أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - للحكاية أكثر من وجه















المزيد.....


للحكاية أكثر من وجه


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6334 - 2019 / 8 / 28 - 01:56
المحور: الادب والفن
    


الوجه‌ الأول
جلس الحاج داوود فی المقعد الخلفي لسیارة أجرة صفراء واضعا كیسا من البلاستك علی ركبتیه . كان الحزن باديا عليه وشارد الذهن . لحیته لم تحلق منذ أيام وملابسه غیر متناسقة ، فهو یرتدي بنطالا أسودا عريضا وقميصا مائلا للصفرة ضيقا بعض الشيء ، وسترة بنية اللون. أخرج من كيس البلاستك خاصته بعض الأوراق وبدأ يتفحصها . أوراق صغيرة وأخرى بحجم عادي ، عليها كتابة باللغة الأنكليزية.
في غضون ذلك كان سائق سيارة الأجرة ينهي بعض الأمور مع دلال مرآب النهضة وشاب آخر ، سلم السائق بعض النقود واستلم وصلا ، كما استلم من الشاب ظرفين كبيرين وسجل عليهما بعض الملاحظات وسجل بعض أرقام هواتف على هاتفه النقال، ومع شيء من المزاح. رفع طرف دشداشته وانزلق داخل سيارته خلف المقود .
- توكلنا على الله .قال السائق
أضطرالحاج داوود على ما يبدو لاستئجار سيارة لنقله من بغداد الى البصرة رغم ان هذا نادرا ما يحدث منذ مدة ليست بالقصيرة ، كان المرآب يبدو خاليا من الركاب في مثل هذه الساعة وفي مثل هذا اليوم من السنة. يعرف الحاج داوود ان استئجار سيارة من قبل شخص واحد قد تجعله عرضة للكثير من المشاكل لأنه على الأقل سيبدو غنيا ما يجعله عرضة للخطف من قبل عصابات وسيطرات وهمية بالتعاون مع السواق. ولهذا السبب تملكت الحاج داوود الكثير من المخاوف والشكوك .
أما السائق فقد كان هو الاخر قلقا ومرتابا من هذا الشخص الذي يجلس في المقعد الخلفي للسيارة ،والذي عليه أن يقطع معه كل تلك المسافة من بغداد الى البصرة وهو لا يعرف عنه شيئا سوى انه رجل عادي يستعجل السفر في مثل هذه الساعة وبمثل هذه الطريقة لأمر شخصي هام. وتذكر السائق تلك القصص التي كثيرا ما كانت تتردد عن ركاب قاموا بقتل السواق وسرقة سياراتهم .
يبدو مرآب النهضة في مثل هذه الساعة شبه مهجور . كانت الأكياس وقناني الماء البلاستيكية الفارغة وأزبال أخرى متنوعة تدور بدوامات هنا وهناك. محلات بيع المأكولات والمشروبات مغلقة . ورائحة البول تنبعث من الزوايا والجدران الخلفية للغرف التي كانت تنتشر بشكل عشوائي في المرآب. يفترش بضعة رجال الأرض وينامون متوسدين حقائب أو أكياس . حتى المتسولين لم يعد لهم وجود في مثل هذا اليوم من السنة . من الواضح أن الجميع غادروا للاشتراك بالمناسبة السنوية.
- هذا الدلال حرامي لا يخاف الله . قال السائق عن ذلك الدلال. لقد رأيته بعيني هاتين اللتين سيأكلهما الدود وهو يأخذ من الشاب خمسة وعشرين ألف دينار كأجرة لنقل البريد الى البصرة لكنه أقسم لي أنه أخذ عشرة ألاف فقط .
- ما حكاية هذين الظرفين ؟ سأل الحاج داوود بتعجب.
- رسائل . قال السائق
- رسائل ؟ كيف ؟
شرح السائق للراكب آلية نقل الرسائل بواسطة السواق الذين يعملون على الخط باعتبارها أسرع وأرخص وأضمن وسيلة .
- والله لو كنت اعلم لبعثت معك هذه التقارير الى البصرة ولم اضطر للسفر وحدي في هذا الليل .
- تقارير ؟ أية تقارير ؟
- والله يا أبا ... بماذا اناديك حجي ؟
- أبو سامي .
- والنعم أنا اخوك حاج داوود أبو سلمان .
- حياك الله .
فيما كانت السيارة تغادر المرآب عبر بوابته المتداعية ، بدأ الحاج داوود يروي للسائق قصته والسبب من رحلته المستعجلة الى البصرة هذه الليلة . أخبره أن زوجته مريضة بمرض عضال وقد عجز الأطباء في البصرة عن تشخيص مرضها مما أضطره لقبل أسبوعين اصطحابها الى بغداد لاجراء الفحوصات ، لكنهم أخبروه ان النتائج ستظهر بعد مدة وبسبب عدم امكانية بقاءه في بغداد عاد بها الى البصرة ومن ثم سافر وحده الى بغداد لاستلام نتائج الفحوصات وقد استلمها اليوم وأخبروه أن زوجته مصابة بالسرطان ولابد لها من بدء العلاج بالكيمياوي بأسرع وقت ممكن ، لهذا السبب هو مضطر للسفر على جناح السرعة .
- لو انني كنت أعلم بأن التقارير يمكن أن تصل بواسطة سواق السيارات لكنت أرسلتها وانتظرت في بغداد . قال الحاج داوود. مبينا ان كثيرين ممن هم في حالتها يسافرون الى الهند ولكن الحالة المادية للعائلة لا تسمح لهم بالتفكير بمثل هذه الخيارات.
روى الحاج داوود ذلك بكثير من الألم والحزن . كان السائق يبدي علامات الضجر حين سمع القصة ، ولكنه تصنع التعاطف معه ، مبديا أسفه الشديد .
- يقولون أن النظام السابق قد دفن المخلفات السامة في صحراء الزبير. قتلنا الظالم أثناء حياته ، وما زالت جرائمه تقتلنا بعد موته. وهذا هو السبب وراء كثرة الأمراض.قال الحاج داوود.
- ليس هذا فحسب ، قال أبو سامي ، الأمريكان لعنة الله عليهم استخدموا اليورانيوم ، كما يقولون ، ولو أنني والحمد لله لم ألتقِ بأحد منهم طيلة فترة وجودهم في العراق . لقد روى لي أحدهم كيف أن الدبابات العراقية قد صهرت أثناء الحرب بفعل اليورانيوم .
- كلهم مجرمون أبا سامي، ونحن الضحية. يقول بعضهم الماء هو السبب ، ماؤنا ملوث يا أبا سامي وأنت تعرف ذلك .
- أيه الماء . قال أبو سامي . تعرف يا أبا سلمان ، صاحب السيارة هذه رجل طيب وأنا مجرد سائق أعمل على سيارته كمساعدة مني ،وهو أحد أصدقائي، توفيت زوجته وأحد أبنائه العام الماضي بسبب الماء الملوث. وأنت ما هو عملك؟ سال أبو سامي.
- أنا متقاعد . كنت أعمل سابقا في الميناء ، نحمد الله على كل شيء ، ولو ان راتب التقاعد لا يكفي ، لكن الحمد لله. رد الحاج داوود.
كانت السيارة تنطلق سريعا على الطريق السريع باتجاه الجنوب حين شغل السائق جهاز التسجيل االذي راح يبث بصوت عال . فيما راح الحاج داوود ينظر الى الظرفين الكبيرين اللذين وضعهما السائق أمام مقود السيارة تحت علبة المناديل الورقية.
- عاشت أيدك والله كنت أحب أن أسمع هذا ، أختيار جيد وذوق رفيع.
- تدلل عيني أبو سلمان ، تعرف الطريق طويل ولابد من قتل الوقت .

الوجه الثاني
جلس داوود فی المقعد الخلفی لسیارة أجرة صفراء واضعا كیسا من البلاستك علی ركبتیه . لقد بذل جهدا هذا اليوم محاولا أن یبدو حزینا شارد الذهن . فهو قد تعمد ألا يحلق لحیته منذ یومین وارتدى ملابسا غیر متناسقه‌. بل أنه قد بالغ في التمويه كثيرا فارتدى بنطال أأسودا عريضا وقميصا مائلا للصفرة ضيقا بعض الشيء ، وسترة بلون بني. متصنعا التعب. كان كيس البلاستك يحتوي أوراقا لاقيمة لها ، أوراقا صغيرة وأخرى بحجم عادي ، عليها كتابة باللغة الانكليزية.
أثناء ذلك كان شاب يتحدث الى دلال المرآب ، مبينا له أنه ينوي أرسال ظرفين كبريد لأخيه في البصرة ، قال أنها مستمسكات رسمية وأوراق تخص معاملة تقاعد والده الذي تقاعد للتو. طلب منه دلال المرآب أن يؤخر ارسال الظرفين الى يوم غد أو بعد غد وذلك لأن الحركة اليوم في المرآب شبه معدومة بسبب المناسبة السنوية . الا ان الشاب أصر على ارسالهما في هذا الوقت . قال له الدلال لا يوجد سوى ذلك السائق الذي سيطلب منك مبلغا مضاعفا . ولكن الشاب توسل للدلال أن يساعده في ذلك . نادى الدلال على سائق السيارة الصفراء ، وتحدث معه بخصوص الظرفين ، طالبا منه التساهل في طلب أجرة التوصيل. طلب السائق مبلغا قدره خمسين ألف دينار. وبعد جدال أتفق مع الشاب على مبلغ قدره أربعين ألفا . سلم الشاب الظرفين مع المبلغ للسائق وغادر المرآب وهو يرمق داوود الجالس في المقعد الخلفي للسيارة الوحيدة الموجودة في المرآب في تلك الساعة بنظرة غريبة.أعطى السائق عشرة ألاف دينار من المبلغ للدلال كعمولة فضلا عن المبلغ المتعارف عليه كدلالية واستلم منه وصلا . ضحك الأثنان وتمازحا ثم رفع السائق دشداشته وانزلق داخل سيارته .
- توكلنا على الله. قال السائق
أضطر داوود على ما يبدو لاستئجار سيارة لنقله من بغداد الى البصرة رغم ان هذا لا يحدث منذ زمن بعيد ، فعل ذلك رغم المخاطر الكبيرة التي يمكن أن يتعرض لها ان هو بدا كرجل أعمال ميسور الحال. فالأشخاص الأغنياء يكونون عرضة للخطف على طريق بصرة بغداد . وقد ترددت أخبار كثيرة عن تعاون السائقين مع عصابات الخطف والتسليب والسيطرات الوهمية عن طريق أجهزة الموبايل لتصيّد هؤلاء،الميسورين، لذلك حاول الحاج داوود أن يتقمص شخصية مواطن عادي ينهكه العوز وتثقل كاهله مشاكل الحياة. أما السائق فقد كان هو الآخر قلقا ومرتابا من هذا الشخص الذي يجلس في المقعد الخلفي. فقد تردد أن بعض الركاب قاموا بقتل السواق وسرقة سياراتهم.
مرآب النهضة الذي يقع في الجانب الشرقي من العاصمة يبدوا خاليا في مثل هذه الساعة . كانت النفايات من الأكياس وقناني الماء البلاستيكية الفارغة والأتربة تدور بدوامات في زوايا الساحة. وقد أغلق أصحاب المحلات والمقاهي أبوابهم وغادروا. يفترش عدد قليل من الرجال الأرض وينامون هنا وهناك . وقد أختفى المتسولون والباعة المتجولون أيضا على غير عادتهم . يبدو أن الجميع قد غادروا للاشتراك بهذه المناسبة السنوية.
- هذا الدلال حرامي ما يخاف من الله ، قال السائق ذلك عن الدلال. لقد رأيته بعيني هاتين اللتين سيأكلهما الدود وهو يأخذ من الشاب خمسة وعشرين ألف دينار كأجرة لنقل البريد الى البصرة لكنه أقسم لي أنه أخذ عشرة ألاف فقط .
- ما حكاية هذين الظرفين ؟ سأل داوود بتعجب .
- رسائل . قال السائق
- رسائل ؟ كيف ؟
بين السائق للراكب ان الناس هذه الأيام يرسلون رسائلهم لذويهم بواسطة السواق الذين يعملون على الخط ، وهي وسيلة سهلة وسريعة وآمنة .
- والله لو كنت أعلم لبعثت معك هذه التقارير الى البصرة ولم اضطر للسفر وحدي في هذا الليل .
- تقارير ؟ أية تقارير ؟
- والله يا أبا ... بماذا اناديك حجي ؟
- أبو سامي .
- والنعم أنا اخوك داوود أبو سلمان .
- حياك الله .
عندما اجتازت السيارة الصفراء بوابة المرآب المتهالكة كان داوود يروي للسائق حكايته ، فأختلق قصة مرض زوجته واضطراره للسفر في مثل هذه الساعة لايصال التقارير الطبية . وحاول جاهدا أن يبدو حزينا ومهموما لأنه غير قادر على تحمل تكاليف علاجها في الخارج ، ذلك لأنها مصابة بالسرطان .
(أرجو أن تكون هذه القصة محكمة وكافية لاقناعه بصدقها) . فكر داوود ،فيما سرح فكره بعيدا في المهمة التي يتعين عليه القيام بها غدا . اذ يتعين عليه أن يكون في البصرة غدا لاتمام صفقة مهمة . تذكر أبأ محمد الذي سيكون بانتظاره غدا والذي طلب منه مبلغ مائتين وخمسين ألف دولار كعمولة لتوقيع العقد . فكر كم ان هذا العقد مهم جدا له لتعويض خسارته في العقد السابق .
كان السائق يبدي علامات الضجر حين سمع قصة مرض زوجة داوود ولكنه تصنع التعاطف معه ، مبديا أسفه الشديد . فيما تطور الحوار الى قضية تلوث البصرة بالاشعاعات النووية والتي باتت تهدد حياة الكثيرين من السكان ، ثم تطرقا الى الأفكار التي تتردد حول أسباب هذا التلوث .
- يقولون أن النظام السابق قد دفن المخلفات السامة في صحراء الزبير. قتلنا الظالم أثناء حياته ، وما زالت جرائمه تقتلنا بعد موته. وهذا هو السبب وراء كثرة الأمراض.قال الحاج داوود.
وسرح داوود بذكرياته بعيدا ، رأى نفسه حين كان على وشك أن يصبح رفيقا في الحزب في احدى المحافظات قبيل سقوط النظام السابق بفترة وجيزة . وتذكر بشيء من الأسى فقدانه للمكانة التي كان يتمتع بها في ذلك الوقت . وكيف كان يسافر بسيارة جديدة . تذكر سائقه محسن الذي خدم معه سنوات والذي قتل وسلبت السيارة منه حيث كان يخبؤها في بيته الريفي ذات ليلة بعد سقوط النظام بقليل.
- ليس هذا فحسب ، قال أبو سامي ، الأمريكان لعنة الله عليهم استخدموا اليورانيوم ، كما يقولون ، ولو أنني الحمد لله لم ألتقِ بأحد منهم طيلة فترة وجودهم في العراق . لقد روى لي أحدهم كيف أن الدبابات العراقية قد صهرت أثناء الحرب بفعل اليورانيوم .
- كلهم مجرمون أبا سامي، ونحن الضحية. بعضهم يقول الماء هو السبب ، ماؤنا ملوث يا أبا سامي وأنت تعرف ذلك .
- أيه الماء . قال أبو سامي . تعرف يا أبا سلمان ، صاحب السيارة هذه رجل طيب وأنا مجرد سائق أعمل على سيارته كمساعدة مني ،وهو أحد أصدقائي، توفيت زوجته وأحد أبنائه العام الماضي بسبب الماء الملوث. وأنت ما هو عملك؟ سال أبو سامي.
- أنا متقاعد . كنت أعمل سابقا في الميناء ، نحمد الله على كل شيء ، ولو ان راتب التقاعد لا يكفي ، لكن الحمد لله. رد داوود.
تذكر أبو سامي الأيام السعيدة التي قضاها حين عمل سائقا لدى الأمريكان سنوات طويلة . حين كان يقود سيارة جي أم سي حديثة رباعية الدفع . وتذكر الراتب المجزي حينها الذي كان يتقاضاه لقاء عمله معهم . وتذكر المعاملة اللطيفة التي كان يحظى بها منهم . وتذكر أنه تمكن من شراء سيارته الأولى قبل سنوات من الأموال التي كسبها من عمله معهم، والتي باعها ليشتري هذه السيارة.
ما ان انطلقت السيارة باتجاه الجنوب حتى شغل السائق جهاز المسجل الصوتي الذي راح يصدح بضيج يصم الآذان . حاول داوود جاهدا اخفاء امتعاضه من سوء اختيار السائق لهذا الشريط بالذات ، وفكر : كيف سأتمكن من تحمل هذه الرحلة الطويلة مع هذا السائق عديم الذوق . تذكر الأشرطة التي كان يضعها له سائقه القديم محسن الذي كان يعرف تماما ما يحب داوود سماعه ، تحسر بصمت، فيما كان يركز نظره على الظرفين الكبيرين الموضوعين تحت علبة المناديل الورقية في مقدمة السيارة امام المقود .
- عاشت أيدك والله كنت أحب أن أسمع هذا ، أختيار جيد وذوق رفيع.
- تدلل عيني أبو سلمان ، تعرف الطريق طويل ولابد من قتل الوقت .
الوجه الثالث
جلس السيد داوود فی المقعد الخلفی لسیارة صفراء واضعا كیسا من البلاستك علی ركبتیه . لحیته خفيفة على طريقة المتدينين هذه الأيام ، محاولا اظهار الزهد على شخصيته من خلال ملابسه المتواضعة ، فهو یرتدی بنطالا أسودا عريضا وقميصا مائلا للصفرة ضيقا بعض الشيء ، وسترة بلون بني. أخرج من كيس البلاستك خاصته بعض الأوراق وبدأ يتفحصها . أوراق صغيرة وأخرى بحجم عادي ، عليها كتابة باللغة الأنكليزية.
في ذلك الوقت كان أبنه الشاب الذي قدم معه الى مرآب النهضة ولكنه تأخر عنه بمسافة للتمويه يحمل ظرفين كبيرين ويتحدث الى دلال المرآب لايصالهما الى البصرة. كان يحرص أن يرسلهما كبريد مع سائق السيارة نفسها التي استأجرها والده . لأسباب أمنية لا يعلم بها أحد كان السيد داوود قد رتب هذه الخطة مع ابنه الشاب . استدعى الدلال السائق الذي اتفق مع الشاب على أجرة توصيل البريد وزوده برقم تلفون شخص في البصرة يستلم البريد منه . تم اكمال الترتيبات على أحسن وجه . واستلم السائق المبلغ المتفق عليه . ثم انزلق داخل سيارته خلف المقود. نظر الشاب لأبيه الجالس في المقعد الخلفي بنظرة خاطفة وكأنه يقول له أن كل شيء تم حسب الخطة.
- توكلنا على الله . قال السائق
أضطر السيد داوود لاستئجار سيارة لنقله الى البصرة على وجه السرعة ، وبالرغم من المخاطر الكبيرة التي يمكن أن يتعرض لها في هذا الوقت الا أنه شعر أن عليه أن يكون في البصرة غدا صباحا . تحسس المسدس الذي كان يخفيه في ملابسه والذي يمكن أن يستخدمه عند الضرورة . وحاول أن يبعد عن ذهنه كل تلك الأفكار والقصص التي كانت تتردد عن خطف التجار والرجال الذين يبدو انهم ميسورين على الطرق العامة.
أما السائق فقد ساورته المخاوف متذكرا تلك القصص التي كان يتداولها السواق كثيرا عن قيام ركاب بقتل السواق وسرقة سياراتهم.
بدا مرآب النهضة خاليا هذه الساعة سوى من النفايات وقناني الماء البلاستيكية الفارغة والأوراق التي كانت تتطاير في أرجاء الساحة. وقد أغلقت المحلات والمقاهي أبوابها وغادرأصحابها. كان عدد قليل من الركاب الذين تقطعت بهم السبل كانوا يفترشون الأرض وينامون هنا وهناك . حتى المتسولين اختفوا أيضا، ويبدو أن الجميع قد غادر للاشتراك بهذه المناسبة السنوية.
- هذا الدلال حرامي ما يخاف من الله ، قال السائق ذلك عن الدلال. لقد رأيته بعيني هاتين اللتين سيأكلهما الدود وهو يأخذ من الشاب خمسة وعشرين الف دينار كأجرة لنقل البريد الى البصرة لكنه أقسم لي أنه أخذ عشرة ألاف فقط .
استمع السيد داوود لما قاله السائق ، وهز رأسه امتعاضا . اهتز هاتفه النقال بصمت . فقد استلم للتو رسالة نصية من ابنه يخبره فيها أنه قد سلم السائق الظرفين المهمين وسلمه مبلغ أربعين ألف دينار.
- ما حكاية هذين الظرفين ؟ سأل السيد داوود
- رسائل . قال السائق
- رسائل ؟ كيف ؟
حاول السائق افهام الراكب ان الناس يقومون بارسال بريدهم صحبة السواق الذين يعملون على الخط . وهي طريقة سهلة وسريعة .
- والله لو كنت أعلم لبعثت معك هذه التقارير الى البصرة ولم أضطر للسفر وحدي في هذا الليل .
- تقارير ؟ أية تقارير ؟
- والله يا ابا ... بماذا اناديك حجي ؟
- أبو سامي .
- والنعم أنا اخوك السيد داوود أبو سلمان .
- حياك الله .
فیما كانت السیاره‌ تمر من خلال بوابه‌ المرآب المهدمة باتجاه الشارع العام فكر السيد داوود أنه ان ادعى انه رجل عادي يعاني من مشاكل كمرض زوجته بمرض السرطان مع تعذر علاجها بسبب فقر الحال فربما سيكون ذلك كافيا لدرء الكثير من الأخطار، فهو لا يطمئن للسائق ولا للطريق. وقد قام بالدور بشكل اعتقده كاف.
(ربما صدق هذا الغشيم القصة ) فكر السيد داوود في نفسه. فيما هو يفكر بالمئات بل بالآلاف الذين يتعين عليه التأثير عليهم، الآلاف من البسطاء الذين ينوي التوجه اليهم قريبا لمخاطبتهم ان هو أفلح في مشروعه الأخير. ( مغفلون ) قال في سره. فكر أن عليه أن يدفع المائتين والخمسين ألف دولار غدا الى أبي محمد لاتمام الصفقة الأخيرة ، وان هو نجح فيما يسعى اليه فربما لن يكون مضطرا للدفع لأبي محمد وغيره من الصغار ، سيكون مركزه أكبر، وفكر ان هذه المرة الأخيرة التي يسافر فيها وحيدا. في قادم الأيام سيسافر بموكب رسمي رفقة رجال مدججين بالسلاح للحماية. وتذكر مركزه السابق عندما كان على وشك أن يصبح عضوا في حزب النظام السابق. وتذكر كم بذل من الجهد والوقت والمال كي ينجو بعد سقوط النظام ، ليس هذا فحسب بل انه سعى ليستعيد وضعه ومكانته فيما فشل الكثيرون من أمثاله. فكر أنه ذكي بما فيه الكفاية للقيام بذلك . ولكنه تذكر أنه ذكاءه قد خذله في المحاولة السابقة ، حين انضم لتحالف السعفة في الانتخابات الأخيرة . لن يكرر ذلك الخطأ مرة أخرى ، فقد شعر بخيبة أمل من جراء ذلك حين نكث قادة تحالف السعفة بوعودهم معه. ستكون الفرص التي يوفرها ائتلاف النخلة هذه المرة أفضل بكثير ، ولابد من القيام بكل ما يلزم في الأيام القادمة لضمان كسب ثقة وتأييد قادة الائتلاف. كل ما يلزم ، قال في سره.
بدت علامات الضجر على السائق حين تطرق السيد داوود لحكاية مرض زوجته ، ولكن الرجلين بدءا يتطرقان للأسباب التي أدت الى زيادة نسبة التلوث في البصرة ، وبالتالي ارتفاع نسبة الذين يصابون بالسرطان .
- يقولون أن النظام السابق قد دفن المخلفات السامة في صحراء الزبير. قتلنا الظالم أثناء حياته ، وما زالت جرائمه تقتلنا بعد موته. وهذا هو السبب وراء كثرة الأمراض.قال الحاج داوود.
مرت بذهن السيد داوود صور وذكريات بعيدة ، حاول تناسيها جهد الأمكان. صورته وهو يرتدي بدلة زيتونية اللون ،. صورته وهو يجلس في سيارة يقودها محسن الذي يعرف كل الدروب والذي يرتب له كل المواعيد الليلية السرية والذي يحضر معه كل ما يلزم لقضاء ليلة حمراء لا يعلم بها أحد. كان محسن يتجنب اصطحاب داوود الى مثل هذه السهرات بالسيارة الرسمية لذلك كان كل مرة يحضر سيارة من نوع مختلف ، ولم يسأله داوود كيف يقوم بذلك .( والله محسن ذيب ، الله يرحمه). فكر في نفسه.
- ليس هذا فحسب ، قال أبو سامي ، الأمريكان لعنة الله عليهم استخدموا اليورانيوم ، كما يقولون ، ولو أنني الحمد لله لم ألتقِ بأحد منهم طيلة فترة وجودهم في العراق . لقد روى لي أحدهم كيف أن الدبابات العراقية قد صهرت أثناء الحرب بفعل اليورانيوم .
- كلهم مجرمون أبا سامي، ونحن الضحية. يقول بعضهم الماء هو السبب ، ماؤنا ملوث يا أبا سامي وأنت تعرف ذلك .
لم يطمئن السائق من نوايا الراكب فادعی‌ ان السيارة ليست له وانه مجرد سائق يعمل عليها . ادعى ان السيارة تعود لرجل ماتت زوجته وأبنه بالماء الملوث العام الماضي. ثم سأل الراكب عن عمله.
- أنا متقاعد . كنت أعمل سابقا في الميناء ، نحمد الله على كل شيء ، ولو ان راتب التقاعد لا يكفي ، لكن الحمد لله. رد داوود.
حين ذكر السائق في حديثه الأمريكان ، تذكر الذين كان يعمل معهم سائقا ، تذكر كريغ الرجل العجوز الذي كان يعشق الأكل كثيرا، كريس الدائم المزاح ، أماندا الجميلة. كم كانت أياما رائعة ومريحة وكم كان المكسب فيها مجزيا. وكم كان الأمريكان لطفاء. فكر أبو سامي في نفسه. وتذكر أنه كان قد استغل موقعه من أجل الحصول على رشى من عراقيين لقاء خدمات متنوعة كان يقدمها لهم. تذكر أنه كان يرى نفسه شخصا آخر حين كان يعمل معهم ، شخصا كان يحاول أن يبدو متحضرا. وتذكر كيف سرق مبلغا من المال منهم قبيل رحيلهم بوقت قصير. (هم سرقوا الكثير ، الا يحق لي أن أخذ لنفسي جزءا بسيطا منهم ؟ لعنهم الله). قال أبو سامي في سره.
كانت السيارة تنطلق بسرعة فائقة على الطريق السريع باتجاه الجنوب فيما بدأ جهاز المسجل الصوتي يطلق أصوات تصم الآذان . راح السيد داوود ينظر الى الظرفين الكبيرين اللذين وضعهما السائق أمام مقود السيارة تحت علبة المناديل الورقية. فكر السيد داوود في نفسه ( مستقبلي ونجاح مشروعي مع حزب النخله‌ يكمن في هذين الظرفين ). حاول التفكير بمشروعه السياسي الجديد الواعد محاولا اخفاء امتعاضه بسبب ضجيج المسجل الصوتي .
- عاشت أيدك والله كنت أحب أن أسمع هذا ، أختيار جيد وذوق رفيع.
- تدلل عيني أبو سلمان ، تعرف الطريق طويل ولابد من قتل الوقت .



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آخر ليلة في حياة كبش
- آباء وأمهات
- عيدية العيد
- عصابة الكف الأسود
- غطاء الرأس .. وظيفته ورمزيته
- الحرب على الأرهاب: الدروس المستفادة من منظور حضري


المزيد.....




- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - للحكاية أكثر من وجه