أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - الحمام ..مشاغلة في التراث والكلمات















المزيد.....

الحمام ..مشاغلة في التراث والكلمات


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6505 - 2020 / 3 / 3 - 03:00
المحور: الادب والفن
    


كنّا نرتاد حمام السوق في بغداد عندما كنا في الكلية في نهاية سبعينيات القرن الماضي، فحمامات الأقسام الداخلية لم تكن بالمستوى المطلوب. تعرفت وقتها على طقوس الحمام العمومي . كنت ارتاد حماماً في شارع المتنبي، وآخراً في محلة الفضل يقع على شارع الكفاح. وحتى عندما انتقلنا الى دار الطلبة وهو قسم داخلي كبير يقع في ساحة باب المعظم ، وحتى بعد أن تم تحسين أوضاع الحمامات تلك ، لم يثننا ذلك عن إرتياد حمام السوق ، ذلك لأن قلوبنا قد تعلقت به ، ولم يكن لنا منه بد.
يستقبلك صاحب الحمام عادة عند الباب وهو يجلس خلف مكتبه التراثي العالي بوجه متجهم غالبا . ليستلم منك أجرة الحمام مقدما ، ويعرض عليك شراء ليفة أو صابونة ان كنت ترغب بذلك . ويعرض عليك استئجار صندوق تضع فيه حاجاتك ، وان لم ترغب بذلك فانه يحذرك بعدم مسئوليته عن فقدان شيء . وهذا هو سرُّ تجهم وجهه. فغالبا ما تنشأ خلافات وتثار نقاشات حادة بخصوص فقدان هوية او محفظة أو قميص.
من الطرائف التي تروى أن جنديا اعتاد ارتياد حمام عمومي قد فقد نطاقه ذات يوم ، ولما احتجّ قال له المسئول عن الحمام (أنك قد جئت بدون نطاق). وفي المرة الثانية فقد بيريته ، ومرة فقد حذاءه ، وفي كل مرة كان المسئول يقسم بأغلظ الأيمان أنه رآه يدخل الحمام بدون بيرية أو حذاء . وفي آخر مرة فقد الجندي ملابسه كلها دفعة واحدة ، فجاء الى المسئول عاريا وقال له ( لا تقل لي أنني قد دخلت هكذا!)
لهذا يتعين عليك أن تضع كل أغراضك في صندوق صغير ، له رقم ، تقفله وتضع على معصمك سوارا معلق به مفتاح ذلك الصندوق ورقمه. أما من لا يستأجر صندوقا ، فيتحملّ تبعات ذلك . ثم عليك أن تستعمل قبقابا خشبيا في أنحاء الحمام ، فذلك سيجنبك ملامسة أرضية الحمام الحارة ، وسيقيك شر الانزلاق على الأرضية الملساء المبللة بالماء والصابون .
وفضاءات الحمام العمومي تمتاز بكونها تراثية ، فسقف القاعة مسقف بقبة يتخلل منها ضوء الشمس من خلال ثقوب سُدِّت بزجاج ملون. وثمة مصطبة ثمانية الشكل مزخرفة تحتل وسط القاعة وهي أكثر السطوح حرارة اذ يقع تحتها موقد النار الذي لا يعرف له المرتادون طريقا ، فهو حكر على بعض العاملين المكلفين بادامة اتقاد النار وتسخين المياه . وأبواب الحمام تعلوها عقود تراثية ، وثمة كوى كثيرة قد نُحتت في جدران الحمام السميكة ، كنت أرى على بعضها سخام شموع أو فوانيس كانت توقد هناك للانارة قديما وذلك قبل استبدالها بالمصابيح الكهربائية .
الأحواض التي يصب فيها الماء الحار والماء الماء البارد تراثية الشكل ، رغم انها صنعت من الكونكريت أو الموزاييك ، الا انها تحاكي أحواضا قديمة ربما كانت منحوتة من المرمر. الحنفيات المصنوعة من مادة البرونز كانت هي الأخرى ذات أشكال تراثية.
وحيث اننا كنا شبانا صغارا لم نألف الحمامات العمومية سابقا ، كان يصعب علينا تصديق ما كان يجري هناك. كان بعض الرجال عراة بالكامل ، يتمددون على سطح حار ، وثمة رجال يدلكون رجالا آخرين ، غير آبهين بانكشاف مابين افخاذهم ، ومؤخراتهم. لم يكن الجميع كذلك ، فقد كان البعض يضع مأزرا ، والبعض الآخر يرتدي ملابس داخلية تستر ما يجب أن يسترمن جسمه في مكان عام كهذا. كانوا يستمتعون بالحرارة التي تريح العضلات ، وبالنظافة التي تنعش الروح. وللحمام العمومي ذي الطابع التركي ، أو العربي طقوس لا يعلمها الا من جربّها. فثمة براني وجواني ، والانتقال بين هذه الفضاءات له أصول . ففي الجواني مثلا تكاد الحرارة لا تطاق، حيث ينتزع ما علق بجلدك تماما بفعل الدلك العنيف و بفعل الليفة الخشنة و بمهارة المدلك المحترف و بفعل تدفق العرق من جسمك .في الجواني تكاد لا ترى يدك من كثافة البخار حولك. البعض يفضل الاستحمام في فضاء خصوصي ، لذلك كان هناك غرف صغيرة مصممة لاستعمال شخص واحد. حيث بامكانه أن يستمتع بالحمام بخصوصية كاملة.
أعتاد أهل المدن ارتياد الحمام العمومي مساء الخميس ، وغالبا ما يصطحب بعض الآباء أبناءهم معهم . ويؤم الحمام جماعة من الأصدقاء أو الأتراب عادة ، اذ يساعد بعضهم البعض في التدليك وقضاء الوقت . وكانت بعض الحمامات تضم قسمين منفصلين ، الأول للرجال والثاني للنساء . وبعض الحمامات قد خصصت أياما بعينها للرجال وأياما أخرى للنساء ز ويقال أن حمام النساء يعج بالكلام ، لذلك يوصف المكان الذي تكثر فيه الضجّة بأنه كحمام النساء. ويقال ان النساء قديما كانت لهن مآرب أخرى في الحمام غير الاستحمام كالاطلاع على حسن وكمال اجسام الفتيات وخلوها من العيوب المستورة قبل ان يقدمن على خطبتهن لأبنائهن.
ينتابك شعور آخر غير الذي دخلت به الحمام بعد اتمام طقوس الغسل ، وعند مكوثك برهة من الوقت تنتظر استقرار حالتك قبل خروجك الى الشارع. احساس يختلف تماما عن ذلك الذي دخلت به. فان كنت قد دخلت متعبا ستخرج مرتاحا. وان دخلت ضجرا ستخرج فرحا . وان كنت دخلت متشائما ستغدو متفائلا مقبلا على الحياة . بعبارة أخرى ستكون شخصا آخر .
يحرص المستحمّون على شرب عصير الليمون بعد انتهاء طقوس الاستحمام . وحيث أن معظم القوم من الطبقة الشعبية ، فقد درجت العادة عندهم أن يحضر كلٌّ منهم ليمونة معه ، يبدأ بمصّها في المدة التي يقضيها بعد استحمامه جالسا في البراني . اذ لا يخرج الى الشارع الا بعد أن يتأكد من أن برد الشارع لن يتسبب له بالزكام. والميسور منهم يطلب قدحا من شاي لومي البصرة ، أو قدحا من شاي الدارسين .
غير ان تجربة حمام الملك الظاهر بيبرز في قلعة دمشق شيء مدهش. ما زال ذلك الحمام كما هو ، حتى الأدوات والمناشف المستعملة فيه لازالت كما كانت . عندما تدخله تنسى تماما انك في هذا الزمان. هناك دلال ما بعده دلال . لا تود أن تخرج منه . ومع كاسات اليانسون تشعر انك أمير حقيقي من زمن المماليك.
عندما كنت صغيرا ، كان الناس عندما يستحمون يقولون غسلنا رؤوسنا. فغسل الرأس يعني أخذ حمام كامل بما في ذلك غسل الجسد كله وبضمنه الرأس طبعا. وقد أثار اهتمامي وقتها ذلك المصطلح الغريب، فلماذا لايقولون غسلنا اجسادنا؟او غسلنا اجسامنا؟ ولكنني نسيت تلك المفارقة لسببين، الأول ان الناس لم تعد تستخدم ذلك التعبير لوصف الاستحمام او الاغتسال، والثاني انني شغلت بأمور أخرى أكثر تعقيدا من هذه القضية التافهة. تذكرت هذه القصة مرة أخرى عندما قدمت للسكن في أربيل ، ذلك لأن الكُرد يسمّون الاستحمام ايضا ( سه ر شوشتن) وتعني غسل الرأس حرفيا. ثم انني ربطت هذا الاكتشاف بما كنت اسمعه من أهلي قديما ، ووضعت القصة جانبا مرة أخرى .
اليوم وبعد ان كثر الحديث عن ضرورة الاغتسال بسبب تفشي فايروس كورونا المستجد، وحين كنت واقفا تحت مرش الماء في حمامي أغسل جسدي كله، تذكرت تلك القصة ، وسألت نفسي ، ترى هل أنا الان أغسل جسمي كله؟ أم إنني أغسل رأسي؟ ولماذا كان أهلنا يطلقون على غسل الجسد عبارة غسل الرأس؟
رغم أنني كنت أرى أفرادا من عائلتي في ذلك الزمان البعيد يغسلون رؤوسهم فقط، ثم يبدون منتعشين فرحين كمن قام بغسل جسده كله، الا ان ذلك ربما كان يحصل بفترات متقاربة ، فهم يغسلون أجسادهم في الحمام أيضا ربما مرة بالأسبوع . ومع هذا فهم يسمون العمليتين غسل الرأس. ربما أجد لأهلي في البصرة العذر في عدم استساغتهم لمفردة الاستحمام، فهي تعني فيما تعني استعمال الحمام الحار ، ولم يكن حمامنا حارا ولا حاميا على أية حال، ولم تكن الحماوة مستساغة في مناخ تغلب عليه صفة الحماوة ، وبهذا يكون الاغتسال طلبا للبرودة لا للحماوة ، ويكون ربط العملية بالحرارة أمرا غير مريح. ومع هذا ، لم يحاول أهلي استبدال مفردة حمام بمفردة أخرى تليق بظروفهم المناخية ، فالحمام بقيَّ حماما رغم أنه كان برّادا غالبا، ولم يكن يُدَفأ الا نادرا أياما معدودات.
على أية حال لم يعد أحدٌ يقول عن الاستحمام او الاغتسال في البصرة غسل الرأس ، بل إنهم استعاضوا عنها بمفردة خاطئة أخرى ، وهي السباحة ، رغم ان الحمام لا يحتوي على حوض سباحة ولا هم يغطسون حين يغتسلون . ولكنهم فضلوا هذه المفردة ربما لأنهم يتمنون أن يحصلوا على انتعاش في حماماتهم كذلك الانتعاش الذي يحصلّونه حين يعومون في شط العرب .
وقد تكون مفردة غسل الرأس عوضا عن غسل الجسد مرتبطة بالحياء. ذلك لأن الاغتسال بحد ذاته عملية بيتية، والعمليات البيتية مرتبطة بالمرأة، وهي وحدها التي تسمي الأشياء التي تقع ضمن فضاءات بيتها ، فيسمعها الأطفال ، ثم يتبنون تلك المفردات ويظلون عليها حتى الذكور منهم وحتى عندما يصيروا آباءا، فهم يقولون أنهم يغسلون رؤوسهم عندما يستحمون.فالمرأة ربما تخجل أن تقول غسلت جسمي ، لأن ذلك قد يثير في عقل السامع صور أجزاء من جسمها ، فتثير في نفسه نوازعا غير محمودة. وربما استخدم أهلنا مفردة غسل الرأس بدلا عن الاغتسال لارتباط الاغتسال بأمور أخرى ، كاغتسال الجنابة ، وهي أمور يصعب التصريح بها في فضاء العائلة المحافظة.
وربما حبذوا استعمال مفردة غسل الرأس عوضا عن غسل الجسد كله ، لشرف الرأس وأهميته . أو ربما لأن غسله هو الجزء الأصعب في عملية الاغتسال كلها وخاصة عند النساء. فهو يتضمن فلّ الظفائر ، وغسل الشعر بصابون الغار، ثم بال (طين خاوة) ، ثم تمشيطه بالمشط الخشبي لاستخراج ما قد يكون قد علق به من قمل وخلافه، وربما تطلب الأمر استخدام الخل وغيره . وهي عمليات لا يوجد مثيل لها عندما يتعلق الأمر بغسل الجسد. اللهم الا ما يكون من مشقة مماثلة في غسل الأقدام وما يتطلبه غسلهما من استخدام حجر بركاني لازالة الجلد الميت ، وما أكثر الجلد الميت في قدمي أمرأة تكد حافية في بيتها من الفجر الى العشاء!
ربما تخبيءُ مفردة غسل الرأس معنى سياسياً . فان أنت أردت غسل جسدك فعليك أن تغسل رأسك . فلا يصلح الجسد ان فسد الرأس. وقديما قالوا ( الحكيمُ من أتى الحديثَ بنصه ، الأمر بفصّه) وفصّ الشيء رأسه . لذلك يتطلب أمر اصلاح حال الناس اصلاح حال رؤسائهم . وبمعنى آخر فان فساد احوال الناس ناجم من فساد رئاساتهم.



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غسل الرأس
- أم جابر
- حكاية من محلة الباشا
- في ساعة فجر
- غضب
- للحكاية أكثر من وجه
- آخر ليلة في حياة كبش
- آباء وأمهات
- عيدية العيد
- عصابة الكف الأسود
- غطاء الرأس .. وظيفته ورمزيته
- الحرب على الأرهاب: الدروس المستفادة من منظور حضري


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - الحمام ..مشاغلة في التراث والكلمات