أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول التطور الحضاري والمجتمع العبودي ح - الذروة في الحضارة العبودية 1-14















المزيد.....



من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول التطور الحضاري والمجتمع العبودي ح - الذروة في الحضارة العبودية 1-14


عبدالله اوجلان

الحوار المتمدن-العدد: 1480 - 2006 / 3 / 5 - 11:40
المحور: القضية الكردية
    


ح ــ الذروة في الحضارة العبودية

عندما أجريت تحليلاتي بصدد الحضارة، عملت على لفت الانتباه إلى وجود الروابط بين المواضيع. وسبب موقفي هذا، هو أملي ونواياي بصدد تأسيس الرابطة بين العلم والأخلاق، التي انقطعت وأخذت شكل كارثة في يومنا هذا، من جديد وبشكل قوي، فالتعمق والتكرار نابع من خوضي هذا، حيث لا بد من التأكيد والتكرار باستمرار.
ولم أهمل هدفي الآتي عند تحليل الحضارة العبودية: القيام بتحليل الرأسمالية بمفردها والتوصل إلى نتائج لها كأسلوب، فإنه يتضمن نقصاً كبيراً، فالرأسمالية وحتى الاشتراكية المشيدة ـ بنسبة ما تحققت ـ تضمنتا في جوهرهما على مستوى البنية التحتية أو البنية الفوقية كثيراً من الخصائص الحضارية العبودية مع بعض الانفتاح والتعميم، وإبداعاتها التي حققتها جوهرها لازال كامناً فيها. ولربما أصبح التطور على أساس الكمالية والزيادة في الأشكال والمقاييس ملفت للانتباه، حتى أنه يمكن القول بأنه بلغ مستوى لا يمكن مقارنته، ولكن رغم ذلك، فان الشكل الأول للحضارة وجوهرها هو المصيري فيهما.
أن عدم قدرة علم الاجتماع على تطبيق المنهج الذي يطبقه العلم باستمرار يمكن تفسيره باستخدام مصطلح سيطرة الطبقة القوية جداً، ولا يمكن استخدام المصطلحات الموضوعية والبارزة والتي تتكرر باستمرار في علم الاجتماع بأي شكل من الأشكال، والسبب الأساسي لذلك هو إرادة الهيمنة المطلقة على الوسط بمظاهر إيديولوجية دعائية مدهشة جداً، وخاصة بقدر تحجره بالمعنى الموضوعية والذاتي. إن (( الخاصية البارزة )) للعلم التي أريد الحديث عنها تعني إغفال لحظة الوصول إلى القانون أو القاعدة العامة؛ وهي النوعية المتطرفة المنقطعة وعدم شرحه أي شيء وحتى تحويله إلى أسلوب فقدان المعنى. إن تطبيق أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص هذا التحريف الكبير في مفاهيم العلوم الاجتماعية مرتبط بشكل وثيق بالحاجة إلى تحكم الإمبراطوريات بشكل متطرف، والتي تمثل الهيمنة الطبقية على المستوى العالمي. ونيتي إذا كان هناك جوهر يراد استيعابه تحت اسم "الاشتراكية العلمية"، فيجب إيصاله إلى المنهج الصحيح على الأقل، وربما لا يجد بعض "اليساريين" الصارمين معنى لذلك، ولكنني أزعم قائلاً؛ إذا لم يتم نقدها وإجراء التعديلات الصحيحة لها فإن "الماركسية" ستصبح أكثر تخلفاً من إيديولوجية الكهنة السومريين من الناحية الأخلاقية، وستتحول إلى لعبة غير مكلفة بيد الرأسمالية ولن تسفر عن أي نتيجة، ولن تكون "ديكتاتورية البروليتاريا" في النظرية والتطبيق أكثر من نموذج فجٍ لسيطرة إمبريالية "سارغون"، ولن تكون أكثر من آلة تستخدم من قبل الرأسمالية. أن العنصر الهام الذي يقف وراء انهيار "الاشتراكية المشيدة" الذي لا يمكن توضيحه بأي نموذج نظري هو هذا الواقع المؤلم، ويقدم هذا الانهيار مثالاً واضحاً على ما أريد قوله، وحتى إن الأسئلة مثل: أين الخطأ وأين الخيانة وكيف حدث ومن قبل من ومتى..؟ مرتبطة أشد الارتباط بإيجاد الحلول للأسئلة التالية، أين ومتى ومن قبل من وأين يجب تطبيق الشيء الصحيح والحقيقي، هنا اكتفي بالقول إن فتح هذه المواضيع يشكل الجانب المهم في دفاعي ولا سيما ضد ازدواجية القرن العشرين.

1 ـ الحضارة الإغريقية

إن التعريف الصحيح لتشكل حضارتي الرق الإغريق ـ الرومانية، يعد أهم مسألة لعلم التاريخ، وعدم وضعه بشكل صحيح، يشكل أساس الأخطاء والتحريفات التي تمت فيما يتعلق بعلم التاريخ وعلم الاجتماع، التحريف الأساسي هو التضخيم المبالغ فيه واعتباره أساسا لانطلاق الحضارة، ويظهر هذا الموضوع أمامنا بإلحاح باعتباره الميزة الرئيسية لمفاهيم مركزية الحضارة الأوروبية ويتم محاولة فرضه علينا، وأما المفهوم المناهض لذلك تماماً فهو المفهوم الشرقي المعتمد على الرؤية الإسلامية بشكل خاص الذي يستصغر الحضارة لدرجة إيصالها إلى نوعية الكفر والذي يتميز بكثافة الدعاية ولا يحظى بأي قيمة علمية. وفي أساس كلا المفهومين تأثير لطراز الفكر الفلسفي الميثولوجي الإغريقي من جانب، والفكر الديني الشرق أوسطي الذي يصل إلى درجة التطرف والإهمال والتمركز الذاتي من جانب آخر.
وأما إذا تم البحث في ضوء المعطيات العلمية، فإنه سيتبين بكل سهولة أن الحضارة الإغريقية الرومانية تغذت من منبعين رئيسيين وعهدين تاريخيين.
أ ـ الإغتذاء على العصر النيوليثي : يمكن البرهنة على أن موجة الثورة الزراعية في العصر النيوليثي التي حدثت في منطقة الهلال الخصيب قد وصلت إلى أوروبا عن طريق البلقان وجنوب روسيا في الألفية الخامسة قبل الميلاد. واعتباراً من عام 4000 ق.م تنشغل كل أوروبا بالثورة الزراعية التي تعرفت عليها. وهذا ما يسمى في التاريخ بالموجة "الهندو الأوروبية" ذات المنشأ الآري.
ولأجل تجنب الوقوع في خطأ الفهم منذ البداية، من الأهمية بمكان توضيح معنى كلمة "آري". والدور الذي لعبه السومريون في تحديد مصطلحات كثيرة والتي هي ذات جذور شرق أوسطية، يصبح الدور الأساسي في هذا المصطلح أيضاً. إن الجذر "AR " و " ARD " يعني في اللغة السومرية المحراث والأرض المحروثة والحقل. ولأن سفوح زاغروس وطوروس كانت مصدر ميلاد الثورة الزراعية فقد أطلق السومريون تسمية "ARD " على أول أرض تحولت إلى حقل، وربما هم أيضاً أخذوا هذه الكلمة من الهوريين الذين كانوا يمثلون التجمع القبلي الأول هناك. فمن المعروف تاريخياً أن السومريين استخدموا كلمة"Horrit " بمعنى "سكان البلاد المرتفعة"، ومن ذلك نرى أن علم المصطلحات يرى وجود علاقة قريبة بين " AR" و "ARD " والتي تعني المحراث. وبعد ذلك استخدم العرب كلمة أرض، ويستخدم الكرد في أيامنا هذه كلمة "أرد" بمعنى الأرض أو الحقل. وبذلك نرى أن مصطلح آري " ARYEN" يعني التجمع والشعب الذي يملك الأرض والتراب ويحرثها. وبالتالي نستطيع أن نستنتج أنه أطلق مصطلح آري على كل تجمعات الشعوب التي شهدت الثورة الزراعية، ويتبين لنا من هذا أن وجهات النظر المتأخرة والتي ترى أن " ARI " العظمة و"AR " تعني النار، هي وجهات نظر غير واقعية كثيراً. ولان هذه التجمعات كانت أكثر تقدماً حسب مرحلتها، فإنه من غير الصحيح استنتاج نتائج عرقية من تقييمها على انها آرية وعظيمة. وقيام الفاشية الألمانية بتحريف هذا المصطلح لا يمت إلى العلمية بصلة ويستهدف من ذلك الدعاية الإيديولوجية. وعندما نستخدم هذا المصطلح من الآن فصاعداً، فإنني أشعر بوجوب إظهار أهمية ضرورة فهمه بهذا المحتوى.
الأمر الذي أكده التاريخ هو نهضة أوروبا اعتماداً على الثورة الزراعية، فهي استفادت دائماً من المفاهيم والوسائل والإبداعات التي مصدرها الشرق الأوسط. ومواقف جودن تشيلدن وآراءه بهذا الصدد مقرونة بالإثباتات العلمية والريادية. ففي تلك المرحلة، نرى تشكل مجتمعات تعتمد على انتشار الثورة الزراعية وتتخذ من ثقافة تلك الثورة أساساً لها دون ان تعتمد على القوة الفيزيائية المحضة في تحولها إلى شعوب وأقوام. وقد حدث ذلك في مجتمعات الشرق الأوسط في الألفية السادسة قبل الميلاد، حيث تشكلت المجموعات الأثنية المتميزة، بينما جاء ذلك متأخراً بألفي سنة مكرراً أو تم تكييفها في أوروبا، كما نشهد تطوراً مماثلاً في شمال أفريقيا والهند والصين في نفس الحقبة التاريخية تقريباً، وبذلك نكون أمام تموجات من الإغتذاء على المصدر الأم في كل حقبة من أحقاب التاريخ من حيث التموجات الثقافية، ويجب فهم التوسع الهند أوروبي ضمن هذا المضمار لأن ذلك يعني فهم التاريخ بشكله الصحيح.
وعندما نتوجه نحو أعوام الألف قبل الميلاد، فإننا نجد أن التجمعات الأثنية أو الشعبية التي رفدت "بالحديد" اكتسبت بعض التسميات الأساسية. ففي روسيا الحالية وجوارها نجد "السلاف "Slaw" وفي أقصى شمال أوروبا نجد "نورمان Norman " و"توتون Toton و "الجرمان German " في ألمانيا و "غوت Got " ، وإذا تعمقنا باتجاه الجنوب نجد "الكلت Kelt " و"اللاتينLatin". وفي المرحلة الثانية، نجد أن هذه المجموعات الأثنية ستتحول إلى تشكيلات لتأخذ اشكالاً متمايزة والتي نقول عنها مجموعات شعبية وقوميات أو أمم في جغرافيات ضيقة. وتعد التشكيلات القومية مثل "الهلينHilin في شبه الجزيرة الإغريقية و"اللاتين Letin " في إيطاليا مفتوح هذه المرحلة. يشاهد أن هذه الأمم تكثفت تحت هذه الأسماء العامة في نهاية العصر النيوليثي.
ب ـ الإغتذاء على العصر الحضاري: تعد الحضارة السومرية والمصرية وحضارة نظام الرق في كافة أنحاء الشرق الأوسط والتي تأتي في المرتبة الثانية من حيث التأثير، أقرب مصدر مؤثر في أساس تشكيل الحضارة الإغريقية. إذ أغتذت الحضارة الإغريقية من هذا المصدر بشكل مباشر عبر أربعة فروع أساسية بشكل كثيف اعتبارا من الألفية الثانية قبل الميلاد، وبخلطها القوى الحضارية التي أخذتها عبر الأناضول ومن المصارد: طروادة و شرق البحر الأبيض المتوسط والفينيقيين والمصريين والكريت مع القيم النيوليثية التي كانت قد أخذتها من قبل وجسدتها، وصلت إلى تركيب غني جداً. ويتم التفكير سواء فيما قبل الحضارة أو قبل العصر النيوليثي بوجود تجمعات بدائية متوحشة متوسطية "نسبة للبحر المتوسط" في شبه الجزيرة الإغريقية، ولكن في الوقت ذاته يعتقد أنها تم تجسيدها من قبل موجات العصر النيوليثي. وكون اللغة الإغريقية لغة تتضمن بعض الخصائص الآرية هو دليل على ذلك. بينما مجموعة اللغة للبحر الأبيض ( القوقازـ باسك ) التي تشكلت قبل العصر النيوليثي ابتداءً من القوقاز إلى الباسك في مرحلة القبائل البدائية المشاعية فيما بين 25000 ـ 20000 ق.م تحظى ببنية لغوية مختلفة. كما وحدث تطور مماثل في شبه الجزيرة الإيطالية أيضاً.
لا شك أن خصائص الجغرافيا الإغريقية ألقت بتأثيرها الخاص على شكل الحضارة المتكونة هناك، وهذه هي القاعدة السارية على كل ساحة، ولكنها لا تلعب دوراً خاصاً مصيرياً بالنسبة للإغريق، فتطور الحضارة الإغريقية بشكل غني جداً مرتبط عن قرب بالمصادر التي أغتذت عليها، والتفسير الواقعي لهذا التجديد والغنى هو أنها وحدت كافة انحازت العصر النيوليثي مع الإنجازات التي أغتذت عليها من الفروع الأربعة التي تمثل التطور الأكبر للحضارة، وجعلتها في نقطة التقاطع بين آسيا وأفريقيا وأوروبا في جغرافيتها تركيباً وأصالةًً، ومثلما يتم قياس الغنى بالقيم التي أغتذت عليها، فإن الحضارة الإغريقية تأخذ شكلها حسب المصادر التي أغتذت عليها أيضاً ولتأخذ دورها التاريخي على أعلى المستويات وتظهر تركيباً غنياً، ومساهمتها هي تحقيقها هذا التركيب بنجاح. فعندما تتوفر المواد الأولية لأجل العاشوراء "نوع من الحلوى" بمكنتنا صنع أفضل أشكالها. ولا يمكن استصغار هذا الدور، كما لا يمكن تقييمه كدور يقوم بالإنجاب من المصدر الأساسي المبتدع والجديد أيضاً. وقد تطرقنا إلى هذا الجانب جزئياً، وحتى لا نقع في التكرار يمكننا أن نقول ما يلي بخطوط رئيسية:
1 ـ ان ميثولوجية الحضارة الإغريقية هي بالأساس مختلسة من سومر ومصر بشكل محدود، وعندما يأخذ السومر مصدره عبر الأناضول والفينيقيين، فإن مصر يأخذ مصدره عبر الكريت، والقول لهذا، بأنه نقل من اليد الثاني، هو الأقرب إلى الحقيقة، لأن السومرية تتعرض للتمازج من ما هو محلي أولاً في كل من الأناضول والفينيقيين، ومن ثم يجري نقلها إلى شبه الجزيرة، وان الحضارة المصرية بعدما يتم تجسيدها في الكريت تعيش نفس الوضع، وإن الميكانيون كقوة حضارية سابقة ليسوا بتلك القوة لإنجاب ميثولوجية حضارة شبه الجزيرة، ويتضح هذا الواقع بشكل جلي من حدوث ولادة "زيوس" في كريت، وثقافة ميثولوجيا "زيوس" التي نشهدها في أعوام 1500 ق.م تقريباً هو المثال البارز الذي يدل على كيفية الانتقال إلى شبه الجزيرة، ومن حيث الأثيمولوجية "علم بنية اللغة" فإن كلمة "زيوس" اشتقت من كلمة " DIV " ذات الأصل الآري، وإن كلمة " DiV " هي لدى كل المجموعات الآرية وتعني الأكبر والكائن الأكبر "هو الكائن الإلهي"، وعند انتقال " DEV " إلى السومريين لعبت نفس الدور تماماً، وريادة مصطلح الرب في الشرق الأوسط بالشكل الأولي والبدائي هو مصطلح تم استخدامه لدى المجتمعات الآرية النيوليثية وهو الدليل على هويتها، وقد مر هذا المصطلح في مراحل مختلفة ليصل إلى مصطلح الرب الأكبر والإله وأخيراً "الله".
عندما كانت ثقافة " الكبلا" كأقدم ثقافة للآلهة في الأناضول تلعب دور مصدر هام كآلهة "آرتميس"، تم تجسيد "تارهوزا" إله الفواكه والنبيذ كـ" ديونيسوس"، فكما هو معلوم أن إله الفواكه وخاصة العنب والنبيذ تارهوزا الذي يشاهد في معابد " اللوويين Luwi " وهم الشعب الأقدم الذي كان يعيش في الأناضول قبل أن تتحول إلى هلينية والذي تحول إلى ديونيسوس هو مثال بارز آخر على التغذية من المنشأ. كما أن ولادة أفروديت من زبد البحر على سواحل قبرص توضح كيفية تطور الارتباط الميثولوجي أي يدله على طريق العبور، وأيضاً الإله آبولو الذي يكتسب تفوقاً على الآلهة المرأة وخاصة عند الحثيين والهوريين يتم نقله من الأناضول إلى الإغريق على شكل “tilipinu تلبينو" و"تيشوب teshop " باعتبارهما الآلهة الذكور المهيمنون، وكذلك من المواضيع التي تم تعليلها هو مرور الآلهة المصرية "إيسيس، إيو وأوسيريس" بنفس التأثير وتاثيرهما في ديميتير وابنته "برسيفون".
ليست هناك ضرورة لسرد مزيد من التفاصيل حول الانتقال الميثولوجي، ولكن يمكننا أن نبين بسهولة ان "هيسودوس" قد كتب اللاهوت مستقياً معلوماته من مصادر ميثولوجية عديدة في تلك المرحلة وعلى رأسها أسطورة الخلق البابلية "أنوما إليش". لقد كانت المجموعة الثقافية في تلك المرحلة تمتلك تيولوجيات مشابهة لـ"اللاهوت"، إن وجهات النظر وأشكال الوعي التي تعتمد في جوهرها على السومريين، كانت تعكس بلا شك مستوى إيديولوجياً تقدمياً قياساً بمستوى المصطلحات في العصر النيوليثي، إن هذه التيولوجية "اللاهوت" باعتبارها الغلاف الإيديولوجي الأساسي لنظام الرق موجودة في أساس كافة علوم اللاهوت التي أتت فيما بعد. ويجب ألا ننسى أنه لولا وجود هذه لما كان بالإمكان الوصول إلى وجهات النظر الفلسفية والعلمية، لأن وجود العلاقة الديالكتيكية التاريخية بينها قطعية وواضحة.
2 ـ الموضوع الهام الآخر هو أن الفينيقيين قد أخذوا الأبجدية المستخدمة حالياً في كافة دول أوروبا من السومريين وبعد تطويرها قاموا بنقلها إلى الإغريق فيما بين أعوام 1000ـ700 ق.م، وقد امتلك الإغريق التاريخ بفضل هذه الأبجدية. وكذلك بشكل مشابه لذلك، تم أخذ الرياضيات والهندسة من المصريين والسومريين، والأسلوب الأدبي سواءً على المستوى اللغوي أو المضمون اعتمد على تلك الثقافات أساساً، والبنية الروحية والذهنية التي تكونت عند الإغريق مدينة لمصادرها كما حدث ضمن شمولية المرحلة، بالإضافة إلى ذلك فقد قدموا مساهماتهم بمنتهى المهارة، وهنا تكمن الأهمية الأساسية. إذ لم تتم عملية الأخذ والنقل بشكل مستنسخ، بل على شكل تجسيد وتبني ذلك والوصول به إلى مستوى البنية الذهنية والروحية الأكثر غنىً، وفي هذا الإطار لعب الإغريق دور المساهم المهم في تاريخ الحضارة. والأمر الخاطئ هو تحريف الحقائق واعتبار هذه المساهمة عبارة عن مصدرٍ وعملية ولادة؛ فقد أوصل الإغريق وبعدهم الحضارة الأوروبية هذا التحريف إلى درجة متطرفة تصل حد الشوفينية. فقد تحول اعتبار كل شخص ليس إغريقياً هو بربري إلى نوع من العرف والتقليد، بيد أنهم قبل أن يصبحوا قوة حضارية كانوا يعيشون ضمن أنظمة قبلية بدائية، بينما كانت الحضارة قد تكونت في مصادرها الأصلية منذ زمن بعيد.
3 ـ عندما أطلقوا اسم "الهلينية" على أنفسهم، كانت ميزوبوتاميا العليا تكتشف الحديد كوسيلة للتحضر وبعد ذلك تم نقله إلى الجزيرة عن طريق قبائل "Frig ". كما تم نقل أدوات الإنتاج البرونزية عن طريق طروادة، ولم يتحول الهلينيون إلى قوة مهاجمة إلا بعد أن تراكمت الأسلحة المصنوعة من الحديد والبرونز لديهم اعتباراً من أعوام 1000 ق.م. لقد انفتحت أبواب الأناضول أمامهم بعد سقوط طروادة أعوام 1200 ق.م . في البداية يتم تحويل الأناضول الغربية إلى بلاد "إيونية"، وبعد ذلك شهد الأناضول حتى حدود الفرات فترة هلينية، ويتم إزالة أقوام "اللويين والفريديين والليديين"، ولكن المجموعات الاثنية والتي يقال عنها ممالك " كوماغينس" الذين يعتبرون أجداداً للأرمن والكرد الحاليين فأنهم يحافظون على وجودهم. ويصل هذا الانتشار المضاد للثقافة الهلينية إلى ذروته مع اسكندر بعد أن شهدت مراحل هبوط وصعود في العام 1000 ق.م إلى أن وصلت في بداية القرن العشرين إلى نهاية تراجيدية بطردهم من الأناضول من قبل الأتراك.
يتواصل الانتشار في الغرب، حيث ينتهي عهد استقلال كريت اعتبارا من أعوام 1500 ق.م. وعاشت قبرص المرحلة نفسها، وتحقق الانفتاح على مقدونيا، لتبدأ في هذه الأثناء مرحلة استعمار قوية، وإقامة مستعمرة "بونتوس" على سواحل البحر الأسود كما انتشرت المستعمرات الهلينية القوية على كافة سواحل البحر الأبيض المتوسط تقريباً، وتنفتح أمامه أبواب شبه الجزيرة الإيطالية لتكون مركزاً سكانياً كثيفاً، ويتم تحويل كافة الجنوب تقريباً إلى منطقة هلينية.
4 ـ تولد بين القرن السابع والسادس قبل الميلاد بنية دولة عبودية مركزية في شبه الجزيرة الإغريقية تعتمد على الأساس الطبقي من الفيدراليات ذات البنية الأثنية. إن الجانب المميز لتشكل الدولة العبودية هذه هو كونها وضعت طابع الكاهن في المرتبة الثانية ليتصدر فيها الجانب السياسي، والأهم من ذلك كله أنها حققت بعد فترة قصيرة من النظام الملكي والذي لربما لم يعش أول شكل لما يمكن أن نسميه بالنظام الجمهوري العبودي. فبينما كانت طبقة الكهنة تلعب دوراً أساسياً في سومر ومصر وفي كافة بنى الدول العبودية الشرق أوسطية، لعبت السلالات الحاكمة الدور ذاته، ويتصدر النظام الجمهوري كنظام حكم عند الإغريق والإيطاليين، لا شك أن هذا الوضع ناجم عن العمل بالعقلانية في الإيديولوجية إلى جانب ارتباطها بزيادة أهمية التجارة إلى جانب الزراعة، خاصة وإن التجارة جلبت معها تطوراً اجتماعياً للطبقة البرجوازية، وفي الأساس إنها كطبقة وسطى أقرب إلى العلمانية تأخذ دائماً موقعاً بعيداً عن أسلوب النظام الذي يعتمد على الكهنة والسلالات الحاكمة وذلك ما تقتضيه مصالحهم.
لقد باتت التجارة عن طريق البحر مناسبة أكثر قياساً بالتجارة البرية، وهذا ما يشكل الشرط المادي للتفوق الإغريقي. فلقد شكل الثراء والرفاهية اللذين نتجا عن التجارة أرضية مادية لأسلوب التفكير الفلسفي، وبالإضافة للتطور المتميز من الناحية الاقتصادية، فقد أكتسب تطبيق تقسيم العمل المعتمد على التجارة أهمية كبيرة. إن تقسيم العمل هذا ضمن شروط تلك الأيام، جلب معه تخصص جعل التجارة هامة بين شمال وجنوب وبين شرق وغرب عالم الحضارة، مما تسبب في ظهور انتشار حرفي جديد، ويمكن القول بأنه توفرت الإمكانية لحركة تجارة السلع بدءاً من المحيط الأطلسي وحتى المحيط الهندي، وبهذا المعنى تشكلت أول عولمة هامة في التاريخ.
بالطبع تم تبادل الأفكار والمعتقدات المشتركة على الطرق التجارية بنفس الشكل. ولا عجب في أن الجمهورية وتعبيرها الأكثر تطوراً الذي يتمثل في الديمقراطية هي البنية المناسبة لأسلوب التطور الاقتصادي والاجتماعي والإيديولوجي. إن التطور الطبقي الذي يعتمد على الشروط المادية الثرية والمركبة سيجبر البنية الأكثر ملائمة له في المخطط السياسي وتحقيقها. في هذه النقطة تكمن الأهمية التاريخية "لديمقراطية أثينا" بما يماثل أهميتها في مساهمتها الحضارية. لاشك بأن هذه الديمقراطية عبارة عن ديمقراطية الطبقة الاستعبادية ولكنها مع ذلك فهي تمثل تجديد هام، وإن بعدها عن احتكار الكهنة والسلالات الحاكمة جعلها تلعب دوراً هاماً في احتضان الحضارة الغربية.
5 ـ لا شك أن أهم تجديد واسهام قدمته حضارة الإغريق في التاريخ هو تطوير الأسلوب. إن اعتبار الفلسفة التي تعني "حب المعرفة" قد ولدت بكاملها في شبه الجزيرة الإغريقية هو موقف مبالغ ويتضمن نواقص كبيرة. فمن المعلوم أن "تالس الميلتي وفيثاغورث " وكلاهما من الجزر اللذين هما أول من بدأا بتوثيق وتدوين أسلوب الفكر الفلسفي، تعلما وأمضيا سنين طويلة من عمرهما في مصر وبابل. وقبل أن يظهر أسلوب التفكير الفلسفي، نرى أن كل رواد المعنويات تلقوا تعليمهم في مصر وبابل في مدارس الرهبان، ولم تكن في تلك الفترة أية مدرسة خاصة في شبه الجزيرة، غير أنه يعتقد أن القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد شهدا موجة من الرحالة الشعراء مثل "هوميروس وأورفيوس". دعك من أنه لم يكن موجود لديهم معابد بالمستوى الموجود في مصر وبابل في تلك الأعوام، فلم يكن قد توفرت بعد أرضية قوية لتشكل ثقافة معابد محلية، فقد تم استيراد الإيديولوجية بشكل مكثف من الشرق، وحتى "هوميروس" هو شاعر ينتمي إلى الأناضول الغربية.
وكما أن هذه الحقيقة لا تلغي الأهمية الكبرى لتصدر الفكر الفلسفي، فأنها تظهر بوجوب التفكير بها كنتاج مشترك للحضارة. إن الفكر الفلسفي كديالكتيك هو نتاج وسطٍ باتت فيه التفسيرات الميثولوجية ذات الأصل الشرقي غير كافية ولم تعد تشبع ذهن الإنسان بل وأصبح مضحكاً، إن القصور التي وقعت فيه الميثولوجية والمواقف الدينية المعتمدة عليها باعتبارها أصبحت ستار إيديولوجي وقوة للتشحيم ستدفع البنية الذهنية والروحية للمجتمع إلى الدخول في بحث جديد. إن ضعف الاعتقاد الديني للمجتمع الإغريقي بالمقارنة مع مجتمع مصر وبابل، وعدم تحجر العقائد الموجودة، وميلان النظام السياسي نحو الديمقراطية والجمهورية، وإعطاء الأرضية المادية إمكانية الرفاه وخلق أوقات الفراغ، كل ذلك جعل الخصائص الأساسية لأجواء الفكر الجديد ملائمة. ان إظهار حاجة النظام السياسي والثروة المادية للنقاشات، يجلب معه إمكانيات الأمن والتحرر، فمثلما تم تجاوز عصر الخوف من الآلهة، أصبحت دولة المدن المعقدة بحاجة إلى الأفكار المعتمدة على العقل والأكثر واقعية. يقف وراء كل هذا مؤثر فعال: ففي الوقت الذي كانت حضارة الرق على وشك أن تترك وراءها ثلاثة آلاف سنة، فإنها بعد تطورها الطبيعي ووصولها إلى مرحلة النضوج بدأت تمر بمرحلة تآكل حتمية جادة، فالنظام بدأ يقترب من نهايته، والذروة والانهيار قريبان، وفي الأساس فإن الحضارة الإغريقية الرومانية هي اعتراف بهذه الحقيقة.
إن كل هذه الشروط تشير إلى أن عهد الإيمان بالميثولوجيا قد ولّى وأن وقت استخدام العقل قد حان. لقد ازدادت التراكمات الثقافية للإنسانية خلال عهود طويلة، وأصبحت المعرفة باعتبارها ثمرة للجهد والممارسة حول الأشياء تلعب دوراً تنويرياً فيما يخص عالم الطبيعة والحيوانات والنباتات، وأصبحت علاقة السبب والنتيجة تعبر عن نفسها دون اللجوء إلى الأرواح والآلهة. فـ للطبيعة نظام عمل مستقل عن إرادة الإنسان والإله، وبدأ هذا الأمر يلقى قبولاً في عالم الذهن، وقد بدأ عالم الاعتقاد الساذج يتغذى بالشكوك يوماً أثر يوم، وأمتلك الجرأة على الخروج من عالم الخيالات الطفولية إلى عالم الحقائق، ووراء كل هذه الظواهر يرقد الواقع الإغريقي الذي أصبحت فيه التجارة تجري وراء كل الأبواب والذي أصبح يتلذذ بكشف مزيد من الأسرار ويرى في ذلك مصالحه، فالتجار الإغريق كانوا مصممين على مواصلة الطريق الذي لم يستطع السومريون تحقيقه، وهم في ذلك يماثلون البرجوازية الصناعية التي لا تعترف بالحدود في سبيل أرباحها. لقد انحسرت كثيراً قوانين الرب وأضحت قوة العقل الخالص وقوة الفرد مضطرة للتفكير السريع في عالم تجاري متغير، والميثولوجيا التي كانت كافية من أجل البنية السكنية للزراعة الموسمية لم تعد تلبي حاجة عالم التجارة والحرف في المدن، لا بل أصبحت مضحكة، وهكذا اضطرت معها الطبقة الحاكمة للمجتمع لخلق فكر مسيطر خاص بها في إطار علاقات الرق، فالتغيير في البنية الطبقية سيخلق تغييراً في البنية الفوقية.
يمكن الوقوف أكثر عند الشروط الذاتية والموضوعية للثورة الفلسفية في الفكر، ولكن هذه التوضيحات كافية للتوصل إلى تعريف صحيح وجوهرها هو:
مثلما هناك علاقة ديالكتيكية وتسلسلية للتطور الحضاري في البنية التحتية كذلك هناك وسائل التنقيل والتصور الإيديولوجي التي تعد مؤسسة أساسية للبنية الفوقية وهي أيضاً ضمن علاقة ديالكتيكية وتسلسلية وتحقق التكامل أيضاً. وهذه لا يمكن أن تتحقق من تلقاء ذاتها ودون الاعتماد على الخبرة أو بدهاء مزاجي لبعض الأشخاص، وحدوث ذلك بهذا الشكل، لا يتضمن أي تقليل لدور المفكرين الفلاسفة، بل على العكس، وذلك يوضح في أي شروط أنتجوا وأي شكل من الحضارة أبدعوا، وبمنح هؤلاء حقوقهم يمكننا استنباط النتائج الصحيحة، ومن الملاحظ أنه بعد الانسلاخ الميثولوجي في عصر الفلاسفة تم الدخول في مرحلة فكرية تتضمن تناقضين أساسيين وهما:
أ ـ النمط الذي يعتمد الأحاسيس أساساً ويمارس ذلك عملياً بكثرة، يعترف بالوجود الموضوعي للطبيعة ويستوعب الأسباب والنتائج الموجودة فيما بين الأحداث، كما يعترف بوجود قوانين مستقلة عن عمل ورغبات الإنسان، وهو الشكل الأولي في اكتساب المعرفة الذي يعتمد على التجربة والمراقبة، ويسعى للوصول إلى أسلوب تفسير الطبيعة دون الاعتماد على الدوغمائيات الدينية والميثولوجية، وبذلك يعبّد الطريق المؤدي إلى العلم بشكل سليم.
ب ـ نمط التفكير العقلي الذي يمهد السبيل لتأثير يقظ وساحر، يرزح تحت تأثير الدوغمائيات الماضية، ولا زال العقل بعيد جداً عن الإعلان عن استقلاله، ولكنه رغم ذلك يمتلك الجرأة على السير في غابة عذراء بعيدة عن ظل الآلهة؛ أي أنه يتقدم خطوة ـ وإن كانت محدودة ـ على طريق التفكير المستقل. فكل شيء موجود يتحقق في الفكر، ويرى أن العالم الموضوعي هو عبارة عن خيال مخادع. الفكر الذي مصدره العقل هو القيمة العظيمة، ولا شك أن في هذا تأثير كبير لنهوض الفكر بقوته الجوهرية، وإنه مسحور لدرجة أنه لا يولي أهمية تذكر لوجود الواقع خارجه، وكما كانت آثار الأولين مذهلة، كذلك هذا التطور الكبير للتاريخ ما كان ليتحقق لولا التوجه نحو التطرف.
ولن نكرر لأننا وضعنا مقدمة قصيرة متعلقة بممثلي هذين الفرعين الرئيسيين في تطور الفكر الفلسفي. ولكن يجب أن نبين أن كلا الفرعين قد تركا بتأثيرهما حتى يومنا هذا بما يماثل الميثولوجيا السومرية على الأقل، فكما تلعب الميثولوجيا السومرية دوراً في أساس عالمنا الاعتقادي، كذلك تلعب الأفكار التي تدفقت من هذين الفرعين الرئيسيين دوراً هاماً في أساس تفكيرنا الفلسفي العلمي. إن ممثلي هذين الفرعين بمثابة رسل للفلسفة، فلكافة الحلقات الهامة لسلسلة المدارس التي أسسوها هؤلاء بأنفسهم وعلى رأسهم تالس وفيثاغورث وبارمنيدس وهرقليطس وسقراط وأفلاطون وأرسطو والمدارس المتتالية التي تأسست باسمهم، دور في تكوين قوتنا الفكرية يماثل دور الأنبياء على الأقل في عالم اعتقادنا، وهم شخصيات تشكل مصدراً لا بد منه على صعيد إظهار قوة الفرد. فبينما كانت الميثولوجيا والدين يبشران بالقدسية الاجتماعية وبالموقع، كانت الفلسفة تبشر الفرد الذي يستيقظ ويلهث خلف حريته.
في الحقيقة إذا كان الدين والفلسفة مؤسستان لا يمكن الاستغناء عنهما في التطور الحضاري ولهما جذور ميثولوجية مشتركة، فإنه من الصحيح أيضاً أنهما اختلفا وتناقضا واشتبكا رغم أنهما توحدا في التركيبة من حين لآخر. وقانون وحدة وصراع الأضداد الموجود بين العالمين الفكري والعقائدي وبهذه النوعية فهو ساري المفعول، وسيطبق هذا القانون ويخلق التقدم، وهذا القانون الذي سيتحول فيما بعد إلى قانون بين هذين الفرعين من الفلسفة، سيتواصل تقدم الفكر الفلسفي على شكل صراع ومواجهات والوصول إلى تركيبات ليصل إلى يومنا هذا، وعندما يقوم بتطوير العلم، فإنه يتغذى منه أيضاً.
6 ـ إن لإسهامات الإغريق في الحضارة تأثير كبير وباق على البنية المعنوية والفنون، فقد استطاعت أن تشهد أصالة في المجال الموسيقي وان كان قد أصبح للسومريين تأثير فيه، وحققت تقدماً في تدريب الحواس، وقد شهد تطور على صعيد الغناء الفردي والمعبدي، وقد فسر فيثاغورث الموسيقى على أنها نوع من اللغة الكونية ونرصد عند السومريين الرأي نفسه. فالحياة لا تكتفي بالتفسيرات التي تقدم بلغة الميثولوجيا أو الأدب أو بلغة الفلاسفة ويصلون إلى نتيجة مفادها لا غنى عن التفسير بلغة الموسيقى.إن أثر المصريين في فن العمارة واضح، وربما استطاع الإغريق أن يلقوا الخطوة الثانية الأهم على صعيد الفن المعماري بعد المصريين، ويمكن أن نشاهد الآثار المعمارية التي تركتها الثقافة الهلينية في كل المناطق التي انتشرت فيها، واما إسهاماتهم في فن الهياكل فهي واضحة جداً ولها صفة المدرسة في هذا المجال. فلقد استطاعوا أن يبدعوا تصويراً حياً استطاع أن يتسابق مع جمال الطبيعة. لقد أظهرت المحلية الإغريقية على صعيد الفنون أن تنتقل بسرعة إلى المجال العالمي، وتظهر أمامنا كإنتاج تركيبي يحمل صفة الإسهام المتفوق.
يمكن أن نشهد نفس التطور في المجال المعنوي "الأخلاقي"، وخاصة مفهوم "الفضيلة" الذي تطور على يد سقراط والذي يوضح "المسؤولية الاجتماعية للفرد" ويتم رؤية تأمين التطور على المستوى المعرفي العام من أجل جميع الأفراد بشكل مسبق، وكلمة السر في ذلك هي عبارة "أعرف نفسك". إذا قيمنا الفضيلة على أنها الوصول بأي عمل إلى الكمال، حينها فالذي يقع على عاتق الفرد هو الوصول المطلق إلى المعرفة الضرورية في موضوع العمل الذي سيؤديه وبذلك يتم الوصول إلى حياة فاضلة، وهكذا فالسلوك المسؤول للفرد يصبح معياراً للأخلاق الحميدة، وأن مفهوم سلوك أخلاقي كهذا والذي نجد بعضاً من أسسه عند الزرادشتية هام جداً، وإنه يفكر بالحرية وإن كانت محدودة، ويمكن أن يتضمن هذا المفهوم الأخلاقي فكرة "حق تقرير المصير للفرد"، علماً بأنه في المفاهيم التقليدية السابقة، كان على الفرد أن يتصرف حسب القواعد المقدسة التي حددتها القيم المقدسة مسبقاً، ولا يمكن التفكير بأي تطور غير هذا، لأن الآلهة في النظام الاعتقادي هي التي تحدد كل شيء بالمطلق، ولا يمكن للفرد أن يكون حتى مجرد موجود على مستوى الظل، وهنا يكمن جوهر فلسفة الرقيق والعبد، ومن المذهل فعلاً أن هذه الفلسفة أسرت الفرد والمجتمع في شخصيته. لقد تحول السلوك الأخلاقي الذي تغذى من الاعتقاد الديني والميثولوجي مع خصائص التقاليد القديمة إلى السيطرة المطلقة على سلوك الفرد.
كان هناك التزام ايديولوجي اكثر تخلفاً بكثير من تصرفات الفرد في العصر النيوليثي والتي كانت حرة بالرغم من انها كانت جماعية، وذلك على شكل الالتزام بالروابط الذهنية والروحية التي تسمى بـ "القدر"، ويمكن ان تمتد على شكل سلسلة إلى ما لا نهاية، لعب هذا المفهوم الأخلاقي الذي تم إدخاله إلى المجتمع على يد الكاهن في الحضارة العبودية دوراً هاماً في استمرارية النظام، وهذا هو المفهوم الأخلاقي الذي تم مهاجمته من قبل زرادشت وبوذا وسقراط، وأصبح هدفاً لتعاليمهم حتى تعرض للتمزق جزئياً، ومن هنا ينبع سبب تسمية هؤلاء "مصلحي الإرادة العظمى" وربما لم يهاجموا "الرب" بشكل مكشوف أي لا يحدث تمرد على الحضارة العبودية التي أصبحت رمزاً ولكن الطريق الذي سلكوه كان يهدف إلى فتح ثغرة لتشتيت النظام لصالح الحرية، أما عن الأساليب الإيديولوجية والبرغماتية "التخيلات" التي اتبعوها ستبقى في الدرجة الثانية من الأهمية، وهذه الخطوات التي استهدفت الحرية تسارعت مع القرن الخامس قبل الميلاد، وأصبحت أقوى لتمهد الطريق أمام المفاهيم الأخلاقية والتصرفات القوية في يومنا هذا.
إن هذه المشكلة التي تعد موضوعاً أساسياً يجب النظر إليه في الفصول القادمة، وخاصة كموضوع أساسي للنقد في عصرنا هذا، تحمل أهمية كبيرة.
إن مفهوم "الفردية وحرية الأخلاق" الذي تطور في أساسه ضد مفهوم الأخلاق لدى النظام الذي يضم العبد والرقيق والذي بقي لحقبة طويلة ومازالت تأثيراته ممتدة إلى يومنا هذا، بدلاً من أن يقوم بدوره فإنه ينهض بدور معاكس ويعبر بشكل ملموس عن خطر وضع الفرد تحت سيطرته، وهذا المفهوم الأخلاقي الذي وصل إلى الذروة وخاصة في الحضارة الأوروبية تجعل التقييم من جوانب متعددة والبحث عن البديل أمراً مصيرياً. فإذا لم يتم تحليل مفهوم "الأخلاق الفردية" التي تغذت بلا حدود على العلم والتقنية فأنه سيؤدي إلى كوارث كبيرة تتجاوز حدود الحروب المجنونة التي يتم خوضها في القرن العشرين ولن تكتفي بجعل البيئة غير قابلة للعيش وحسب، بل إنه يحمل في مكنوناته أخطاراً ضد الإنسانية والتي يمكن ان تحيي تشوشاً ونظاماً وحشياً يتجاوز في أبعادها النظام الوحشي البدائي بكثير، وسيتصرف في تسييرها بشكل متهور .
بلا ريب، إن دور الحضارة اليونانية في هذا الانشطار المعنوي يتمثل في تطويرها للأخلاق الفردية، والتي ستتطور على يد روما حتى تصل إلى القمة على يد الحضارة الأوروبية. وأما الجانب الآخر من هذا الانشطار فأن الذي سيوضحه هو" ثقافة السلوك الشرقي" أو أخلاقه، فبينما كان الإله عند الإغريق يتحول إلى إنسان ويندرج شيئاً فشيئاً إلى قوة الفرد، كان الشرق يعيش في مرحلة تطور يتم فيها تأليه الفرد في البنية الأخلاقية والفكرية وتقديس النظام الذي أنشأه على أنه نظام إلهي، وبينما كان يتم شطر هذين المفهومين وميل الإرادة اللذين لهما جذر واحد لدى السومريين على يد زرادشت، كان يجري الفصل التاريخي بين الغرب والشرق باعتبارهما خطان حضاريان عريقان يستمران حتى يومنا هذا دون أن يفقدا أهميتهما عن طريق الصراع والمواجهة والوصول إلى تركيبات عليا.
إن هذه البنية المتناقضة للحضارة تتطلب تقييماً شاملاً حتى يتحقق الانفتاح للمرحلة المقبلة. هناك إجماع عام على أن المقولة الليبرالية الرأسمالية والمقولة الماركسية للاشتراكية التي تم تطويرهما حتى الآن، أتاحتا إمكانيات تحليل محدود وبقيتا سطحيتين، ولكن لم تستطع الليبرالية والاشتراكية المشيدة تحقيق الجنة التي وعدتا بها، وربما يكون الخطأ في مفهوم الجنة ذاته، وفي الوقت الذي نترك فيه التقييمات المتعلقة بذلك إلى الفصول الأخيرة، ففي الحقيقة أن موقفنا التاريخي ينطلق من عملية تسليط الأضواء على هذا الموضوع، إذ لم نكن قادرين على أن نكون قوة الحل لهذه القضية، وهذا أمر واضح ومهم.
لا شك ان أسس تفوق النهج الغربي الذي تبلور في الانشطار والذي تعمق في أساس حضارة الإغريق، متمثل باتخاذه الإنسان كأساس، ومحاولته فهم وتحليل الطبيعة والمجتمع باستخدام مواهبه ووضع مصلحة الفرد في المقام الأول وبتطوير المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي. وبينما كانت إيديولوجية هذه الحضارة تصل إلى ذروتها على يد أرسطو، برهنت حملة الانتشار باتجاه الشرق على يد الاسكندر الكبير عن هذا التفوق في كافة مناطق الحضارة، وبفترة قصيرة وصلت إلى حدود الهند، لقد تمكن الطالب الذي تم تعلميه على الفكر الجديد، أن يحقق نجاحاً باهراً في مهمته.
أما أسلوب التفكير الشرقي وخاصة في بابل فقد فقدت قدرتها الخلاقة القديمة بمناقشات الكهنة الذي دفن بداخلها، غير أن المهتمين بنسخ النصوص القديمة أشبه بمن غرق في مستنقع ضحل. وأما في مصر فقد كان الوضع أكثر تخلفاً، والبراهمة الهندية فقد كانت منشغلة بتكرار النظام الملكي والكهني المصري والسومري القديم، وتشجيع زرادشت للإرادة لم يكن كافياً لإيقاف هذا التوجه نحو الانحطاط. فبينما كان تطوير الأديان التوحيدية يفتح الطريق أمام تقدم محدود من جهة، فإنه لم يكن يستطع تجاوز مفهوم دولة الكهنة المرصوصة بشكل قوي، وكان نظام الهوية الجديد للمجتمع المنسوج حول المعبد يأخذ مقولة مفادها أن الدولة هي التعبير الأرضي لنظام كوني لا يتغير، وكان يتم تجديد كافة الإيديولوجيات والأخلاقيات بناءً على هذا الأساس ليتحول إلى أدب ونسج للمجتمع، وكان يتم فقدان أساس الفرد لدرجة لم يبق له أثراً، وكان "الكاست Kast الذي لا يعترف حتى بإمكانية أن يكون الفرد ظلاً وهذا ما يجعل النظام الإلهي مهيمناً، كان هنالك هيمنة لمفهوم وأخلاق يقران فقط بعمل ما يقال، وهكذا نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام "النهج الشرقي" المتأصل الذي يؤمن بأن الموت من أجل الملك أو السيد أو المعلم هو فضيلة مقدسة، وحتى لو وصلت الانطلاقة الحضارية العكسية لزرادشت المعتمدة على حملة الإرادة الحرة إلى أبواب أثينا، فإنها منيت بالهزيمة أمام الاسكندر الطالب ذو الخمس والعشرين عاماً وذلك بسبب انغمارها في المفهوم الشرقي، وبذلك تفوق الغرب، علماً بأن الشرق يملك قوة مادية كبيرة وكذلك قوة العسكرية، ولكن المفهوم الشرقي الذي يحيل كل شيء إلى الإله، ويجعل ملوكه في مكان الآلهة لا يملك أية قيمة إنتاجية أمام عصر العقل والعقلانية التي أوصلها أرسطو إلى الذروة، ولكنه لن يستطيع إنقاذ نفسه من الهزيمة. إن المسؤول عن خسارة الحرب هو "النمط الشرقي".
لقد جنت الصين والهند اللتان اتبعتا نفس السبيل، نفس النتيجة، وكذلك تجربة الإصلاح التي تم إحياءها بولادة الإسلام في العصور الوسطى تعثرت بـ" الطراز الشرقي" ولم يتمكن من حماية نفسه أمام "الطراز الغربي" بالرغم من فخامتها واستمراريتها لوقت طويل. وإذا ما أمعنا النظر أكثر وخاصة في الفصول اللاحقة التي سنشرح فيها بأسلوب أكثر شمولية، أن الذي يحدد الازدهار والانهيار هي القوالب السلوكية الأخلاقية والبنية المنطقية التي تكمن في أساس الأنظمة؛ الذي يوجه هذا هو الأسلوب الفكري وقوة الإرادة. ميلاد الحضارات وصعودها وتغييرها وانهيارها تعتمد على القيم المعنوية والذهنية التي تلعب دوراً مصيرياً، وثبت في المثال الإغريقي بشكل ملفت للانتباه على ان القيم المادية تحظى بالأهمية وتطورها وافتقادها مرتبطاً بذلك.



#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول ...
- من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...
- الدفاع عن شعب الفصل السابع هوية تود التعريف بذاتها بشكل صحيح ...


المزيد.....




- الآلاف يتظاهرون في جورجيا من أجل -أوروبا- وضد مشروع قانون -ا ...
- مسؤولون إسرائيليون: نعتقد أن الجنائية الدولية تجهز مذكرات اع ...
- نتنياهو قلق من صدور مذكرة اعتقال بحقه
- إيطاليا .. العشرات يؤدون التحية الفاشية في ذكرى إعدام موسولي ...
- بريطانيا - هل بدأ تفعيل مبادرة ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا ...
- أونروا تستهجن حصول الفرد من النازحين الفلسطينيين بغزة على لت ...
- اجتياح رفح أم صفقة الأسرى.. خيارات إسرائيل للميدان والتفاوض ...
- احتجاجات الجامعات الأميركية تتواصل واعتقال مئات الطلاب
- الأونروا: وفاة طفلين بسبب الحر في غزة
- لوموند تتحدث عن الأثر العكسي لاعتداء إسرائيل على الأونروا


المزيد.....

- سعید بارودو. حیاتي الحزبیة / ابو داستان
- العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس ... / كاظم حبيب
- *الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 * / حواس محمود
- افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_ / د. خليل عبدالرحمن
- عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول / بير رستم
- كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟ / بير رستم
- الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية / بير رستم
- الأحزاب الكردية والصراعات القبلية / بير رستم
- المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية / بير رستم
- الكرد في المعادلات السياسية / بير رستم


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الكردية - عبدالله اوجلان - من دولة الكهنة السومرية نحو الحضارة الديمقراطية الفصل الاول التطور الحضاري والمجتمع العبودي ح - الذروة في الحضارة العبودية 1-14