حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 3510 - 2011 / 10 / 8 - 16:07
المحور:
الادب والفن
- كم رأس غنم عندك يا حاج ؟
- ثلاثمائة رأس ، كلها أغنام .
- بدون عنزات ؟
- بدون عنزات .
- ما شاء الله !
- كم تريد فصل السنة الكاملة ؟
- فطيمة واحدة عن كل عشرة رؤوس ، يا طويل العمر .
- هذا كثير يا و لدي عمران . نعم ، كثير جداً . خذ فصل فطيمة واحدة عن كل عشرين رأس ، و لنتوكل على الله .
- هداك الله يا حاج ؛ الفطيمة الواحدة عن كل عشرين رأس هي أجرة الرعي قبل عشرين سنة ، و نحن الآن ولد اليوم ، و الدنيا صارت غالية نار ، و أنا رجل أعزب ، و عمري صار ثلاثين سنة ، و أريد لي في هذه السنة خزلة قيّمة للزواج ! قبل عشرين سنة ، الخروف الگرگور كان ديناراً واحداً ما يجيب ، و اليوم سعره صار أكثر من عشرة دنانير !
- إذن إتفقنا ، فطيمة واحدة لكل خمسة عشر رأساً .هذا هو أحسن فصل ، و هذا هو آخر كلام عندي ! قل : موافق ، لكي نقرأ الفاتحة على بركة الله !
- يا حاج ، الظاهر أنك لا تعرف زين كم هي أجرة الراعي الآن . هل تعلم أن مذري الراعي قد تقاول قبل أسبوع مع الحاج متعب على فصل فطيمة واحدة عن كل سبعة رؤوس ؟ رح اسأله للحاج متعب لكي تتأكد من ذلك بنفسك .
- شف يا ابني عمران ، الغنم التي يسرح بها مذري لميمة : سبعين للحاج متعب ، و سبعين لأخيه عباس . يعني عقب سنة راح يكون وفاء مذري عشرين فطيمة . أما أنا ، فغنمي ثلاثمائة رأس ، رأس يخط برأس ، و راح يصير و فاؤك مثله بالضبط : أي عشرين فطيمة بالتمام و الكمال . و لولا أن صالحاً ، سامحة الله ، قد عافني فجأة ، و راح يشتغل سائقاً بقلاب أخيه ببغداد ، لما وقعت بهذه الورطة ! لقد لبث صالح يسرح عندي عشر سنين ، و في كل رأس السنة يأخذ وفاءه فطيمة واحدة لكل خمسة عشر رأساً و بدون نقصان ، و فوقها إكرامية . رح اسأله !
- لا و الله يا حاج ، ما أنصفت أبداً . يا حاج ، رح اسأل كل الرعيان بقريتنا كم هو فصل الراعي هذا اليوم ، و الكل سيقولون لك أنه : فطيمة واحدة لكل سبعة رؤوس . و آنا ما علت عليك ! رح اسأل أهل قرية مرعي كلهم . إسأل المختار جاسم هبلو ! و أنت تدري يا حاج ، أن من يسرح بثلاثمائة رأس ، ليس كمن يسرح بمائة و أربعين رأس ! الفرق أكثر من النصف ، و الوفاء نفسه .
- لا يا إبني ، لا ! فطيمة واحدة لكل عشرة رؤوس كثير ؛ كثير جداً . ثم أنك تعرف بأن هذا ليس كل شيء . ينبغي أن أشتري لك الغترتين ، و الدشداشتين ، و البشت البريم للشتاء . كما ينبغي لي أن أهيئ لك الفروة ، و العباءة الخاچية الصيفية ؛ و كل هذا من غير الجحش و معه جود الماء ، و الحذاء ، و بندقية البرنو .
- هداك الله ، يا حاج مرعي ! و كيف يسرح الراعي بالغنم بدون الجحش و جود الماء و الحذاء ؟
- و الله يا ابني أنا أشتغلت راعياً عشر سنين أسرح بغنم جاسم هبلو بدون جحش ، حيث كنت أحمل جود الماء على ظهري هذا ! جاسم موجود ، و رح و اسأله !
- يا حاج ، لكل وقت أحكامه ! قبل عشرين سنة كان زمان ، و زماننا هذا زمان آخر ! صدق من قال : لا تسرح لمن كان راعياً !
- هل تدري أن الفروة لوحدها تتطلب (18) جلداً من جلود الخرفان ، من غير الدباغة و الخياطة و التمشيط ؟
- هداك الله يا حاج ! كيف تكون أنت المعزِّب و أبو المال ، و تترك الذي يسرح بغنمك يرجف في ليالي الشتاء التي تقص في عظم الآدمي قصاً ؟
- معاذ الله ! تالله أنا أحسن معزّب ! و لسن أمانع أن يحلب الراعي الغنم بالمراح لمن يجوع , و بالبيت هنا ، الأكل عندي أحسن أكل . و أخيتك مريم ، زوجتي الجديدة ، تطبخ أحسن طبخ بعربنا كلهم ! و عندما كان صالحاً يسرح لي ، كان يجيب معه شجوة الحميض المليانة في حلبة الليل ، و كلنا كنا نشرب منها ، و هذا من غير التمر و الزبد و الخبز .
- لا و الله يا حاج ! ما أنصفتني أبداً ، يا حاج ! الظاهر لا توجد قسمه لكي تصير معزباً لي ! أنا ما يصير أرعى سنة كاملة بفطيمة واحدة لكل خمسة عشر رأساً و غيري بفطيمة لكل سبعة رؤوس . لا توجد قسمة ! أنا مسلم عليك يا حاج ، و لا تؤاخذني يا عمي ! نعم لا توجد قسمة .
- و كيف تخرج و أنت لم تشرب الشاي بعد !
- كفو ! أشرب الشاي !
- مريم ، مريم ، الشاي !
- حاضر ، يا حاج !
تأتي مريم حاملة صينية الشاي . ينظر إليها مرعي فيصعق . هيفاء ممشوقة ببشرة خلاسية شعشاعة ، و شعر كستنائي أجعد أشقر الغدائر ، و عينين سنجابيتين تبرقان كثريات ورد البنفسج على خدود دراقية ، و أنف خمري مثل القلم بلبّة مبرية ، و فم من لوزتين منقعتين منذ عهد نوح بشراب أحمر ، و حنك طفولي مزدوج التكوير ناعم نعومة طلع النخيل . كانت ترتدي فستاناً مزركشاً يغص بكل ثمار بساتين الدفيئة ! من أين لقرية مرعي بمثل هذه الغادة التي تورث الرائي الجنون المزمن ؟ كانت تميس بنعال خفيف يتعلق بقدمين جمّاريتين أصغر من يديه . و تعجّب : كيف يتأتى لها الوقوف و المشي بتينك القدمين الصغيرتين ؟ إنحنت لوضع صينية الشاي على الطبلة ، فصافح بعينيه نهديها النافرين المحكمي التدوير ، و أهتز كيانه بصعقة كهربية كاسحة ، و ازداد وجيب قلبه حتى بلغ دَكُه الحلقوم .
- تفضل الشاي ، سيد عمران !
أية كلمات عذبة هذه التي تزري بشدو الناي ! كانت تلك أول مرة يناديه فيها إنسان بلقب "السيد" . جعلت فداءً لنعل قدميك لا لفمك يا أيتها القديسة ! لاحق إيابها الملائكي بنظرات تتراقص صعوداً و نزولاً مع تكسر ثنايا و عطفات قامتها المهيبة ، و هفهفة جديلتيها الذهبيتين على طرفي كوريها المكتنزين كالبطيختين الصغيرتين ! حار ، و هو يبحلق بميسها ، من أين يبدأ إستكشافاته ، و إلى أين ينتهي : من فوق لتحت ، أم من تحت لفوق ! و راح يتساءل : أيهما أجمل : رأسها أم قدميها ؛ مقبلها أم مدبرها ؟ أنها درة مكنونة بكل حق و حقيق . إنها أجمل حتى من أي من فاتنات السينما اللائي شاهدهن في الأفلام بكركوك . هل يمكن أن يثلج الله قلبه بليلة من ليالي العمر الحقيقي يمضيها معها ، فتشبع حرمانه ، و تبرئ سقامه ، و تقر عينه ، فتصنع منه رجلاً آدمياً بكل حق و حقيق ؟ ليلة واحدة يفتدي بها كل ما تقدم و تأخر من عمره . نعم ، ليلة واحدة لن يفعل فيها شيئاً غير احتضانها ، و شمشمة العطور الغالية لصدرها ، و مناجاتها ، و التقديس و التكريز لها ، و تبديد وحشة الليل و عذاباته بتجاذب أطراف الحديث معها ، و التسامر بمعزوفات لسانها ، و أرتشاف الشهد الذي يقطر من شفاهها ! ليلة واحدة ، و ليكن بعدها الطوفان !
- إشرب شايك ، يا ولدي !
صحا مؤقتاً من غيبوبته . يجب عليه أن يقبل عرض الحاج سالم و لو كان مجحفاً ، بل و شديد الإجحاف . سيشتغل له مجاناً طول العمر كي يمتع ناظريه بمرآها . ضغط بفخذيه على إفعوانه الغاضب ، و أغلق عينيه ، و راح في غيبوبة ثانية !
- إِشرب شايك يا ولدي . عمران ، عمران ، ما بك ؟ هل أنت مريض ؟
صحا من وهدته مؤقتاً مرة ثانية ، و توقف لسانه متخشبا وسط حلقه . ما به ؟ هل جن ؟
- و الله يا طويل العمر ، هاي سُفرة الطريق . اليوم الصبح رحت لكركوك ، و وقّعت دفتر الخدمة العسكرية ، واستلمته ، و جئت إليك رأساً حسب طلب المختار جاسم هبلو !
- خاف ما متغدي ؟ مريم ! مريم !
- لا يا طويل العمر ، عافاك الله ، متغدي و الحمد لله ! حيّاكم الله !
- نعم ، حجي !
عزف الناي قبل أن تطل الغادة ثانية من باب غرفة الإستقبال ، و هي تتثنى بقامتها الربانية وصدرها الإوزي , يداها القنديليتان تعبثان بأحدى جدائلها : الفضة تلعب بالذهب ، و إبتسامتها ترصّع نصفي بدري خديها برصعتين قدّاحيتين آسرتين ، و النور الدافئ يشع في عينيها . لبط إفعوانه بنوبة حارقة من جديد توشك على الإنفجار ، و حزن لأنه لن يستطيع إطالة محضرها الدافئ اللذيذ ، و لو مؤقتاً ، بطلب طعام الغداء !
- لا شيء ! عمران طلع متغدي ! براحتك ! أشرب شايك كي لا يبرد يا عمران !
- تؤمر يا حاج !
- إبني عمران ، إلعن الشيطان ، و خذ الغنمات ، و توكل على الله ! الحواوين هذا الفجر ما طلعن ! أعلفناهن شعيرات و تبنات ، و الدنيا ربيع ، و آنا وحيد ! ولد ما عندي ، و بناتي كلهن متزوجات ، و حرمتي الأولى مريضة ، و آنا بي وجع السكر . توكل على الله يا ولدي . الرعي مهنة مباركة جعل الله لك فيها السعادة !
تمعّن بسحنة معزّبه . وجه مصفر علته التجاعيد العنكبية . عينان حصرميتان كامدتان يتداخل سوادهما ببياضهما ، يعلوهما حاجبان نحيفان ، و تكبس عليهما الأكياس السوداء المزرقة المنتفخة . خدان غائران بغورين صحراويين . فم كحنضلة منخورة يابسة بلا بذور . أنف كخشبة نحتتها الأرضة . العروق الغليظة تنفر من أديم الجلد المعتم لوجهه و يديه اللتين تتساقط منهما الشعيرات البيضاء . ساقان ضامران كالعصا التي بيده ، بل كأسياخ التكّة . إنه حطام رجل ! مسكين ! إنه في حالة يرثى لها . لم يمض على زواجه بمريم ثلاثة شهور . هرم وذّاي يتزوج بفطيمة وضّاحة ! أيه يا حاج سالم : من أين إصطدت هذا الكنز الثمين و رجليك بالقبر ؟ هل هي فصلية ؟
- صار يا طويل العمر !
أراد أن يقول لمعزبه الهرم أشياء أخرى كثيرة ، و لكن الكلمات ماتت في صدره : تناثرت ، ثم تفتتت ، فتبددت . لم يبق أمامه سوى الاستسلام لصوت القدر بصمت لذيذ !
- على بركة الله يا ولدي !
يتبع لطفاً .
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟