كورونا والفضاء الخاص: مقالة في الوباء والعمارة

حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6526 - 2020 / 3 / 30 - 18:28
المحور: ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات
    

كشفت أزمة كورونا مرة أخرى حقيقة ثابتة في البشر . فرغم انها مشكلة باتت تواجه البشر كلهم وبالقدر نفسه من التهديد ، وبالرغم من انها كوباء بايولوجي تتعامل مع البشر كلهم بالطريقة البايولوجية نفسها وتصيبهم بالاعراض ذاتها ، الا ان تعاملهم معها يختلف تبعا لعوامل أخرى.
وهكذا فقد انقسم الناس الى مجاميع مختلفة في رؤيتهم لها ، فمنهم من نظر اليها على أنها مؤامرة ، ومنهم من آمن أنها عقاب ألهي، ومنهم من ردّها الى سوء تصرف ، ومنهم من ربطها بالتكنولوجيا ، الى غير ذلك من التفسيرات .
فالناس عموما تنظر الى هذه الظاهرة ، والى أية ظاهرة أخرى من خلال مرشح أوعدسة كانت مسبقا قد وضعته بين عقلها وبين الظاهرة . كمرشحات الضوء الملونة . فالذي يضع مرشحا أحمرا سيرى الشكل الذي أمامه أحمرا ، بينما يرى الشخص الآخر الذي يضع مرشحا أصفرا الشكل ذاته أصفرا.
يبدو ذلك طبيعيا جدا ، ولكن السؤال الذي يطرح هنا هو من أين تأتي هذه المرشحات ؟ والى أي عصر تعود ؟
يقودنا هذا السؤال الى قضية أخرى . فرولان بارت مثلا كان قد أعلن عن موت الكاتب ، وقد أعطى ذلك فرصة للقاريء في اعادة اضفاء معنى للنص . وتبيّن نظرية القراءة كيف تتدخل ذخيرة القاريء المعرفية وتجاربه الشخصية السابقة في منح النص المعنى الخاص. تشومسكي مثلا كان قد فصّل في الكيفية التي يتعامل معها الانسان مع مفردات الجملة ، فكل مفردة تأتي في سياق الجملة تستحضر مفردات مختلفة في ذهن المستمع القاريء ، وهو يختار من هذه اللائحة الطويلة من المفردات ما يراه مناسبا . وبالتالي فان المعنى المتولد سيكون خاصا به وحده.
كورونا يمكن النظر اليها بهذا المعنى كنص . وبالتالي فان تفسيراتنا لهذا النص لابد أن تكون مختلفة .
ربما يجادل البعض برأي آخر، قائلا اننا اليوم في عصر الأنترنت ، وبالتالي فان المعلومات متوفرة وبكل صورها ، وبكم وأشكال مختلفة قد تقود الى معرفة حقيقة الأمر . وبالتالي قد تولد فهما مشتركا لدى غالبية الناس ان لم يكن كلهم حول حقيقة موضوعية صلبة لهذه الأزمة .
ولكن ، لننظر الى هذا الفضاء المفتوح ، من كتابات ، أفلام ، محاضرات ، تحقيقات ، الخ . هل هو مفتوح حقا؟ ان كل مستخدم للانترنت لديه قنوات محدودة من بين هذا الكم الهائل من القنوات، ولديه مجموعة من الاصدقاء يتبادل معهم الرأي بشأن هذه الأزمة وبشأن كل قضية أخرى . وحتى تلك المواقع المفتوحة فانك لا تراها ولا تعلم ما الذي يدور فيها الا اذا دخلت عليها وسجلت اعجابك بها . وحتى الشركات التي تعلن عن منتجاتها والمواقع التي تعمل على الترويج لمفاهيمها فانك لن تستطيع الوصول اليها ، وبالتالي هي أيضا لا تشعر بوجودك الا دخلت عليها .
هناك عدد كبير من المحددات التي تجعل الفرد متواصلا مع شخص آخر أو موقع آخر. فثمة حاجز اللغة . فانا لا أعلم ما الذي يدور في المواقع التي تستخدم اللغة اليابانية مثلا. وهناك عامل الثقافة ، فأنا لا أعلم ما الذي يتم تداوله في المواقع اليسارية اذا كنت يمينيا مثلا. وليس لي علم بما يدور في المواقع التي تناقش الأمور من منهج علمي اذا كنت مهتما بالفن مثلا. وحتى في جانب الفن فانا لست مطلعا على ما يدور في صالونات الرسامين اذا كنت معمارا مثلا. جاري الذي يفصلني عنه جدار ،والذي هو الاخر مثلي قد أنهى لتوه وجبة فطوره لا أعلم ما الذي يفكر به بخصوص كورونا هذه اللحظة ، ولكنني أعتقد أنني مطلع على ما يدور في ذهن صديقي في كندا الذي يستعد في هذه اللحظة للذهاب الى النوم .
اذن ، فهمنا للموضوع ينجم عن قرارات وظروف سابقة حددت لغتنا ، ثقافتنا ، ميولنا ، وايماننا . وكل ذلك يبعدنا عن فهم النص المطروح فهما موضوعيا .
نيومان كان قد عرف الفضاء الدفاعي defensible space باعتباره فقاعة فيزيائية ، فراغ يحيط بالكائن ، وكذلك الانسان، يشعر بالتهديد ان تجاوزه فرد آخر . فتطير الذبابة ان اقتحمت فضاءها الدفاعي الخاص بها، ويشعر الانسان بالتوتر عندما يقترب منه انسان اخر الى حد . هذا الفضاء الدفاعي الفيزياءي يبدو انه تحول الى فضاء دفاعي ثقافي ، وآخر سياسي ، واخر طبقي. متى تتبدد فقاعات الناس ؟ في القرآن وصف جميل حين يحشر الأفراد من الطبقات المختلفة في جهنم، الذين أُستضعفوا والذين أستضعفوا ، يتلاومون، كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا يوما من العذاب. الفكرة ، ان الأزمات ، وربما كورونا ، قد تكون ذلك الفرن الذي يصهر فقاعاتنا ويدمجها، وقد يكون سببا لنشوء فقاعات أشد سماكة.

#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل