مجنونة الملجأ

دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 4916 - 2015 / 9 / 5 - 20:56
المحور: الادب والفن
    

" عمر "، انسلّ من الحجرة الكبيرة، غيرَ آبهٍ بتعليمات المشرفة.
هذا الطفل، غير المتجاوز عمره السبعة أعوام، لم يَعُد يذكر عدد مراكز الأيتام، التي تنقّل فيها خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة. إلا أنه، من ناحية أخرى، يغبط حظه لأن المشرفة رافقته وأنداده في محطات رحيلهم. على ذلك، يمكن تفهّم تردده في مخالفة أمر من يدعونها بـ " الآنسة ".
هذا الصباح الخريفيّ، العليل النسيم، هوَ على الأغلب من أغرى " عمراً " بارتقاء طرف نافذة الحجرة ومن ثمّ الخروج خلالها إلى فضاء الحرية. قبل أن يمضي، ألقى نظرةً عابرة على الحجرة الرثة، الخالية تقريباً من الأثاث: رفاقه الصغار، كانوا متناثرين على اسمنت الأرضية الرطب، وكلّ منهم يعبّر بطريقته عن ضجره وتعاسته وضياعه. ذاكرته، التي لم تحتفظ برقم مراكز اللجوء، سينطبع فيها لاحقاً، وأبداً، هذا المشهدُ الأخير لهؤلاء الرفاق المبخوسي الحظ.
اتجه " عمر " إلى ناحية الساقية، مجتازاً الدربَ الترابيّ، فيما كانت أذناه تُطرب بألحان الطبيعة، المختلفة التقاسيم والمقامات. بيْدَ أنّ سمَعَهُ، ما كان عليه إلا أن يميّز صوتَ حارس الملجأ، المشغول على الأرجح في محادثة المشرفة. هذه الأخيرة، ما لبثت أن قطعت طريقَ الطفل المخالف وفي لحظته تلك، السعيدة، التي أشرفَ فيها على منظر الغيضة الأثيرة، الغامضة: " اقترب، ولا تخف..! "، ندَهَت عليه من مكانها ذاك. قدماه الرقيقتان، قادتاه بخطواتٍ خجولة إلى موقف المشرفة. وإنها دموعه، من تعيّن عليها إجابة النظرات المتسائلة، الصارمة نوعاً. وإذ رقّتْ المرأة الشابة لحال الصغير، فأمسكت بيده، فإنه تمنى عندئذٍ لو أنها تكون أمه. هذه الأمنية، لطالما راقت له في مواقف سابقة، مشابهة. في اللحظة التالية، جفل " عمر " مرهوباً من صدى هزيم الرعد. رفع رأسه تلقائياً نحوَ السماء ليرى مساحة الصفاء، الناصعة كالفضة، تتقلّص فيها رويداً. ثمّة، في الأعالي، شكّل السّحابُ صورة شيخ طويل اللحية شائبها: " إنه الله..! "، فكّرَ الطفلُ. جلبابُ " الآنسة "، العَتِم اللون، ما عتَمَ أن ملأ المشهدَ. كانت المرأة الشابة، الرشيقة البدن والأقرب إلى القصر، تسير الآن أمامه في طريق الإياب، حينما ارتجّت الأرضُ وأرعدت السماء. " انبطِحْ، انبطح..! "، انطلق صراخ المشرفة اللجوج. هكذا وجَدَ نفسه في أحضان من تمنى دوماً لو أنها بمحلّ الأم، الراحلة. على الأثر، عليه كان أن يرفع رأسه ثانيةً، لما أصدى صوتُ المرأة بقوّة في سمعه: " ربااااه، لقد قصفوا الملجأ! "، كانت تصرخ بجنون. ولم تلتفت إليه مرة قط، حينما انطلقت راكضة باتجاه الحجرة الكبيرة، التي اختفت تماماً بفعل اللهيب والدخان. انقلبَ الطفل على ظهره وقلبه يخفق مروّعاً، ككل مرة واجه فيها غارة جوية. إذاك، فكّرَ مجدداً بالله؛ بأنّ صورته قد تبددتْ في السماء وذابت مع دموعها المدرارة، التي راحت تتهاطل بغزارة.

#دلور_ميقري (هاشتاغ)      

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل