|
الذكورةُ والصحراءُ
عبدالله خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 4214 - 2013 / 9 / 13 - 08:36
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
سيادة الذكورة في الصحراء العربية لها عوامل موضوعية فلم يعرف التاريخُ العربي المكتوب حتى الآن أي مرحلة أمومية كما في باقي تواريخ الشعوب حسب جهد المؤرخين كجواد علي في كتابه (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام) مما يعبرُ عن سيادة مطلقة لهذه الذكورة، ونتائجها كتعدد الزوجات والرغبة في ولادة الذكور، ووأد البنات. كانت الصحراءُ الضارية تحتاج لقوى بشرية صلبة، أقرب للضواري، حيث تسود الحروب والهجرة وقد وجد العربُ أنفسهم يتسربون لهذه الصحراء بكائناتهم الرفيقة الجمل والحصان، ويأنسنون ويحضرون هذه الخريطة الوحشية من المناطق الشمالية. تلك العلاقات الجنسية الذكورية الصلدة انتقلت للعلاقات الاجتماعية والسياسية والفكرية، وغدت هيمنة الرجل الأسرية وشيوخ القبائل شكلاً لتلك الصلابة في مواجهة الطبيعة. ومن هنا غدت المدنية الإسلامية صعبة في مواجهة الهيمنة الذكورية ذات التاريخ الصحراوي الذي يبلغ مئات السنين غير المحددة في التاريخ. المدنيةُ الإسلامية المختلفة المتضادة مع هذا التاريخ نشأت من مادته، وكانت صغيرةً محدودة وعسيرةَ التطور حين راح التاريخ يتطور بشكل دراماتيكي كبير، ولهذا كانت صورةُ الإلهِ في القرآن بدايةً كُليةً شاملة، فهؤلاء المسلمون المغايرون للتوحش الصحراوي قلة ضعاف في القوة والجمع وبغياب المؤسسات العسكرية والاجتماعية والسياسية، وكانت تلك الصورة تساعدهم على البقاء والقوة والأمل والتغيير، فالاعتماد على الإله بدا كلياً، ولكن هذه المكانة الصغيرة المناضلة وسط الضواري تغيرت، وراحت القلة تتحول لكثرة وتنشأ المؤسسات وتغيير العلاقات غير الحضارية، وتبدأ صورة الإنسان الفاعل بالتفاعل مع صورة الإله غير المتدخل في الوجود الانساني المباشر، وراحت المؤسساتُ تتكون مشكلةً علاقةً ديمقراطية شعبية، متوجهة للسيطرة على المال العام ليكون القوة الأولى في تحديد العيش، والمال الخاص قوة أخرى مكملة، وحين نقرأ آيةً مكية تتحدث عن خطورة كنز الذهب والفضة نجد آيات الانفاق والانتاج ومشاركة الحضارات الأخرى في التقدم تتسع في الآيات المدنية. هكذا كان المشروع الديمقراطي ينمو متصادماً مع المشروع الذكوري الشمولي، لكن كان المشروع الأخير أقوى وكان تدفق القبائل على مركز الدولة ومشاركتها في حروب الفتوح، وحدوث تصادم بين القوة الديمقراطية الجنينية الإسلامية وملأ قريش الذي تغلغل واستعاد بعض مناطق النفوذ الهامة، يقلب موازين القوى بين المتحضرين النهضويين والبداوة، وبعد هزيمة القوى الديمقراطية وزوال الخلافة الراشدة، وتدفق فوائض الفتوحات وتصاعد غنى الرجال والقبائل، أخذت العودة للقواعد ما قبل الإسلامية تتصاعد. كانت المدن المفتوحة تتشكل على أساس قربها للصحراء وتتحدد بيوتها وأحيائها على أساس الانتماء القبلي، كما استعيدت الثقافة الجاهلية خاصة في الآداب والحروب والسير في العهد الأموي، مع صعود سيطرة شيوخ القبائل الذين صاروا خلفاء. هكذا أخذت الذكورة القديمة تقوى والمشروع الديمقراطي يتضاءل، وتحاول أن تعالج ضعفه قوى المذاهب العقلانية والفكرية، عبر تخفيف الهيمنات الذكورية والحكومية دون أن تجد لها أدوات فكرية مختلفة تحليليلة عميقة تترابط مع حركات القوى السياسية المدنية. إستطاعت الثقافة الجاهلية ذات الجذور الصحراوية المؤمنة إسلامياً، المعارضة للعناصر الديمقراطية وتوسعها في الحياة المدنية والفكرية والسياسية، أن تقدم تفسيرات مغايرةً لمسار التاريخ، وتعتمد على شكلنة العبادات وتجميد النصوص الإنسانية الديمقراطية الإسلامية، مكرسةً مصالحها وحياتها الخاصة غير المعقلنة والبذخية. حتى في الجاهلية كانت ثمة علاقات إنسانية وغزل بالنساء وعلاقات حب، وكانت ضراوة حياة الجاهليين والكوارث التي تلحق بهم بسبب الحروب والعيش الصعب لا تنفي جوانب الجمال الاستثنائي في حياتهم، وقد كان خيار التحول للمدن المفتوحة والتوجه للحضارة قد أدى كذلك لتصاعد تلك العناصر الإنسانية الجنينية في الجاهلية، وكانت أساساً لأدب خصب وتطور إجتماعي هام. ولهذا فإن الصراع بين الرافدين المحافظ والتحديثي يتنازعان بقوة، ويصور كلٌ منهما نفسه من خلال مرجعية دينية، ولكن هذا اعتمد على مدى تطور سكان المدن وقدرتهم على فهم أسلوب الانتاج الإقطاعي الزراعي المتدهور، وحيث لم تبلغ أدوات وعيهم الفكرية مستوى فهمه والسيطرة عليه، حيث تتكرس حريتهم وتغييرهم للتاريخ وليس في الصراع المجرد عن القَدر وعزل الفكر عن الانتاج. لكن تدهور الانتاج الزراعي يحرك القبائل الآسيوية: الأتراك والكرد والأفغان والفرس والمغول فيغزون الحواضرَ المدنية والعربية خاصة، وعربُ الجزيرة العربية الذين تكاثروا وعادوا للبداوة غزوا شمال أفريقيا في حروب ضارية، ولهذا فإن المدنية التحديثية قد تدهورت في عمق المدن وأنتشرت بقوة هائلة وأتسعت التفسيرات غير الديمقراطية للدين، وتصاعدت الذكورية الحادة التي غدت أكثر تخلفاً وغياباً حتى عن الثقافة الراقية الأدبية للجاهليين.
#عبدالله_خليفة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تيارات اجتماعية وليست فقط جماعات
-
المسيحيةُ والإسلامُ تجريداً وتحليلاً
-
الوعي والتغيير
-
صراعٌ غيرُ بناءٍ
-
المذهبيةُ في الفكر
-
المرجعيةُ الفكريةُ ل«حزبِ الله»
-
مهزلةُ أوباما السورية
-
نموذجانِ مأزومان
-
جمودٌ مطلقٌ
-
المثقفون والتحولات
-
رأسماليةُ الدولةِ العسكرية
-
تذبذبٌ حارقٌ
-
قراءةٌ غيرُ موضوعية للتاريخ
-
مسرحُ الخليجِ والديمقراطية
-
القوميةُ والمذهبيةُ
-
إخفاقُ الليبراليةِ العربيةِ الأولى
-
علاقاتٌ تاريخيةٌ بين الانتاجِ والسكان
-
تأييدُ الغرب للإخوان
-
تحولاتُ الوعي النهضوي المبكر
-
الوعي البحريني وإشكاليةُ النقدِ
المزيد.....
-
معركة بين 100 رجل وغوريلا واحدة.. من سيفوز بالنزال؟
-
ثعبان أسود عملاق يزحف على الشاطئ.. ما كانت ردة فعل الزوار وا
...
-
الكويت: زواج -الخاطف- من الضحية لن يعفيه من العقاب
-
واشنطن توافق على صفقة صواريخ للسعودية بقيمة 3,5 مليار دولار
...
-
مصدر: الجيش الروسي قصف مصنعا عسكريا أوكرانيا في زابوروجيه
-
الأردن.. إغلاق -خمارة- بعد افتتاحها بزفة تراثية (فيديو)
-
تقرير: هكذا فاجأ ترامب نتنياهو -بمقامرته النووية- مع إيران!
...
-
الهند تحظر واردات كافة السلع من باكستان
-
لم يتبق خيام ولا طعام وسيموت الآلاف.. منظمات إغاثية تقرع ناق
...
-
خبير عسكري: الاحتلال يتجه لـ-خنق- غزة بعد فشله في تقطيعها
المزيد.....
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
المزيد.....
|