أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سلسلة قصص الجنون 3- عبود المجنون















المزيد.....

سلسلة قصص الجنون 3- عبود المجنون


حامد تركي هيكل

الحوار المتمدن-العدد: 6547 - 2020 / 4 / 26 - 14:44
المحور: الادب والفن
    


محطة قطار بضائع نظران هي آخر محطة تقع على خط القطار المتري، ولكنها أهم محطة. فهي تقع على طريق بغداد القديم الذي كان يبدأ من باب بغداد قرب جسر الغربان في نظران. من هذا الباب كانت تتصل البصرة بالعراق وبغداد بريّا. القادم الى البصرة القديمة بواسطة القطار ينفذ الى قلب المدينة القديمة مباشرة ، محلة الباشا، السوق ،السيف، قصر السيد طالب النقيب، مقام الخضر، المدرسة الثانوية، دار الحكومة في السيمر والمحكمة. لم يعد الركاب يستخدمون محطة قطار نظران لذلك تم تحويلها الى محطة بضائع، يتم نقل البضائع من والى البصرة القديمة عبرها. وأحيانا كان الزوار يسافرون الى العتبات المقدسة على متن القطار من هذه المحطة مستصحبين معهم كل ما يلزمهم من أدوات وقدور وحطب وخراف، فتضج بالحركة على غير عادتها، ثم ما تلبث أن تعود الى الهدوء والرتابة المعهودة. محطة قطار بضائع نظران لم تكن مكانا يعود للحكومة، بل كانت مكانا عاما مألوفا للجميع.
يمر القطارالمغادر محطة بضائع نظران والتي تعرف أحيانا بمعمل المسامير الذي يقع قربها عبر بساتين النخيل الكثيفة لينحرف عند كوت الحجاج نحو الشرق مارا بالحكيمية، والمكينة والخربطلية والجبيلة وانتهاءا بالمعقل. ومن المكينة كان هناك خط آخر يتفرع مارا بالجسر الأحمر ومنتهيا بالمناوي. لم أر هذا الخط ولكنني سمعت عنه. موقع المكينة كان نقطة مهمة لالتقاء خطوط سكة القطار وتفرعاتها.
في نهاية الستينات من القرن الماضي كنت في المرحلة الابتدائية في ذلك الوقت حين كانت محطة قطار بضائع نظران تضم دارا كبيرة كنا نسكن فيها لأن والدي كان مديرا للمحطة. وكان هناك أيضا "طرمبة السبيل"، وهي حنفية عامة ملحقة بالمحطة ومفتوحة للجميع، قطر الحنفية كبير جدا ربما يبلغ ضعف قطر حنفيات المنازل، وشكلها البرونزي المتين ملائم للاستخدام العام. يتدفق منها ماء عذب بضغط كبير يكفي لملء سطل الماء بلحظة. بُنيت على الحنفية غرفةٌ جدرانها شبه شفافة من الطابوق، حيث تركت فتحات مربعة بين كل طابوقة وأخرى، تسمح تلك الفتحات بنفاذ ضوء النهار لأرضية الغرفة، وتسمح بالتهوية كذلك لمنع تعفن الغرفة بفعل الرطوبة المستمرة من جراء طرطشة ماء الحنفية. ويبدو أن طرمبة السبيل هذه جزء حيوي من المحطة ، ليس لأنها تقدم الماء للجمهورفحسب، ولكن لأن القطار كان يحتاج للتزود بالماء، حيث كان يعمل بقوة البخار.
أرضية غرفة "طرمبة السبيل" من الكونكرت الصقيل تحتوي على مسرب للمياه، وهو ساقية صغيرة ذات ميل يسمح للماء الفائض بالانحدار من تحت الجدار ليصب في البساتين المجاورة. لم يكن للمحطة سياج ، بل كانت مفتوحة من جميع الجهات. لذلك كان يفد اليها كلُّ من يحتاج للتزود بالماء، وخاصة نساءُ العمال الوقتيين الذين كانوا يفدون الى البصرة للعمل في موسم التمور. وأحيانا كان السكان القريبون من المحطة يتزودون بالماء الساخن من مرجل القطار مباشرة، وخاصة ليلة الخميس! كانت المحطة والقطار والناس مثل عائلة واحدة كبيرة.
بيتنا الملحق بالمحطة كان مسيجا بسياج حديدي تتسلقه نباتات الآس وشجيرات الجهنمية التي تتفجر بالوانها الأرجوانية صيفا. كنا نلعب في هذا المكان الجميل الهاديء لا يقلقنا شيء سوى عبود المجنون، الذي اعتاد السير على سكة القطار مشيا قادما من أماكن بعيدة كالحكيمية ، أماكن لايمكننا تصور أن يأتي منها أنسان مشيا على الأقدام لبعدها. وحده عبود المجنون بامكانه فعل ذلك. كان والدي مدير المحطة يكلّف مأمور عربة ضبط السير باصطحابي كل خميس من نظران لأنزالي قرب بيت جدي في الحكيمية حيث أقضي عطلة نهاية الأسبوع هناك. كنت أستقل عربة ضبط السير الجميلة ذات اللون الأخضر والمزودة بمقاعد، ويسير بنا القطار برحلة طويلة مارا بالبساتين والقرى والسباخ عابرا فوق جسور كثيرة ومحاذيا لأنابيب نفط، ومقتربا من مواقع شركة نفط البصرة، ومتقاطعا مع شوارع كثيرة، مارا بالقرب من تجمعات أكواخ العمال المهاجرين. رحلة طويلة جدا كنت أشعر بالتعب والنعاس خلالها، ويصعب عليَّ الاحتفاظ بعيني مفتوحتين. ورغم أنني معتاد على هدير عجلات القطار يوميا اذ يمر القطار على بعد ثلاثة أمتار من بيتنا الملحق بالمحطة، ولكن صوت ورتابة عجلات القطار وهي تقطع كل تلك المسافة الشاسعة وأنا راكب في عربة ضبط السير له تأثير آخر. كنت أعجب كيف يمكن لعبود المجنون أن يقطع كل تلك المسافة من الحكيمية الى نظران مشيا على الأقدام يوميا. من الممكن أن ينزل عبود ليأكل ويشرب عند حقول الفلاحين المنتشرة على جانبي السكة. ومن المحتمل أن يتوغل مرات عدة داخل المدينة القديمة، فيصل السوق، أو يدخل أحد الجوامع أو الحسينيات أو الكنائس ليأكل ويرتاح، الا أن ذلك غير مؤكد. المؤكد بالنسبة لنا نحن الذين نعيش حول محطة قطار نظران هو أن عبود كان يصل يوميا الى نهاية رحلته اليومية الى غرفة طرمبة السبيل، يغتسل ، ثم يقفل راجعا من حيث أتى.
عبود المجنون رجل مرعب ربما في الثلاثين من عمره، قوي البنية، طويل القامة، ضخم الجسم، حليق الرأس دائما، أسنانه غير منتظمة، يرتدي دشداشة قديمة ممزقة، ليس بها أزرار، لذلك كان عاري الصدر طوال الوقت. لا يحمل عبود في جيبه سوى علبة معدنية يملأها مسحوق السويكا، اذ كان دائما يضع بعضه في فمه. ولعبود كفّ عجيبة، فهي كبيرة بشكل ملفت للنظر، رغم أننا كنا نراه من بعيد ولا نجرؤ على الاقتراب منه، الا أن كفه حتى من تلك المسافة كانت تبدو كبيرة. ولعبود سمعة واسعة لأنه مجنون خطير، لا يتوانى عن ضرب كل من يضايقه بطابوقة كاملة، أو بنصف طابوقة. ضربات عبود المجنون مسددة دائما، فهو لا يخطئ التصويب أبدا. فاذا ما قرر ضربك فلن يجديك هربا، ولا احتماءً، ولن تفلح في تلافي ضربته مهما حاولت. فطابوقته بالغةٌ رأسك لا محالة، نعم رأسك بالتحديد، وليس أيَّ جزء آخر من جسمك، ولابد أن تسبح بدمك. بات هذا الأمر مسلما به لدى الجميع. وهناك أمثلة كثيرة تُروى كدليل قاطع على خطورة عبود وعدوانيته. فهو مثلا كان قد كسر قارورة سلمان أبو الشربت. كان سلمان يجوب تلك الأنحاء دافعا عربته التي تحمل قارورتين بيضاويتي الشكل تسع كل منهما غالونين من الشربت، ولكل منهما حنفية صغيرة في قعرها. كان سلمان يملأ أحداهما بشربت أصفربلون وطعم البرتقال، والأخرى بشربت أسود بلون وطعم الزبيب. ذات يوم هجم عبود بكل عنف وشراسة على عربة سلمان المسكين وقذف أحدى قارورتيه بعلبة السويكا المعدنية خاصته فهشمها تماما، واندلق الشربت وتبدى. عبود كان يمثل لنا شيئين متناقضين في الوقت عينه. فهو مرعب، يسيطر علينا خوف دائم من احتمال لقاءه على حين غفلة عندما نكون خارج البيت. وهو يثير حماستنا أيضا خاصة بوجود الفتيات اللواتي يأتين لملء أوعيتهن بالماء. كنا نتجمع لنكوّن فريقا كبيرا من الصبيان يشجّع بعضُنا بعضا، فنهاجمه من بعيد باستخدام الالفاظ النابية التي تثيره، أو بقذفه بالحصى. كان يتغاضى عن أفعالنا، ولكنه أخيرا كان يشتاط، فيندفع نحونا مزبدا مرعدا، هائجا مخيفا، فنتفرّق مبتعدين عنه. لكنه لا يستطيع الابتعاد كثيرا عن السكة، فيعود اليها.
كنا نلعب أنا وأصدقائي في حديقة بيتنا، أو في الساحات المحيطة بمحطة قطار نظران، لا يزعجُنا شيءٌ حتى يأتِ عبود المجنون، فيحلُّ الخوفُ والترقبُ والهلع بيننا. ومن الأعمال المشينة التي اعتاد عبود فعلها كل يوم من أيام الصيف القائظ الاغتسال في غرفة طرمبة السبيل.لم تكن مشينة تماما، بل كانت مسلية أيضا. كان يدخل تلك الغرفة، وينزع دشداشته، ولم يكن يلبس شيئا آخرا تحت دشداشته، يتعرى تماما، وينحني تحت الحنفية الكبيرة، ويبدأ باستخدام الصابون الذي غالبا ما يتركه عمال المحطة قرب الحنفية لاستخدام العامة. ويطول مكوثُه هناك. مما يضطر الفتيات اللواتي يأتين لملء أوعيتهن بالماء الى الانتظار. ويعلو ضحكهن وصراخهن وهنَّ يتلصصن عليه من بعيد وهو عارٍ تغطي جسمه القويَّ والممتليء بالعضلات رغوة صابون كثيفة. ولم نكن نحن الصغار لنجرؤ على الاقتراب من فتحات جدار الغرفة المخرَّم لنرَ ما كان يدور في تلك الغرفة مما يثير حماس الفتيات. ذلك لأننا كنا نخاف أشدَّ الخوف من غضب عبود ومن تسديداته المميتة.
ملاحظات :
- في الواقع ليست المسافة بين نظران والحكيمية كبيرة كما تم وصفه ، لكن الأبعاد بتصور الأطفال شيء آخر.
- هجرت محطة قطار بضائع نظران عندما تم التخلي عن القطار المتري في نهاية الستينات، وأصبحت أثرا بعد عين، هي ومعمل المسامير، والبساتين ولم يعد لكل تلك البيئات من وجود يذكر.
- في نهاية الستينات من القرن العشرين اشتكى أولياء الأمور من أن أطفالهم في تلك المناطق كانوا يعانون الخوف، وبعضهم يتبول في فراشه، وظهرت عليهم علامات الهزال، بسبب خوفهم من عبود المجنون. لذلك تم تشكيل لجنة لدراسة الموضوع، وتم اتخاذ قرار بالقاء القبض على عبود وترحيله للعلاج في مستشفى الأمراض العقلية في بغداد. وهناك انقطعت أخباره. ذكر أحد المترددين على المستشفى لزيارة قريب له نزيل هناك أن عبود ساءت صحته بعد وصوله الى المستشفى مباشرة ثم مات .
- لم ينتبه أحد الى ان عبود كان قد ضرب قارورة الشربت بعلبة السويكا وهي الشيء الوحيد الذي يملكه وليس طابوقة التقطها من الشارع. بعض النسوة كن قد لمن أبو الشربت لأنه لم يعط عبود العطشان كأسا من الشربت. وبدلا عن ذلك عنَّفه وغلط عليه وأثار جنونه.
- ادعى شخص رفض الكشف عن اسمه انه عثر على اضبارة تخصّ قضية عبود المجنون، ادعى انها تتضمن معلومات مهمة منها:-
 تقرير للشرطة أرفق بملف لجنة التحقيق المذكورة أعلاه تضمن ما يلي:( عدا عن كسره لقارورة الشربت العائدة الى سلمان أبو الشربت لم يتم توثيق أية حادثة ضرب قام بها عبود).
 تقرير آخر لعضو تربوي من أعضاء اللجنة ذكر ما يلي:(كان الأطفال يتنمرون على عبود بشكل لايمكن قبوله، ولكن أي من الكبار لم يكن ليتصدى لمنع هذا التنمر).
 تقريرآخر مرفق قدمه طبيب عضو اللجنة اعلاه ما يلي (يعاني المدعو عبود من مرض عقلي فهو مغرم بالقطار، ويرى في القطار جماليات لا يراها في غيره، فألوانه الجميلة، وسرعته، واستقامة سيره المنتظم على سكة، وصوت نفيره، وانتظام حركته ، ودقة مواعيده، كل تلك الصفات ملكت لبَّ عبود، فعشق القطار وتوحَّد معه حتى ظنَّ أنه صار قطارا).



#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سلسلة قصص الجنون 2- غنوم المجنونة
- سلسلة قصص الجنون 1- قاسم المجنون
- رفعة الجادرجي
- مستقبل الفضاء الحضري بعد كورونا
- كورونا والفضاء الخاص: مقالة في الوباء والعمارة
- الحمام ..مشاغلة في التراث والكلمات
- غسل الرأس
- أم جابر
- حكاية من محلة الباشا
- في ساعة فجر
- غضب
- للحكاية أكثر من وجه
- آخر ليلة في حياة كبش
- آباء وأمهات
- عيدية العيد
- عصابة الكف الأسود
- غطاء الرأس .. وظيفته ورمزيته
- الحرب على الأرهاب: الدروس المستفادة من منظور حضري


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حامد تركي هيكل - سلسلة قصص الجنون 3- عبود المجنون