أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حسين علوان حسين - خرافة دحض الماركسية العلمية / رد على الأخ الكبير الأستاذ يعقوب إيراهامي















المزيد.....



خرافة دحض الماركسية العلمية / رد على الأخ الكبير الأستاذ يعقوب إيراهامي


حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)


الحوار المتمدن-العدد: 3387 - 2011 / 6 / 5 - 20:50
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


توطئة
في العدد 3385 من "الحوار المتمدن" ، نشر الأستاذ الفاضل "يعقوب إبراهامي" مقالته الموسومة "خرافة الماركسية العلمية" ، و ذلك رداً على مقالة الأستاذ الفاضل "حسقيل قوجمان" الصادرة في 27/4/2011 بعنوان "الماركسية العلمية" . و قد سوَّلت لي نفسي في حينها الدخول بغير إستئذان على الخط مع أخي الأكبر يعقوب إبراهامي ، رغبة مني في استنشاق أريج الواحة الغناء التي يتيحها الأفاضل في "الحوار المتمدن" لي و لغيري كي ندردش (tȇte-á-tȇte) مع عراقيين أعزاء ، يحبوننا و نحبهم ، و يفتقدوننا و نفتقدهم ؛ فلعنة الله على كل من باعد بين أبناء الشعب الواحد . و إذ أعلم أن رسيليَّ الأستاذين الفاضلين "قوجمان" و "ابراهامي" على دراية تامة بكل ما سيرد في هذه المقالة ، فإنني أؤكد أنها لا تعدو كونها تمريناً فكرياً أناجي فيه ذاتي قبل ذوات أخويَّ الأكبرين . (يروق لي أن أبدو في كتاباتي أصغر من عمري الحقيقي ، و إن كنت على يقين من أن صلعتي أكبر من صلعتيهما بكثير .) كما أود أن أوضح أن أغلب مندرجات هذه المقالة هي نصوص منقولة من هنا أو هناك ، و بوسعي تزويد القارئ الكريم بمراجعها إن أراد ذلك . كما لا بد لي من التنويه بان إعداد هذه الورقة قد تأخر بسبب مشاغل وظيفية لازبة . و أبين أخيرا أنني - نزولا عند رغبة أستاذي العزيز يعقوب ابراهامي – سأستخدم بعض "الفذلكات اللسانية" لأغراض الدعابة ليس إلا و ذلك بعيدا عن صرامة منهج البحث العلمي .
أهم مقولات يعقوب إبراهامي حسب منطوقها هي :
1. أن "المادية الديالكتيكية" هي خرافة ، و أنه "قد يكتب عنها في عدد قادم" .
2. أن حسقيل قوجمان إذا إستطاع أن يبيَّن أسم المصدر الذي يذكر فيه كارل ماركس إسم "الاشتراكية العلمية"، فبها ؛ و إلا فإن يعقوب إبراهامي سيعتبر الإدعاء بأن ماركس قد أطلق على نظريته اسم "الاشتراكية العلمية" اكتشافاً (أو اختراعاً) يضاف إلى سائر اكتشافات (اختراعات) حسقيل قوجمان في الفلسفة ("قانون نفاء الضدين")، في الاقتصاد السياسي ،("قانون سلعة الأرض تساوي نصف، أو ثلاثة أرباع، حياة الطبقة الرأسمالية") ، و في التشريع ("قانون اجتثاث البعث جريمة ضد الإنسانية"). و كل هذا لأن كارل ماركس لم يطلق على نظريته أبداً إسم "الاشتراكية العلمية" ، و لم يستخدم هذا التعبير لوصف نظرياته مرة واحدة في حياته ؛ و أن فريدريك إنجلز هو الذي أطلق على النظرية الماركسية اسم "الاشتراكية العلمية" .
3. وبعمله هذا ، فقد بدأ إنجلز (سوية مع فرض "قوانين الديالكتيك" على الطبيعة و المادة الجامدة) عملية "ديالكتيكية" مذهلة إنتهت ، في المرحلة الستالينية ، بتحويل ايدولوجيا إنسانية ("لا شيئاً إنسانيا غريباً عني" - ماركس) إلى نقيضها وتجريدها من كل محتوى إنساني . و هذه هي المراحل التي مرت بها هذه العملية "الديالكتيكية" التي دمرت في نهاية الأمر الفكر الماركسي : من اجتهادات فلسفية و نظريات في الاقتصاد و الاجتماع و التاريخ ، حول الإنسان و من اجل الإنسان ، إلى علم (Science) لا يختلف في شيء عن علوم الفيزياء و الكيمياء . و من "عِلم" لا يختلف عن الفيزياء والكيمياء إلى"قوانين طبيعية" مفروضة على الإنسان ، خارجة عن إرادة الإنسان و رغم إرادة الإنسان. و من "قوانين" مفروضة على الإنسان أصبحت الطريق ممهدة إلى عقيدة دينية جامدة لا تقبل التغيير أو التفنيد ، و إلى جثة محنطة هامدة يزورها الملايين (إبرهامي زارها و رأى بأم عينيه ماذا تعني الماركسية الميتة). و هكذا فقد تحولت الأفكار الماركسية الثورية إلى "عقيدة دينية " (متخفية باسم "العلم")، و تحولت الكلاسيكيات الماركسية من إنجازات فكرية تشهد على سمو روح الإنسان ، إلى نصوص دينية مقدسة لا يعلو إليها الشك . الطريق من "بركان الفكر في اتقاد" (نشيد الأممية) إلى "هندسة النفس البشرية" (ستالين) مرت عبر "الاشتراكية العلمية".
4. و يتساءل إبراهامي : هل الماركسية هي أفكار فلسفية و مجموعة من النظريات والفرضيات تهدف إلى فهم المجتمع الإنساني و تغييره ، أم هي علم (Science) مثلها مثل الفيزياء والكيمياء و علم الفلك و المتحجرات؟ لا يستطيع أن يجيب على هذا السؤال طبعاً من لا يميز بين "العلم" و"الفلسفة" (من يتكلم بلا كلل عن علم اسمه "علم المادية الديالكتيكية"!!!)، و من لا يعرف ما هو تعريف "القانون العلمي" و ماذا تعني"النظرية العلمية".
5. يتعجب يعقوب إبراهامي من أن حسقيل قوجمان لا يدرك مدى الدهشة ، إن لم نرد أن نستخدم كلمة أخرى، التي يثيرها عندما يتكلم عن "العالم (!!) كارل ماركس". تصوروا:
!The scientist Karl Marx).
6. و يقرر يعقوب إبراهامي : أن حسقيل قوجمان لا يستطيع أن يجيب على هذا السؤال لكونه ينسب "الفخر في اكتشاف هذا العلم (!!) إلى العالم (!!) والفيلسوف العظيم هيغل الذي اكتشف جميع معالم قوانين الديالكتيك"، مع الأخذ بنظر الإعتبار أن صاحب هذا الزعم لم يقرأ كتاباً واحداً من تأليف "العالم العظيم هيغل". (وكيف عرف انه عظيم ؟ على كل حال أبراهامي يحسد حسقيل قوجمان لأنه لم يستطع حتى اليوم ان يفهم جملة واحدة مما يقوله "العالم العظيم هيغل").
7. و يقرر يعقوب إبراهامي و باختصار ، بإن مسألة "علمية النظرية الماركسية" هي اعقد و أهم من أن نتركها لحسقيل قوجمان كي يقرر فيها.
8. إذن يلجأ إبراهامي إلى من يفهم شيئاً في العلم والفلسفة. كارل بوبر (1902-1994) هو واحد من ابرز فلاسفة العلم في القرن العشرين (وككل المثقفين الحقيقيين كان ، وفقاً للقاعدة المعروفة ، شيوعياً في صغره).
9. و يبين يعقوب إبراهامي بأن بوبر يميز بين "العلم" (Science) وبين ما يدعوه بوبر بـ"علم موهوم"(Pseudo-science). فالنظرية (كذا)، في نظر بوبر، يمكن أن تسمى "نظرية علمية" إذا كانت قابلة للدحض او التفنيد (Falsifiable). عندما نصف نظرية بأنها "نظرية قابلة للدحض" (Falsifiable) لا نعني بذلك أنها نظرية خاطئة (False) بل نعني فقط انه يجب أن يكون بإمكاننا أن نثبت أنها نظرية خاطئة إن كانت خاطئة ، أي انه يجب أن تكون هناك طريقة لدحضها . أما النظرية التي لا يمكن دحضها بأي شكل من الأشكال (أي ليس هناك طريقة لتفنيدها) فهي ليست "نظرية علمية" بل أنها "علم موهوم" (Pseudo-science). وبتفصيل أكثر: كل نظرية تتنبأ بأحداثٍ يمكن اختبارها في التجربة على ارض الواقع. و إذا ثبت في التجربة أن تنبؤات النظرية لا تتحقق على ارض الواقع فإن ذلك يعد دحضاً للنظرية، أي أن التجربة قد فندت النظرية. في هذه الحالة نقول: هذه نظرية علمية أثبت الواقع أنها غير صحيحة (False) لأن النتائج التي خرجت من التجربة مناقضة للنتائج التي تنبأت بها النظرية. عند ذلك يجب نبذ النظرية وتبني نظرية جديدة تتفق مع نتائج التجربة. أما إذا كانت النظرية تستطيع أن تفسر أيضا النتائج المناقضة لتنبؤاتها هي نفسها (أي أن النظرية تستطيع أن تفسر الشيء و نقيضه) فهذه ليست نظرية علمية بل "علم موهوم".
10. من باب الشفافية والأمانة الفكرية ومن اجل اكتمال البحث يقول أبراهامي بأن هناك انتقادات جدية لأفكار كارل بوبر ولكن هذه الانتقادات لا تنتقص من الحجج المذكورة هنا و لا تخص موضوع بحثه.
11. و يشرح يعقوب إبراهامي بأن نظرية كارل ماركس في التطور التاريخي (و حتمية الانتقال من النظام الرأسمالي إلى نظام إشتراكي وشيوعي) هي ، في نظر كارل بوبر، نظرية "غير قابلة للدحض" لذلك فهي ليست "نظرية علمية" بل "علم موهوم". و هو يأتي بالمثال التالي : قال كارل ماركس إن الرأسمالية ، في المجتمعات الصناعية في أرجاء العالم ، ستنتقل بصورة حتمية إلى الاشتراكية و ثم إلى الشيوعية. ولكن عندما لم يحدث ذلك ، و لم تنتقل المجتمعات الرأسمالية إلى الاشتراكية ، فإن الماركسيين ، بدل أن يعترفوا بوقوع خطأ في نظرية كارل ماركس ، يشرحون لكل من يريد أن يسمع أن التطور التاريخي الذي حدث ، و الذي يخالف بوضوح تنبؤات النظرية الماركسية ، يتفق بالضبط مع كل أصول النظرية الماركسية و لا يخالف تنبؤات كارل ماركس . هم يقولون مثلاً أن دولة الرفاه الاجتماعي قد خففت من حدة النضال البروليتاري، أو أن الرأسمالية قد أرشت العمال الماهرين وخلقت "ارستقراطية عمال" لا يريدون الاشتراكية ، الخ . بهذه الطريقة يستطيع كل شخص أن يفسر كل تطور للأحداث وفقاً للنظرية الماركسية حتى إذا كان ذلك يخالف كل ما تنبأت به النظرية نفسها حتى الآن. لذلك ، يقول كارل بوبر ، النظرية الماركسية في تطور التاريخ ليست نظرية علمية ، بل إنها "علم موهوم".
12. و يقرر يعقوب إبراهامي بأن بوبر لو كان حياً بيننا اليوم لأتى بمثال آخر : سنوات عديدة رأينا في إقامة الإتحاد السوفييتي برهاناً حاسماً على صحة النظرية الماركسية. وعندما إنهار الإتحاد السوفييتي فإن الماركسيين الستالينيين (على لسان أبرز ممثليهم فؤاد النمري و حسقيل قوجمان) رأوا في هذا الانهيار برهاناً جديداً على صحة النظرية الماركسية. أي أن قيام الاتحاد السوفييتي وانهيار الإتحاد السوفييتي يثبتان كليهما صحة النظرية الماركسية. نظرية غريبة هذه التي يستطيع المرء بواسطتها أن يفسر الشيء و نقيضه. و يساءل يعقوب إبراهامي : هل أن هذا هو "علم الديالكتيك" الذي يتحدث عنه حسقيل قوجمان ؟
13. و يشرح انا يعقوب إبراهامي أنه مقابل النظرية الماركسية في التاريخ "غير القابلة للدحض" يأتي كارل بوبر بمثال لنظرية علمية "قابلة للدحض"، هي : نظرية النسبية العامة لآينشتاين . هذه النظرية تنبأت بأن الضوء القادم من نجوم بعيدة ينحرف عن مساره المستقيم عند مروره أمام الشمس بسبب قوة الجاذبية للشمس. نظرية أينشتاين تنبأت أيضا بمقدار هذا الانحراف . في ظروف اعتيادية لا يمكن ملاحظة هذا الانحراف، بل يمكن ملاحظته أثناء حدوث كسوف شمسي فقط. وفى عام 1919, قام الفلكي البريطاني المشهور آرثر إيدنجتون بتنظيم بعثة إلى جزيرة برنسيبى في غرب أفريقيا, لإختبار تنبؤ أينشتاين. و عندما بدأ كسوف الشمس و أخذ قرص القمر يحجب قرص الشمس قام إيدنجتون بتصوير النجوم التي ظهرت في السماء في خمس لقطات فوتوغرافية. عاد إيدنجتون إلى إنجلترا لكي يفحص لوحاته الفوتوغرافية و يقوم بعمل حساباته. النتيجة أثبتت أن الضوء القادم من هذه النجوم , قد تغير مساره و أنحرف باتجاه الشمس بمقدار يطابق تماما المقدار الذي تنبأ به أينشتاين و الذي توصل إليه بإستخدام معادلاته الرياضية فقط . بوبر رأى في نظرية النسبية العامة لآينشتاين مثالاً ً واضحاً لما يعنيه بـ"نظرية قابلة للدحض": النظرية تنبأت بانحراف الضوء القادم من النجوم و بمقدار هذا الانحراف ، و التجربة أكدت كل تنبؤات النظرية. لولا إن التجربة أثبتت صحة تنبؤات النظرية لكان ذلك دليلاً على خطأ النظرية. نظرية أينشتاين إذن تلبي أحد أهم شروط النظرية العلمية : "إمكانية الدحض".
14. و يقرر يعقوب إبراهامي : خط واحد يصل "الاشتراكية العلمية" بعشرات الملايين الذين قتلوا، شردوا، سجنوا و عذبوا في البلاد التي أرادت أن تبني الاشتراكية "بصورة علمية". إذ ما هي قيمة حياة بضعة ملايين من البشر إذا كنت تمسك بسر التطور التاريخي و تعرف انك تسير وفقاً لـ"قوانين" حتمية لا مفر منها؟ و إذا كان هناك من لا يفهم هذه "الضرورة التاريخية العلمية" فإن "الحتمية التاريخية العلمية" تقضي بوجوب "تثقيفه" من جديد ("هندسة النفس البشرية") أو القضاء عليه.
15. و يبين يعقوب إبراهامي بأن : "قطبا المغناطيس السالب و الموجب" و "طبقات الأرض الجيولوجية"، عند حسقيل قوجمان ، لا تنفع هنا رغم كل ما قد يكون مكتوباً في كتاب "ديالكتيك الطبيعة" لفردريك إنجلز. نحن نتكلم هنا عن مجتمع بشري، و عن إنسان يفكر و يعمل ، لا عن مادة جامدة . (لكن هذا يعود إلى موضوع آخر هو "خرافة المادية الديالكتيكية").
16. و يبين يعقوب إبراهامي بأن كل المحاولات لبناء "اشتراكية علمية" باءت حتى الآن بالفشل ، و بدل "جنة على الأرض" تقبلنا "جهنماً على الأرض".
17. و يقرر يعقوب إبراهامي بأن مشروع بناء "الاشتراكية العلمية" فشل . و لكن الحلم بمجتمع عادل ، و العمل على بلوغه ، سيبقى ما بقي الإنسان .
18. واسأل الأستاذ يعقوب إبراهامي :ما هو التاريخ و المكان الذي حدده ماركس لحتمية الانتقال للإشتراكية و الشيوعية لكي يقول لنا بوبر و أنت الآن : جاء التاريخ الذي حدده ماركس ولم تنتقل شعوب المكان الذي حدده ماركس إلى الإشتراكية؟
19. و اسأله: كيف يدحض بوبر قانون 1+1=2 بدون فذلكة لسانية؟ فيجيبني ، المكان: أوربا والدول الصناعية الكبرى ، و الزمان: في أيامنا نحن وليس في أيام آخر التاريخ. تنبؤات لأيام آخر التاريخ لدينا المزيد .
20. و يجيبني يعقوب ابراهامي ، أنت تسأل: (كيف يدحض بوبر قانون 1+1=2 بدون فذلكة لسانية؟) و يبين "أنت هنا تتدخل في اختصاصاتي. كيف تجرأ على ذلك؟" و يوضح أن : 1+1=2 ليست قانوناً بل نتيجة من نتائج ما يسمى The Peano Axioms ، و يرجوا أن لا يكون قد فاجأني . و يتساءل : و لماذا على بوبر أن يفند ذلك؟ وما العيب بفذلكة لسانية؟ و يبين أنه يحب "فذلكات لسانية".
بوبر و فلسفة العلم و الماركسية
يُهيب أستاذنا يعقوب إبراهامي بالقرّاء التخلي عن الماركسية لكونها علم موهوم حيث أنها تنبأت بانتقال البلدان الصناعية المتطورة في الغرب إلى الاشتراكية ، و لم يتحقق شيء من ذلك حتى الآن . و لكي نقتنع بكون الماركسية علم موهوم واجب النبذ ، يجب أن نصدق قول بوبر بأن النظرية – أية نظرية – لا تكون علمية إلا كانت قابلة للدحض أو التكذيب (falsifiable) ، و لذلك فانه ينبغي التخلي عنها حال دحضها . و قد يعجب المرء كيف أن يعقوب إبراهامي الماركسي المخضرم و المناضل الشيوعي الشريف – و الذي يستشهد بآخر تطورات العلوم ، و يبغض الجمود العقائدي و الشوفينية ، و ينتقد الحراب بالمدافع العتيقة في القرن الواحد و العشرين – لا يجد ملجئاً لدحض علمية ماركس إلا عند نظرية بوبر الفاسدة و الآيلة إلى الإنقراض – مثلما سنرى – و المشهود بشوفينيها التحكمية بفعل إصرارها الطرائقي الفج بأن مجرد اكتشاف ملاحظة خاطئة واحدة تكفي لدحض كل نظرية علمية ، أياً كانت . و هو لا يدحض علمية ماركس بإثبات خطل المئات من مقولاته المبثوثة في كتابه "رأس المال" و غيره من مؤلفاته حول الصراع الطبقي ، وعلاقات الإنتاج الرأسمالية ، و فائض القيمة ، و صنمية البضاعة ، و التنبؤ بالأزمات الدورية للنظام الرأسمالي كمرض ملازم لهذا النمط من الإنتاج ، و التنبؤ باشتداد الصراع الطبقي ، و بقيام الثورات العمالية - و التي دوّخت تاريخ القرن العشرين .
أستاذنا يعقوب إبراهامي يوجب على الماركسيين أن يكونوا قد بنوا الاشتراكية في زماننا هذا ؛ و بما أنهم قد فشلوا في أنجاز هذا الهدف لحد الآن ، فانه لن يتنازل فيعترف لماركس المتوفى عام 1883بعلميته . (فذلكة كلامية :"شوفوا رفاق : لو تِسوولنا الإشتراكية هسّاع ، لو بَطَّلنا و احنا زْعال وياكم و لازم ترجّعولنا فلوسنا و خسائرنا السابقة من تقَشْمَرنا و اشتغلنا ويّاكم و گضينا ثمن سنين بجهنم الحمرا بالسجن و بعدين صح الباقي ما سوّيتولنا الاشتراكية ، و فوگ كل هاي : طلعوا شيّابنا ماركس و إنجلز رجاجيل چذاذبة ! عيوني رفيقنا الورد : فلوسك اشترينا بيهن بيت للحزب ، صادروه البعثية ، و بعدين اجو الملالي و سووه حسينية ، و أجركم على أبا عبد الله . بس رفيقنا عندي فرد سؤال: هاي الثمن سنين سجن تريدها لأغراض الترفيع ، لو العلاوة ، لو التقاعد ؟ لو كلهن شلع سوا فرد طوب؟" لا رفيقنا العزيز : يگول أوستروفسكي : الحياة هي أثمن ملكية للإنسان ، و لما كانت هذه الحياة لا تُوهب له إلا لمرة واحدة ، فان عليه أن يحيى بحيث يستطيع أن يقول و هو على فراش الموت : لقد كرست كل حياتي و طاقتي لأعظم قضية في الكون : تحرير البشرية ، خوش؟ لو ما ماركس ، چان ما گدرت هسا تگول : لقد كرست كل حياتي و طاقتي لأعظم قضية في الكون : تحرير البشرية ، خوش؟ الله ينطيك طول العمر ، و تعيش و تشوف تباشير الاشتراكية ، آمين يا رب العالمين ، و من حلگي لباب السما !)
معلوم ان الفلسفة المثالية للنسبانية الممطلقة (absolute relativism) تتأسس على إلغاء المبدأ الجدلي المعروف القائل بأن طبيعة معرفتنا بالحقائق العلمية إنما هي نسبية و ليست مطلقة ، لكون مدار هذه المعرفة يتوسع دائما بتطور الاكتشافات العلمية الجديدة (أي مبدأ التطور المضطرد للعلوم ). و معلوم أيضاً أن نفي هذا المفهوم المعرفي ينتهي بنا إلى إلغاء إمكانية تطور كل العلوم ، و بوبر يعرف استحالة إمكانية تسويق أو تسويغ مثل هذا النفي الفاسد. كيف يمكن إذن الوصول إلى الهدف الآيديولوجي القصدي بإسقاط جدلية النسبية الموضوعية للحقائق بغية تطبيقه خصوصا على الماركسية و الداروينية و الفرويدية و فلاسفة الديالكتيك من أفلاطون إلى هيجل و ماركس ممن ينادون بتغيير العالم و ليس على أي احد غيرهم ؟ يأتي بوبر ليختلق طريقة لنفي الموضوعي (العلم) بالذاتي (الطرائقية التحكمية للتكذيب البوبري المطلق) عبر اختراع مبدأ التكذيب (falsification). و هو لا يكتفي بذلك بل و يسوغ لنفسه إتباع الأساليب التالية المنافية لأبسط معايير التجرد في البحث العلمي :
1. اختيار مقولة واحدة فقط لماركس ( أو لأفلاطون أو لهيجل ،الخ) معينة بالذات و مختارة بعناية تجريبية قبلية دون غيرها من عشرات أو مئات المقولات الأخرى للمسكين ماركس.
2. تنقيح المقولة المجتزأة و المختارة تحكميا ببترها عن السياق العام (على طريقة : لا تقربوا الصلاة) و تحريف معناها كلياً مثلما سنبين بالنسبة لماركس ( أو لأفلاطون و هيجل أو غيرهما - بإمكان القارئ الكريم الاطلاع على البحثين الانكليزيين التاليين – من بين عشرات البحوث الأخرى – و اللذين يفصلان على نحو قاطع كيف أن الأمانة العلمية لبوبر لم تسمح له بتقديم و لا حتى اقتباس صحيح واحد لهيجل و لا لأفلاطون في نقده لهما ) .
Walter Kaufmann 1959 :http://www.hegel.net/en/kaufmann1959.htm
Levinson, R. B. 1957 In Defence of Plato. Cambridge : CUP

3. ترحيلها من وقائع زمنها إلى وقائع زمن لاحق و حذف الشروط اللازمة لتحقيقها و المشروحة شرحا مفصلا من طرف ماركس و إنجلز .
4. تسليط طرائقية مطلقة عليها تنفي ليس فقط نسبيتها ، بل و حتى مشروعيتها ، و الدعوة لنبذها باعتبارها – برمتها – نظرية غير علمية .
5. خلط الأوراق بلصق مسؤولية الاستبداد السلطوي للبوليس السياسي ضد الشيوعيين أو أعداء الشيوعيين و الحاصل بعد عدة عقود من وفاة ماركس و إنجلز بلحيتيهما ، و الصراخ للتحذير من خطر (danger) و إثم (vice) النظرية غير العلمية للماركسية ، مع إضافة بعض البهارات حول حرص بوبر على الموضوعية العلمية و المجتمع المفتوح و النقد البناء و معاداة الأنظمة الشمولية و الدوغماتية .
6. التعيش الطفيلي بامتلاك شرف امتياز (خرافة) دحض الماركسية كنظرية غير علمية في زمن الحرب الباردة .
(يلاحظ أن الأستاذ يعقوب ابراهامي يلتزم بتسلسل النقاط ( 1-5 ) أعلاه في نقده للأستاذ حسقيل قوجمان .)
و قد يتعجب القاريء : كيف تسنى للطرائقية الدوغماتية أعلاه أن تثير كل تلك الضجة في الغرب خلال الفترة 1945- 1990 من القرن الماضي رغم التلفيق الواضح فيها ؟ الجواب : بفضل الحرب الباردة التي ولدت البوبرية و ماتت بفضلها . و من الجدير بالذكر أن الصفاقة الطرائقية لبوبر خلال احدي محاضراته قد دفعت بالفيلسوف الانكليزي فتجنشتاين إلى تناسي قواعد الكياسة ، و رفع مجس موقد النار و التلويح بها أمامه و هو يصيح : يا بوبر : إنك مخطئ ، مخطئ ، مخطئ ! ثم يرمى بالمجس في الموقد و يترك القاعة . (فذلكة لغوية : يسمى مجس موقد النار في الإنكليزية بـ " البوكر =poker " ، و يقال أن الفيلسوف الجنتلمان أراد من استخدامه تبيان أن بوبر يقامر بمنهجه الخاطئ و يلعب بالنار و أن مصيره الرماد!)
لنتفحص المثل الوحيد للدحض النصي الذي تقدمه كل مؤلفات بوبر ضد ماركس ، و سأعرضه بنفس التسلسل أعلاه ، و المثال مأخوذ من كتاب بوبر الموسوم " بؤس التاريخانية"
The Poverty of Historicism (1957):
1. ينتقي بوبر تحكميا ليس أكثر من نصف الجملة التالية لماركس من كل سياقات متون "رأس المال" :
" to lay bare the economic law of motion of modern society "- capitalism
و التي تنص على أن هدف رأس المال هو "كشف النقاب عن القانون الاقتصادي لحركة المجتمع المعاصر" – الرأسمالية .
2. يزوّر بوبر الجملة أعلاه بتبديل الصفة (modern = "المعاصر") بالصفة : (= human "البشري") لتقرأ أن : هدف رأس المال هو : "كشف النقاب عن القانون الاقتصادي لحركة المجتمع البشري" .(تلفيق لغوي) .
3. يسلخ نصف الجملة أعلاه من مشروطيتها النسبية الزمكانية (الرأسمالية في ستينات القرن التاسع عشر و هو زمن كتابة رأس المال في بريطانيا) بإطلاق صفة الإطلاق عليها لتشمل كل المجتمع البشري في كل زمان و مكان . (تلفيق عقلاني)
4. يهاجم بوبر ماركس بالطريقة المحببة إليه و مؤداها النفي التام لوجود "قوانين للتطور البشري" ، و نفي كون "تلك القوانين تمكننا من التنبؤ بالمسار المستقبلي للتاريخ البشري" . ثم يلفق من جديد بربط نصف الجملة أعلاه بعبارة "المادية التاريخية" ((historical materialism و يعتبرها "نظرية" غير علمية لكونها غير قابلة للتكذيب (not falsifiable) . و من عبارة المادية التاريخية المجردة من كل سياق ، ينتقل إلى الكلمات الخمسة "هدف بناء الاشتراكية و الشيوعية" المذكورة في "البيان الشيوعي" و يقرر لنا : "أن تنبؤات ماركس في تحقيق هذا الهدف لم تتحقق . و بدلا من قيام الشيوعيين بنبذ النظرية الماركسية التي ثبت خطأ تنبؤاتها باعتبار أنه "لا يوجد هناك علم تنبؤي للتاريخ البشري" فانهم "أضافوا عليها فرضية خاصة (ad hoc hypothesis) لجعلها غير قابلة للتكذيب " .
5. يختتم بوبر هذا التحليل الفذ للماركسية بالاستنتاج العبقري بأن الطابع الشمولي للحزب الشيوعي "في روسيا" (انتباه رجاءً) يبين أن: "نظريات ماركس كانت شمولية ! "
تلكم هي بؤس الطرائقية البوبرية ! مسكين ماركس و إنجلز : لا يحتاج صرحهم الفلسفي العلمي الثوري الجبار الذي دوّخ و يدوّخ الرأسمالية سوى تبديل كلمة واحدة من نصف جملة قالوها بأخرى مقحمة ، و لصقها بعبارة ثانية من كلمتين من مؤلَّف ثان لهما، ثم مقابلتها بعبارة لهم من خمس كلمات في مؤلف ثالث لكي نسقطه إلى الأبد و نرميه في سلة المهملات !
يضرب بوبر هنا عرض الحائط بحقيقة أن القانون الاقتصادي للرأسمالية – و هو قانون القيمة – لا يخص إلا الرأسمالية الأوربية المتقدمة صناعياً بالتحديد و ليس المجتمع البشري عبر التاريخ ، و أن نظرية ماركس في التطور البشري – المفهوم المادي للتاريخ – هي طريقة لتفسير التاريخ بغية تمكين الطبقة العاملة من إرساء نضالها السياسي على قاعدة المعرفة ، و هي لا تدعي بكونها تتنبأ بالمسار المستقبلي للتاريخ البشري و إنما هي الدليل للحاضر . و لا يستنتج بوبر من الطابع الشمولي للحزب الشيوعي "في روسيا" بأن إدعاء الحزب المذكور بكونه ماركسياً هو ادعاء خاطئ عن طريق ربط المقدمات بالنتائج مثلما يفعل غير المغرضين من العقلاء ، بل يخلص إلى إسنتنتاج بيت القصيد : أن الطابع الشمولي للحزب الشيوعي "في روسيا" يبين أن نظريات ماركس (الذي توفي حتى قبل أن يشهد تأسيس الحزب الشيوعي الروسي ) كانت شمولية !
يوضح جون گري بأن اعتماد أسلوب بوبر أعلاه كان من شأنه وأد نظريات دارون و آينشتاين في المهد لكونهما في مبتدأ تقديمهما كانتا تتعارضان مع أدلة ماثلة في حينها ، و لم تحصلا على الدعم الحاسم إلا بعد توفر الأدلة على صحتهما بعدئذٍ .
John Gray, Straw Dogs, Granta Books, London, 2002, 38.
كان تكذيب الماركسية هو أهم هدف وضعه بوبر (باعترافه بنفسه) دفع به إلى تطوير تصوره عن نظرية الحدود الفاصلة بين العلم و غير العلم (demarcation theory). "لقد صُدِمتُ من حقيقة أن الماركسيين ... كانوا قادرين عل تفسير كل حدث باعتباره برهاناً على صحة نظرياتهم ." (Unended Quest, 1976 : 41-2)) . و لكنه في كتابه "ردود على نقادي" يغير لهجته ، فيقرر : "كانت الماركسية نظرية علمية في يوم ما" ، و يؤكد في محل آخر بأن "الماركسية كانت علماً يوماً ما ".
(Marxism was once a scientific theory; Marxism was once a science.)
(The Philosophy of Carl Popper 2, 1974: 984-5)
و بالطبع فأن التخبط في فكرة كون الماركسية يمكن أن تكون علماً و غير علم في آن واحد لا يشجع كثيراً على تعزيز الثقة بنظرية بوبر في التمييز بين العلم وغير العلم . و مع ذلك ، فلا يجوز نسيان حقيقة أن بوبر كان مضطراً إلى التصريح لنقاده بأنه يعتبر ماركس "مفكراً أصيلاً و مناصراً للإنسانية ، و أحد محرري البشرية " . كما إعتبر نظرية فائض القيمة نظرية "لامعة" (brilliant) و "هي نجاح نظري من الطراز الأول" (a theoretical success of the first order) و أن نظرية ماركس في الاستغلال "تستحق أعظم الإحترام " (deserves the greatest respect) و أن لماركس "إسهاماته الجدية و المهمة جداُ في علم الإجتماع " (serious and most important contributions to social science.) .
ينظر:
Open Society and its Enemies (OSE), Volumes 1 & 2 (London: Routledge and Kegan Paul, 5th Ed., 1966); [122].[ OSE2, 172-3] ; [OSE2, 178]; [OSE2, 253]
الاقتباسات أعلاه تبين أن المشكلة التي كان يعانيها بوبر مع كارل ماركس لم يكن سببها عدم علمية الماركسية بل عدم علمية طريقة فهمه لأخطاء مفسريها و مطبقي نظريتها ممّن زاملهم و قرأ لهم خلال العقود الأولى من القرن العشرين . و إن كنت أميل لتصور بأنه ربما لم يتسنى له التعمق في دراسة الماركسية ولا الجدل الماركسي (اللذين لم تزد فترة إطلاعه عليهما على ثلاثة شهور فقط و هو في السابعة عشر من العمر ).
في الخمسينات و الستينات من القرن الماضي ، كان كارل بوبر يعتبر عند الكثيرين أحد أكبر فلاسفة العلم في انگلترا منذ برتراند رسل . أما اليوم فان أنصاره بين فلاسفة العلم قد أصبحوا أقلية متناقصة لإدراكهم بان سمعة بوبر قد تم نفخها كثيراً . يقول مارتن گاردنر (2001) " يعتقد العديد من فلاسفة العلم أن شهرة بوبر القديمة كانت تتأسس على جهوده الدائبة و المضَللة في إعادة صياغة وجهات نظر شائعة في عبارات فقدت الآن بريقها الخلاب . فلنأخذ أشهر أدعاء له و هو : أن العلم لا يتطور عن طريق الاستقراء (induction) – أي عن طريق إيجاد أمثلة معززة لحدس (conjecture) ما – و إنما بدحض كل حدس جريء ينطوي على المخاطر . و ذلك لأن البحث عن الإثبات هو عملية بطيئة و غير مؤكدة أبداً ، على حد قوله ، في حين أن التكذيب يمكن أن يكون فجائياً و حاسماً . كما أنه يحتل اللب في الطريقة العلمية .
و المثال المألوف الذي يقدمه عن الدحض يتعلق بالتأكيد القائل بان : "كل الغربان سوداء اللون ". هنا كل عثور على غراب اسود آخر يعزز هذه النظرية ، و لكن هناك دائماَ إمكانية ظهور غراب غير أسود . فإذا ما حصل هذا ، فان هذا الحدس سيمكن تكذيبه (أو دحضه) حالاً . و كلما تواترت حالات اجتياز الحدس لمحاولات دحضه بنجاح ، كلما قوي "تعزيزه" (corroboration) ، و إن كان التعزيز هو أيضاً أمراً غير مؤكد ، و لا يمكن أبداً حسابه وفقاً لدرجة إحتماليته (probability) على حد زعم بوبر .
يصر نقاد بوبر – و هم على حق – بأن "التعزيز" ما هو إلا شكل من أشكال الإستقراء ، و أن بوبر لم يقم سوى بإدخال الاستقراء من الباب الخلفي لطريقته عبر إطلاق اسم جديد عليه هو (التعزيز) ، و هذا هو بعض المقصود بـ "الفذلكة الكلامية" التي أشرت إليها في تعليقي مع الأستاذ الفاضل يعقوب إبراهامي ، و هناك المزيد .
في إجابتة عن السؤال الشهير لديفد هيوم : "كيف يمكن تبرير الاستقراء ؟" يقول لنا بوبر : لا يمكن تبرير الاستقراء ، لأنه لا يوجد هناك شيء إسمه الإستقراء ! الحل السلبي الذي يقترحه بوبر هنا هو نفي وجود الاستقراء و ليس الحل الإيجابي المتمثل بالتثبت فعلاً من وجود أية مشكلة في الإستقراء أم لا . و الصحيح ان هيوم كان مخطئاً في هذه المسألة بالذات . لماذا ؟ لتصوره بأن الإستقراء يعتمد على الملاحظة (observation) في إثبات مصداقيته (validity) ، في حين أن الصحيح هو أن مصداقية الاستقراء تتأتى من قانون الهوية (Law of Identity) ، أي أنه لا توجد هناك مشكلة أصلاً سوى خطأ هيوم نفسه.
و من المعلوم بأن الزعم المجفل بعدم وجود الإستقراء لا يصمد أمام النقد و الإعتراض . و أول اعتراض عليه هو أن حالات الدحض أندر في العلم بكثير من البحث عن حالات التأكيد . فمثلاً ، نجد الآن علماء الفلك و هم ينهمكون في البحث عن دلالات على وجود الماء في المريخ . و في بحثهم هذا ، فإنهم لا يعتقدون بأنهم "إنما يحاولون دحض الحدس بكون المريخ لم يتواجد فيه الماء أبداً". كما يمكن للدحض أن يكون بنفس درجة غموض و تشوش الإثبات . فقد كان أول نموذج كوني لآينشتاين نموذجاً مستقراً ثابتاً ، و لكنه أكتشف بعدئذٍ أن جاذبية الشموس من شأنها أن تقلب هذا النموذج رأساً على عقب . و لتجاوز هذه المعضلة ، فقد إقترح آينشتاين حدسه أو إفتراضه الجريء بأن الكون – في مستواه قبل الذري – كان يشتمل على قوة صد (repulsive force) مجهولة أسماها : " الثابت الكوني" (cosmological constant) . و عندما أكتشف بأن الكون يتمدد ، أعتبر آينشتاين أن حدسه هذا قد "تم دحضه" (falsified) ، على طريقة بوبر . بل بلغ به الأمر إلى حد اعتباره له " أعظم خطأ فادح لحياتي" (the greatest blunder of my life) . اليوم نفس هذا الحدس عاد للساحة العلمية لكونه يفسر سبب تمدد الكون بأسرع مما هو مفترض . و يحاول علماء الفلك الآن ليس دحض هذا الحدس ، و إنما البحث عن إثباتات (confirmations) له . أي أن الأساس المعتمد في تبني هذه النظرية ( و كل نظرية ) إنما هو قدرتها التفسيرية (explanatory power) ، و ليس قابليتها للدحض (falsification) حسب الطرائقية البوبرية . لقد كان بوبر يعرف – و لكنه يتجاهل عن عمد – حقيقة أن الدحض يمكن أن يتأسس على ملاحظة خاطئة مثل المثال أعلاه ، و يعرف التناقض المنطقي الكامن في المثال الذي قدمه عن الغربان السود . فكلما تواترت ملاحظتنا للغربان السود ، فان بإمكاننا تفسير ذلك بطريقتين : أما اعتبار أن هذه الملاحظات المستمرة هي الإثبات (confirmation) لمقولة أن "كل الغربان سوداء" ، أو النفي (disconfirmation) لمقولة أن : "بعض الغربان ليست سوداء". أي أن كل نفي لحدس أو مقولة ما هي في نفس الوقت الإثبات لما هو عكسها ، و العكس صحيح ، أي أن كل أثبات لمقولة ما هو النفي لعكسها . لنأخذ النظرية الحالية التي تفترض وجود حقل كمّي (quantum field) يسمى "حقل هگز" (Higgs field) بجزيئاته المتكمّية (quantized particles) . فإذا ما استطاع مهشم عملاق للذرة – مثل ذلك الذي يتحدث عنه استاذنا أبراهامي – في يوم قريب ما أن يتحسس مثل هذا الحقل ، فانه سيثبت الحدس القائل بوجوده ، و سيدحض في نفس الوقت رأي بعضٍ من ألمع علماء الفيزياء الحاليين – "روجر بنروز" من جامعة أكسفورد مثلا – بعدم وجود حقل هگز الكمي . بالنسبة للعلماء و فلاسفة العلم خارج حلقة بوبر الضيقة فان العلم يشتغل بصورة رئيسية عبر الاستقراء أو الإثبات و ليس العكس ، و لغة العلم هي استقرائية بالأساس . فإذا ما قام بوبر بالمراهنة على فوز حصان ما في سباق للخيل ، و فاز هذا الحصان فعلاً بالسباق ، فإننا لن نتوقع منه أن يصيح : "عظيم ، لقد فشل حصاني في أن يخسر!"
تحوز الآن نظرية السلك المتفوق (superstring) اهتماماً متزايداً في الفيزياء ، و هي تفترض أن كل الجزيئات الأساسية ما هي إلا إهتزازات مختلفة لإنشوطات (loops) متناهية الصغر و ذات قوة شد عظيمة . و لم يتسنى حتى الآن ملاحظة وجود سلك متفوق ، و لكن لهذه النظرية قوة تفسيرية عالية . فقوة الجاذبية مثلاً هي بالنسبة لهذه الفرضية مجرد أبسط اهتزاز للسلك المتفوق . و مثل الاستشراف أو التنبؤ (prediction) ، فأن التفسير (explanation) وجه مهم من أوجه الاستقراء . فالنظرية النسبية مثلا لم تقدم مجموعة من التنبؤات الناجحة فقط ، بل فسرت معطيات غير مفسرة سابقاً . و يصدق نفس الشيء عن نظرية الكم . و في كلا هذين الحقلين أستخدم الباحثون طريقة الاستقراء العتيدة . و لا يقول الآن إلا القليل من علماء الفيزياء بأنهم يبحثون عن طرق لدحض نظرية السلك المتفوق ، أنهم يبحثون عن إثباتات لها .
بالنسبة لبوبر ، فان ما يسميه منافسه الأقوى "رودولف كارناب" بـ"درجة من الإثبات" المطلوبة للحكم على النظرية – وهي العلاقة المنطقية بين الحدس و كل الأدلة المرتبطة به – هي "مفهوم غير مفيد" ، ليضرب عرض الحائط مبدأ نسبية الحقائق و نسبية الإجابات التي تقدمها العلوم لمسائلها ، و يضرب معها الأمانة العلمية التي تفترض إن هذه النسبية تتطلب معياراً تقييمياً نسبياً أيضاً يتوافق مع جوهرها ، و إلا نسفنا كل العلوم .
في مؤلفه الشهير "بنية الثورات العلمية" المطبوع عام 1970، صفحة 145-6 ، يبين لنا الفيلسوف"توماس كون" بان العلماء يشتغلون في سلسلة من سياقات سائدة متماثلة (paradigms) ، و أن طرائقيات الداحضين البوبريين تجعل العلم مستحيلاً :
"لا توجد أبداً أية نظرية تقدم الحلول لكل الأحاجي التي تواجهها في الزمن المعطى ؛ كما أن الحلول المنجزة لا تكون تامة . بل إن العكس هو الصحيح ، حيث أن نفس عدم التمامية وعدم الكمال في التطابق بين النظرية و بياناتها الموجودة هو الذي يحدد في أي وقت معطى العديد من الأحاجي المميزة للعلم طبيعياً . فإذا كان أي و كل إخفاق في التطابق بين النظرية و البيانات يصبح سبباً لرفض النظرية ، فعندئذ يجب رفض كل النظريات في كل الأزمان . و من الناحية الأخرى ، فإذا تقرر أن الإخفاق الشديد في التطابق بين النظرية و البيانات وحده فقط هو الذي يبرر رفض النظرية ، فعندئذ سيحتاج البوبريون معياراً (criterion) محدداً لـ "عدم الاحتمال" (improbability) أو "درجة معينة من التكذيب"(degree of falsification) . و لكي يستطيع البوبريون تطوير مثل هذا المعيار ، فستعترض طريقهم حتماً ذات الشبكة من الصعوبات التي تهيمن على مناصري مختلف نظريات التثبت المستندة على الاحتمالات ، و مؤداها : "أن كل نظرية تقييمية (evaluative theory) لا تستطيع أن تكتسب الشرعية إلا بالتعكز على نظرية تقييمية ثانية ، لتنتهي بالإنكفاء "."
و لفشله في تطوير درجة اثبات مقبولة علمياً تتجاوز الصعوبات أعلاه ، فان بوبر يبقى متشبثاً بمدفعه : كلما اجتازت النظرية بنجاح اختبارات دحض أكثر كلما نالت تعزيزاً أكبر . يلخص لنا الفيلسوف الشهير"ايرنست ناگل" من جامعة كولومبيا حكمه على طرائقية بوبر هذه بهذه الجملة :"أن تصور (بوبر) لدور الدحض ... إنما هو تبسيط شديد الغلو يقترب من تحويل الإجراءات العلمية إلى كاريكاتير." (عودة إلى الوظيفية و رسائل أخرى في الفلسفة و تاريخ العلم ، 1979).
لقد فشلت تماماً كل جهود بوبر الحثيثة و المتهالكة الهادفة إلى محو مفردة "الاستقراء" من الخطاب العلمي و الفلسفي ، باستثناء نفر من البوبريين الانكليز كثيري الصخب . فالاستقراء راسخ بقوة في طريقة تفكير و في خطاب فلاسفة العلم بل و حتى الناس العاديين . فحالات الإثبات هي التي تجعلنا نصدق أن الشمس ستشرق غداً و أن الأشياء الملقاة ستقع و أن الماء يتجمد و يتبخر علاوة على ملايين الأحداث الأخرى . و يصعب تصور وجود معركة فلسفية أخرى تمنى بهذه الدرجة من الفشل التام . "
بديهيات بينو- ديديكند
أعترف أنني لست ضليعا جداً بهذا الموضوع ، و لكن المعروف بأن بوانكاريه مثلاً قد أوضح بأن البديهيات أعلاه لا يمكن اعتبارها المحددات للإعداد الطبيعية إلا إذا كانت ثابتة . فإذا ما وجد هناك برهان ينطلق من هذه البديهيات نفسها ، و يستطيع اشتقاق تناقض ما مثل "صفر يساوي واحد" ، فان مثل هذا التناقض يبرهن على أن هذه البديهيات غير ثابتة ، و هي بالتالي فهي لا تحدد أي شيء . و على حد علمي فالطرق الرياضية المقترحة للبرهنة على ثبات هذه البديهيات تعتمد الإستقراء ، و لكن بوبر ينفي وجود الاستقراء ، و ذلك إخلاصاً منه لمقولة ديفد هيوم القائلة "ليس هناك من ضرورة في الشيء".
و لكون بوبر مولع بالنفي ، فقد حاول إقحام منهجه التفنيدي في الرياضيات ، و فشل في محاولته تلك فشلاً ذريعاً ، كالعادة . و كل ذلك بسبب رفضه سماع كلام أخونا الكبير يعقوب إبراهامي : "و لماذا على بوبر أن يفند ذلك؟" (يقال أن بوبر كان "حيل و كيح" و رأسه ناشف و ما يسمع كلام عمامه الأكبر منه .) (فذلكة لغوية) .
و ملخص القصة ، أنه في مؤتمر مخصص للبحث في العنوان :
"Why are the calculi of logic and arithmetic applicable to reality?"
معقود عام 1946 و حضره كل من "رايل" و "بوبر" و "ليوي" ، قدم بوبر هذه الأطروحة :
"إذا ما نظرنا لفرضية من النوع :" 2+2= 4" ، فإنها يمكن أن تُطبق –على التفاح مثلاً – بمعنيين مختلفين ... في المعنى الأول فان المقولة :" 2 تفاحة + 2 تفاحة = 4 تفاحة " تؤخذ على اعتبار أنها غير قابلة للدحض و هي صحيحة منطقياً . و لكنها لا تصف أية حقيقة تخص التفاح – فهي لا تختلف عن مقولة : "كل التفاح هو تفاح "... و هي تتأسس ... على تعريفات محددة للعلامات :"2" ، "4"، "+"، و "=" . و لكن الأهم من هذا هي التطبيقات بالمعنى الثاني . في هذا المعنى ،" 2+2= 4" يمكن إعتبارها تعني أنه ، إذا وضع شخص تفاحتين في سلة ، ثم وضع تفاحتين أخريين مرة أخرى دون أن يسحب أية تفاحة من السلة ، فان هناك أربع تفاحات فيها . بهذا التفسير تساعدنا " 2+2= 4" في احتساب ، أي وصف ، حقائق فيزياوية محددة ، و الرمز "+" يعبر عن مناولة يدوية مادية – عن الإضافة الفيزياوية لأشياء محددة إلى أشياء أخرى . .. و لكن في هذا التفسير فان " 2+2= 4" تصبح نظرية فيزياوية و ليست منطقية ، و لهذا السبب فإننا لا نستطيع التأكد من أنها ستبقى صحيحة بشكل عام . و في الحقيقة فإنها لا تبقى كذلك . فهي قد تنطبق على التفاح و لكنها لا تنطبق على الأرانب . فإذا وضعت أرنبين + أرنبين في سلة واحدة فقد تجد حالاً 7 أو 8 أرانب فيها ." (بوبر ، 1946: ص 55) .
يتضح من النص أعلاه أن بوبر يستخدم الفذلكة اللسانية غير العلمية عبر مقابلة ألـ "مقولة المنطقية" إزاء ألـ "النظرية الفيزياوية" لكي يثبت لنا – تحكمياً – أن نفس المقولة الواحدة : " 2+2= 4" هي قابلة و غير قابلة للدحض في نفس الوقت ! هنا يفسر لنا بوبر الماء بعد الجهد بالطين ، و بشكل مستعجل جداً بالنسبة للأرانب . السؤال الأساسي هنا هو : متى تشتغل " 2+2= 4" بمعناها المنطقي المجرد و متى تشتغل بمعناها الفيزياوي الحقيقي الشرطي ؟ كان بوسع بوبر أن يقدم تفسيراً نفسياً هنا : فقد يمكنه القول بأن الناس فعلا يفسرون " 2+2= 4" بشكلين ، و أن هناك تذبذباً في الواقع لـ " 2+2= 4" بين كونها حقيقة منطقية وبين كونها حقيقة فيزياوية ، وهذا ما يفسر إمتلاكها نوعية الـ "قابلة للمشاهدة الآن" ،"غير القابلة للمشاهدة الآن" ، و لكنه لا يفعل ذلك لحسن الحظ . و يبدو أنه – وهو أحد أعظم فلاسفة القرن العشرين – لا يعرف حقيقة إن اعتبار " 2+2= 4" مقولة منطقية خالصة على طول الخط في منظومة التفسير البوبرية أعلاه هو الحل العلمي الصحيح . و أن الحل العلمي الصحيح الآخر هو اعتبارها فرضية فيزياوية على طول الخط . و لكنه يطمئن نفسه بمعرفة الخطأ غير العلمي القاتل ، ألا و هو أعتبار " 2+2= 4" هي مقولة منطقية و فيزياوية في نفس المنظومة ! (مَنْ يتبع هنا مَنْ ؟ الرياضيات للفيزياء ، أم الفيزياء للرياضيات ؟)
الماركسية و التنبؤ
معلوم أن الماركسية تدعي بأنها نظرية علمية ، و لكنها ليست مجرد علم فحسب ؛ لكونها تهدف إلى "إسقاط كل العلاقات التي يصبح فيها الإنسان جوهراً مسحوقاً ، مستعبداً ، مهجوراً، و محتقراً ". و بدون استهداف تغيير العالم فستصبح الماركسية مجرد سيارة ساكنة بدون وقود . و لتحقيق هذا الهدف ، فإنها تحلل علمياً إمكانيات تحرر البشرية ، و من ثم تناضل لتحقيقها . و لكونها علماً بشرياً ، فان الذي يتوقع تطابقها مع معايير العلوم الصرفة ، أنما يروم فرض شروط مستحيلة من الدقة و التجرد عليها . فعندما أطلق البيان الشيوعي نداءه الشهير "يا عمال العلم إتحدوا" ، كانت تلك دعوة للنضال ، و ليست تحليلاً حيادي القيمة . و بالمقارنة ، فإذا ما قام أحد علماء الطبيعة بالتنبؤ بحصول وضع ما ، ثم حاول أن يصنع بنفسه ذلك الوضع ، فان محاولته تلك ستعتبر "غشاً علمياً"!
و لقد تضمنت كتاباتهما المبكرة عنصر التنبؤ غير المتحقق أحيانا ، ففي إدانته الانفعالية لـ "وضع الطبقة العاملة في انكلترا" في كتابه المعنون بنفس الإسم ، توقع إنجلز أن يؤدي الظلم الذي يعاني منه العمال الانكليز إلى توجههم نحو خيار الانتقام الدموي من البرجوازية . و عندما لم تتحقق تلك النبوءة ، نجد أن إنجلز - في المقدمة التي كتبها بعد مضي (47) عاما على صدور نفس الكتاب - يعلق بنفسه على ما يسميه "تنبؤاتي العديدة الواردة فيه ، و بضمنها تلك التي تخص توقع اقتراب أوان الثورة الاجتماعية و التي دفعني حماسي الشبابي إلى التجرؤ على إطلاقها قي حينه" . و في إشارته إلى ذلك الكتاب عام (1863) ، و هو يعمل على تأليف "رأس المال" ، كتب ماركس الملاحظة المؤثرة التالية لإنجلز :
"أن إعادة قراءة كتابك جعلتني أتنبه بأسف إلى تزايد عمرينا . كم هي النظارة و الدفق العاطفي ، و بأي توقعات جسورة و خالية من الشكوك المعرفية و العلمية ما يزال الموضوع معالجاً هنا ! إن مجرد الصورة المخادعة للنتيجة التي ستبزغ نهار التاريخ غداً أو بعد غد تعطي الأمر كله دعابة دافئة و مفعمة بالحيوية ."
هكذا يتحدث الثوريون عندما يكبرون في السن عن جدلية التغيير غير المتحقق : أنهم يأسفون لأن تقادم أعمارهم يجعلهم يفقدون إندفاعهم العاطفي الجسور المطلوب لإحداث التغيير ، رغم أن ذلك الإندفاع كان يعوزه الشك المعرفي و العلمي . و المفارقة بين دفق و نظارة توقعات الأمس في التغيير و بين الصورة المخادعة لواقع اليوم أو الغد تبعث الدفء و الحيوية في النفس ، و ليس الندم و جلد الذات . هنا ، ينصب الأسف على فقدان الإندفاع الثوري بحكم تقدم السن و ليس على عدم تحقق النبوءة ، لماذا ؟ لأنه إزاء الإندفاع الثوري الحيوي و الشريف لا يمكن للنظرية الرمادية إلا أن تطأطئ رأسها . فالثورية شيء ، و الشك المعرفي-العلمي شيء آخر . لقد كان ماركس يشارك صديقه تطلعاته الثورية ، و لكن شعاره و هو يكتب ذلك المؤلف الكبير كان "الشك في كل شيء" . و مع أنه كان يسمح لنفسه ببعض دفقات الغضب ، و لكنها كانت خالية من توقع أية نتائج ستظهر من دراسته تلك . أن "الرأسمال" يقدم دراسة علمية بامتياز للاقتصاد الرأسمالي . في رأس المال ، يناقش ماركس طرق البحث العلمي و يعلق قائلاً : "و علاوة على ذلك ، ففي تحليل ألأشكال الاقتصادية لا يفيدنا لا المجهر ولا الكواشف الكيمياوية . هنا قوة التجريد يجب أن تحل محل كليهما." و يحلل في الكتاب البضاعة ، العمل ، القيمة و الربح مستخدماُ قوة التجريد على نحو فعال . و فيه يتنبأ على نحو صحيح بأن الرأسمالية ستعاني دائما من أزمات فرط الإنتاج و اضمحلال الإستهلاك . كما و يتنبأ بأن ذلك سيؤدي أيضاً على تعاظم تركيز الهيمنة على الموارد في أيد عدد أقل من الشركات .
بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية ، إستقرت الرأسمالية في أمريكا و أوربا و اليابان و تطورت . و رغم الأزمات الإقتصادية المتكررة فأن الرأسمالية المتطورة لا تظهر أياً من أعراض السقوط من تلقاء نفسها ، كما لا توجد لحد الآن دول بروليتارية . هذا الوضع أربك أو أثر في حسن التقدير لدى بعض الماركسيين ممن تصوروا أن الماركسية لا يمكن أن تكون علمية أن لم تنجح في توقع مثل هذه التطورات . و لكن الماركسية لا تستطيع إلا أن تتوقع النضال و ليس نتيجة النضال . لماذا ؟ لأن الصراعات التاريخية محكومة بعشرات العوامل الذاتية و الموضوعية المتغيرة زمكانياً . ذلك ما تبينه لنا رسالة إنجلز إلى بيرنشتاين عام (1895) و التي تنص :
"إن أنواع القوانين و النظريات السياسية و العرفية و الفلسفية و المعتقدات الدينية كلها تمثل قوى مؤثرة في مسار الصراعات التاريخية ، و في العديد من الحالات ، فإن هذه كلها تشكل العوامل الأقوى في تحديد أشكال تلك الصراعات . إذن فإن هناك قوى لا حصر لها تحبط الواحدة منها الأخرى ، مع مجاميع لا حصر لها من متوازيات المستطيلات للقوى و التي تخرج منها نتيجة واحدة هي الحدث التاريخي و الذي يمكن بدوره أن ينظر إليه باعتباره نتاج قوة عمياء الوعي و الإرادة تفعل على نحو جمعي . و هذا لأن إرادة كل شخص تعيقها أرادة كل شخص آخر و بالتالي تأتي نتيجة الصراع كشيء خارج عن مراد أي شخص . إن التطور السياسي و القانوني و الفلسفي و الديني و الأدبي و الفني يستند على التطور الإقتصادي ، و لكن كل هذه العوامل تؤثر في بقية العوامل و في التطور الإقتصادي .
لقد بين إنجلز كيف أن المؤسسات الإجتماعية – و التي هي أصلاً نواتج من التطور الإقتصادي – تتحول إلى قوى إجتماعية مستقلة بحد ذاتها و لها فعلها الخاص و الذي يفعل بدوره على التطور الإقتصادي . و يمكن لهذا الفعل – وفقاً للظروف – أن يسرع أو يعيق أو يحرف مسارات تلك النواتج . و أن تطور شروط الإنتاج و نمو الطبقات هو أخيرا له التأثير الأقوى في تلك الأفعال للقوى السياسية و الآيديولوجية . و بوسع الماركسيين أن يحققوا نتائج أفضل حالما يغادروا التفكير الرغائبي في ثورة عالمية أوتوماتيكية تخلق حكومة البروليتاريا ، و يجتهدوا في خلق تحليل ماركسي للعالم المعاصر يمتلك كل مقومات العلم .
الماركسية و العلمية و المادية
بالنسبة للماركسية فإن المادية هي حقيقة مسلم بها ، و لذلك لا نجد فيها تساؤلات معرفية بيركلية مثل "كيف يتسنى لي التأكد من إن هذه المنضدة ليست مجرد إختلاق خاص بعقلي أنا ؟" نفس هذه الحقائق المفترضة هي التي ينطلق منها علماء الطبيعة في فحصهم لحركة و تصرفات المادة بغية صياغة القوانين التي تحصل بها تلك الحركة . و تلك هي القاعدة التجريبية التي تنطلق منها الماركسية في فكرتها الأساسية القائلة بأنه لا مغزى من التأمل في أصل العالم عندما لا يتوفر لديك ما يكفي من الطعام . الحاجة هي اللبنة المركزية في التجربة البشرية . و لهذا فان الطرق الماركسية في شرح العالم هي طرق علمية لكونها تتأسس على الملاحظة التجريبية القائمة في إطار منهج بحث مفهومي هو "المادية الجدلية التاريخية" . و من لا يعتبر هذا كافياً فانه ينفي القيمة العلمية عن أنظمة معرفية كاملة مثل علم الاقتصاد و الاجتماع و علم النفس و اللسانيات الخ .
و هناك بون شاسع بين عدم تحقق التوقعات و بين عدم العلمية ، رغم كون تسمية "الاشتراكية العلمية" قد أطلقها إنجلز في معرض التمييز بينها و بين الإشتراكية الطوباوية . الماركسية العلمية وفقاً لإنجلز تمتلك وجهين موضوعيين :التشخيص بالعلم الموضوعي لسيرورة تتأسس على وعي مبدأ حتمية التغيير و ارتقاء البشرية من الأدنى إلى الأعلى ، و مبدأ الوعي الموضوعي للفعل الذاتي ، أي النضال لبناء الإشتراكية . ووفقا لهذا المنظور فان النضال لا يمكن أبدا أن يفهم باعتباره فعلاً يقود إلى التحرر على نحو ذاتي (أوتوماتيكي) ، لكون أهميته تنبثق أساسا من خلال التحقيق الناجز لهدف بناء الاشتراكية. النضال هنا هو مفهوم وظيفي أداتي لتحقيق غاية منشودة ، لبلوغ مكان ما خطوة بعد خطوة حتى إمتلاك السلطة السياسية . و هذا الإمتلاك للسلطة ليس أبدا هو الغاية بحد ذاتها من النضال ، و إنما هو مركز كل المقاربة للنظرية الموضوعية و النضال الذاتي . إذن فالاشتراكية هي نتاج التوجهات الموضوعية زائداً الوعي و الممارسة الذاتية ، أو بعبارة روزا لكسمبورغ :" الإشتراكية هي نتاج التناقضات المتفاقمة للإقتصاد الرأسمالي زائداً وعي الطبقة العالمية بعدم إمكان تجنب مواجهة هذه التناقضات بدون تحول اجتماعي . و تبقى الماركسية محاولة لإكتشاف القوانين التجريبية للعالم بالطرق العلمية ، وليست "لعباً شوفينياً بالعلم" مثل البوبرية . "
و يلاحظ أن إرتفاع مستوى المعيشة في البلدان الرأسمالية قد حصل بفضل الحركات العمالية و ليس بسبب عامل ذاتي نابع من طبيعة الرأسمالية . و لا يوجد هناك ما يربط بين النظرية الرأسمالية و بين الثروة الإجتماعية المتزايدة في الدول المتقدمة الكبرى في الغرب ، في حين يتزايد الحرمان في مختلف أنحاء العالم . أن الأوضاع المرعبة للإنتاج في العالم الثالث باعتباره "ورشة العالم" هي بلا شك قلب و روح ما يحتاجه علم الإقتصاد الرأسمالي .
أن استهدافها للأفكار و للمفاهيم العلمية يستحق الإهتمام و التقدير ، فهي ما تزال أقرب نظرية علمية للمجتمع البشري ، و ليست علما موهوما مثلما يدعي أنصار الشوفينية البوبرية . كما ينبغي أن نعطي ماركس الفضل في مساهمته بتأسيس علم الإجتماع الذي يأخذ بعين الإعتبار اكتشافات علم الإقتصاد و البحث العلمي للمساعدة في تشكيل بنية أكمل لملاحظة العالم .
و هناك الكثير مما يمكن فعله بالماركسية ، و الكثير مما يتطلب العمل . و قد نشهد إنتعاشاً (إيجابياً أو سلبياً) في الإهتمام بالآيديولوجيا بين العلماء النظريين في المستقبل ، على الأقل لأن الماركسية لن تغادرنا أبداً ، و أنا اعتقد بصدق بأن التفسير الماركسي للعلم لم يبلغ شأوه المطلوب . و أتصور أن هذا يبقى أمراً نافذاً حتى لو إختلفنا حول كيفية قياس النظريات . فبوسع الناس أن يختلفوا عما إذا كانت التنبؤات الماركسية قد دحضت ، أو أثبتت ، أو أن أمرها لم يحسم بعد ، و لكنني لا أستطيع أن أرى كيف أن تفسير القياس بأي شكل من تلك الأشكال من شأنه أن يصنع أو يكسر علمية النظريات . فالجدل الماركسي يستخدم كطريقة لتكوين نظرية و ليس قياسها ، و لا يبدو لي أن ما هو كائن قبل تكوين النظرية و ما هو حاصل بعد تكوينها (تفسير معطياتها) يشكلان أمرا أساسيا بالنسبة لموضوع "علميتها" لتعلقهما على نحو أكبر بمسألة حصافتهما أي صوابهما التفكيري .
و يمكن لأي شيء يمتلك أنساقاً أو نماذج منتظمة أن يكون موضوعاً للبحث العلمي و أن يمكّن العالِم من تحديد المعالم المنتظمة و أن يحدد شروط تحققها . و هذا هو بالضبط ما هو علمي عن الطريقة التي وصف فيها ماركس السيرورات التاريخية و الإقتصادية . و بالطبع فأن مثل حقل الدراسة هذا هو أقل يقينية عن تلك الحقول التي نستطيع أن نسأل فيها الطبيعة أسئلة عبر القيام بالتجارب العلمية . و يمكن للبحث أن يسمى علمياً مادام كان بالعلمية التي ينبغي أن يكون عليها و ذلك ضمن المحددات التي يفرضها الموضوع المبحوث.
و عندما يتحدث إنجلز عن الماركسية العلمية فانه يعني كونها متأسسة على ذلك الوعي للتطور الإجتماعي الذي يكون دقيقا مثل دقة وعي التطور في الطبيعة لكون مسار كل من التطور الإجتماعي و الطبيعي يتميز بنفس الحركة الدائمة (صورة من تشابك لا متناه للعلاقات ، و ردود الأفعال ، و التبدلات ، و الرابطات حيث لا يبقى شيء على حاله) . و يعلق إنجلز على ذلك بالقول " "أن هذا التصور البدائي و البسيط و الصحيح داخلياً للعالم قد صاغه أولاً هيراقليطس : فكل شيء هو الشيء و عكسه ، و كل شيء متحرك و في تغير دائم و في تخلق و فناء . هنا ، المقايسة بين علم الطبيعة و علم التاريخ تتخذ أهميتها ليس من مفهوم الطبيعة المتضمن في التاريخ ، و أنما مما تقوله عن حركة التاريخ البشري . فالطبيعة و التاريخ محكومان معاً بقوى مستقلة عن إرادة الإنسان ، و لذلك فان بإمكان الإنسان دراستهما موضوعيا . و لا يستطيع أي عالِم إنكار هذه الحقائق الموضوعية .
العلم و المادية الديالكتيكية
معروف أن الديالكتيك هو فهم الطبيعة و المجتمع باعتبارهما في حالة حركة متواصلة : و المادية الديالكتيكية تفهم الأشياء و الأفكار في تمثيلاتها ، في ترابطاتها ، علاقاتها ، حركتها ، أصلها ، و نهايتها ... و الطبيعة هي التي توفر الدليل على عمل الديالكتيك . مهمة العلم هي فهم القوانين الموضوعية لحركة الطبيعة و المجتمع . و يتأسس هذا الفهم على مفتاحين رئيسيين: المفهوم المادي للتاريخ و اكتشاف سر الإنتاج الرأسمالي عبر قانون فائض القيمة ، و كلاهما يعود لماركس و ليس لإنجلز. العلمية هنا تعني الموضوعية . و "المهمة التالية هي استخراج كل تفاصيلهما و علاقاتهما" مثلما يوضحه إنجلز بالتفصيل . من الذي يستخرج كل هذه التفاصيل و العلاقات الموضوعية للتاريخ و المجتمع و الإقتصاد ؟ الباحثون الماركسيون إبتداء من إنجلز و حتى آخر باحث ماركسي يشهده التاريخ . هنا يشتبك الموضوعي بالذاتي لكون الإدعاء بكون الماركسية علمية أنما ينصرف إلى كون النضال الذاتي للإشتراكيين في العالم يجد في الحركة الموضوعية للتاريخ و المجتمع السند الموضوعي له .
قبل كتابته لـ رأس المال و خصوصا في ذلك العمل كان ماركس قد بدأ يعتبر في قرارة نفسه انه عالم . ففي أولى صفحات مقدمته للطبعة الألمانية الأولى لمؤلفه العظيم ذاك نرى انه يذكّر القراء بالقول : "إن المثل القائل بأن كل البدايات صعبة يصح على كل علم " ، و يحذرهم بأنهم قد يواجهون المصاعب في أول فصل قادم . أي أن ماركس يفتتح كتابه بالتوكيد إن رأس المال هو عمل علمي . و يواصل بعدها الشرح بان تحليله للمفهوم الاقتصادي لـ"القيمة" لا يستند على جهاز المجهر و لا على العوامل المساعدة الكيمياوية ، بل أن "قوة التجريد تحل محل هذين النوعين من الوسائل المساعدة" . و يضيف قائلا أنه إذا كان هذا التجريد يبدو عويصا إلى حد ، ما فان على القارئ المبتدئ أن يعلم بأننا لسنا في البحث التالي أقل اهتماما "بتفحص أدق الدقائق من دراستنا نحن لعلم التشريح و المتمثل بالدراسة المجهرية للأنسجة" . يلاحظ الضمير المنفصل "نحن" لماركس . بعدها بعدد قليل من الأسطر يتحول ماركس من مقارنة منهجه العلمي بمنهج عالم التشريح إلى مقارنة نفسه بعالم الفيزياء قائلاً انه "يتابع بحوثه إما بدراسة السيرورات الطبيعية ... بأشكالها الجنينية ... أو انه سيجري التجارب العلمية (experiments) كلما تيسر له ذلك . كما و يسجل ماركس في هامش في الصفحة 393 من الطبعة الأولى لرأس المال سبقا في تناول التجريد اللاتاريخي للعلم فيقول :"أن المادية التجريدية للعلم الطبيعي التي تقوم على عزل السيرورة التاريخية هي ناقصة حيث سيكون بمقدورنا أن نكتشف في لحظة كل المفاهيم المجردة و الإيديولوجية التي يتفوه بها مريدوها كلما حاولوا تخطي حدود اختصاصهم ".
و يشرح لنا ماركس بان هدفه من تأليف رأس المال هو دراسة " القوانين الطبيعية للإنتاج الرأسمالي .... و هذه القوانين هي ميول (tendencies) تفعل بموجب ضرورة لازمة باتجاه هدف محتوم" . فإذا ما استعجلت البروليتاريا في تحطيم سلطة البرجوازية ، فان ذلك لن يكون سوى عنصراً ينصب في خدمة الثورة البرجوازية نفسها مثلما حصل عام 1789 "مادامت الشروط المادية في مسار التاريخ و حركته لم تخلق بعد لجعل إلغاء نمط الإنتاج البرجوازي أمراً ضروريا" . و ليس بمقدور البشر بناء عالم جديد لهم من ثمار الأرض وحدها ، و إنما عبر الانجازات التاريخية للحضارة المنكفئة . و عليهم أن يتولوا في مسيرة تطورهم هذه إنتاج الشروط المادية للمجتمع الجديد . "و ليس بمستطاع أية قوة عقلية أو ارادوية أن تعفيهم من هذا المصير" . يلاحظ هنا أن المتحدث هو ماركس و ليس إنجلز بعده بعشرين سنة و المتهم ظلماً بصياغة عبارة الاشتراكية العلمية . في رأس المال أيضا ، يعارض ماركس "كل تداخل للأطوار الطبيعية للتطور "، مبينا أن الثورة الاشتراكية الناجحة تتطلب التوفر المسبق لدرجة عالية من التطور الصناعي .. و عليه فان إنجلز كان مخلصاً تمام الإخلاص لماركس عندما أكد : "فقط عند مستوى معين من تطور قوى الإنتاج ، و بمستوى حتى أعلى تطورا بكثير من وضعنا الحديث ، يمكن رفع الإنتاج إلى تلك الدرجة التي يمكن معها لمحو التمايز الطبقي أن يشكل تقدماً حقيقياً – يمكن إن يكون مستديما دون أن يتسبب في الركود " . أذن فلا نفع من المجتمع اللاطبقي إذا كان هذا يعني التساوي في الفقر و الركود في الاقتصاد.
و لا شك أيضا إن ماركس كان يعتبر نفسه العالم الذي اكتشف القوانين التي تحكم مصير الرأسمالية مثلما يظهر في مقدمته للطبعة الألمانية الثانية لرأس المال عندما يقتبس من المراجعة الذائعة الصيت للطبعة الروسية لنفس الكتاب – ناعتا إياها بكونها "ملائمة" و "كريمة" – عندما يكتب المراجع الروسي ايلاريون كاوفمان قائلاً :" بالنسبة لماركس فان امرأ واحداً هو المهم ، ألا و هو اكتشاف القانون للظاهرة التي يبحث فيها ... و هو ما أن يكتشف ذلك القانون ، حتى يواصل استخراج كل تفاصيل تأثيره البائن في الحياة الاجتماعية .... و هو لا يجهد نفسه إلا في أمر واحد هو : أن يوضح بواسطة البحث العلمي الدقيق ضرورة التعاقب المحدد و المنتظم في العلاقات الاجتماعية ... يعتبر ماركس الحركة الاجتماعية سيرورة طبيعية موجهة بقوانين ليست فقط مستقلة عن إرادة و وعي و أغراض البشر ، بل إنها بالمقابل هي التي تحدد إرادتهم و وعيهم و أغراضهم " .
تلك هي ان الماركسية العلمية التي تكتشف قوانين الرأسمالية و دينامياتها الداخلية . و "ليست الإرادة هي التي تنبع منها الثورة – يقول ماركس لباكونين - و إنما الشروط الاقتصادية" . إن هذا الاصفرار على التطور الاقتصادي المسبق كشرط للاشتراكية هو الذي جعل انجاز يميز بين اشتراكية ماركس العلمية و بين الاشتراكية الطوباوية . و غالبا ما تستغل ملاحظات إنجلز أعلاه من طرف من يعتقد أن نقاط الضعف في الماركسية كلها ناجمة عن كتابات إنجلز في حين إن كل النقاط القوية تعود لماركس . و لكن هذه النظرة غير صحيحة البتة . فحالما نقرأ الآيديولوجيا الألمانية المؤلفة من قبلهما مجتمعين علم 1846 حتى نكتشف إنهما قارنا العلم الايجابي إزاء الفلسفة في أكثر من مناسبة : "عندما يتم وصف الواقع ، تفقد الفلسفة – كفرع مستقل من النشاط – الوسط الذي تتواجد فيه . و أفضل شيء هو أن لا تحل محلها ألا زبدة أعم النتائج و التجريدات المنبثقة من ملاحظة التطور التاريخي للإنسان ." هذا الفصل التبايني بين العلم التجريبي و الفلسفة يصوغه ماركس و إنجلز ثانية بالقول :" عندما نفهم الأشياء على هذا النحو ، بكينونتها الحقيقية و وقائعها ، عندها تتحول كل المسائل العويصة للفلسفة إلى حقيقة تجريبية مثلما سنرى ذلك بعدئذ و على نحو أوضح . " هذه النصوص تبين انتقال كل من ماركس و إنجلز من الفلسفة إلى العلم – و بالضبط إلى العلم الذي يؤكد الدور الحاسم للملاحظة التجريبية .
في رفضه للفصل بين الواقع ومبادئ الأخلاق يشخص هيجل مهمة الفلسفة بفهم " الحاضر و الفعلي ، وليس تشكيل عالم مثالي ." و انطلاقا من هذا يصبح من المعقول أن نرى في رفض ماركس للطوباوية و للأشجان المبالغ بها و للأخلاق الزائفة ترديدا لهذا الصدى القادم من هيجل . و باختصار ، فان أساس ظهور الماركسية العلمية مرده ليس فقط انعطافة ماركس نحو العلم ، بل و تتأسس كذلك على عناصر في فلسفة هيجل نفسها التي يقول فيها : " للمساعدة في تقريب الفلسفة من شكل العلم ... ذلك هو الهدف الذي وضعته نصب عيني ".
إذن فالماركسية العلمية ليست هي – مثلما يفترض البعض من نقاد الماركسية – مجرد سوء تفسير أقحمه إنجلز بعد وفاة ماركس . و ليس هناك أي شك أن الماركسية كانت معروفة على نطاق واسع بإسم الماركسية العلمية في حياة ماركس . و يمكن رؤية ذلك في التقييمات المعطاة لمؤلفاته حال وفاته عام 1883، و كذلك في نصوص التعزية الواردة بمناسبة وفاته . و المصدر الممتاز لهذه النصوص مطبوعة في كتاب من تحرير فيليب فونر و عنوانه "عندما توفي ماركس : تعليقات في عام 1883" المطبوع في نيويورك عام 1973 :
Philip S. Foner, When Karl Marx Died: Comments in 1883 (N.Y.: International Publishers, 1973).
يرينا الكتاب أعلاه بوضوح لا لبس فيه أن إنجلز لم يكن وحده هو الذي سمى ماركس بالعالم ، حيث بعثت "الأخوّة الباريسية لحزب العمال الفرنسي" برقية تعزية أكدت بأن مساهمة ماركس كانت إبداع "الماركسية العلمية " (ص 41). أما مندوب الاشتراكية الديمقراطية الألمانية ، و هو كارل ليبكنخت ، فقد نصت كلمته التأبينية في جنازة ماركس أيضاً على إبداعه "الأساس العلمي للإشتراكية" ، معرفا إياها بكونها "تتمركز بصفتها العلمية و تنماز بها" (ص 42) .
إذن فالماركسية هي علم و أيديولوجيا ، هي فهم عقلاني و ممارسة سياسية ، هي تقرير عن العالم ، و نداء لتغيير العالم . و إذا ما وضعنا جانباً التباينات الواضحة بين الأنظمة الميكانيكية الميتة و بين السيرورة التاريخية الحية للبشر ، و استعرنا لغة التشبيه بهدف التوضيح ليس إلا ، فأن بالإمكان تصور قيادة كل حزب ماركسي بمثابة السائق لحافلة نقل الركاب الذي يريد نقل ركابه (مجتمعه) من النقطة (أ) {مرحلة الرأسمالية المتفسخة} إلى نقطة أعلى و أبعد كثيراً هي (ب) {مرحلة بناء الاشتراكية } باستخدام طليعته الثورية (محرك الحافلة) . هنا تلعب النظرية الماركسية دور الوقود المناسب المطلوب لانطلاق حركة محرك الحافلة نحو الهدف الأعلى المنشود ، كما يلعب المفكرون الماركسيون في كل حزب دور البطارية التي تلهب وقود النظرية الماركسية . و بدون وجود السائق (قيادة الحزب الماركسي) فلن تستطيع الحافلة الإنطلاق نحو الهدف المنشود ، مثلما لن تستطيع التحرك من دون وجود المحرك (الحزب الثوري) ، و لا بدون العجلات المناسبة و الهيكل القوي (أدوات الإنتاج المتطورة) ، و لا بدون الوقود (النظرية الماركسية) و البطارية (المفكرون الماركسيون المحليون) . وعلاوة على ذلك ، فأن المشكلة الكبرى تكمن في حقيقة أن لا أحد يعرف فعلاً أين تقع النقطة (ب) المنشودة لتي لم يبلغها أحد من قبل بعد ، و لا متى يمكنه الوصول إليها بالضبط . فإذا ما تواجد المحرك و الساق و الوقود و العجلات و الهيكل المتين بتناغم مع بعض ، و تحركت الحافلة باتجاه الهدف ، ثم توقفت بعدئذٍ لأي سبب موضوعي أو ذاتي مثل حصول عطل في المحرك أو في عجلات الحافلة أو بسبب تذمر الركاب و ثورتهم أو مرض السائق أو تهوره أو استبداده أو جهله بالطريق الصحيحة أو تصادمه مع السيارات الآتية من الاتجاه المعاكس فان هذا التوقف (المرحلي حتماً) لا يمكن تفسيره أبداً بعدم صلاحية الوقود (النظرية الماركسية) . ولهذا فأن فشل مختلف الأحزاب الشيوعية و الاشتراكية التي امتلكت السلطة في الوصول بشعوبها إلى الهدف الأعلى المنشود (بناء الاشتراكية) يعود لأسباب ذاتية و موضوعية لا علاقة لها البتة بصواب النظرية الماركسية. و من بين أسباب توقف مسيرة الحافلة يمكن تصور حصول واحدة أو أكثر من الحالات التالية بعد بدء مسيرة الحافلة :
1. نفاد الوقود (عدم القدرة على تطوير النظرية الماركسية) ، أو استخدام وقود غير مناسب (تبني مواقف غير ماركسية) ، أو تخلف كفاءة الإطارات أو هيكلية الحافلة (وسائل الإنتاج) (كل الأحزاب الشيوعية التي استلمت السلطة بضمنها كوبا) .
2. انقلاب الحافلة أو تصادمها بسبب تهور السائق (الخلافات بين أركان الهيئة القيادية في الحزب) ، أو بسبب جهله بالطريق و عدم كفاءته (روسيا ، الصين ، فيتنام ، بلغاريا ، ألبانيا) .
3. ثورة الركاب علي السائق بسبب إستبداده بهم أو تهوره او بسبب المشاق التي يعانونها من عدم كفاءة الإطارات أو الكوابح أو أماكن الجلوس أو تماسك الهيكل العام داخل الحافلة أو تدني كفاءة المحرك (بولندا ، ألمانيا الشرقية ، جيكوسلوفاكيا ، هنگاريا ، رومانيا ، يوغسلافيا).
4. عدم معرفة الطريق الصحيحة المؤدية إلى الهدف ، و التوقف بسبب هبوط شحن البطارية او عطلها بانتظار التوجيهات (الشحن الخارجي ) من سائق الحافلة الأم (جمهوريات الإتحاد السوفيتي (عدا روسيا) ، منغوليا ، أفغانستان ، الخ).
5. عدم معرفة الطريق الصحيحة و النكوص بالالتحاق بباص وطني الصنع يتجه نحو الرأسمالية (اليمن الجنوبي ، ولاية كيرالا في الهند ، الصين ).
6. أنانية السائق و توقفه بالحافلة للاستئثار بثروات راكبيه و إبقاءهم رهائن لديه (كوريا الشمالية ، ميانمار ، كمبوديا بولبوت) .
7. توقف مسيرة الحافلة فجأة بسبب اعتراض مسيرتها من طرف نقطة عسكرية قاطعة للطريق (تدخل عسكري داخلي-خارجي : كومونة باريس ، الجمهورية الأسبانية الثانية ، حكومة الليندي) .
و سواء بقيت الحافلة تراوح مكانها ، أو توقفت لتعود إلى النقطة (أ) ، أم إتجهت للنقطة (ج) أو (د) و ليس (ب) المقصودة ، فأن الوقود الثوري باق في عقول المثقفين الثوريين و العمال و الفلاحين الواعين و الأحرار و إن احتاج للتطوير المتواصل . و هو يتطلع إلى وجود الحافلة المتطورة و إلى السائق الذي يستشرف الهدف و المحرك الكفء علاوة على الظروف المواتية. أما مجرد الحلم بالحرية و المساواة و الرفاهية و العدالة الإجتماعية دون الإنخراط الإيجابي بالنضال فلن ينقلنا نحن و لا البشرية إلا من حرب لحرب و من أزمة لأزمة و من قيد لقيد و إلى أبد الآبدين لأن جذع الشجرة الميتة واقفة لا يسقط من تلقاء نفسه أبداً.
هنا تتجلى أيضاً الأهمية الكبرى لمبدأ التضامن اللازم بين صفوف الطبقة العالمية الذي نادى به ماركس و إنجلز . في الاستعارة أعلاه ، يكون سير عشرات الحافلات المتضامنة بقافلة واحدة أقوى بما لا يقاس من سير الحافلة الواحدة في تجاوز المعوقات . كم كان الحزب الشيوعي السوفيتي أميناً على مبدأ التضامن الأممي في تعامله مع الجمهوريين الأسبان ، الاشتراكيين الألبان ، الاشتراكيين اليوغسلاف ، الاشتراكيين الجيكوسلوفاك ، عمال غدانسك ، الخ ؛ ناهيك عن الأحزاب الشيوعية خارج الحكم في اليونان و ايطاليا و إيران و العراق و اندونيسيا و مصر و السودان ؟ كم بقي الحزب الشيوعي الصيني متضامناً مع الحزب الشيوعي السوفييتي ، الفيتنامي ، الكوبي ، المنغولي ، الخ ؟ لقد استغل الحزب الشيوعي السوفيتي أغلب الأحزاب الشيوعية العالمية (باستثناء فيتنام و كوبا لأسباب ستراتيجية) لتحقيق منافع أحادية ، فخسر دعم الطبقة العاملة في مختلف البلدان ، و خسر دعم عماله أنفسهم قبل أن يخسر نفسه ؛ و لن يكون مصير الحزب الشيوعي الصيني أفضل كثيراً ما لم يتدارك وضعه الترقيعي الحالي فيعود إلى أحضان التضامن العمالي و النظرية الماركسية .



#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)       Hussain_Alwan_Hussain#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكلبة -سليمة كُرْفَتِچْ- و البغل -خوشْطَرِشْ-
- النص الكامل لمسرحية -عرس واوية- : ذرة من وقائع كل إنتخابات ع ...
- نص مسرحية -معمعة العميان-
- مساء عراقي ساخن : كل شيء عادي كالعادة
- فضيحة الثعلبان -چيق- و -چاق- و الضبع -ورين-
- الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /8 ، و هو ال ...
- الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /7
- الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /6
- الدكتور محمد مهدي البصير / الشخصية الحلية الفذة
- الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /5
- الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /4
- الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /3
- الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /2
- الصراع في ملحمة كلكامش : قراءة في جدلية الملحمة /1
- قصة قصيرة : يوم جمعة في حياة جندي مكلف عراقي
- حكاية الموت الغريب للفيل -جَلا-
- ملاحظات حول حركة حقوق المرأة و مدرسة النقد الأدبي الأنثوي
- خَلَفْ
- دِشَرْ
- ستراتيجيات سلطة الاحتلال الأمريكي للعراق خلال الفترة 2003-20 ...


المزيد.....




- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...
- للمرة الخامسة.. تجديد حبس عاملي غزل المحلة لمدة 15 يوما


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - حسين علوان حسين - خرافة دحض الماركسية العلمية / رد على الأخ الكبير الأستاذ يعقوب إيراهامي