حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 3458 - 2011 / 8 / 16 - 17:30
المحور:
الادب والفن
كان يا ما كان في قديم الزمان ، و سالف العصر و الأوان ، حدّاد عظيم الصنعة و الفن ، فاحش الثراء ، رؤوم الفؤاد ، طويل البجاد ، يسكن هو و أولاده الخمسة و العشرين – الذين أفسدهم الدلال – عدة قصور منيفة تحف بها بساتينه الفسيحة التي تجري من تحتها الأنهار . و لا مشكلة لديه سوى حبّه الزائد عن اللزوم لأولاده ، و تساهله الشديد معهم ، و بالتالي اضطراره للتغاضي بإستمرار عن شكوى نساء أولاده المزمنة من ولع أزواجهن الشديد بفاتنات قبيلة الخرفان الشمالية و الغزلان الغربية ، و تفندقهم بين ظهرانيهن أغلب الأوان ، و إسرافهم بتبديدهم ثروات أبيهم الطائلة على ملذاتهم ليل نهار .
و في أحدى الليالي التي يغيب فيها القمر ، ينزل ضيف مدّع للطب ديوانية الحداد . و بعد أن يملأ الضيف كرشه بما لذ و طاب من طعام و شراب سفرة الضيافة العامرة ، يهتبل الحداد الفرصة فيبث للطبيب قلقه من مشكلة أولاده . فيولول الضيف من هول ما يسمعه من وضع ثبير – و ذلك على عادة بعض الأطباء الذين يشخصون في كل من يلتقونه مرضاً خطيراً لم يسمع به أحد من قبل و يتطلب العلاج السريع – و يحذر الحداد بأشد العبارات من عقابيل إشتداد أطماع الطامعين في قبيلة الخرفان و الغزلان ، ممن يسيل لعابهم لاستنزاف ثرواته عبر نتف ريش أبنائه . كما يحذره من خطر إصابة أولاده بالأمراض الزهرية الفتاكة و إنتقالها لبقية أفراد عائلته . و لحل هذه المعضلة ، يزيّن له أفضليات إستقدام عائلة من الجقجوقات الرخيصات من قبيلة الجرابين البعيدة القاطنة وسط الصحراء ، و إسكانهن لديه في الصبخة الجنوبية مجاناً ، و ذلك برسم توفيرهن الأنس و الطرب و الإنشراح و الليالي الملاح لأبنائه الميامين ، مقابل السماح لهن بتكرير ملح أرضه و بيعه لحسابهن .
ينزل الحداد عند نصيحة ضيفه ، فيستورد عائلة من جقجوقات الجرابين ، يسوسهن قواد قميء أسمه خبّاص ، فيسكنهن مجاناً في كويخ مسوّر كائن على الجانب الآخر من زرائب الصبخة الجنوبية ، ويسمح لهن بتكرير ملح أرضه و بيعه لحسابهم . ثم يصدر أوامره الصارمة لأولاده بطلب المتعة في بيت الجار الجديد حصراً و مجاناً . يلتزم أولاد الحداد بتوجيهات أبيهم ردحاً من الزمن ، و لكنهم سرعان ما يلاحظون بخيبة أمل شديدة أن جقجوقات خبّاص – على بشاعتهن و نتانتهن – يصعِّرن خدودهن عليهم رغم كونهم أولياء نعمتهن من الفحول ، و يجهدن لإثارة الفتن بين الإخوان الأشقاء ، و ضرب الواحد منهم بالآخر . كما كنَّ يدمنّ الإلحاف بالمطالبة بالهدايا الغالية التي لا تحلم بها حتى فاتنات هوليوود . و عندما يفشل الفحل الزائر في جلبها لهن بالعلامات التجارية العالمية الراقية المطلوبة ، تتحول ليلة الأنس إلى مخزأة صاخبة أحادية الجانب ، الخاسر فيها هو الفحل دائماً ؛ إذ يستفرد به فريق الجقجوقات بكل طاقمه ، فيكتِّفنَّه ، و يمضين الليل كله بالاستمتاع بإخراج حلقات مسلسل نتف حواجبه و شواربه بأسنانهن شعرة شعرة ، و ذلك باستمراء منهجي نموذجي تحسدهم عليه مسلسلات التلفاز المكسيكية الطويلة . و قد يبالغن ، فينخسنه بأشواك العاقول ، و يقرصن و يجرجرن أذنيه ، و ، و ، و . و لا يطلقن سراحه إلا بعد أخذ الأيمان المغلظة منه بجلب المطلوب بقضّه و قضيضه في اليوم التالي . و عندما يفي الفحل بالإلتزام المطلوب بحذافيره ، تتصاعد سقوف المطالب التالية ، لتبلغ حدوداً عجيبة غريبة مثل طلب استصحاب فحل أسود مستورد من برونكس ، أو رومي عملاق من مونمارت ، أو وولفهاوند أيرلندي . و عليه ، فقد عقد الأبناء – الواحد بعد الآخر ، وكل على حدة – العزم على الإبتعاد قدر الإمكان عنهن ، و إن لم يقصص أحدهم للآخر تفاصيل مخازي سهراتهم الفردية الليلية . و لجنوحهم للدعة ، و الإستهانة بالمقابل ، و حرصهم على عدم طأطأة رؤوسهم أكثر ، فما أستطاع أحد منهم لملمة سيقان نزاهته لتحمله على المشي عليها لإبلاغ أبيه عن دروب الجرابين و مكائدهم .
بعد مضي فترة ، يأتي خبّاص في زيارة مفاجئة لدار الحداد ، و هو يتراقص كالقرد بصحبه فرقة من الخصيان قارعي الدفوف و نافخي الزمّارات عبر مكبرات الصوت ، و يطلب مقابلة الحداد بنفسه لأمر عاجل جلل . يستنكف الحداد من إستقباله بنفسه ، فينتدب رئيس الخدم في قصره لهذه المهمة . و لدى لقائه به ، يشتكى خبّاص من أن أولاد الحداد لا يقدرون حق التقدير خدماته الجليلة لهم ، و لا تسهيلاته الكبيرة لحسابهم ، بدليل معاودتهم لسيرتهم الأولى في زيارة مضارب قبيلتي الخرفان و الغزلان ، و لهذا فأنه يرجو من الحداد الإنتباه إلى مخاطر كل ذلك الكفر و الجحود على صحة الجميع ، و ما ينطوي عليه من تعدٍّ على حق الجار على جاره ؛ مبيناً أنه قد أصبح يعتبر نفسه شيخاً جليلاً من أهل البيت ، و من محبيهم و مريديهم ، و لذلك فأن له حق العتب عليهم . كما يكشف النقاب عن أن رجال بني اليربوع و ثعلبة و آل ضبة – على العكس من أولاد الحداد – يبدون إندفاعاً قوياً و تعلقاً عميداً بمواهب و مهارات جقجوقاته الملهمات ، و هم قادرون على الوفاء ، و لكن إخلاص خبّاص للحداد و أبنائه يجعله يصدهم ، متكبداً خسائر مادية جسيمة بلا طائل .
و لجبر خاطره ، تتعدد تأكيدات توجيهات الحداد لأولاده بزيارة الكويخ المسوّر ، و تتكرر خروقاتهم لها ، و معها تتواتر الزيارات القردية العاقولية غير المرغوب بها لخبّاص . و أخيراً ، يعيل صبر خبّاص ، فيفتح كويخه لبني اليربوع و بني ثعلبة و آل ضبة ، علاوة على كل من يهب و يدب من الغرباء أصحاب العيون الزرقاء من عشاق القيعان البضعاء .
بعد مضي فترة ، تختلي إحدى زوجات أبنائه بعمها الحداد ، و تسر له بتفاصيل أفاعيل جقجوقات خبّاص في سهراتهن مع أولاده . كما توضح له أن خبّاصاً قد إكتشف مؤخراً الكنوز الطائلة لأجداد الحداد المدفونة تحت الأرض ، و إنه قد إستقدم أصحاب العيون الزرق لاستخراجها لحسابه بالمشاركة معهم ، كما أنه قد هدم السور الذي يحيط بكويخه و ذلك تحت حماية فحول العيون الزرق الذين أصبحوا عشيرين له ، و مدد ديوانيته خمسين ضعفاً إلى الشمال و الشرق ، متجاوزاً على أغنى بساتين الحداد . وفوق هذا كله ، فقد أصبح خبّاص شيخاً فاحش الثراء بفضل سرقته لكنوز أرض أجداد الحداد ليل نهار بعد إدعاءه أمام الملأ بأن الأرض التي أسكنه عليها الحداد هي ميراث خالص له ، و أن أهل البساتين الأصليين هم أجداده أنفسهم ، و أن آل الحداد ليسوا أكثر من مجرد دخلاء غاصبين للبساتين . و كلما يتعتعه السكر ، فان خبّاصاً لا يتوانى عن الجهر و هو يرقص متشامخاً أمام غانيات نعاريا و حلاريا بأن هدفه النهائي و وصيته الحيدة لأولاده ما هي إلا إحتلال دوّار الحداد نفسه بعد قتله بدس السم له ، و عدم السماح لبقاء أي رئيس قوي جديد لقبيلة الحدادين ، كي يستطيع هو و حلفاءه نكاح حريمهم مجاناً ، و الإستنكاف عن إستقبال و تقدير رؤسائهم ، و ذلك بضرب بعضهم ببعض ، و تسليط أهل العيون الزرق عليهم . و تختتم الكنّة حديثها بالقول بأنه قد آن الأوان للحداد لكي يتحرك بسرعة قبل أن يفلح خبّاص بالتغدّي به قبل أن يتعشى به ، وذلك إما بطرد الجرابين الدخلاء من أرض أجداده شرَّ طردة ، أو على الأقل لجمهم كي يحفظوا مركزهم ، فلا يتجاوزوا حدودهم ، و لا تسول لهم أنفسهم الأمارة بالسوء و الطمع الأعمى بأن يقلبوا ظهر المجنِّ لأولياء نعمتهم .
حال سماعه لهذا الكلام ، يعصف الدُوار برأس الحداد ، و يبدأ بالتقيوء الشديد ، فينقل إلى المستشفى ، و هناك يموت مسموماً .
16/8/2011
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟