أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سلسلة قصص الجنون 1- قاسم المجنون














المزيد.....

سلسلة قصص الجنون 1- قاسم المجنون


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6545 - 2020 / 4 / 24 - 19:08
المحور: الادب والفن
    


كنت في العاشرة من العمر، حين حلَّ رمضان مرةً أخرى. قبل المغرب بلحظات كانت أمي تكلفني بحمل صينية تحتوي على غضارة تشريب، وطاسة شوربة، وأحيانا صحنا من الهريس أو صحنا من المحلبي لأتوجه بها الى بيت قاسم، في تلك الساعة من رمضان تخلو الطرقات من المارّة. فالجميع داخل بيوتهم. فقيرة كانت أم غنية ، بسيطة أم متعددة الألوان والأطباق، لا تفقد مائدة الأفطارأهميتها وجاذبيتها الاستثنائية لذا ينتظرها الجميع بشوق. حتى الأطفال يتركون اللعب في الطرقات ويتحلّقون منتظرين مائدة الأفطار حين يقرع أبو خضيّر صفيحته معلنا موعد الأفطار. لم يكن في القرية مسجدا ، ولم أكن أعلم كيف يتسنى لأبي خضيّر معرفة موعد الأفطار، ولكنني كنت أعتقد أن لدى أبي خضيّر قدرات استثنائية لا يملكها غيره، فمن يربّي ثعابين في بستانه ويطعمها بيض الدجاج ، لا يصعب عليه معرفة موعد الأفطار. يوميا كنت أسير ساعة المغرب حاملا الصينية الى باب قاسم الذي هو عبارة عن صفيحة معدنية صدئة مربوطة بأسلاك الى جذع نخلة، ذلك الباب الذي يتوسط خصّاً من القصب وسعف النخيل اليابس. أطرق الباب، يفتحه طالّا بقامته الطويلة، ووجهه الأسطوري الخالي من التعابير، وعضلاته الكبيرة، كنت أظنه بطلا من أبطال القصص الخرافية، أو بحارا غريبا قذفته مياه المد، أو أنه أحد المقاتلين الأشداء الذين تخلّفوا عن جيوشهم الزاحفة بعناد الى مكان قصيّ. كنت أراه أنسانا مختلفا يخفي خلف صمته وهمهاته غير المفهومة غالبا اسرارا عجيبة.
رائحة التشريب ، وأبخرة الشوربة الحارة التي تتصاعد من الأطباق لازلت أشمّها حتى هذه الساعة بعد أكثر من قرن من الزمان. وسعادتي في تلك اللحظات لازلت أحسّها. كنت أنتظر رمضان سنة بعد أخرى لأسباب كثيرة، ومن بينها هذه اللحظات الجميلة.
الغبار المالح يتسسل الى قدميّ فيختلط مع العرق المتصبب منهما، فيصير طينا لزجا زلقا بين باطن قدميَّ والنعال البلاستيكي، فتصير خطواتي صعبة، ويبدأ قلقي على سلامة الأطباق يزداد. تختلُّ مشيتي وأتباطأ، ثم أنزع النعال لانطلق حافي القدمين بخفّة وثبات صوب ذلك الباب غير قلق على نعالي الذي أتركه وراءي، فلا أحد في تلك الساعة خارج بيته يمكن أن يسرق نعالي الذي سأعود اليه بعد تسليم الصينية سالمة.
قاسم هذا رجل فقير، لديه بنت معاقة، فأطرافها الأربعة التوت جميعها عدة مرات وكأن قوة خارقة قد برمتها فبرزت الى خارج جسمها نحو الخلف، كفّا يديها لا فائدة منهما، وأصابعها لا تستطيع مسك الأشياء. قدماها ملتويتان هما أيضا، فلا تستطيع تثبيتهما على الأرض للوقوف والمشي، بل هي تزحف بحركة لا تشببها حركة كائن. ووجهها أنقلبت معالمه رأسا على عقب. فعيناها سحبت بقوة الى الأسفل، وأنفها شُدّ الى الأعلى، وفمها حرَّكتْه قوةٌ عجيبة عن مكانه المعتاد فصار الى جهة من وجهها. ومع هذا كله فانني كنت أرى في ذلك الوجه المشوَّه ابتسامةً وفرحا عندما كنت أقدّم صينية الأفطار لقاسم.
لا أعلم هل يتناول قاسم أفطاره الدسم والمختلف عما كانت تعدّه زوجته منفردا، أم أنه يشارك أفراد عائلته به. وكم كنت أتمنى أن تعطيني أمي صينية أكبر تحتوي أطباقا عدّة تكفي لأربعة أشخاص بدل هذه الوجبة التي تكفي بالكاد شخصا واحدا. كنت أخشى لو أنني بُحتُ بهذه الافكار لأمي لضحكت عليَّ، أولنفذت ما أطلب، ولكنها ستكلف من هو أكبر مني حمل الصينية الكبيرة بدلا عني، وسأحرم من هذه السعادة.
يقول الناس أن قاسم كان قد جنَّ لأنه أقسم بالقرآن زورا، فعاقبه الله بأن سلب عقله، وولدت له هذه المسخ. ولكنني سمعته يقول غير مرة أنه قد رأى الله وكلمّه. وسمعته غير مرة يدخل بحوارمبهم ظننته مع الله حينها. وعندما كنت في العاشرة لم يكن بمقدوري أن اتأكد من شيء. كان كلُّ الأطفال يخافون من قاسم المجنون الغامض، ولكنني كنت لا أخافه، بل كنت متأكدا أنه يحبني بشكل خاص.



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رفعة الجادرجي
- مستقبل الفضاء الحضري بعد كورونا
- كورونا والفضاء الخاص: مقالة في الوباء والعمارة
- الحمام ..مشاغلة في التراث والكلمات
- غسل الرأس
- أم جابر
- حكاية من محلة الباشا
- في ساعة فجر
- غضب
- للحكاية أكثر من وجه
- آخر ليلة في حياة كبش
- آباء وأمهات
- عيدية العيد
- عصابة الكف الأسود
- غطاء الرأس .. وظيفته ورمزيته
- الحرب على الأرهاب: الدروس المستفادة من منظور حضري


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سلسلة قصص الجنون 1- قاسم المجنون