تنتظر المعيبر 7 ساعة أو أكثر، وهي جالسة بصبر ، ثم تركب بلماً 8 لتعبر الشط . ثم تسير بعد عبور الشط باتجاه الجنوب على امتداد السدة مسافة ً تعبر خلالها ثلاثةَ أنهار فرعية قبل أن تصل الى نهر فيحان ، حيث تسير بمحاذاته غرباً لتصل الى بستاننا الذي يتوسطه بيتنا.
كان كل الضيوف القادمين الى بيتنا يأتون من ناحية الغرب ، حيث يمر طريق السيارات.لا أحد يأتي من جهة الشرق أبدا سوى المدّ مرتين كل يوم ، وأم جابر بضع مرات في السنة.
كانت تأتي وهي تحمل على رأسها زنبيل هداياها الذي صنعته بنفسها من خوص النخيل. وهدايا عمتي أم جابر فريدة من نوعها، ومتنوعة حسب المواسم. فهي تحمل الينا في الربيع رشاد البر9 اللاذع الطعم والكمأ اللذين تجمعهما من الحماد الممتد حتى حدود ايران ، والدهن الحر في الشتاء ، والخضروات الطازجة في الصيف ، وبيض الدجاج والبط في الخريف. وغالبا ما تحمل معها حلاوة التمر والدقيق التي كانت قد أعدتها لآخر عيد .لا تحمل معها الهدايا فقط ، بل تأتي محملة بالحب والحزن والقصائد.
عندما تصل من الجهة المعاكسة ، لا ينبح عليها كلبنا (طوقان) الذي ينام عادة عند عتبة البيت في موقع مهم بحيث يستطيع أن يرَ بعينٍ كل من يدخل باب البيت ، فيما ترى العين الأخرى كل من يقترب من باب الديوانية. اعتاد طوقان أن يهز لها ذيله فقط دون أن يكلف نفسه عناء النهوض من استلقاءه الذي يمتد طيلة ساعات النهار تقريبا.
ما ان تدخل أم جابر باب البيت وتجتاز المجاز ، حتى تتدفق منها النعاوي 10، نعاوي حزينة ، معبأة بالحب وألم الفراق ، والحنين للأهل ، الذين ماتوا ، والذين غابوا. ثم تجلس عند باب حجرة الجدة ، أو في وسط الحوش ، أو في أي موضع من الحوش حالما يستسلم جسدها للأعياء أو للألم أو لانفعال اللقاء.
.................
يما يا يما
حبيبة يا يما
يما راسي وجعني قومي شديه
.................
يتبع كل جملة من النعي الذي تنشده بصوتها الرخيم نحيبٌ يتبعه نشيجٌ صادرٌ من قلبها الذي مزقته الأحزان.
تستقبلها جدتي أولا ، تحتضنها وتجلس معها لتشاركها البكاء قبل السلام ، ثم تلتحق بهما عمتي أم صبيح، ثم تتسلل أمي لتلتحق بجوقة البكاء، ثم يقترب والدي ان كان موجودا في البيت ، فيجلس على الأرض على بعد خطوات من حلقة النساء، ملثما بكوفيته ويبدأ بالنشيج ، ثم يلتحق عمي الذي يجذبه صوت النعاوي من الديوانية ، فيجلس على مبعدة من الفريق واضعا رأسه بين ركبتيه ويبكي ، ويقطع أخي سعيد أجتماعه مع كاسترو، فيقترب ليحتضن رأس أبي ، ويبدأ هو الاخر بالبكاء. يؤلف الجميع جوقة أنشاد عجيبة ، فقبل أن تنهي أم جابر جملتها ، يتكسر في الفضاء انتحاب النساء والرجال وعويلهم وندبهم ، الذي يرتد على جدران البيت المحيطة بالحوش من أربع جهات ، ويعود لميتزج مع النحيب الصادر عنهم مرة أخرى ، وثالثة ، ورابعة ، فتتداخل الأصوات والأصداء ، وتزداد رهبةً وعمقا وغموضا . وأحيانا يطلُّ جدي من باب حجرته بدشداشته الشكرية اللون وعباءته الصفراء الفاتحة بكامل قيافته المعهودة من عقال دقيق أسود وكوفية بيضاء ، يقف مستندا على عكازته الغليضة ، ويذرف دموعا بصمت ووقار، دون أن يصدر عنه صوت. ثم تلتحق بالمجموعة أخواتي ، فيلتصقن بأمي ، ثم ألتحق أنا الذي تجتاحني نوبةُ بكاءٍ لا سيطرة لي عليها ، رغم أنني لا أفهم لم يفعل الجميع ذلك . تتوقف العصافير عن حركتها الدائبة بين أرضية الحوش والسطح ، فتصطف واجمة على الوارش11. وتحني النخلات المحيطة بالبيت من الخارج رؤوسها لتشهد ما يجري في الحوش ، وكأنها تشترك في حفلة الحزن تلك. تتوقف الظلال عن التمدد على أرضية الحوش بعض الوقت . حتى الأبواب الخشبية العتيقة المشرعة دوما تبدأ هي الأخرى بالترنح ، مصدرة صريرا حزينا من مفاصلها الصدئة . وتموء (شامة) وتحك جانبها بكتلة النساء المتكورات ، وينهض (طوقان) من رقدته ، فيطلق عواءا خافتا وطويلا وغامضا ، لا يصدر عنه في غير هذا الموقف.
بعد ذلك ، تتوقف عمتي عن انشاد الشعر الحزين ، وتمسح وجهها بطرف عباءتها ، ولكن النحيب يستمر برهة ، ثم يبدأ بالتلاشي رويدا رويدا ، ثم ما يلبث أن يتوقف . بعد فصل البكاء ذاك ، يسلم الجميع على العمة أم جابر، بوجوههم المبتلة بالدموع ، ويسألون عن أفراد عائلتها ، ثم نفرح بالهدايا. بعدها تبدأ بسرد أخبار سكان أم الخصّاف الطريفة ، فيضحك الجميع كأنهم أطفال .
حين تأتي العمة أم جابر، ، يتصالح الجميع ، ويتبادلون الأحاديث معا ، وتشع عيونهم بابتسامات الرضا والمحبة. يبقى الوضع هكذا حتى وقت طويل بعد أن تغادر بيتنا عائدة الى أم الخصاف . ويغادرالغرباء الدخلاء الآخرون بيتنا ، فيختفي ماركس وغاندي والعقاد وابن عبد ربه والآخرون ، وتظل العصافير تلعب مع (شامة) بسلام، ويعاود (طوقان) كسله المعهود.
عندما أنهى فاضل كلامه ، وقبل أن يبدأ بالنزول من مسرح القاعة ، علا تصفيق بعض الحضور معبرين عن استحسانهم ، فيما عبر البعض عن عدم رضاهم .
بعد يومين ، اتصل سلمان الفرج بصديقه فاضل الشاهرعبر الهاتف النقال:
- اسمع فاضل ماذا كُتب على تويتر بخصوص مشاركتك في المنتدى، سأقرأ لك بعض التغريدات الايجابية والسلبية :
أم جابر التي هزمت الأيديولوجيات
الحب ينتصر على الكراهية والتعصب
المرأة ممثلة بأم جابر تحفظ المجتمع من التمزق
اخفاق الثقافة في حفل منتدى الثقافة
كم هي بائسة حكاية فاضل الشاهرفي منتدى الثقافة أمسِ



1- الأيوان حجرة بثلاث جدران مفتوحة على الحوش
2- جمع حب وهو وعاء فخاري لخزن ماء الشرب
3- دهليز يمثل مدخل البيت ، وهو ما يجتازه المرء منتقلا من الخارج الى الداخل
4- الديوان أو غرفة الضيوف
5- سلة
6- ناموسية من قماش شفاف تقي من البعوض
7- الشخص الذي يقوم بنقل الناس من ضفة الى أخرى بزورق
8- زورق
9- نوع من الخضروات البرية
10- قصائد حزينة لنعي الميت
11- سياج سطح البيت



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكاية من محلة الباشا
- في ساعة فجر
- غضب
- للحكاية أكثر من وجه
- آخر ليلة في حياة كبش
- آباء وأمهات
- عيدية العيد
- عصابة الكف الأسود
- غطاء الرأس .. وظيفته ورمزيته
- الحرب على الأرهاب: الدروس المستفادة من منظور حضري


المزيد.....




- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - أم جابر