أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - في ساعة فجر















المزيد.....

في ساعة فجر


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6348 - 2019 / 9 / 11 - 05:36
المحور: الادب والفن
    


كانَ نصفُ جسمي الأسفل مُخَدَّراً تماماً ، بل أكثر من نصفي . فابتداءً من كتفيَّ حتی قدميَّ كان جسمي عبارة‌ عن لوحٍ خشبيٍّ مطروح أرضاً . كنت قادراً على تحريك رأسي ورقبتي فقط. وكنتُ أستلقي على بطني في غرفةٍ مظلمةٍ على مقربة من بابها ملاصقاً للجدار الذي ينتهي بذلك الباب ، وبالكاد كنت أرى فتحةَ الباب القريبةَ من رأسي كشق طولي ضيّق. كانت جدرانُ الغرفة مكسوةً بسخامٍ أسود ناعم ،سخامٍ عمرُهُ مئات السنين ، تراكمَ من جرّاء عملياتِ حرقٍ موغلة في القدم ، سخامٍ بارد. بدتْ الغرفةُ مهجورةً منذ دهور.
كان ثمة فجوة حديثة وسط الجدار البعيد القائم خلفي والذي يبعدُ عن قدميَّ المخدرتين ستةَ أذرعٍ تقريباً. كانت حداثةُ الفجوةِ واضحةً من نظافة أسطح الطابوق التي بدت صفراء حيث هُدِمَ الجدارُ المتَّسِخُ بشكلٍّ غير منتظم ما أحدثَ فجوةً شبهَ دائريةٍ قطرُها ذراعان. لا أعلمُ ما الذي هدمَ الجدارَ بهذا الشكل. كنت أستطيعُ أن أرى من خلال تلك الفجوةِ أمرأتين غريبتين مُسَمَّرَتين في مكانِهما لا تبرحانه ، جالستين على الأرض وسط حجرة صغيرة معزولة ومحاطة بجدران ، يضيء وجهَيهما ضوءٌ مصفرٌ منبعثٌ من موقد.
بدا لي أن هاتين المرأتين قد حُبِسَتا في ذلك الحيِّز منذ زمنٍ بعيدٍ، لمْ يلحظْ وجودَهما أحدٌ ، ولكنَّ قوة ما أحدثتْ فجوةً في هذا الجدار فصار بامكانهما التواصلُ مع العالم خارج نطاق تلك الغرفةِ المنسيّةِ. كانت أحدى هاتين المرأتين تبدو وكأنها مسكونة بأرواح أو كأنها مشحونة بطاقة ما أوانها تمتلكُ قدراتٍ عجيبةٍ ولكنها كانت غاضبةً ، غاضبةً جدا.
كانت تلك المرأة على وشك أن تبوحَ بسرٍّ ما. وهي كي تفعلَ ذلك لابد أن يحضرَ شخصٌ ما ، رجلٌ ، يبدو أنه كبير القوم أو ما شابه. وكان لابد أن يشهد تلك اللحظات حشدٌ من الناس.
كنت أنا وسيلة المرأتين للاتصال بالعالم الكائن خارج تلك الغرفة ، أنا المشلول الملقى على مقربةٍ من بابِ الغرفةِ المظلمةِ ، اذ كان بامكاني ادارة رأسي الى الخلف لأرى وجهيهما اللذين تتراقصُ عليهما انعكاساتُ نارِ الموقد ، وكان بامكاني أن أنادي العالم الخارجي من خلال البابِ المواربِ قربي. فيعبرُ صوتي دهليزا ضيقا ثم يلتفُ يميناً ليتوسطَ فناءَ البيتِ المهجورِ ثم يعلو لينطلقَ في الفضاءِ فوقَ جدرانِ البيتِ ثم ينتشرُ في كلِّ الاتجاهات ليلتقطَهُ الناسُ حيثما كانوا، فيهرعون ليشهدوا الحدثَ. كان صوتي وأذنيَّ هما وسيلة تواصل المرأتين القابعتين في الظلام مع العالم. ولهذا فقد عمدتا على شلّ نصفي الأسفل لتتمكنا من استخدامي للتواصل .
طلبتْ المرأةُ الأصغر سناً والأعلى رأساً حضورَ كبير القوم ، وبعد مدةٍ أطلَّ بوجهه المبتسمِ ، كان يبدو غيرَ مبالٍ بالأمر الرهيب الذي كان على وشك الحصول. حضرَ أناسٌ آخرون واحتشدوا عند فتحة الباب تماما فوق رأسي ، كنتُ أستطيعُ رؤيةَ أرجلهم فقط ، وأخالُ أنني كنتُ أشمُّ رائحةً كريهةً تنبعثُ من بين أصابعِ أقدامِهم .وانْ أردتُ رؤيةَ وجوههم كان عليَّ أن أبذلَ جهدا مؤلما.
عندما حضرَ الكبيرُ وهو رجلٌ حسن الهندام ، على وجهه حمرةٌ تنُمُّ عن نعمة، يرسمُ ابتسامةَ وقار، بدا وكأنه يريدُ أن يُطَمْئِنَ الجميعَ أن كلَّ شيء على ما يرام ، وأن هذا الحدث ليس سوى شيءٍ عابر ، وأن الأمورَ ستستمرعلى ما هي عليه دون تبَدُّل . كان يريدُ أن يزرعَ الثقةَ في نفوسِ الناسِ المحتشدين الذين تملَكَهُم الهلعُ وأعياهم الترقبُ المضني. تحدثتْ المرأةُ الأصغُر سنا بصوتٍ ضعيف ، وعيناها تلمعان بضوء أحمر خافت . بدت وكأنها تريد أن تبدأ كلامها بعتابٍ خفيف ، أوأنها تريدُ أن تَحتجَ ، أن تمهدَ لثورتِها القادمةِ برويّة. ولِمَ لا ، فقد تحققَ لها ما أرادتْ ، فها هم الناسُ يحتشدون حيارى ، وينحشرون في فتحة باب الغرفة السوداء ويتزاحمون في الدهليزِ الضيِّقِ الذي يربط الغرفةَ بباحةِ الحوشِ المفتوحِ . جاءوا ليشاهدوا المرأتين القابعتين وسط حجرة مظلمة صغيرة ليس فيها سوى موقد وقد انفتحت للتو على غرفة مظلمة لم يدخلها أحد ، ترتبط بدهليز يقود الى فناء بيت مهجور. جاءوا من كل مكان ليسمعوا ما تريدُ قولَه ، وكلُّهم آذانٌ صاغيةٌ ، تعلو وجوهَهم المصفرةَ ملامحُ الخوفِ والترقبِ والدهشةِ كأنَّهم على وشك الموت. جاءوا ليشهدوا بأعينهم ما كانتْ الجدرانُ الثقيلةُ تحجُبَهُ قروناً. قالتْ :
(كلُّ ما طلبتُه هو مصابيح الحكمة الخمسة ليس الا).
عندما كانت تنطقُ تلكَ الجملة تَدفقَ منها غضبٌ عارمٌ ارتفعَ معهُ صوتُها ، وأكْفَهَرَ وجهُها ، وتطايرَ الشررُ من عينيها ، نُفِشَ شعرُها كأسلاكٍ معدنية مكهربة ، واندفعتْ رياحٌ مكبوتةٌ من تلك الفجوة . حدث ذلك عندما كانت تنطق بالكلمات الأخيرة من جملتها الأولى. خيل لي أنني رأيتُ الطيورَ والكائناتِ الأخرىِ تفرُّ مذعورةً بعيداً ، فهي ليست طرفاً في ما يجري.
لم أعرفْ ما دورُ المرأة الأخرى التي جلستْ بجوارِ المتحدثة ، كانتْ أكبرَ سناً، وبدتْ ضئيلةَ الجسمِ وكأن الزمانِ قد أنهكها . هل هي أمُّها ؟ هل هي جدتُها؟ هل هي مجرد أمرأة أخرى حبستْهما تلك الجدران قروناً معاً؟ هل كانتْ تُذَكِرُّها بما يجبُ عليها قولُه في هذه الساعة الحاسمة؟ هل كانت تحرضُّها وتَؤزُّها؟ هل هما امرأة واحدة بجسدين؟ لا أعلم.
عندما بدأتْ تلك المرأةُ تذكرُ أسماءَ مصابيحَ الحكمةِ الخمسةِ واحداً تلوَ الآخر تأكيداً منها على ما كانت تطلب ، وتذكيراً بما كانت تطلب ،عصفتْ في الأرجاءِ عاصفةٌ مجنونةٌ وتردَّدَ صوتُها المخيفُ في الفضاءِ بشكلٍّ لولبيٍّ لم أستطعْ معه أنْ اتبيَّنِ الكلماتِ التي كانت تُرَدِّدُها. كلمات غريبة متشابهة ، ربما من مفردات لغة قديمة .
(مصابيح الحكمة الخمسة فقط ما كنت أطلب).
كان كلُّ شيءٍ يرتعدُ هلعاً ، كانت المرارةُ تستولي على كلِّ شيء وتتسربُ في حلق كلِّ من سمع تلك الكلمات ، وتتوغل في الأحشاء ، وتسري في الشرايين مع الدماء التي راحت تتجمد ، مرارة تنزُّ عرقاً بارداً من الوجوه ، وتنسكبُ لاذعةً من العيونِ دموعاً قلويةً حارقة. لمحتُ وجهَ الكبير الذي حاولَ أن يكونَ متماسكاً في البدء وقد راحتْ تقلصاتٌ عضليةٌ غريبةٌ وسريعةٌ تسري فيه. فهو أولاً كان كمن يريدُ أن يقولَ للحشد (لا بأس) ، ثم بدا وكأنَّهُ يترقبُ ما هو على وشك الحدوث. ثم بدا منزعجاً ، ثم خُيِّلَ أليَّ أني رأيتُه وقد تَمَلَكَهُ الخوفُ مما يحدث. كلُّ ذلك حَدَثَ بسرعة . تلتف في المكان أضواءٌ وهديرُ رعدٍ وعواصفَ وظلامٌ بدواماتٍ سريعةٍ تتلوى كأنها أفاعي عملاقة أو حزم لا نهاية لها من الطاقةِ منبعُها فمُ المرأةِ التي نطقتْ لأولِ مرةٍ منذُ أمدٍ بعيد ، وكأن الكلمات قد اختمرت داخلَها كلَّ تلك السنين خلفَ ذلك الجدارِ الأسودِ ، فصارت قوىً لا حدود لها .كان كلُّ شيء يتطايرُ مع الكلمات التي كانت تلك المرأة تُرَدِّدُها بغضب . فهمتُ ان الأمور قد ساءت وخرجت عن السيطرة تماما وان فاجعةً قد حلت.
أما الكبيرُ فقد رفعَ يديه ووضعهما حول رأسِهِ في محاولةٍ يائسةٍ لتجنب الطابوق الذي صار يُقتلعُ من الجدرانِ ويُقذفُ في الهواء شظايا ، أو انه كان يفعل ذلك ليتجنب أزيزَ الأصوات التي تثقب الآذان. ثم سمعتُه يصرخُ كالمجنون، ثم رأيتُهُ يسقطُ أرضاً يضمُّ رأسَه بذراعيه. ثم رأيتُهُ يتلوى زاحفاً على طول ما كان دهليزا قبل أنْ تنقلعَ جدرانُهُ، رأيتُهُ باحثاً عن مخرجٍ وثوبُهُ ينخلعُ عنه ويرفرفُ كشراعٍ بالٍ لا يمسكهُ الا ذراعاه الممسكتان برأسِهِ فيما تكشَّفَ كتفاهُ وظهرُه ومؤخرتُه التي راحتْ تقصفُها الرمالُ والحصى وكِسَرُ الطابوقِ. ما زال صوتُ المرأة يهدرُ كالرعدِ في الآفاق :
( ليس سوى مصابيح الحكمة الخمسة ما طلبتُ)
( هذا بناؤُكم الذي بَنيتُم )
( تحسبون أنكم قد فُزتُم؟)
صارتْ الجدرانُ أثراً بعد عين ، فقد ذَرَتْها الريحُ بعيدا . رفعتُ رأسي فلم أجد البابَ ، ولم أجدْ الجدرانَ التي سوَّدَها السخامُ البارد ، ولم أجدْ المرأتين ، ولم تعدْ هناك فجوةٌ ولا موقدٌ ولا ناس. كنتُ مضطجعا كجذعِ نخلةٍ هناك وحدي ، فيما كان رجعُ الأصوات التي كانت منذُ برهةٍ حادةً كمثاقبَ كهربائيةٍ عملاقةٍ يتلاشى في رأسي ويخفتُ مخلفاً خواءً قاتلاً تتخللهُ أصواتٌ تنفذ من خلال نافذتي لسياراتٍ بدأت لتوها تدبُّ في الشارع ساعةَ الفجر .



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غضب
- للحكاية أكثر من وجه
- آخر ليلة في حياة كبش
- آباء وأمهات
- عيدية العيد
- عصابة الكف الأسود
- غطاء الرأس .. وظيفته ورمزيته
- الحرب على الأرهاب: الدروس المستفادة من منظور حضري


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - في ساعة فجر