أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سلسلة قصص الجنون 2- غنوم المجنونة















المزيد.....

سلسلة قصص الجنون 2- غنوم المجنونة


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6546 - 2020 / 4 / 25 - 14:29
المحور: الادب والفن
    


تبعد مدرستنا الابتدائية مسافة طويلة عن بيتنا. ربما هي أطول المسافات على الأطلاق. لا توجد مسافة تضاهيها طولا حتى بعد أن مرَّ أكثر من نصف قرن على ذلك الزمان. اذ يتعين عليَّ أنا وأختي التي تكبرني عامين أن نمشي بمحاذاة نهرنا مسافة باتجاه الغرب، ثم ننعطف باتجاه الجنوب ونسير مسافة طويلة عبر درب ضيق تحيط به أسيجة البساتين المجاورة وبعض المنازل. حتى نصل الى نهر ثان مواز الى نهرنا ، فننعطف مرة أخرى باتجاه الغرب ونسير مسافة طويلة على درب بمحاذاة حافة النهر . حتى نصل الى مضخة الماء الكبيرة التي تضخ المياه لسقي الاراضي الزراعية الواسعة البعيدة . علينا أن نعبر الدرب الضيق الذي يفصل بين جدار غرفة المضخة وحوض الماء الكبير الذي يصب فيه أنبوب حديدي ضخم، حيث كبرت أشجار الورد التي زرعت على حافتي الساقية. لنصل الى طريق تقع على جانبيه بيوت يقودنا بعد مسير طويل آخر مباشرة الى المدرسة. اليوم حاولت ان أتتبع ذلك الطريق عبر تطبيق Google earth، فهالني طوله، وعجبت كيف كنا نقطعه كل يوم جيئة وذهابا. الا ان المكان اليوم بدا خالٍ من النخيل ، ومكتظا بالمنازل.
ليس طول الطريق مشكلتنا في تلك الأيام، بل هناك مشاكل أخرى أكثر تعقيدا، وأشد خطورة. من بينها المواجهة المحتملة في كل لحظة مع الأشخاص الخطرين الكثيرين، وغُنوم أحدهم.
غُنوم أو غِنّوم أسم غريب ، ليس له معنى غالبا، وهو ما يزيدها غموضا ويجعل منها أكثر الأمور ترويعا. فهذا الأسم لا يعود للبشر قطعا، بل هو ربما مشتق من أسماء الجنّ. وقد يعني شيئا بلغة الشياطين والسعالي والطناطل الذين كانت تعجُّ بهم الحكايات في تلك الأرجاء ذلك الزمان.
غِنوم أمرأة مجنونة تتربص بالأطفال فتقعد لهم على الطريق الى المدرسة. هي ليست كأي امرأة يمكن أن تتخيلها. فهي نحيلة الى درجة مخيفة. ترتدي نفنوفا باليا منذ سنين لم يشاهدها أحدٌ ترتدي غيره، حتى أنه صار ممزقا ومهلهلا، حاسرة الرأس، شعرها الأبيض والأسود منفوش بشكل مريع. أما وجهها فهو مجرد أنف وعينان حمراوان وفم تبرز منه سن واحدة! علما انني لم أرها يوما، ولم ترها أختي، وكل تصوراتنا عنها مصدرها الحكايات عنها، فضلا عن صورتها التي كثيرا ما كانت تظهر لنا في الكوابيس.
وتذكرالحكايات أن سرعة غنوم عندما تركض وراء طفل عجيبة. اذ لايمكن لأي شخص أن يفلت من قبضتها عنما تقرر العدوَ خلفه. تذكر الحكايات أن سيقان الأطفال غالبا ما تفقد القدرة على العدو بمجرد مشاهدتهم لها من بعيد، فيتسمّروا في أماكنهم، ويتبولوا على أنفسهم من الخوف. ولست أدري على وجه الدقة ما اذا كنت قد سمعت أو أنني حلمت بها وهي تطير. فقد كان هناك بين البساتين جوبة أو جوبتان. وهي ساحات واسعة جرداء لا ينبت فيها شجر، لانخفاض تربتها. كانت غنوم تفضلها على البساتين المزدحمة بالنخيل، فتطلق ساقيها للريح، ثم تبدأ بالطيران، ثم تظلّ هناك في عنان السماء تحوم مع الطيور الجارحة تراقب الأطفال من حيث لا يشعرون بوجودها. الحظ الحسن فقط هو الذي جعلنا لم نلتق بها وجها لوجه.
يقال أنها عادة لا تظهر في ساعة ذهاب التلاميذ الى المدرسة صباحا، وفي ساعة الانصراف ظهرا. أما خلاف هاتين الساعتين فانها تجوب تلك الأرجاء بحثا عن طفل ضال. ويقال أن ما يمنعها من الظهور في هاتين الساعتين هو أنها تكره ضجيج الأطفال الكثيرين الذي يسبب لها الصداع. فهي تفضل مطاردة التلاميذ الخائفين الوحيدين ولا تحب الجموع. رغم أن ذلك لم يكن مؤكدا دائما، فقد ذكرت الحكايات أن غنوما كانت قد ظهرت للتلاميذ أكثر من مرة بوقت مبكر بخلاف عادتها. ولم يكن أحد على يقين ما اذا كانت غنوم تكسر قواعد مطارداتها للتلاميذ لسبب ما أو بشكل عشوائي.
أما ما يمكن أن تفعله غنوم بطفل وحيد ضال فهو أمر مرعب حقا. فقد كثرت الحكايات وتعددت الروايات. فبعضهم يقول أنها تفضّل أن تقذفه عاليا كخرقة فتعلقه في رأس نخلة، وبعضهم كان يصرُّ على أنها كانت تدغدغه لتجبره على الضحك وهو خائف فيموت جراء ذلك.
لذلك كنا نحرص على الذهاب الى المدرسة مبكرين، ونعود مسرعين، فلا يلهنا أيُّ شيء آخر. ونجد في الاحتماء بالجماعة أمنا وسلاما. لكن ذلك الأمن تبدد مرة حين كاد الحظ العاثرأن يجعلنا وجها لوجه أمام غنوم مباشرة.
ففي أحد أيام الشتاء كان الضباب الكثيف يخيم على الأرض ذلك الصباح. كنتُ أنا في الصف الأول وأختي في الصف الثالث. عندما خرجنا من بيتنا لم يكن الوضع سيئا جدا. ولكن الأمور سرعان ما تدهورت بشكل سريع بعد لحظات. فانعدمت الرؤية تماما، ولم نعد نتمكن من تحديد موقعنا. كنا نسمع أصوات جموع التلاميذ وهي قريبة منا، ولكن تلك الأصوات بدأت تبتعد، ثم تلاشت. أحسسنا أننا فقدنا الاتجاه فلم نعد نعرف هل أننا كنا ذاهبين الى المدرسة أم عائدين منها. غيرنا اتجاهنا أكثر من مرة. وازدادت كثافة الضباب. وصار الطريق أطول مما كان. وبدأنا نشعر بالتعب. ثم بدأنا بالبكاء. فقد أدركنا أننا قد تهنا تماما. وحيدَين أنا وأختي التي تكبرني نتخبط في غابة النخيل اللانهائية تلك والضباب الكثيف يلفّنا. كنا عندما نقترب من جذع نخلة نظنها غنوما، وما أن نتأكد أن ذلك الشبح ليس الا نخلة، حتى يبدأ شبحُ غنوم ثان بالاقتراب منا. كأنما قابلنا ألف غنوم ذلك الصباح. وأصبح الوقوع في براثنها اليوم أمرا محتوما. فنحن الآن وحدنا وهو ما تفضله هي. وقد انقضت ساعة الصباح ووصل كلُّ التلاميذ الى المدرسة على ما يبدو ولم يعد الا نحن تائهَين. كنا نسمع عواء الكلاب في ذلك الصباح الكئيب. يبدو أن الكلاب هي الأخرى استغربت مشهد هذا الضباب الذي خيَّم على الأرض. وربما فزعت الكلاب أيضا للمصير الذي ينتظرنا، فراحت تعوي. وجدنا أنفسنا نمر بالقرب من تلال تقف كأنها قباب غريبة أو هياكل مسحورة. لم نتذكر أن مثل تلك الهياكل كانت موجودة في طريقنا المعتاد. أقتربنا من تلك التلال الغريبة ، تلمسناها، كانت على ما يبدو أكواما من التبن، أو بيادر سنابل محصودة. ومررنا كذلك برجال غريبي الأطوار صامتين وهم يدفعون قطيعا من الثيران المكممة الأفواه أمامهم! تمسكت بيد أختي ، وتمسكت هي بيدي. ورحنا نتأهب للوقوع بين يدي غنوم قريبا، بل صرنا نتمنى أن تظهر لتخلصنا من هذا العذاب، هذا الانتظار المرير.
ثم بدأ الضباب ينقشع رويدا رويدا، واستطعنا تحديد موقعنا ، فاسرعنا باتجاه المدرسة التي وصلناها حين كان الدرس الأول يوشك على الانتهاء. ولم تظهر غنوم ولم تعلقنا على جذوع النخل.
التقيت بغنوم صدفةً بعد ذلك بسنوات. وتحديدا في شتاء عام 1991 عندما أفزعها قصف الطائرات. وجدتُها أمرأة عجوز خائفة تلوذ بجدار كما كنتُ أنا وكثيرون نلوذ بذلك الجدار. غنوم لم تقتل طفلا، ولم تكن مجنونة، بل كانت امرأة حزينة، وفقيرة . فقدت ابنها الجندي في أحد الحروب القديمة. فبكته طويلا حتى ظنَّ الناس أنها فقدت عقلها. فراحوا ينسجون حولها الحكايات. حتى أنهم حوروا اسمها وجعلوه غريبا يناسب ما يشاع عنها من حكايات، أخرجوها من عالم البشر، ونفوها الى عالم الجنّ. عرفت أن اسمها كان غنيمة بنت فالح الشرهان، ولديها أخت اسمهاسليمة توفيت منذ زمن بعيد. لست أدري ان كانت غنيمة على قيد الحياة الآن، فقد أنقطعت أخبار ذلك المكان عني ، وأغلب ظني أنها قد ماتت.



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سلسلة قصص الجنون 1- قاسم المجنون
- رفعة الجادرجي
- مستقبل الفضاء الحضري بعد كورونا
- كورونا والفضاء الخاص: مقالة في الوباء والعمارة
- الحمام ..مشاغلة في التراث والكلمات
- غسل الرأس
- أم جابر
- حكاية من محلة الباشا
- في ساعة فجر
- غضب
- للحكاية أكثر من وجه
- آخر ليلة في حياة كبش
- آباء وأمهات
- عيدية العيد
- عصابة الكف الأسود
- غطاء الرأس .. وظيفته ورمزيته
- الحرب على الأرهاب: الدروس المستفادة من منظور حضري


المزيد.....




- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سلسلة قصص الجنون 2- غنوم المجنونة