حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 3337 - 2011 / 4 / 15 - 08:24
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
رابعاً/گلگامش و أنكيدو ضد خمبابا
بعد وصف الملحمة رحلة گلگامش و أنكيدو إلى ما تسميه الملحمة صراحة "أرض الحياة " أو "جبال لبنان و سوريا" ، و بعد سرد گلگامش وقائع خمسة أحلام مرعبة تراءت له في منامه و يتولى أنكيدو تفسيرها كلها لصالـحه و يشجعه على المضي قدماً في مسعاه لقتل خمبابا ، يتواجه الإثنان مع خمبابا أخيراً :
"لقد بلغنا مكاناً لاينبغي لبشر تجاوزه
لنجرد أسلحتنا و نوجها إلى بوابة خمبابا !"
... أبلغ گلگامش صديقه :
"أنه مباغت مثل هجوم العاصفة خمبابا هذا
الذي سوف يسحقنا مثل إله العواصف ."
.....
فتح خمبابا فاه للكلام
قائلاً لكلامش :
"دع الحمقى يا گلگامش يستشيرون الأجلاف و الهمج !
ما سبب مجيئك هنا أمامي ؟"
"تعال يا أنكيدو ، أنت يا هلام بيض الأسماك ،
يا من لا يَعرف أباه ،
يا فرخ الغيالم و السلاحف ،
يا من لم يرضع حليب الأم !
يا من راقبته و هو شاب ولم أتحرش به ،
تُرى ، أكان ...ك يُشْبِعَ معدتي ؟
انك بالخيانة تأتي الآن بگلگامش أمامي ،
و تقف هناك يا أنكيدو كمقاتل غريب !
سأقطع عنق و مريء گلگامش ،
و أرمي لحمه لطير الجراد و العقبان و النسور !"
فتح گلگامش فاه
مخاطباً أنكيدو :
"يا صديقي ، لقد انقلبت سحنة خمبابا !
و رغم البسالة التي بلغنا بها منزله لقهره ،
إلا إن قلبي لا يؤاتيني ...."
فتح أنكيدو فاه ليتكلم
مخاطباً گلگامش :
"لم تتحدث يا صديقي بحديث الضعفاء ؟
إن كلماتك المثبطة تؤرقني .
ياصديقي إن مهمتنا واحدة ،
و مايزال النحاس يصب في قوالب الأسلحة .
فهل نجمر المصهر ساعة فحسب ؟
و هل ...الفحم لساعة ؟
إن من يكسر السوط يجلب الطوفان .
لا تتخاذل ، و إياك و الإنسحاب ،
...و أجعل ضربتك هي القاصمة !"
ضرب گلگامش الأرض ... و واجهه برأس شامخ ،
و عند كعبيه إنفلقت الأرض .
فدمر بدورانه قمم جبال سوريا و لبنان ،
و اسودَّ الغمام الابيض ،
و انهمر الموت عليهما كالضباب .
فارسل شمش على خمبابا الرياح القوية :
رياح الجنوب و الشمال و الشرق و الغرب ؛
و الصاعقة و القارعة و العاصفة و الإعصار ؛
ريح الشيطان و ريح البرد و دوامة الرياح .
هبت الرياح الثلاثة عشر ،
فاسود وجه خمبابا و تسمر في مكانه .
عجز عن الكر أو الفر ،
عندها تمكنت أسلحة گلگامش منه .
فتوسل خمبابا بگلگامش للإبقاء عليه قائلاً :
"انك مازالت في مقتبل العمر ياگلگامش ،
فقد ولدتك أمك تواً و أنت حقاً أبن ننسون البقرة البرية.
لقد سويت الجبال بإرادة شمش ،
انك ابن لب أوروك ، أنت الملك گلگامش !
... ياگلگامش ، إن الرجل الميت لا يستطيع ...
حياً من إجل سيده ...
إبقِ على حياتي ياگلگامش ...
و دعني أبقى هنا أحكم بإسمك غابة الأرز...
... الأشجار بقدر ما تريد...
و ساحرس لك أشجار الآس ...
والخشب الذي تفتخر به في قصرك !"
.....
فتح أنكيدو فاه ليتحدث ،
مخاطباً گلگامش :
"لا تصغي ياصديقي لكلمات خمبابا ،
و تجاهل توسلاته !"
فتح خمبابا فمه ليتحدث ،
قائلاً لأنكيدو :
"أنت خبير بدروب غابتي ، و بدروب...
و تعرف جيداً كل فنون الخطاب .
كان عليَّ أن أمسك بك ،
و أعلقك على شجرة عند الطريق في الغابة ،
كان عليَّ أن أنثر لحمك لطير الجراد و العقبان و النسور ..
.....
إن حياتي يا أنكيدو رهن كلمة منك ،
قل لگلگامش أن يحفظ حياتي !"
....
"فتح أنكيدو فاه ،
مخاطباًگلگامش :
"يا صديقي ، هذا هو خمبابا حارس غابة الأرز ،
إقضِ عليه و أذبحه و بدد سلطته !
قبل أن يتناهى إلى سمع أنليل الجبار خبر فعلنا هذا ،
و إلا فإن الآلهة العظيمة ستغضب علينا .
...انليل في نفر و شمش في لارسا...
وأقم لنفسك إسماً خالد الذكر :
إسم كلكاش الذي ذبح خمبابا الشرير !"
سمع خمبابا...و...لعنهما بمرارة :
"عسى أن لا يكتب لهما العمر الطويل ؛
و عسى أن لايدفن أنكيدو أحداً غير گلگامش ..."
ضرب گلگامش عنق خمبابا ،
و أنكيدو يشجعة ،
فخر صريعاً و سالت الغدران بدماءه ...
......
فتح انكيدو فاه
مخاطباًگلگامش :
"لقد قطعنا يا صديقي أشجار أرز شامخة ،
فروعها تمتد إلى السماء .
ساصنع باباً ارتفاعها سبع قصبات ،
وعرضها قصبتين وسمكها ... (35)
و إلى بيت أنليل على الفرات ساحملها ،
ليفرح به أهل نفر ،
و يهنأ بها أنليل ."
....
صنعوا مركباً و وضعوا خشب الأرز عليه ،
و أمسك أنكيدو بالدفة ،
وگلگامش يحمل رأس خمبابا !
أول ملاحظة بصدد النص أعلاه هو تبادل الأدوار بين أنكيدو و گلگامش بخصوص مواجهة خمبابا عبر جملتي : " لم تتحدث يا صديقي بحديث الضعفاء ؟ إن كلماتك المثبطة تؤرقني ." وهذا ما يؤكد ملاحظة أن شخصيتي گلگامش وأنكيدو تتوحدان بعد عناقهما التاريخي في أسواق أوروك بحيث يصبحان شخصية واحدة برأسين ، أو رأس واحد لشخصين . و تبادل الأدوار هذا يساهم في إدامة "الأحتكاك" التكاملي بينهما ضمن وحدة واحدة ، و تطوير حبكة الفعل الدرامي للملحمة مثلما نراه في التردد بين قتل خمبابا و الإبقاء عليه .
و رغم أن قتل خمبابا كان مطلوباً على الأقل من الناحية الإعتبارية بإعتبار أن الظفر برأسه هو الرمز للإنتصار ، إلا أن قتله لا يبدو أمراً ضرورياً بعد أن أبدى إستعداده التام للتعاون مع گلگامش و التحول إلى تابع مطيع له يؤمن تجهيزات منتظمة من الأخشاب لأوروك . و يمكن تصور أن قتله له دلالاته الرمزية المهمة ، و منها إعلان انتهاء ملكية خمبابا لغابة الأرز المقدسة كثروة إقتصادية ، و من ثم التأسيس لحق گلگامش – الحالي و المستقبلي – في إقتلاع ما يريد من أخشاب منها لحساب أوروك ، و ليس أقلها بناء المعابد للآلهة في بلاد سومر . و إذا ما شئنا التعمق ، فيمكن إعتبار خمبابا حارس غابة الأرز ممثلاً لطبقة من جماعة الرعاة الاحرار الذين يستوطنون الغابة و يعتاشون على مواردها على نحو جماعي ضمن إطار غلبة إقتصاد جمع القوت الممتزج بالإقتصاد الرعوي ؛ و أن مقتل خمبابا هو التعبير الرمزي لأنتهاء سلطة هذه الجماعة الإقتصادية بإنهاء القاعدة المادية الذي يرتكز عليها هذا الإقتصاد لصالح إقتصاد الملكية الزراعية ، و إلإستحواذ على موارد الطبيعية لتركيز الثروة بيد الطبقة الجديدة . إذن فخمبابا هو في الملحمة ليس إلا نسخة غابات جبال لبنان من إبن البرية أنكيدو قبل إنضواء الأخير في صف أساطين إقتصاد الجماعة الزراعية لأوروك ، و مصيره المأساوي المحتم يؤشر حتمية موت إقتصاد جمع القوت في الشام بفعل الغزو العراقي القديم ، مثلما يؤشر قيام المزارع قابيل بقتل شقيقه الراعي هابيل إلى هيمنة الإقتصاد الزراعي (36). و لذلك نجد خمبابا يذكِّر أنكيدو أنه لم يتعرض له بسوء عندما كان يأتي مع قطيعه لغابة الأرز بسبب أنتمائهما الطبقي المشترك ، و هو يعتبر إنسلاخه الطبقي عن إنتمائه السابق و إنتقاله إلى صف گلگامش و جلبه للأخير لغزو غابة الأرز المقدسة فعلاً "خيانياً" من قبل راعي المشاعة الذي "لا يعرف من هو والده" ؛ كما يعتبر إستشهاد أنكيدو بالأمثال لدفع گلگامش إلى الإجهاز عليه مجرد "دعاية تبريرية" جوفاء ليس إلا . أما اللعنات التي يصبها خمبابا على گلگامش-أنكيدو فستتحقق كلها ، مثلما ستتحقق لعنات أنكيدو على شمخة بعدئذٍ . لماذا ؟ لأنها "دعوة مظلوم" ، كما هو واضح ، بسبب سيادة شريعة الغاب في فعل قتله ، و ليس إعتبارات سلطة الحق و التفاوض ؛ خصوصاً و أن خمبابا يوافق – مثل أنكيدو قبله - على الصلح مع گلگامش وفق مبدأ "إنضم إلى صف من لا تقوى على دحره" ، و أن گلگامش يميل أولاً إلى القبول بسلام التراضي هذا لولا إلحاح أنكيدو عليه بالرفض و اللجوء إلى فعل القتل. وفي هذا مؤشر إلى تفضيل فعل الإبادة للخصم في "الفتوحات" حيثما تصبح الهيمنة الإقتصادية-السياسية على المحك .
و يلاحظ أن المصير التراجيدي لخمبابا يتسبب به الإله شمش بعد أن نجح گلگامش في كسبه إلى صفه في الصراع ، على غفلة من الإله إنليل حامي خمبابا ، و لهذا فإن أنكيدو يستعجل گلگامش لقتل خمبابا قبل أن يتدخل إنليل لصالحه . هكذا تتجلى جدلية إنتقال صراع المصالح البشري إلى صراع المصالح بين الآلهة و هي تصطف إلى جانب هذا الطرف ضد ذاك في الصراع ؛ فلكل قوم آلهتهم الأثيرة التي ترعى مصالحهم ، و لابد لآلهة التشكيلة الإجتماعية الإقتصادية الثورية الصاعدة أن تنتصر على آلهة التشكيلة الناكصة المهددة بالإندثار . أما إشارة النص إلى أن الغدران قد "سالت بدمائه" فإذا ما إستبعدنا عنها الإعتبارات الإسلوبية للمبالغة – و هي إعتبارات جدية – فقد نمسك بخيط رفيع يشير إلى المذبحة المفترضة التي حصلت للمدافعين عن غابة الأرز خلال تلك الحملة العسكرية .
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟