أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - آخر ليلة في حياة كبش















المزيد.....



آخر ليلة في حياة كبش


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6329 - 2019 / 8 / 23 - 20:12
المحور: الادب والفن
    


لم أكن أتصور أنني ساقضي الليلة وحدي ، فبعد أن اجتزت هذه الفتحة في هذا الجدار ، كنت أعتقد أنني سأكون في بيتي ربما ، أو أنني سأخرج من الجهة الأخرى الى مرجنا الحبيب ، ولكن أيا من ذلك لم يتحقق فقد وجدت نفسي في مكان غريب ، مكان خال ، محاط بأربعة جدران وباب مغلق . وليس هنا غيرهذه الفتحة الضيقة التي مررت عبرها للتو، هذه الفتحة في هذا الجدار التي غيرت العالم من حولي ، فمن الضجيج والأشخاص الغاضبين الذين كانوا يركضون خلفي ، ومن الأشخاص الضاحكين الذين كانوا يعترضون طريقي ، ومن صراخ وأصوات غريبة متداخلة الى صمت مطبق . ليس هناك أحد سواي. أرضية هذا المكان مفروشة برمل ناعم فقط ، فليس هناك بقايا حشائش يابسة ، وليس هناك روث ، ولم يكن في المكان ثمة رائحة مألوفة ،ليس هناك شيء ألبتة .
استعدت بصعوبة أنفاسي . لقد خضت اليوم تجربة الخوف الحقيقية والتي لن استطع وصفها ، أحسست انني متعب جدا ،فلم أركض يوما في حياتي كما ركضت اليوم . شعرت بأقدامي تؤلمني ، وشعرت أن وزني أصبح ثقيلا ورغبت في أن أبرك على تلك الرمال النظيفة التي ليس لها رائحة لأنام . عندما نظرت الى قدمي الأماميتين واللتين كانتا ملوثتين بذلك السائل الكثيف الأحمر الذي علق بهما عندما دخلت تلك القاعة ظهيرة هذا اليوم ، ذلك السائل الكريه الرائحة والذي لم أر في حياتي مثيلا له ، تفاجأت عندما وجدتهما نظيفتين . لابد أن ركضي كل تلك المسافة عبر تلك الساحات التي غطتها الحشائش اليابسة والروث ، فضلا عن ركضي السريع وتعثري مرات عدة وسقوطي على أرضية تلك الأزقة الغريبة المغطاة بالرمال التي ليس لها رائحة ، تلك الممرات التي تحيط بها جدران صماء قبل أن أدلف من هذه الفتحة الصغيرة ، لابد أنها قد نظفت آثار ذلك السائل عن أقدامي ومحت رائحته الكريهة من جسمي.
ماذا يعني ذلك ؟ هل يعني أن فراري من تلك القاعة الرهيبة ومن أولئك الرجال الغاضبين قد نجح؟ هل سأبقى هنا بين هذه الجدران الى الأبد وحدي؟ هل سأعود يوما الى بيتنا و الى ذلك المرج الحبيب؟ لا استطيع الاجابة عن هذه التساؤلات الآن ، فأنا مشوش ومرعوب ، لذك قررت أن أضع كل جسمي على هذا الرمل عديم الرائحة وأرتاح .
المكان الذي وجدت نفسي أدخله بشكل مفاجيء بعد أن حشرت جسمي في هذه الفتحة الضيقة مكانٌ ذو سقف غريب لم أر مثله سقفا في حياتي . رغم أنني لم أكن أهتم بالسقوف كثيرا ، الا ان منظر وارتفاع سقف تلك القاعة الرهيبة التي أدخلت فيها منذ ساعة جعلني ربما أركز على السقوف ، كما انني لا أعلم ما اذا كنت سأعيش لأرى سقوفا أخرى غير هذا السقف الذي يمتد من الجدار الى الجدار. سقف نظيف خال من أي شيء ، لونه رمادي مائل الى الخضرة قليلا وتنبعث منه رائحة رطبة .
كان سقف بيتنا واطئا جدا ، وكان يتكون من أغضان يابسة وقطع حديدية وبعض الحشائش اليابسة التي ضربتها الشمس طويلا والتي طالما كنت أتمنى لو أنني استطعت قضمها يوما . وكان هناك غطاء أزرق وأشياء أخرى . كنت أعتقد أن كل السقوف تشبه سقف بيتنا. ولكنني تفاجأت باختلاف سقف تلك القاعة الرهيبة والتي أعجز عن فهمه أو وصفه ، كما أنني أعجز عن وصف أرضية تلك القاعة وجدرانها. لماذا أشغل نفسي بالتفكير بالسقوف الآن في الوقت الذي يتعين علي التفكير بكيفية النوم وحيدا ولأول مرة في حياتي.
أدركت أنني على وشك خوض تجربة نوم جديدة تماما ، وقد سبق أن مررت بتجارب نوم مختلفة في حياتي . ففي البداية كنت أنام قرب أمي . فبعد أن أضرب بطنها مرات عدة برأسي الصغير والخالي من القرنين ، وبعد أن أصل الى تلك النوءات التي تتدلى أسفل بطنها وبين رجليها الخلفيتين ، مغمورا بتلك الرائحة الجميلة التي لا توصف ، ألتقط بفمي أحد تلك النتوءات المتدلية لينساب داخل فمي ذلك السائل الدافيء اللذيذ ، فتغمرني السعادة وأغيب عن الوعي لوقت لا أعلم مدى طوله . ياله من شعور رائع أن يكتنفك الدفء من الخارج ومن الداخل وتشعر وكأنك محاط بشعور من الرضا . ثم تجد نفسك راغبا بالنوم ، طافيا بلا وزن. هذه كانت فكرتي الأولى عن النوم . وكنت أعتقد أنها طريقة النوم الوحيدة ، الا أنني اكتشفت أن هناك طرقا أخرى ، أحببتها هي الأخرى ، ولكنني هذه الليلة أجد نفسي بحاجة ماسة الى أي شكل من اشكال النوم ، غير ان ذلك يبدو مستبعدا ، فأنا الليلة وحدي يسكنني رعب لم أعهده ، وقد بدأت أشعر ببرد قاس بعد أن كنت منذ لحظات أشعر وكأن نارا تستعر داخلي . وحيد بين هذه الجدران وتحت هذا السقف الغريب وتحتي رمال لا تحمل أية رائحة .
في مرحلة ما تم فصلنا نحن الصغار عن أمهاتنا لننام في مكان خاص بنا لا يبعد كثيرا عن المكان الذي تنام فيه الأمهات . بل هو في البيت نفسه وتحت السقف نفسه ولكنه محاط بسياج من نسيج حديدي مدعم بأغصان يابسة . كانت المرة الأولى التي أجرب النوم في ذلك المكان تجربة قاسية ، بيد أن ما ساعدني على تحملها هو كوني كنت ممتلئا بالسائل الدافيء اللذيذ الذي شربته من أمي للتو والذي جعلني مكتفيا ، ثم انني كنت بين صغار كثيرين من أخوتي الذين كانوا بسني نفسه. فضلا عن ذلك ، كنت أستطيع رؤية أمي أو هكذا خيل لي. فمن خلال النسيج الحديدي كنت أستطيع رؤية الأمهات هناك على مقربة ، وكنت واثقا من وجودها معهن . كنت استطيع أن أميز رائحتها التي تبعث في نفسي الهدوء والسكينة ، كنت مطمئنا ان كل شيء على ما يرام ، فالجميع كان هادئا ، هادئا جدا. تلك الليلة كنت أستعيض عن دفء أمي بشيء آخر . فقد دفعت جسمي الى وسط مجموعة أخوتي الصغار أتنفس رائحتهم مستسلما للنوم ، هكذا كنت أنام .
كبرت وكبر أخوتي الصغار كنا ننام وأنوفنا اقرب الى الأرضية المغطاة ببقايا الاغشاب اليابسة. رائحة محببة أليفة لا يضاهيها الا رائحة العشب في ذلك المرج الحبيب. وسط ذلك الدفء الرائع نمت ليالي الفصل االبارد ، وليالي الفصل الحار ، داخل بيتنا واطيء السقف ذاك أو في الفناء المفتوح المجاور للبيت والمحاط بسياج من نسيج حديدي مدعم بجذوع الأشجار. كنت دائما أنام شبعانا ، ولكن هذه الليلة علي أن أنام وحيدا وأشعر بالبرد ، وجائعا و خائفا جدا.
كنت لا أخاف شيئا في بيتنا الا قليلا. وما كان يخيفني هو حلم كان كثيرا ما يراوني منذ أيام حياتي الأولى. فبعد أن بدأت النوم مع أخوتي بعيدا عن أمي ، رأيت حلما رهيبا. في البداية لم أكن أظن انه حلم. كنت أعتقد أنه حقيقة. وبتكرار ذلك الحلم اكتشفت أنه رؤيا من الخيال. ولكنني تأكدت مع مرور الوقت أنه لم يكن حلما ولم يكن واقعا. بل أشياء مغروسة بداخلنا ، وهي مصدر معرفتنا عن العالم . في ذلك الحلم كنت أرى كائنا مخيفا يطاردني. عيناه تقدح نارا وشررا وبفمه المفتوح دائما انياب طويلة مدببة. جسمه مكسو بشعر أبيض مرة و رمادي مرة وأبيض مائل للصفرة مرة . سريع الحركة ، وكريه الرائحة. المرة الأولى التي رأيته فيها في حلمي كان مفزعا ورهيبا . ولكنني أعتدت على رؤيته في كل ليلة تقريبا وهو يطاردني ، واكتشفت أنه ان كان علي ان أنج منه فما علي الا أن أحرص على أمرين اثنين . الأول أن أبقى مع أخوتي وأن أدس جسمي في وسط المجموعة ما استطعت. والثاني أن أركض بأقصى سرعة ان هو هاجمني . هكذا وجدت نفسي أخوض هذه التجربة ، تجربة الركض السريع في خيالي وأنا مندس بين أخوتي . بدا لي الركض متعبا أول الأمر ، ولكنني أعتدت على ذلك حتى بدأت أرى نفسي محلقا عاليا أطفو على سماء تملؤها غيوم من العشب الأخضر الغض.
كان معنا دائما ثلاثة كلاب تشبه ذلك الكائن المخيف ، وكنت أخاف منها ، ومع علمي أنها لن تؤذيني ولن تؤذي أحدا من أخوتي ، الا ان شكلها القريب من شكل ذلك الشرير كان يجبرنا على الخوف منها والابتعاد عنها قدر الأمكان. وهي لسبب أجهله بالبداية كانت تطارد كل من ينفصل عن المجموعة عندما كنا نأكل العشب في المرج الحبيبب وتطارد كل من ينفصل عن المجموعة في خط سيرها عند ذهابنا وعودتنا الى البيت .
أما الخوف الذي مررت به في النهارين الأخيرين فهوشيء مختلف تماما. شيء لم أعهده سابقا . سلسلة من المخاوف المتتابعة ابتدأت منذ فجر أمس ولم تنتهي حتى هذه الساعة . نهاران قضيتهما في خوف لم أعرف له مثيلا ، ورأيت ما لم أره من قبل ، نهاران لم تسعفني معرفتي السابقة عن العالم بأية خبرة عما مررت به فيهما.
أول ما أخافني فجر أمس هو ذلك التحول الغريب والمفاجيء الذي طرأ على السيد. فالسيد هو رجل محبوب كرس حياته لرعايتنا. ليس له في هذه الحياة شيء آخر سوى خدمتنا والسهر على راحتنا وطعامنا ونومنا . ففي فجركل يوم يأتي ليتفقدنا ، ومن ثم يفتح باب البيت ويقودنا الى ذلك المرج الحبيب . ويبقى معنا يراقبنا ثم يعود بنا الى البيت عند المساء. كان يسقينا الماء ويتفقد كل واحد منا. كانت رؤيته تبعث في نفسي السكينة والرضا. كان يرتدي في الفصل البارد من السنة معطفا تنبعث منه رائحتنا الى درجة كنت اظنه واحدا منا، بيد أنه لا يأكل العشب مثلنا. كان يحمل في يده غصنَ شجرةٍ يابس . ولم يكن يعمل شيئا سوى النظر الينا. اعتدت رؤيته طيلة اليوم واقفا هناك على مقربة ممسكا بغصنه اليابس وآمنت أن وجوده ووجودنا مرتبطان معا ، وان الحب هو ما يربطنا .
في فترة لاحقة وبعد أن نمت القرون على رأسي ، وبعد تلك الرؤيا التي رأيتها ، وبعد أن أصبحت مزهوا بنفسي أكثر من أي وقت مضى ، رأيته ينظر الي بفخر وعلامات الرضا تملأ وجهه. رفع الغصن اليايس عاليا وأشار ألي فرحا وكأنه يقول لي : (أنت.... نعم أنت). حدث ذلك منذ زمن بعيد فبعد أن نما لي قرنان صغيران ، بدت أمي منزعجة مني. كنت قد اعتدت نطح أمي قبل ان أبدأ بالشرب ، ولكن هذين النتوءين بدءا يؤلمانها على ما يبدو ، وقد شعرت بذلك من طريقة رفضها لي ، حاولت ان أترك عادة نطحها قبل الشرب لكنني عجزت عن فعل ذلك . كان شيئا ما يدفعني للنطح رغم ارادتي . وازداد عناد أمي ورفضها لي ومقاومتها لمجرد محاولتي الاقتراب منها ، ولكن رغبتي بشرب ذلك الحليب كانت لا تقاوم. ذات صباح اندفعت بقوة اليها ورغم هربها مني ورفضها وعنادها الذي اصبح مألوفا لدي نجحت بالتقاط النتوء الدافيء. ولكنني صدمت ، فلقد أحسست أن السائل الذي تدفق في فمي كان مرا وكريها . ذكرني ببعض الاعشاب التي تعلمت تجنب أكلها في ذلك المرج . ويومها ابتعدت عن أمي ، ولم أعد أتذكر رائحتها ، نسيت أمي ، واستعضت عنها بأخوتي الذين أحتاج اليهم للنوم وسطهم بعيدا عن ذلك الشرير الذي ما انفك يطاردني في أحلامي.
لمدة اعتقدتها طويلة كنت أرى المجموعة ثلاثة أصناف ، أنا وأخوتي الصغار السعداء كثيرا والذين لا هم لنا سوى اللعب والركض والمرح، والأمهات الهادئات اللواتي كن قليلا ما يرفعن رؤوسهن عن العشب. وفحل كبير مهيب الهيئة يحمل على رأسه قرنين عظيمين وغالبا ما يكون مهتاجا وغاضبا من الأمهات لسبب ما . الا أنني لم أشغل نفسي به فلا شأن لي به ، وهو لم يحاول ايذائي يوما. أما بعد ذلك فقد وجدتني أرى مجموعتنا وقد بدأت تتكون من أصناف أكثر مما كانت عليه سابقا. فالصنف الأول هو أنا ، أنا المتفوق القوي المعتد بنفسه . وأخوتي الصغار الذين بدوا أكبر الآن، وتمايزوا الى مجموعتين ، مجموعة أكرههم ومجموعة أحبهم . فكل من نمى على رأسه قرنان صار من أعدائي ، وكل الذين لم تنم على رؤسهن قرون كبيرة صرن أحبتي وبدأت أشعر برغبة للتقرب اليهن . فضلا عن مجموعة الأمهات القدامى والفحل أصبح لدينا مجموعة من الصغار الجدد الذين لم أكن أكن لهم أية مشاعر .
أكثر ما كان يقض مضجعي في تلك الفترة هو الروائح. اذ أصبحت لا أطيق رائحة أخوتي الذكور . أما رائحة الأناث فهي محببة الي ، تجذبني وتجعلني أفقد صوابي . ولم أكن أعرف السبب . والأمر الغريب أن أخوتي الذكوربدأوا بمهاجمة بعضهم ومهاجمتي ايضا . وهكذا نشب عراك لا ينتهي ودبت الفوضى في أرجاء البيت والمرج .
في تلك المرحلة رأيت حلما عجيبا . فقد رأيت فحلا عظيما لونه أسود ويحمل على رأسه قرنين ذهبيين عجيبين ، لم أر بحياتي ما هو أكبر منه ، أو أجمل ، رأيته يركض بحركة مهيبة بين الغيوم العالية ، وينزل ليتهادى بخيلاء على العشب الأخضر . رأيته يطرد كل الذكور الذين يعترضون طريقه ، بنطحة واحدة يحولهم الى صرعى ، يصرع بعضهم ويفرالباقون أمامه مذعورين ، أما أنا فقد تسمرت في مكاني أنظر اليه بمشاعر مختلطة . فقد انتابني التعجب أول وهلة ، ثم تملكني الخوف ، ثم تملكني شعور بالزهو والخيلاء عندما تصورت أنني سأكون مثله يوما ما . ثم رأيته وهو يجتازني بسلام وكأنني غير موجود. لم ينطحني ولم يتوقف عندما مر بقربي ، بل استمر يكنس في طريقه كل الذكور الآخرين المرعوبين . وخيل ألي للحظة أنه نظر الي ، نعم لقد التقت نظراتنا ، وشعرت أنه يحبني . مرّ في طريقه الى مجموعة الأناث اللواتي كنّ بانتظاره . التقاهن وشم رائحتهن واحدة بعد الأخرى . ثم عاد أدراجه باتجاهي . خيل الي أنني سمعته يقول لي عندما مر بمحاذاتي:
( أنت ....نعم أنت ) . ثم أختفى بين الغيوم.
في اليوم الثاني شاهدت السيد يرفع الغصن اليابس بيده عاليا ويشير الي فرحا وهو يقول :
(أنت ...نعم أنت ).
بعد يوم واحد من تلك الرؤيا العجيبة لم أجد في البيت أيا من الذكور أخوتي ولم أجد الفحل الكبير فقد أختفوا جميعا على حين غفلة . اعتقدت أنهم خافوا مني وخشوا على حياتهم من قرنيّ ، فقرروا الذهاب بعيدا، وهو ما أسعدني كثيرا.
هكذا كانت علاقتي بالسيد دوما ، علاقة حب واحترام ، وهكذا شعرت أن ثمة رابط متين يربطنا لا يستطيع أحد أن يقطعه ، الا أنني رأيت فجر أمس ما لا أفهمه وما لم أكن أتصور حدوثه يوما ما ، فقد فاجأني السيد فجر أمس وهو يشير الي بغصنه اليابس ويتحدث مع ثلاثة رجال غرباء ظننته يقول لهم : (هذا.. نعم هذا ) . وكنت أشعر أنه يتباهى بي ، ويحاول أن يري أصدقاءه الغرباء قوتي وجمالي وفحولتي ، ولكنني كنت مخطئا تماما . فما ان أشار الي بغصنه اليابس ، حتى أنقضوا علي جميعا وثبتوني وربطوا رجليّ الأماميتين بحبل ، وشدوا رقبتي بحبل ، ثم حملوني وألقوني على ظهر سيارتهم التي انطلقت بي بعيدا ، حيث توالت عليّ المخاوف منذ ذلك الفجرحتى هذه الساعة .
هذه الليلة ، وانا في هذا المكان الغريب محاطا بجدران صماء، وسقف عالٍ لا أغصان فيه ، وأرضية مغطاة برمال لا رائحة لها ، أشعر بالبرد ، وأفتقد الروائح التي اعتدتها ، وعليَّ أن أنام لأتخلص من التعب والخوف الذي ألمَّ بي. لم آكل شيئا منذ أن قابلت أولئك الرجال الذين حملوني على ظهر سيارتهم بعيدا عن بيتنا وبعيدا عن ذلك المرج الحبيب. مرت السيارة عبر طريق ملتوٍ بقرى عديدة . كنت أشم رائحة الخراف تنبعث من بيوت ذات سقوف واطئة . وكنت أرى بعضهم وهم ينطلقون الى مروجهم عندما كانت الشمس تشرق ، وخيل الي أنني كنت أسمع أصواتهم التي اختلطت بصوت هدير السيارة التي كانت تنطلق بسرعة جنونية لم أعهدها من قبل ، سرعة أصابتني بدوار وكنت أبذل جهدا لأحافظ على توازني على أرضية تلك السيارة الحديدية المكسوة بالروث . بعد ذلك الطريق المتعرج الذي تحيط به القرى المتناثرة ، بدأت الطرق تبدو أكثر اتساعا وأكثر استقامة ، تحيط بها بيوت متراصة تفصلها مماشي ضيقة ، بيوت واطئة أشبه ببيتنا ، غير أن بيتنا يقع وسط مروج لا نهاية لها بينما تكتظ هذه البيوت وتتزاحم ، كتلاً صماء ليس بينها أية شجرة . ومن بعيد لاحت قرية كبيرة للبشر ، كتل زجاجية عمودية صقيلة متراصة بعضها عال جدا وبعضها أقل ارتفاعا . وثمة كتل أفقية صقيلة تخرج منها أنابيب لامعة شاخصة للسماء تنبعث منها أبخرة ودخان . بدا الهواء ثقيلا خانقا . ما لفت نظري في تلك الساعة حين كانت السيارة التي تحملني تقترب من حافات تلك القرية العظيمة هو مشهد قطعان البشر . قطعان لا أول لها ولا آخر تساق على الدروب بكل اتجاه . قطعان مرصوصة ولكن افرادها يبدون منفصلين ، شاردي الأذهان ، مطأطأي الرؤوس . يبدون وكأنهم أجسام متحركة بلا أرواح . يتوقفون أحيانا عند خطوط متوازية مرسومة على الطرق ، يبدو أنهم يلتقطون أنفاسهم من التعب ، أو أنهم يغطوا في نوم قصير وهم واقفين ، لا يلبثون بعدها الا أن يندفعوا مسرعين مرة أخرى ربما تنفيذا لأمر سيد خفي . يحافظون على استقامة سيرهم من دون الحاجة الى كلاب تضبط ذلك . أما الطرق فقد صارت كبيرة تتلوى بكل اتجاه ، تصعد وتهبط ويلتف بعضها حول بعض كأنها أفاعي عملاقة . تركض فوقها عربات مختلفة الأحجام تنفث من مؤخراتها السموم. عربات تحمل قطعانا أخرى من البشر المخدَّرين . وثمة بشر آخرون قد وضعوا في سيارات صغيرة راحت تنطلق بهم ، بشر لا يبدو عليهم أنهم سعداء ، أو أحياء حتى.
تشغلني أسئلة كثيرة ، ما الذي جعل السيد يتغير بهذا الشكل المفاجيء ؟ ولماذا سلمني لهؤلاء الغرباء الذين لم يقولوا لي شيئا ولم استطع فهم ما الذي كانوا ينوون القيام به معي ، والى أين هم ذاهبون بي بعيدا عن مرجنا الحبيب؟ وما بال هؤلاء البشر ؟ لماذا لا يكونوا سعداء مثلنا ؟ ولماذا هم محشورون هنا في هذا الجو الخانق الخالي من الخضرة ؟ ولكنني شعرت منذ أن وضعوا الحبل في عنقي وشدوا وثاق ساقيَّ وحملوني الى ظهر تلك السيارة أن شيئا ما قد تغير في هذا العالم، وأنني أصبحت واحدا من هؤلاء البشر المغيبين ربما.
انتهت رحلتنا الى ساحة عجيبة لم أر في حياتي شيئا مشابها لها . ساحة واسعة محاطة بسياج ويكسو أرضيتها مزيج من الحصى والروث والرمل وثمة بقايا من حشائش يابسة . ساحة تعج بالكثير من المجموعات المتقاربة من ذكور وأناث ، ولكنهم كانوا صامتين . حاولت أن أتبين الموقف من الروائح ولكن ذلك لم يساعدني كثيرا ، فالروائح كانت مختلطة وغريبة ومتنوعة . الا انني تيقنت أن هناك رائحة واحدة تتغلب على كل الروائح الأخرى ، وهي رائحة الخوف ، ورائحة الانكسار . كل المجموعات كانت تشعر بمثل ما أشعربه ، كلهم على حد سواء أصيبوا بهول الصدمة من التغير الذي طرأ على حياتهم ، وكلهم يفتقدون مروجهم وبيوتهم وجماعاتهم . كلهم لا يفهمون ما الذي ينتظرهم ولماذا هم هنا في هذا الحشد الغريب رغما عنهم .
حملني الرجال ووضعوني في مجموعة . تبين لي أنهم مجموعة من الذكور . الدوار الذي أصابني من جراء رحلتي الطويلة ، وسرعة الهواء البارد الذي كان يصفع أنفي ووجهي ، والخوف الذي انتابني ، ومنظر قطعان البشر الذين يجوبون طرق قريتهم التي مررنا بأطرافها ، كل ذلك دفعني الى ان أحشر جسمي بين أولئك الذكور باحثا عن الدفء . طأطأت رأسي في محاولة لاسترجاع تلك الأيام وتلك الليالي التي كنت أنعم بالأمن حينها وسط مجموعتنا بعيدا عن أنياب ذلك الكائن الحاقد والذي ما انفك يطاردني في احلامي .شعرت بالأمان قليلا بين هؤلاء الذكور ، واعتقدت أنهم اخوتي الذين طردتهم يوما ما . ولكن في غمرة انكساري وشعوري بالذل راودتني فكرة عجيبة . وهي أنني لم أطردهم فعلا بل توهمت ذلك في سورة غروري وزهوي بعد تلك الرؤيا التي رأيتها عندما مر بقربي ذلك الفحل ذو القرنين الذهبيين . نعم ، لابد أنني كنت أتوهم . والا فالى أين ذهبوا؟ وماذا حل بهم ؟ الآن وقد هدأت رغبتي بالأناث ، بدت لي الأمور بشكل مختلف تماما عما كنت أظنها . الآن وقد استبدت بي الرغبة في حشر رأسي بين حشد أخوتي الغرباء هؤلاء ، الآن فقط ساورني شعور بالذنب لأنني كنت قد آذيتهم يوما ما.
من بين أجساد أخوتي الجدد والحيارى مثلي تماما ، نظرت الى الرجال . كانوا بأعداد كبيرة ، مختلفين بأشكالهم وأطوالهم وملابسهم وألوانهم وروائحهم الكريهة .ولكن ما يوحدهم هو أنهم جميعا كانوا غريبي الأطوار، باردي المشاعر لا ينظرون الى أعين بعضهم ولا ينظرون الى عيوننا .كانوا مشغولين بأمر لا أفهمه وهم يتجادلون ويتكلمون بشكل متواصل . لاحظتهم يتجولون حولنا يلتقطون بعضا منا يتلمسون ظهورنا ويرفعوننا عن الأرض ويتركوننا . يمسكون برؤوسنا ويفتحون أفواهنا ويتفحصون أسناننا ، ثم يتركوننا . تكررت هذه الأمور مرات عدة . وأحيانا كانوا يمسكون ببعضنا ويقتادونهم بعيدا . ولاحظت أنهم يشبهون الى حد بعيد ذلك الكائن الذي يطاردني.
استمر هذا الأمر طيلة يوم أمس . وعندما غربت الشمس لاحظت ان أعدادنا المتبقية في تلك الساحة العجيبة أمست قليلة مقارنة بما كانت عليه في الصباح الباكر، و رحل أغلب الرجال ولم يتبق الا أعداد قليلة منهم. بعدها دفعنا نحن القلة المتبقون من مجموعتنا دفعا الى بيت قريب هو أشبه بهذا المكان ولكنه أصغر وسقفه أوطأ وأرضيته مغطاة بروث وبقايا أعشاب . وأظن أن المجموعات الأخرى أيضا قد سيقت الى بيوت أخرى مماثلة ، حيث كان هناك عدد كبير من هذه البيوت مبنية بشكل متراص على مسافة قليلة من تلك الساحة العجيبة . قضيت ليلة البارحة وأنا اشعر بالجوع والعطش . وحاولت النوم ولكنني لم أستطع فالروائح كانت متناقضة بشكل أفقدني القدرة على النوم . لذلك حاولت اجترار ما في جوفي من الأعشاب التي التهمتها من ذلك المرج الحبيب.
العطش ، والجوع، والدوار الذي خلفته في رأسي تلك الرحلة من بيتنا الى هذا المكان الغريب ، والأسئلة التي كانت تدور في رأسي وخاصة تغير سلوك السيد معي ، وتغير العالم من حولي ، والخوف الذي أستبد بي ، كل ذلك جعلني أبحث عن الراحة هربا من هذا الوضع المؤلم . وهل ثمة راحة ترتجى غير تذكر حياتي في ذلك المرج الحبيب. فسرحت بذكرياتي هناك ، حيث الأعشاب الغضة الخضراء والأزهار التي تتراقص تحت أشعة الشمس الذهبية ، والماء الذي يجري في جدول قريب على حافة المرج الحبيب .حيث كنا نركض مسرعين لنعتلي ربوة خضراء ، ثم ننطلق مسرعين باتجاه المنحدر الحاد الذي ينتهي بنا الى الصخور التي تستقر في قاع الجدول ، حيث يجري الماء البارد ، آه ، كم أشتاق لذلك المكان . ولرائحته ، ولأخوتي الصغار ، كم أشتاق لأمي.
لا أعلم بالضبط كم مر من الوقت وأنا في ذلك البيت بين عدد من الذكور الصامتين ، ولا أعلم ما اذا كنت قد غفوت أم أنني كنت مستسلما للذكريات أم غارقا بالأحلام طيلة تلك الليلة . ولكنني صحوت على أصوات الرجال وهم يفتحون باب ذلك البيت مسرعين ، ويبدأون بدفعنا الى تلك الساحة العجيبة مرة أخرى . تلك الساحة التي بدت وكأنها تكبر ، ويزداد عدد الرجال فيها شيئا فشيئا . وتزداد المجموعات من الذكور والأناث ، وترتفع أصوات الرجال ، ويعلو صراخهم ، وعلى مقربة تزداد أعداد السيارات التي تتحرك وتتوقف على حافة الساحة . مئات بل ربما آلالف السيارات وكأنها قطيع من نوع ما ، كانت تنفث من مؤخراتها الدخان الخانق . أما الروائح فأنها هي الأخرى تزداد وتختلط . كنت أتنفس بصعوبة بالغة.
انقضى وقت الصباح على هذه الوتيرة ، رجال يتفحصوننا ، يأخذون بعضا منا ويتركون الباقين ، وانقضى وقت الظهيرة كذلك والمشهد هو عينه لا يتغير . وفي وقت ما لا أعلم بالضبط ما اذا كان بعد انقضاء الظهيرة أم أثناءها ، جاء رجال ، دفعوني بقوة ، أصبحت لا أرى الا عددا أقل من الذكور ، ووجدت نفسي بين عدد كبير من الرجال ، ثم وبصورة مفاجئة وضعوني في صندوق ، وصاروا يتجادلون حول شيء ما على حافة ذلك الصندوق ، سمعتهم يذكرون أرقاما لم أعرف لها معنى. ثم تبادلوا أوراقا كانت مخبأة في جيوبهم . لا أعلم بالضبط من أعطى لمن ، ولكنهم حملوني الى سيارة أخرى مماثلة للسيارة التي جلبتني من بيتنا وانطلقوا بي الى جهة غير معلومة.
جهة غير معلومة ، هكذا كانت بالنسبة لي قبل أن يدخلوني فيها، لكنها الليلة أمست جهة معلومة ، بل أكثر الأماكن حضورا في رأسي. ياله من مكان لم أكن أتخيل أن في الوجود شيئا مثله . ولم يدر في خلدي أن مكانا مثل هذا كان موجودا في كل الأوقات ، ربما قبل أن أولد ، وعندما كنت صغيرا ، وعندما كنت ألهو في ذلك المرج الحبيب، وعندما كنت أنطح أخوتي أعدائي ، وعندما كنت أنام . تساءلت ، ترى منذ متى والرجال الأشرار يقومون بما يقومون به في هذا المكان ؟
كانت رحلة قصيرة ، عندما أنزلني الرجال من السيارة سحبوني رأسا الى داخل قاعة رهيبة . قاعة تعج بالرجال . كل منهم يحمل سكينا أو ساطورا أو نصلا لامعا . ملابسهم مغطاة بلون أحمر ، وتنبعث من أجسامهم رائحة كريهة. هذا أول شيء رأيته عندما كانوا يسحبونني من قرني بقسوة الى الداخل . أما سقف تلك القاعة فقد كان عاليا ، عاليا جدا ، ومصقولا جدا ، وقد ثبتت عليه مصابيح كبيرة بشكل منتظم ، مصابيح وهاجة لم أر في حياتي مثلها . أما جدران القاعة فكانت بيضاء وصقيلة ولامعة بصورة مخيفة . كانت الأصوات المرعبة تتردد أصداؤها بين الأرضية والجدران البيضاء والسقف اللامع ، أصوات الرجال الغرباء القساة ، ورنين أدواتهم الحديدية اللامعة.
الشيء العجيب الذي لفت نظري ، بل أفقدني توازني وهز كياني وأطاح بكل تصوراتي السابقة عن العالم ، الشيء الذي لم أكن اتصور يوما أن العالم يمكن أن يضم شيئا مماثلا لقبحه وقسوته هو الأرضية . كانت أرضية القاعة مصقولة بشكل لا يمكن تصوره.فقد كانت زلقة ، ومغطاة بالكامل بذلك السائل الأحمر ذو الرائحة الكريهة. ما أن دفعت الى داخل القاعة حتى وجدتني أفقد توازني وانزلق على بطني . يبدو أن الرجال لم يجدوا صعوبة بعد ذلك في سحبي ، سحبوني سريعا ، ولكنني رأيت ما لم يكن بالحسبان. رايت أخوتي من الذكور والأناث ، صغارا وكبارا ، فحولا ويافعين ، كلهم كانوا يسحبون , ويطرحون أرضا وتقطع السكاكين رقابهم ، فتتدفق السوائل الحمراء كأنها ينابيع ، يتألمون ، ويصدرون أصواتا لم أسمع مثلها يوما . يتألمون ويرتجفون وتتحرك أرجلهم في الهواء في الوقت الذي كانت أجسامهم ملقاة على تلك الأرضية الزلفة .
وشاهدت بعضهم تفصل رؤوسهم عن أجسامهم ، لكن تلك الرؤوس كانت هامدة لا حياة فيها . تسلخ جلودهم ، وتعلق أجسام كأنها أجسامهم عارية بلا فروات على عوارض حديدية صقيلة بكلاليب حديدية مدببة ، ثم تشق بطونهم ويخرج الرجال منها أشياء عجيبة وكأنهم يبحثون عن اشياء فقدوها هناك.
أوصلني الرجال الى شق في الأرضية كان يفيض بالسائل الأحمر وكأنه جدول . كان سائلا حارا ومتدفقا بسرعة وكأنه يهرب من الأهوال الفظيعة التي عجت بها تلك القاعة. لم أكن أعلم ما الذي يتعين علي فعله ، ولم أكن أعلم ان القسوة والكراهية قد بلغت بالرجال هذا المبلغ حتى يقوموا بما يقومون به الآن . ثبتتُ رجليَّ الخلفيتين على حافة تلك الساقية وبدفعة واحدة وجدت نفسي أفرُّ من أيديهم . فقد رجلان توازنهما ، وسقطا أرضا الى الخلف، وانزلقا على الأرضية الملساء ، وتطايرت السكاكين من أيديهما. اصطدما بآخرين وسقط عدد من الرجال على تلك الأرضية الزلقة ، وعمت الفوضى ، وصدرت عن الرجال أصوات لم أفهمها، وكأن الجميع أصيب بالجنون . ولكنني بلغت الباب المشرع حيث الأرضية الخشنة ، وانطلقت أعدو بكل ما لدي من قوة . ركضت أسرع ، أسرع ، حتى ظننت أنني أطير . ذهلت من قدرتي العجيبة على الركض بهذه السرعة وبهذه القوة وبهذا الاندفاع الغريب. والرجال خلفي . كانت المسافة بيننا تكبر . اعترضني بعضهم ولكنني أفلت أيضا . وانطلقت عبر أزقة تقود الى أزقة ثم الى ساحات مفتوحة ، ثم الى أزقة ضيقة . وهكذا صار الرجال الذين يركضون خلفي بعيدين جدا . لم أتوقف ، ولم ألتفت الى الخلف. كانت شمس أواخر العصر البرتقالية اللون والتي كانت بالكاد تلامس أعلى الجدران الصماء أحيانا تواجهني وتفقدني القدرة على الأبصار وأنا أركض عبر تلك المتاهة من الأزقة التي لا تنتهي وأمر بجانب أبواب مغلقة . وأحيانا تكون الشمس خلفي ، خلفي تماما بحيث استطيع أن أرى ظلي الممتد بمسافة بعيدة وهو يركض أمامي وكأنه يقودني الى غاية ما ، أو كأنه يهرب مني ، أو أنه يهرب هو الآخر من بشاعة تلك القاعة البيضاء الرهيبة . وأحيانا لا أجد الشمس بل أركض في ظلال الجدران في تلك الأزقة الميتة التي أخذت تصير أكثر عتمة . وما ان رأيت هذه الفتحة في هذا الجدار حتى حشرت جسمي عبرها لتنتهي رحلتي الى هذا المكان المحاط بجدران صماء ، ذي الأرضية المغطاة برمال لا رائحة لها.
وحيدا ومتعبا ومرعوبا ها أنا ذا أبرك فوق هذه الرمال وأحدق بالظلمة التي بدأت تخيم على المكان بعد أن تلاشت آخر خيوط للضوء الداخل الى هذا المكان من الفتحة . أشعر بالبرد وافتقد ذلك المرج الحبيب حيث كانت أشعة الشمس تنعكس على الأعشاب الذهبية في بداية الفصل البارد . ها أنا ذا يلفني صمت مطبق أفتقد صوت جدولنا حيث كانت المياه تتكسر على تلك الصخور وأفتقد أصوات الطيور وهي تضج بفوضى يومية في مثل هذا الوقت قبل أن تغط بنومها حتى الفجر التالي على تلك الأشجار العتيقة التي كانت تقف منتصبة على حافة جدولنا. يبدو أن هذا السكون الرهيب أخذ يضخم داخل رأسي تلك الأصوات التي كانت تتردد في القاعة البيضاء حيث هربت منذ ساعة أو ربما أقل أو أكثر لا أعلم . ها أنا ذا لم أعد أستطيع معرفة ما الذي حلَّ بي، أهو تأثير الجوع والعطش والتعب؟ أم هو تأثير الخوف ، أم هو تأثير تلك الأسئلة الكثيرة التي لم أجد لها جوابا .
لا أعلم كم مر من الوقت وأنا جالس هنا بين الحياة والموت ، بين الوعي والغيبوبة، في هذا المكان الذي صار لا مكان ، بل في هذه الظلمة الحالكة ، خلت أنني غفوت ، أو أُغميَ عليَّ ، لا أعلم كم من الوقت ، حين فتحت عيني وجدت أن ثمة ضوءً خافتا أمامي بالضبط ، وعلى مقربة من وجهي ، بل أكاد أشعر به يلامس أنفي . جفلت لأول وهلة وهممت بالنهوض منتصبا على قوائمي ، وهممت بالاستدارة الى الخلف والركض بعيدا ، الا أنني لم افعل . لا أعلم ما الذي منعني من النهوض ، أهو عجزي وتصلب جسمي ؟ أم انه الخوف؟ أم أنه ظني أن ما أراه هو مجرد حلم ، حلم آخر جديد ليس الا.
كان الوهج الخافت ينبعث من فروة ذلك الفحل العجيب الذي كان يراودني في أحلامي ، الفحل الأسود المهيب ذي القرنين الذهبيين العظيمين. التقت عيوننا . وبدأت أشعر بالدفء ، والأمان . كان جالسا أمامي تماما . وخلت أنني كنت أحس بأنفساسه الدافئة ، أنفاسة الهادئة المستقرة والعميقة تدفئ وجهي وجسمي ، وتنعش روحي. لم يقل شيئا بل كان صامتا طيلة الوقت . ولكنني فهمت كل شيء بطريقة ما ،عبر عينيه ربما ، أو عبر أنفاسه ، أو ربما عبر الوهج الخافت الجميل الذي كان ينبعث منه باتجاهي ، نقل لي الحقيقة التي غابت عني . وأجاب عن كل التساؤلات التي أثيرت في رأسي . وأكثر من ذلك بكثير ، فقد دلني على الطريق.
قال لي أنظر، مهما حصل ومهما سيحصل لك فأنت باقٍ. علمت أنني باقٍ في الذين أنجبتهم . وخيل لي أنني رأيت قطيعا كبيرا من الخراف يمتد الى أبعد من حدود مرجنا الحبيب. خلت أنني سمعته يقول لي : افتح عينيك وانظر ، أو ربما قال لي اغمض عينيك وانظر. وخلت أنني قد رأيت . رأيت أن تلك القاعة الرهيبة قد تمددت لتغطي مساحات لا حدود لها ، بل صارت العالم كله، وأن أولئك الرجال المتمادين متحجري القلوب قد ازداد عددهم ، وتنوعت أدواتهم ، وتنوع المقتولون أيضا ، فصاروا بشرا فضلا عن كل أنواع المخلوقات الأخرى من حيوانات وأشجار وجداول وأنهار. رأيت الرجال الغاضبين يزدادون قبحا شيئا فشيئا ، وتتغضن وجوههم، وهم يثقبون الأرض ويستخرجون من جوفها اشياءا عجيبة . ويخوضون البحار ويصطادون كل ما هو حي فيها . وقد صار لهم اتباع أكثر قبحا منهم يقومون بأعمال القتل والنبش تلك نيابة عنهم. صار الآمرون يعتلون عروشا عالية تسيل حولها الدماء ، ثم صارت تطفو فوق أمواج من الدماء . وتنوعت طرق القتل فصارت نيرانا ووميضا وصعقات من الوهج ونبضات من الصمت .
ورأيت أن العروش التي كانت تطفو فوق أمواج الدماء كأنها سفن عملاقة قد صارت قصورا ، و قلاعا محصنة ثم صارت مدنا لامعة صقيلة، حيث يعيش الآمرون بوجوه أخرى لامعة. ورأيت الطيور تهاجر الى اللامكان وتحوم بحثا عن بقعة آمنة ثم ينهكها الاعياء فتسقط غارقة في وحول سوداء لزجة . كان الضجيج يفقد مخلوقات المياه صبرها فتجنح الى الشواطيء مجنونة ، فتذيب حرارة النيران المستعرة في كل مكان أجسامها. ورأيت الأنهار وقد صارت مياهها داكنة اللون وهي تجري لتصب في بحار تنبعث منها رائحة كريهة . ورأيت النيران والأبخرة قد جالت مرات عدة بحثا عما يمكن أن تحرقه ، ولكنها لم تجد سوى تلك المدن اللامعة ، فبدأت تلتهم قواعدها وجدرانها وتصعد كأنها أعاصير مجنونة لتصهر أبراجها فتتهاوى تاركة عالما برتقاليا معبأ بأبخرة ملعونة يتردد فيها أنين المعذبين الذين ماتوا.
ثم رأيت العالم قد صار صحراء تزحف رمالها الصفراء بفعل ريح تهب باستمرار في كل اتجاه. ورأيت الصمت قد عمَّ . وبات كل شيء ينتظر مطرا يغسل الأرض ، لـتنبت من تحت الرمال أعشاب ، وأنهارا تعود تجري دون أن يعيقها شيء، وقطعانا وذئابا تهاجر دون أن تعيقها جدران ، وعربات لا تنفث دخانا من مؤخراتها تسير بصمت دون أن تجفل منها الطيور التي كانت تنام في أعشاشها على الأشجار العالية ، ورجالا تحت سماء زرقاء يحملون خرافا باحترام، يغمضون أعينها ، ويجعلوها مستلقية بسلام ، يهمسون لها ، فتحلق أرواحها راضية صوب الغيوم . ورأيت أيضا أن الرجال سيأتون لأخذي عند بزوغ الفجرالى تلك القاعة ذات الجدران البيضاء والسقف العالي. وسأنطلق فيها عديم الوزن لأنفذ من خلال ذلك السقف الحديدي الصقيل باتجاه النجوم البعيدة.






#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آباء وأمهات
- عيدية العيد
- عصابة الكف الأسود
- غطاء الرأس .. وظيفته ورمزيته
- الحرب على الأرهاب: الدروس المستفادة من منظور حضري


المزيد.....




- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...
- فنانة لبنانية شهيرة تكشف عن خسارة منزلها وجميع أموالها التي ...
- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - آخر ليلة في حياة كبش