أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - رفعة الجادرجي















المزيد.....

رفعة الجادرجي


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6536 - 2020 / 4 / 13 - 00:18
المحور: الادب والفن
    


في اللحظة التي أُعلن فيها خبر وفاة المعمار الرائد رفعة الجادرجي قبل يومين، طلب مني صديقي علي المدن أن أكتب مقالا عنه. شعرت بالحرج لهذا الطلب ، وتمنيت أن يكون بمقدوري أن ألبيه في الوقت نفسه. ولذلك سارعت الى كتبه التي ألفَّها ، أقرأ على عجالة علّي أستطيع التقاط فكرةً تمكنني من ولوج ذلك المقال المنشود.
أعترف أنني معجبٌ بطروحات الجادرجي العميقة. فتحليله الجدلي للعمارة، و نظرته للأستاطيقية وتفريقه لها عن الجمال، باعتبار ان الأولى هي الحاجة بينما الثاني هو تفاعل الانسان مع المصنّع ، فضلا عن الكثير الكثير مما جاد به فكره يعجبني. ولكنني أختلف معه في كثير من الأفكار، ولا أستمرئ نرجسيته.
عندما كنت صغيرا، كنت أقضي الساعات الطويلة محملقا في صورة نصب الجندي المجهول الذي كنت أجده مرسوما على أغلفة الدفاتر المدرسية، وعلى أغلفة أشياء أخرى، لم أكن وقتها أعلم شيئا عن التصميم والمصممين . كان ذلك الشيء الفضي المبهم يتحدى ادراكي ، ويدهشني. وكثيرا ما كنت أتساءل صامتا عن معناه . كنت أشعر بغموضه، وقدسيته، وجلاله. وحين التحقت بالقسم المعماري في بغداد بعد ذلك بسنوات ذهبت وحيدا اليه. لم أجرؤ على الاقتراب منه اما لأنني كنت أظن أن ذلك ممنوعا، واما لأني كنت لا أجرؤ على ذلك. أكتفيت بالنظر الى ذلك الهيكل الفضي العجيب متجولا على أرصفة الشوارع المحيطة. كنت مأخوذا بهيبته وابهامه. وشعرت أنني ضئيل ساعتها، ضئيل جدا. وعرفت بعدها انه من تصميم معمار اسمه رفعة الجادرجي.
تذكرتُ الآن أول مرة حضر فيها الجادرجي الى القسم المعماري في جامعة بغداد لالقاء محاضرة عندما كنت طالبا. لا أذكر متى كان ذلك على وجه التحديد ، الا أنه ربما كان في مطلع الثمانينات. أرتجَّ القسم وقتها طلبة وأساتذة ووقف على قدم وساق لهذا الحدث المرتقب. فعملاق من عمالفة العمارة سيكون أمامنا بعد قليل ، ذلك المعمارالذي طالما أدهشتنا تصاميمه ، بناية التبوغ التي تقع على مرمى حجر من القسم المعماري ، وبناية البريد المركزي في السنك ، وغيرهما الكثير.
في ذلك الوقت ، كان القسم المعماري بيئة نقدية نابضة بالحياة ، بيئة مشغولة بالعمارة وبالحركات المعمارية، وبتاريخ العمارة . كنا نتابع الأساليب المختلفة ، ونناقشها ، وننقسم حولها ، ونتعارك بسببها. ليس أساليب أساطين العمارة العالمية من لي كوربوزيه، وفرانك لويد رايت، وميس فاندروه، وولتر جروبيوس فحسب ، بل أساليب معماريي العراق ، محمد مكية ، قحطان عوني ، هشام منير ،عبد الله احسان كامل ، وبالتأكيد رفعة الجادرجي. الأن بتُّ أقارن الوضع الذي كان عليه القسم في ذلك الزمان ، وأوضاع أقسامنا اليوم ، وأعجب للفارق الكبير بين ما كان وما هو كائن. وأتحسَّر.
حضر الجادرجي وقتها ، وكان يرتدي قميصا مارونيا ، وربطة عنق هي لفّة على رقبته، كشال أو ما شابه ذلك. وأُظلمت قاعة المدرّج التي أكتظت بالحضور. وصمت الجميعُ وكأن على رؤوسهم الطير. شغَّل الجادرجي جهاز مسجل صوت راحت تنطلق منه موسيقى هارموني لم نألفها، وشغَّل جهاز عرض الصور. فراحت تظهرعلى شاشة العرض الكبيرة صورملونة ، صور لآلاف الشالات المنشورة على حبال ، شالات بيض، ثم تصير حمرا ، ثم تصير زرقا ، ثم نيلية ، ثم سوداء. وقد أكون أخطأت بتذكر تسلسل ظهور الألوان. غابة من الشالات المنشورة على صفوف من الحبال تحت أشعة الشمس الساطعة من زوايا نظر مختلفة . شالات تطبع على الأرضية ظلالا .عرفنا أنها مأخوذة من مصبغة لصناعة الشالات والعباءات النسائية التقليدية تقع في الكاظمية. لا أتذكر شيئا مما قاله، ولا أعلم هل كان ذلك بسبب اندهاشي من الصور التي عرضها، أم لأنني كنت أجلس في أحد المقاعد الخلفية في تلك القاعة المدرّجة التي لا تحتوي مكبرا للصوت.
راح بعضُنا ينظر الى الآخر ، ويتساءل ، هل فهمت شيئا؟ بيد أن الكثيرين أبوا أن يظهروا بمظهر الأبله الذي لا يفهم ، فراح يتصنع أعجابه بالطرح الفلسفي العميق! أدركت حينها أن ما قد تمَّ عرضه للتو هو أعلى من مداركنا بكثير، وأن أمامنا أشواطا لبلوغ تلك المرتبة المتقدمة. لكن د. أحمد ماجد قد أكدَّ لي بعد عشرات السنين ان بعض أساتذتنا وقتها قد عبّروا عن صدمتهم لأنهم لم يدركوا المغزى من تلك المحاضرة!
المرة الثانية كانت في العام 2009 أي بعد تسع وعشرين سنة من ذلك اللقاء الأول. وذلك عندما دُعيَّ الجادرجي لالقاء محاضرة في كلية الفنون في أربيل، لم أحضرها ولكنني حضرت محاضرته التي ألقاها اليوم الثاني في القسم المعماري والتي أصرّ الدكتور محمود خياط على تحققها. لم يكن الحضور بذلك الحماس ، ذلك لأن الكثيرين من الطلبة ربما لم يسمعوا بالجادرجي. ألقى محاضرته ، وردَّ على الأسئلة المطروحة بصبر وهو الرجل الثمانيني. ولا أنكر أنني استأت من بعض ما جاء في تلك المحاضرة. ولأكون واضحا ، فما أساءني هو تكرار المقولات التي طالما ذكرها كثيرا بكتبه. وما أساءني هو ذلك الموقف المتعصب تجاه العمارة الأسلامية عموما ووصفها بالقبح جملة وتفصيلا. ذلك الموقف الذي صدم الكثيرين منّا.
لا يخفى على الجميع فرادة وتميّز هذا المعمار الفذّ. ولا يخفى على أحد مدى علمه ، وشغفه بالعمارة ، ولست هنا لأذكر مناقب الرجل ، فما قدمه للعمارة العراقية من منجز مادي ملموس ، ومن مؤلفات يغني عن الحاجة لتوكيده. ولكنني أتسائل ، لماذا ظهر مثل هذا الرجل بمثل هذا المنجز العميق في ذلك الزمن؟ ولماذا ظهر معه في ذلك الزمان كثيرون ؟
وجدت الأجابة عن هذين السؤالين ضمنا في كتابه ( شارع طه وهامرسميث). فالمدة التي ولد فيها الجادرجي كانت لحظة فارقة في تاريخ العراق. لحظة التوثب والسعي لولوج الحداثة بكل ما تعني الكلمة من معنى. فالنظام السياسي كان يحثُّ الخطى بكلِّ ما أوتي من قوة من خلال مشاريعه وسياساته لنقل العراق من واقع الجهل والفقر والمرض ، الى أنوار العالم المتحضر. ويبدو أن ذلك النظام لم يواجه معارضة كبيرة من قبل قوى ترفض مثل هذه النزعة ، بل على العكس من ذلك ، فقد كانت القوى التي جابهته ووقفت بوجهه هي تلك القوى الأكثر تقدمية من النظام نفسه، أو هكذا ظنَّ ، وظنَّتْ. وهكذا فقد شاع بين الشباب في ذلك الوقت رغبتهم في اقتحام حداثة أوربا، وفهم أساليب الرسم الشائعة ممثلة بأعمال بيكاسو وسيزان وسلفادور دالي ، والموسيقى السائدة هناك من أعمال جايكوفسكي ، سترافنسكي ، وبيتهوفن ، والمذاهب الفكرية التي كانت تهيمن على الساحة هناك . والأهم من ذلك كله هو محاولة هضم ذلك النتاج كله والربط بين تجلياته . فقد كان جواد سليم يقول ( اذا فهمت سيزان في الرسم فكأنك فهمت بيتهوفن في الموسيقى).
لم تكن رغبة الشباب آنذاك معلقة في فراغ ، بل كان هناك في الأوساط رجال فنانون من أمثال جواد سليم الذي لم يتكرر، فضلا عن فائق حسن وحافظ الدروبي وغيرهم. ومعماريون من أمثال أحمد المختار وعبد الله أحسان كامل الذين عادوا للتو من دراستهم في أوربا. وكانت بغداد ومدن عراقية أخرى تشهد تحولات في بنيتها الحضرية والاجتماعية، بعد أن كانت قد شهدت لأول مرة ظهور أبنية لم تألفها صممها مهندسون أجانب كمحطة القطار وغيرها. كما بدأت تظهر فيها وظائف جديدة وفرص للتفاعل الاجتماعي لم تكن فيها من قبل.
هذا من جانب، أما من الناحية الأخرى ، فرفعة كان ابن عائلة ميسورة ، عائلة توفر لابناءها فرص التعليم ، بما في ذلك السفر والعيش في الخارج بكل سهولة ويسر، وفرص العمل ، وفرص معرفة الناس المؤثرين. وهوفضلا عن ذلك ابن عائلة ليبرالية تتيح لابنائها حرية الاختيار بعيدا عن كل ضغط وتدخل.
أما بريطانيا وأوربا التي ذهب اليها للدراسة فقد كانت ورشة فكر وبناء وعمل ، فهي قد خرجت للتو من الحرب العالمية الثانية ، وثمة الكثير مما يجب عمله . ثم ان العالم في ذلك الوقت قد انقسم الى معسكرين ، اشتراكي ورأسمالي ، وانقسم الفن والعمارة تبعا لهذه القطبية الى مدارس ومذاهب ، واصطرعت تلك الرؤى بعنف تارة ، وبعمق في عقول الشباب تارة أخرى ، ذلك الصراع الذي لم يجد الكثيرون منه فكاكا. اذ لابد أن يكون لك موقفٌ مما كان يُطرح ، ولن تستطيع أن تنأى بنفسك ، وكيف لك أن تنأى والحوار محتدم في معارض الفن ، وفي صالات المسرح ، والسينما ، وقاعات الدراسة، والصحف ، وفي الحياة العامة والخاصة .
والأهم من ذلك كله ، فالتعليم في مدارس العراق وجامعات أوربا لم يكن تلقينا، ولم يكن حفظا ، بل كان تجربة شخصية للمعرفة . عليك أن تكتشف بنفسك ، وأن تبحث وتشاهد بأم عينك، وأن تلتقط الصور ، وتسجل الملاحظات وتحلل، وتتذوق، وتنغمس بالتجربة بشغف. هكذا كان على الطلبة أن يتعلموا، وهذا ما كان الاساتذة يحثّوا الطلبة على القيام به. كان الشغف بالمعرفة سائدا ، وكان التطلع الى العلم والفن والأدب مهيمنا على القلوب والعقول.
هل في ذلك عذرٌ لنا في تخاذلنا وعجزنا عن بلوغ مراتب متقدمة كمراتب الجادرجي؟ لاشك أن الجادرجي نفسه لن يوافق على هذا . فقد كتب في العام 1980 وهو في سجنه قائلا (ان عسر ظروف العمل لا يمكن أن تقبل ذريعةً لتبرير انتاجٍ باهت).



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مستقبل الفضاء الحضري بعد كورونا
- كورونا والفضاء الخاص: مقالة في الوباء والعمارة
- الحمام ..مشاغلة في التراث والكلمات
- غسل الرأس
- أم جابر
- حكاية من محلة الباشا
- في ساعة فجر
- غضب
- للحكاية أكثر من وجه
- آخر ليلة في حياة كبش
- آباء وأمهات
- عيدية العيد
- عصابة الكف الأسود
- غطاء الرأس .. وظيفته ورمزيته
- الحرب على الأرهاب: الدروس المستفادة من منظور حضري


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - رفعة الجادرجي