|
مجنون الجنائن
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 4937 - 2015 / 9 / 26 - 13:49
المحور:
الادب والفن
عيناه، اللتان من الصعب تحديد لونهما، كانتا تتابعان الفتاة المتفجرة بالفتنة. كانت تقترب رويداً من مجلسه، وقد اهتزت كلّ جارحةٍ في جسمها الممتلئ بالعافية، والممتَشقة من غمد النسيج الخفيف والرهيف. لطالما اعتادَ قبلاً على حضور أمثالها من السياح إلى هذه الحديقة الأثيرة، المنزوية على طرف أكبر وأشهر ساحات حيّ " غيليز "، الراقي. إلا أنّ ثمة شيئاً ما، أكثر من الإثارة، جعل عيناه تتعلّقان بالصبيّة المفعمة بالرواء والنضارة. " إنني متأكدٌ من أنها هيَ؛ تلك الكَاوري الأشبه بالحورية، التي عادتني في حلم ليلة الأمس "، فكّر الفتى فيما كان يتأثر الخطى المقتربة من مقعده. ثم استرسل في استعادة الرؤيا: " يا له من اتفاق..! لقد كانت فتاة الحلم تحمل حقيبة يد، أيضاً. وكذا الشعر الأحمر عينه، مع أن الألوان لا تظهر عادةً في أحلامنا. إذاك، فتحَتْ حقيبتها فأخرجت منها صوراً وراحت تعرضها على ناظري. كانت صوَرُها وهي عارية تماماً، تتبسّم في إحداها للمصوّر وهيَ مستلقية على بطنها فوق رمال مضيئة. وقالت لي بالفرنسية، التي أعرف القليل منها، أنها غير متأكدة من حقيقة شعورها لمن وصفته بصديقها. قالتها وما لبثت أن أسرعت مبتعدة، ما أن اقتحمَ المكان بعضُ رفاق التشرّد والضياع ". هكذا كان يفكّرُ فتانا، حينما كانت الصبية الأجنبية تقف أمام المقعد المجاور، فتنحني قليلاً كي تمسحَ الغبارَ من على صفحته الخشبية، الصقيلة. فكم تطايرَ من أوار جمرة الرغبة، المدفونة طيّ بنطال الفتى المتشرد، الرث والخَلِق: مرأى الأرداف الثقيلة، المتكوّرة بشدة على أثر تلك الحركة الطارئة، جعل فكرَهُ يطيشُ بعيداً عن الحلم والواقع سواءً بسواء. على غرّة، حطتْ نظرةُ الصبية في عينيه مباشرةً. وإذا كلّ ما حوله يضجّ بالخضرة والحياة، كأنما يرى الجنائن لأول مرة؛ هذه الأشجار المثمرة، الأزهار المونقة، العرائش المهوّمة، المماشي المتأنقة، النوافير المتغنّجة، المتنزهون المتبخترون، الهررة والكلاب الجائعة، الجائعة. " أنتَ يا المسطّي..! "، أخرجَهُ من شرودِهِ صوتٌ صادرٌ من الجهة الأخرى. عمال الحديقة، هم من دأبوا على إطلاق هذا اللقب ( أي المسطول ) على الفتيان المتشردين. بيدَ أنّ من خاطبه، ما كان سوى سائق السيارة الكبيرة، التي كانت محمّلة بأفرع وأغصان الأشجار المبتورة. ثمّ أعقبَ آخر، كان يجلس بقرب السائق: " تعال يا ولد، نريدك في خدمة ". عندما ذهبَ إليهم، طلبوا منه أن يجلبَ لهم وجبة همبرغر من مطعم الوجبات السريعة، القائم على الطرف الآخر من الساحة. تردد قليلاً، على الرغم من أنه سيحصل لقاء الخدمة على بعض الدرهم. قال له السائق بلهجة متماجنة، مومئاً إلى ناحية الفتاة ذات الشعر الأحمر: " ها؟ يبدو أنك أثرتَ إعجاب تلك الكَاوري! ". بعد لحظات، وجد نفسه محشوراً إلى جهة باب الحافلة مع المعاون والسائق وهم في الطريق إلى خارج الحديقة. كانت السيارة تتجاوز مستديرة الساحة، المؤطرة ببركة كبيرة تتقافز مياهها من فوهات جرار منسقة، لما وضع المعاون يده على فخذ الفتى: " ما رأيك بأن تتغدى معنا، ثم تحصل فوق ذلك على أم العشرين درهم؟ "، قالها وهوَ يغمز بعينه. احتدمَ فتانا، فأبعد يدَ الآخر في حركة حانقة. فما كان من المعاون، المُثار بدَوره، إلا أن فتحَ بابَ الحافلة وألقى الفتى خارجها. الصبية الأجنبية، ذات الشعر الأحمر، كانت قد خرجت من الحديقة ويممت شطرَها نحوَ مطعم " ماكدونالد ". مرّت بالقرب من البحرة الكبيرة، لينعشها رذاذُ الماء المتطاير من نافوراتها العديدة. وكالمعتاد، تمكنت بصعوبة من قطع الشارع العريض، الذاخر بحركة المركبات. ثمّة، عند منعطف الطريق المؤدي للمطعم، كانت جمهرة من الناس تتحلّق حول سيارة صغيرة، يبدو كأنها قد جنحت تواً عن الطريق واصطدمت بالرصيف. الفضول، دفع فتاتنا لألقاء نظرة قريبة. عند ذلك، صدَمَها منظرُ جثةٍ متمددة على طوار الطريق. ابتعدت مسرعة عن المكان. ثمّ اتجهت نحو كشكٍ قابع في ركن ظليل، محاط بالأبنية العالية لمركز الاتصالات. عادتْ على الأثر وهيَ تحمل بيدها زجاجة مياه غازية، فجلست على درج المبنى الرسميّ فيما كانت تحاول طرد ذلك المنظر الدامي من مخيلتها. لقد فقدت شهية الأكل. هداها تفكيرها بعدئذٍ إلى استحضار ذكرى جميلة: غيرة الحبيب، وهوَ يرى لأول مرة صورتها العارية على شط البحر، الذي التقطها صديقها السابق.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مجنون المخيم
-
مجنون المال
-
النملة الحمراء
-
فريسة سائغة
-
خطوط حمراء وساحة حمراء
-
مجنون الأرقام
-
مجنون المقام
-
مجنونة المدينة
-
مجنونة الملجأ
-
مجنونة الندم
-
الببغاء
-
مجنونة المهربين
-
مجنونة المقبرة
-
بشاركو ونتنياهو
-
وصفُ أصيلة 4
-
شاعر شاب من القرن 15 ق. م
-
أفق نحاسيّ
-
وصفُ أصيلة 3
-
الهرم
-
العبيد
المزيد.....
-
صناع أفلام عالميين -أوقفوا الساعات، أطفئوا النجوم-
-
كلاكيت: جعفر علي.. أربعة أفلام لا غير
-
أصيلة: شهادات عن محمد بن عيسى.. المُعلم والمُلهم
-
السعودية ترحب باختيارها لاستضافة مؤتمر اليونسكو العالمي للسي
...
-
فيلم من إنتاج -الجزيرة 360- يتوج بمهرجان عنابة
-
-تاريخ العطش-.. أبو شايب يشيد ملحمة غنائية للحب ويحتفي بفلسط
...
-
-لا بغداد قرب حياتي-.. علي حبش يكتب خرائط المنفى
-
فيلم -معركة تلو الأخرى-.. دي كابريو وأندرسون يسخران من جنون
...
-
لولا يونغ تلغي حفلاتها بعد أيام من انهيارها على المسرح
-
مستوحى من ثقافة الأنمي.. مساعد رقمي ثلاثي الأبعاد للمحادثة
المزيد.....
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
المزيد.....
|